التقطت أذناي صوت صفير صديقي (تامر)، الذي بدأ يعلو شيئا فشيئا من خلف نافذة تلك العشة التي أقطن بها مع أسرتي في منطقة الصيادين بضاحية (أبي قير) بالإسكندرية، وأخذت ألتهم باقي الأرز وقطع السمك الموجودة في صحني بسرعة حتى أخرج له، وما إن رآني حتى توقف الصفير، ونظرت إليه قائلا: أخبرني أين سنذهب اليوم؟ فرد قائلا: كما أخبرتك بالأمس .. الطابية القديمة بالطبع. فردت عليه مسرعا: ولكنك تعرف أنها منطقة عسكرية وممنوع دخولها الآن ! فقال: لا تجعل ذلك يقلقك .. هل أنت خائف؟؟ أخذت أتلعثم، فعاجلني قائلا: ألست رجلا أم ماذا؟! أثارت كلمته هذه حماستي فقلت: بالطبع رجل، لقد أتممت عامي الحادي عشر بالأمس. رد مسرعا: يالخيبتك، أهكذا تصبح رجلا؟ قلت: هل أنت الكبير بما يكفي؟؟ قال ساخرا: على الأقل أنا أكبرك بعامين، ووالدي دائما ما يقول "أكبر منك بيوم يعرف عنك بسنة"، احسب أنت وأخبرني بكم عام أعرف أنا عنك؟ ووضع كفه فوق عنقي وساقني أمامه حتى وصلنا إلى منطقة الطابية وتسللنا من وراء الأسلاك الشائكة وتلك اللافتة المكتوب عليها: منطقة عسكرية.. ممنوع التصوير، وقد كانت الشمس قد قاربت على المغيب، ولقد تعودنا أنا و (تامر) على الخروج يوميا تقريبا في ذلك الميعاد حتى تكون الشمس قاربت على الذبول، لنلتقط الأصداف وقواقع البحر من الرمال من هنا وهناك، حيث نعطيها إلى تلك المرأة المسماة بال(حاجة) مقابل بعض القروش الزهيدة، وتقوم هي بعمل عقود للنساء وما شابه ذلك من تلك الأصداف والقواقع. والحقيقة أننا لم نأت إلى هذه المنطقة لالتقاط القواقع من قبل، ولكننا طالما سمعنا أنها مليئة بالقواقع والأصداف من بعد إنشاء الميناء الجديد بها، حيث أن الحفر في البحر، وإخراج الرمال منه وما بها من قواقع وأصداف. جعل الرمال هناك مليئة بها مما دفعنا إلى الذهاب إليها، كما جعلنا نمكث هناك فترة طويلة لكثرة ما بها من أصداف وقواقع، حتى ذهبت الشمس، وسطع القمر، وقد كانت ليلة مقمرة، وهو الأمر الذي ساعدنا على التقاط كمية كبيرة من تلك القواقع والأصداف، دون أن يشعر بنا أحد أونشعر نحن بالوقت. وفجأة وجدنا ظلا لرجل يظهر من بعيد، يحمل فوق يديه شيئا ما، وهنا أطلق (تامر) ساقيه للرياح قائلا: أركض..! أركض سريعا يا (على). وأخذنا نجري خوفا من أن يكون هذا الرجل أحد العساكر الموجودين بالمنطقة، وأخذنا نصعد درجات الطابية المرتفعة بصعوبة، واختبأنا في أحد أركانها في الظلام، حتى أقبل الرجل وتخطى الأسلاك الشائكة بصعوبة مع ما يحمل، ثم مشى داخل الأسلاك قليلا ووضع الحمل على الأرض، وقد كان ما يشبه طفلا أو رجلا قصيرا ملفوفا في ملاءة، وأمسك الرجل بجاروف كان يعلقه بحبل على كتفه، ثم تلفت في جميع الاتجاهات وأخذ يحفر بسرعة شديدة. وأنا وصديقي كاتمان أنفاسنا خوفا، فقد أدركنا أنه يحمل قتيلا ويريد إخفاء جريمته، وبعد الانتهاء من الحفر، حمل الجثة، ثم وضعها داخل الحفرة، ثم واراها التراب، وحمل الجاروف ثم عاد من حيث أتى، وأنا وصديقي فوق درج سلم الطابية، والريح تصفر، وصوت البحر يكاد يصم آذاننا، ونحن نرتعد من الخوف وشدة البرد، فقد تخطى الوقت العشاء بفترة، وبدأ يحل الظلام الشديد، أو هذا ما تخيلناه من شدة الخوف.. وانتظرنا حتى تلاشى الرجل تماما، وأطلقنا ساقينا للريح هربا من ذلك الرعب القاتل، حتى وصلنا إلى منطقة الصيادين، وذهب كل منا إلى عشته، وتسللت أنا بهدوء شديد، حتى دخلت فراشي دون أن تراني أمي، حتى لا ينالني منها علقة ساخنة تزيد من إنهاك جسدي المنهك من الأساس من شدة الخوف والبرد، والتعب من كثرة الجري. لم تغمض عيناي في هذه الليلة إلا بعد طلوع الفجر، ولما أيقظتني أمي للذهاب مع أبي للصيد، اعتذرت لها بأني مريض، ومكثت في فراشي طيلة اليوم، حتى سمعت ذلك الصفير قبل المغرب بقليل، وترددت في النزول، ولكن (تامر) أخذ ينادي: (علي).. يا (علي).. ونظرت من النافذة وإذا به يقول لي: إنزل.. قلت له: أنا مريض. فقال ساخرا: ماذا أخائف أنت؟ ألست رجلا؟ وأخذني الحماس مرة أخرى، مع علمي بأنه هو ليلة ألامس من كان يرتعد من الخوف، ومع ذلك خرجت له، وقلت: ماذا تريد؟ قال: تعال خلفي فسألته متوجسا: إلى أين ؟ فهمس في أذني: أريد أن أرى الجثة.. فزعت وابتعدت عنه قائلا: لا لن أذهب.. أنا خائف .. قال مسرعا: أنت طفل .. ألست رج.. وقبل أن يكمل جملته كنت قد انسقت وراءه حتى وضع كفه على عنقي وساقني كالعادة وقال: قبل أن نذهب سنمر من شادر السمك لأنني أخبئ الجاروف هناك. وانطلقنا حتى أخذنا الجاروف ووصلنا إلى الأسلاك الشائكة، وتخطيناها مراعين ألا يرانا أحد من عساكر المنطقة، وأخذ (تامر) يحفر حتى تعب ثم قال لي: ساعدني واحفر أنت الآخر بعض الوقت.. قلت خائفا: أنا خائف .. وقبل أن ينطق بجملته المعروفة قلت له: لا لست رجلا هل يريحك هذا؟ فقال لي حتى لا أتركه: فليكن.. فليكن.. لا ترهق نفسك أنت بالحفر، فقط قف أنت وأنا سأحفر. وأخذ يحفر حتى ظهرت الملاءة وما بها من جثة، وفجأة انقضت يد ضخمة على عنقي مع صوت أجش: ماذا تريدون أن تعرفوا؟ وكدت أن أبلل ملابسي من شدة الرعب. ولن أكذب عليكم فقد بلل (تامر) ملابسه بالفعل. وذهبت مع قبضة الرجل كل تلك الشجاعة والرجولة التي يصف بها نفسه. وأخذ الرجل الجاروف، وأخذ يزيل باقي الرمال من فوق الجثة، ثم فتح الملاءة وكانت المفاجأة، فقد كان بها كلبه الأسود الضخم الذي توفي بالأمس..! مديحة جعاره التعليق: برافو يا مديحة، قصة ممتازة. القدرة على تقمص شخصيات الأطفال، وحبك الأحداث والنهاية الجيدة. لكن مازالت لديك الرغبة –كما في القصة السابقة- في الحكي وليس التركيز على لحظة الدراما الأساسية. وهناك خطأ لغوي واحد. د. سيد البحراوي أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة