كتبت ذات يوم عن تلك الليلة الشهيرة فى تاريخ أوروبا المعاصر، إنها الليلة المحشورة بين نهاية يوم 9 وصباح يوم 10 نوفمبر عام 1938، ويكاد المؤرخون يجمعون على اعتبارها نقطة انطلاق وتطور حاسمين فى مسيرة المشروع العنصرى النازى وما رافق هذه المسيرة من عواصف دموية عاتية ضربت ألمانيا ومناطق واسعة من العالم وأطلقت موجات هى الأبشع والأكبر فى التاريخ الإنسانى الحديث من الإرهاب والترويع والحروب وإبادة جماعية رهيبة استهدفت مجموعات وكتلا بشرية بأكملها، وكان حصادها وحصاد حروب هذه المرحلة السوداء من تاريخ أوروبا الاستعمارى عشرات ملايين البشر من شتى الأعراق والأجناس والأمم، بل وتدمير ألمانيا نفسها واحتلالها بجيوش الحلفاء الذين دخلوا العاصمة برلين المهدمة يوم 9 مايو 1945 قبل أن تقسم المدينة وتشطر هى والبلد كله إلى دولتين بعاصمتين مختلفتين. عاصفة الخراب والمقتلة الجماعية الرهيبة هذه التى بدأت انطلاقا من أحداث «ليلة الكريستال» باستهداف الأجانب والأقليات العرقية (اليهود والغجر بالذات)، طالتنا نحن أمة العرب آثارها الكارثية بعدما التقطتها الحركة الصهيونية المتحالفة مع قوى الاستعمار الغربى واتخذتها ذريعة ومبررا أخلاقيا لتهجير اليهود الذين ارتكب الأوروبيون الفاشيست جريمة الأبادة ضدهم، واستخدامهم أداة بشرية لارتكاب أكبر وأبشع جريمة سرقة فى التاريخ، ألا وهى سرقة واغتصاب فلسطين العربية وقتل واقتلاع وتشريد أهلها من ديارهم وبناء كيان عنصرى لقيط وعدوانى على أشلاء مجتمع ووطن أصحاب الأرض الأصليين. أعود إلى أحداث هذه الليلة البعيدة، فقد استغل هتلر آنذاك حادثة قتل السفير الألمانى فى فرنسا على يد فتى يهودى وقام بعملية تهييج وتحريض هائلة وواسعة النطاق لعب فيها على المشاعر الوطنية واستثارة روح التعصب لدى قطاع واسع من الجمهور الألمانى مما أدى إلى نجاح النازيين فى حشد وتعبئة أعداد غفيرة من العامة الذين انطلقوا فى كل المدن والمناطق الألمانية والنمساوية للانتقام وتطهير موطن الجنس الآرى من «دنس اليهود والأجانب»، ولم تنته ساعات الليل حتى كان الحصاد مروعا، إذ طالت عمليات التدمير والحرق آلاف البيوت والمتاجر والمنشآت والممتلكات، كما سقط عشرات القتلى ومئات الجرحى فضلا عن اعتقال عشرات الألوف.. أما أصل الاسم الشائع لهذه الليلة «ليلة الكريستال» فيعود إلى أطنان هشيم الزجاج المحطم التى بدت بعدما هدأ غبار العاصفة الدموية تكسو وتغطى تماما الشوارع والطرقات. و... هنا لا بد أن أعترف بوجود شىء من عدم الدقة فى العنوان المكتوب أعلى هذه السطور، لأن «ليلة الكريستال» والإرهاب المصرية التى أقصدها لم يكن فيها أى زجاج، كما لم تكن ليلة تماما بل ساعات نهار كامل (نهار يوم الجمعة الماضى)، وما استُهدف بالتحطيم والتهشيم وانسحق فى هذه الجمعة كان الحلم الذى ثار المصريون فى الشتاء الماضى من أجل تحقيقه.. حلم بناء مجتمع ودولة جديدين وحديثين ينهضان على مبادئ وقيم الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة بين المواطنين كافة، دون تمييز على أساس اختلاف فى الجنس (رجل أو امرأة) أو فكر أو دين. وما أقصده من تشبيه أحداث تلك «الجمعة» بما فعله النازيون فى «ليلة الكريستال» ليس أن الجماعات التى تتلفح بعباءة الدين الحنيف لتقتحم ساحة السياسة بسلاح بتار، لم تحترم عهدها (كعهدها دائما) وحولت شعار المليونية الأخيرة من «الوحدة ولم الشمل» إلى «تكريس الانشطار» و«بعزقة الشمل»، وإنما ما أقصده هو ما رأيناه وسمعناه من لعب مجرم على مشاعر بسطاء الناس الدينية (كما لعب النازيون على المشاعر الوطنية) وإثارة روح التعصب والتطرف وتزييف الوعى وإشاعة الجهالة، على ما يشى الحوار الذى دار بين العبد لله ورجل ريفى بسيط حمّلوه لافتة مكتوبا عليها «المسلمون يرفضون المبادئ فوق الدستورية»! تآكلت المساحة فانتظر نص الحوار غدًا.