ورش عمل تدريبية للميسرات العاملات بمركزي استقبال أطفال العاملين بوزارتي التضامن والعدل    توقيع مذكرة تفاهم بين جامعتي الأزهر ومطروح للتعاون العلمي والأكاديمي    البابا تواضروس يترأس قداس تدشين كنيسة القديس مارمينا العجايبي بالإسكندرية    ارتفاع أسعار الفراخ اليوم السبت 23-8-2025 في الفيوم    الصين تؤسس 36 ألف شركة باستثمارات أجنبية خلال 7 أشهر    الري تبدأ استلام أراضي طرح النهر من هيئة التعمير    مدير مجمع الشفاء بغزة: لدينا 320 ألف طفل دخلوا في حالة سوء تغذية حاد    الاتحاد السعودي يعلن عقوبات صارمة على الهلال    إصابة 7 أشخاص في انقلاب ميكروباص بالفيوم    الأرصاد: سقوط أمطار على هذه المناطق اليوم    تجديد حبس عاطل وشقيقته بتهمة جلب 3000 قرص مخدر    الليلة عرض "just you"، ثالث حكايات "ما تراه ليس كما يبدو"    الجنين داخل الروبوت.. ولادة المستقبل أم سرقة الأمومة؟    تنويه هام.. انقطاع المياه عن قليوب لإصلاح خط طرد رئيسي    الأهلي يواصل استعداداته لمواجهة غزل المحلة ومروان عطية يتابع تأهيله    الزمالك يتظلم من قرار سحب أرض النادي ب 6 أكتوبر ويؤكد صحة موقفه    إسلام جابر: تجربة الزمالك الأفضل في مسيرتي.. ولست نادما على عدم الانتقال للأهلي    إطلاق مبادرة لتشغيل 50 من أوائل خريجي المدارس الصناعية فى أسيوط    اتفاق بين التعليم و"سبريكس" على تطبيق برنامج للبرمجة والذكاء الاصطناعي بالمدارس المصرية اليابانية    رابط و موعد إعلان نتيجة تنسيق القبول برياض الأطفال والصف الأول الابتدائي؟    ضبط 124 ألف مخالفة متنوعة في حملات لتحقيق الانضباط المروري خلال 24 ساعة    ضبط 4 أطنان من الدقيق الأبيض والبلدي المدعم في حملات تموينية خلال 24 ساعة    مصرع وإصابة أربعة أشخاص إثر حادث تصادم بين سيارتين بأسيوط    مصر ترحب بخارطة الطريق الأممية لتسوية الأزمة الليبية    شيرين عبد الوهاب: ياسر قنطوش لا يمثل أي شئ لي قانونيًا    تفاصيل وأسباب تفتيش منزل مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق جون بولتون    إنفوجراف| أسعار الذهب اليوم السبت 23 أغسطس    «صحح مفاهيمك».. مبادرة دعوية خارج المساجد بمشاركة 15 وزارة    ثلاثة أفلام جديدة فى الطريق.. سلمى أبو ضيف تنتعش سينمائيا    ما أسباب استجابة الدعاء؟.. واعظة بالأزهر تجيب    اليوم.. اجتماع الجمعية العمومية العادية للإسماعيلي لمنافشة الميزانية والحساب الختامي    طلاب الثانوية الأزهرية الدور الثانى يؤدون اليوم امتحان التاريخ والفيزياء    استئناف مباريات الجولة الأولى بدوري المحترفين    الأوقاف: «صحح مفاهيمك» تتوسع إلى مراكز الشباب وقصور الثقافة    تحقيق استقصائى يكتبه حافظ الشاعر عن : بين "الحصة" والبطالة.. تخبط وزارة التعليم المصرية في ملف تعيين المعلمين    "يونيسيف" تطالب إسرائيل بالوفاء بالتزاماتها والسماح بدخول المساعدات بالكميات اللازمة لغزة    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : إلى أين!?    طلقات تحذيرية على الحدود بين الكوريتين ترفع حدة التوتر    موعد مباراة النصر والأهلي والقنوات الناقلة بنهائي كأس السوبر السعودي    حملة «100 يوم صحة» تقدّم 59 مليون خدمة طبية مجانية خلال 38 يومًا    «الإفتاء» تستطلع هلال شهر ربيع الأول اليوم    حسن الخاتمة.. وفاة معتمر أقصري أثناء أدائه مناسك الحج    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 23-8-2025 في محافظة قنا    استشهاد 19 فلسطينيا إثر قصف إسرائيل خيام النازحين بخان يونس ومخيم المغازي    الأمم المتحدة: نصف مليون شخص بغزة محاصرون فى مجاعة    وظائف هيئة المحطات النووية.. فرص عمل بالتعيين أو التعاقد    وزارة الصحة تقدم 3 نصائح هامة لشراء الألبان    تنسيق الجامعات 2025| مواعيد فتح موقع التنسيق لطلاب الشهادات المعادلة    سعر طن الحديد اليوم السبت 23-8-2025 في أسواق مواد البناء.. عز بكام النهارده؟    إنقاذ حياة مريض بعمل شق حنجري بمستشفى الجامعي بالمنوفية    شريف حافظ: الحب هو المعنى في حد ذاته ولا يقبل التفسير... والنجاح مسؤولية يجب أن أكون مستعدًا لها    نوال الزغبي: ضحيت بالفن من أجل حماية أولادي بعد الطلاق    من جلسات التدليك لمنتجعه الخاص، جيسلين ماكسويل تكشف تفاصيل مثيرة عن علاقتها بإبستين وترامب    سهير جودة عن شيرين عبدالوهاب وحسام حبيب: «انفصال وعودة مزمنة.. متى تعود إلينا؟»    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه بحماس    مصدر ليلا كورة: كهربا وقع عقدا مع القادسية الكويتي    3 أبراج على موعد مع التفاؤل اليوم: عالم جديد يفتح الباب أمامهم ويتلقون أخبارا مشجعة    قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سمير درويش «ثائر مثل غاندي زاهد كجيفارا»
نشر في صوت البلد يوم 03 - 06 - 2018

توقفتُ قليلاً عند عنوان ديوان «ثائرٌ مثل غاندي... زاهدٌ كجيفارا» (بتانة)، للشاعر المصري سمير درويش، وما أن قرأتُ الديوان، حتي وجدته يقول في قصيدة «عنف العشاق»
«تستطيعُ أنْ تدلقَ ألواناً صريحةً على البياضِ/ كي تتشكَّلَ ملامحِي كما تراها/ تستطيعُ أن تجعلَني زاهداً مثل غاندِي/ لو اكتفيتَ بالقلم الرصاص والخطوط المبتورةِ/ أو ثائراً كجيفارا/ لو تركتَ لحيتِي نابتةً دونَ تهذيبٍ».
هذا ما قرأته في الديوان المطبوع، بينما في النسخة الإلكترونية، التي تفضل بإرسالها لي، جاءت بالمفارقة كما في العنوان المطبوع، وتساءلتُ: هل النسخة الإلكترونية التي أرسلها لي هي نفسها التي أرسلها إلى الناشر؟ أم أن ولع الشاعر بالمفارقات كان تالياً، وعندما قرر أن يكون العنوان «ثائر مثل غاندي...»؛ كان الديوان قد طبع، وأمكن للناشر بالكاد وضع العنوان المراد على الغلاف؟
الملاحظة الثانية التي استوقفتني، هي تواريخ كتابة القصائد (29 قصيدة)، إذ إنها تبدأ بيوم 8/7/2016 وتنتهي بيوم 24/7/2017، وبعضها كُتب في يوم واحد كما في «الحياة تقريباً» و «قرب الميدان».
ولأن الديوان مفعم بإروسية حميمة، تذكِّر بديوان سعدي يوسف «إيروتيكا» والذي كتبه أيضاً خلال شهر تقريباً، فإن ذلك يؤكد «شعرية اليوميات» التي ميّزت الكتابات الجديدة عند سعدي وعند نزيه أبو عفش والتي اجترحها سمير درويش في دواوين عدة، ولا أدري، لعل تأثير الغربة والوحدة، وغياب الوطن، هو ما يؤدي بهم إلى هذه الجرأة في كشف المستور، وكسر التابو.
هذه، فقط، تضاريس سطح النص، ولكنها تغوي بالغوص في باطن النص، بل وتقترح المفاتيح للدخول إليه، هذه الحمى التي تنفض الشاعر ليتصيد امرأة عادية تماماً، ويقيمها كعالم غير اعتيادي، عالم بديل عن (الوطن الغائب الحاضر)، عالم مقدس بما هو عليه من نقص، وعفوية وبساطة، وحرية كشهوة الحياة. لم تبدأ شعرية اليوميات عند سمير درويش هنا، بل بدأت في ديوانه «يوميات قائد الأوركسترا» واستمرت في «من أجل امرأةٍ عابرة» 2009، «تصطاد الشياطين» 2011، «سأكون ليوناردو دافنشي»، و «غرام افتراضي» 2013.
ولأنه يكتب الشعر بمزاج «اليوميات» كان عليه أن يتخلص من مواريث شعرية، رائجة ومهيبة، كالتعاليم، ولأن الشعر مغامرة، وطفرة الذات في تحولاتها، فهي لا تأبه بالتعاليم، كان عليه أن يكون نفسه، كان عليه أن يضع تعاليم نفسه هو، فهو الشاهد الوحيد على تحولاته، الشاهد الوحيد على القفزة من ذاته القديمة، والعارف الوحيد إلى ما يصبو إليه في ذات جديدة، نعم، كأن يضع كل كله في يومية شعرية، مسجلاً بجرأة، وواقعية، وصدق حالته في المكان والزمان، محاوراً، مازجاً بين الذات والآخر، وبينه وبين العالم المتربص بهما، شاحناً اللحظة بالمهمّش والعابر والمقتحم من الذاكرة، في مشهديه رائقة، تتكون تصويرياً من لقطات مقربة (زووم)، ولا يغيب عنها الصوت كمؤثر سينوغرافي لشهوات تتنفس.
ولأنها يوميات، أو بالأحرى مذكرات شخصية، يكتبها الشاعر بضمير المتكلم/ الراوي العليم، آمناً على خصوصيته من انكشافها للغير في حياته، ولا يتيحها لأحد في حياته، إلا لمن يثق فيه، أو يرغب في ذلك، فقد توفّر فيها للذات المتكلمة أن تتعرى من دون خجل، وتظهر مواقفها من الآخرين من دون حرج، وبصدق جارح أحياناً: «ربما أشاهدُ فيلماً مترجماً/ أو مباراةَ كرةٍ/ وقد أكملُ «شوقَ الدرويشِ» رغمَ أنَّني لمْ أحبَّهَا/ لأنني لا أحبُّ الشمسَ التي تقفُ على رأسي ( ص18)
أو يقول: القصيدةُ- في المطلَق- ابنةُ زنَا/ لأنَّهَا نبْتُ أفكارٍ محرَّمَةٍ وضلالاتٍ/ ولأنَّ الشاعرَ، هذا/ محضُ سكِّيرٍ ينتشِي حتَّى منْ وحدتِهِ/ يستولِدُ لغةً منْ علاقاتٍ/ مشبوهةٍ/ وخيالاتٍ محرَّمةْ/ القصيدةُ –تلكَ- ابنةُ سفاحٍ أصلاً/ لأنَّهَا تمشَّتْ في الشوارِعِ الخاليةِ من المارَّةِ/ في ليل الشتاءِ/ تحسَّسَتْ جسدَ امرأةٍ عزباءَ/ وتلكَّأَتْ فوقَ نهديْهَا الصغيريْنِ/ تحمَّمَتْ معَهَا بماءٍ دافئٍ/ قبلَ أنْ تخرُجَ لي عاريةً/ وتقولُ: اكتبني» (ص63) هذا من جانب، ومن جانب آخر فلليوميات ميزة الفضول، الذي يتابع به القارئ يوميات كائن آخر، متشوقاً لمعرفة أسراره، أي أن التشويق سابق، ومستمر مع القراءة، متقلب مع الأحاسيس، بين التوقع وكسر التوقع.
لسنا هنا أمام (كتابة الجسد) فقط، كما يمكن وصف «إيروتيكا» سعدي يوسف، ولا كتابة «يوميات وطن» كما يمكن وصف يوميات نزيه أبو عفش، بل أمام قصائد كاملة، تراوح بين قصائد قصيرة شديدة التكثيف، دالة بذاتها كالأيقونة، وأخرى مقطعية طويلة، وفي كل من هذه وتلك تمكن ملاحظة العالم الخارجي، فندرك أننا (هنا والآن)، الإشارات في القصائد تجعل من اليوميات أكثر من (كتابة ذات) فقط، فهي عبر الديوان كله ترسم واقع هذا العالم وزمنه لا لتوثيق المكان والزمان، فهي في إشاراتها مختارة بعين ناقدة، ترصد الخلل والقبح في هذا العالم، برغبة في التغيير.
يقول: لا شيءَ غيرُ اعتياديٍّ هنا سواي: البناتُ محجباتٌ/ الشمسُ واقفةٌ على رأسي/ سائقُو النقلِ الثقيلِ مستهترونَ كعهدِهِمْ/ ربما نائمونَ أو تحتَ تأثيرِ المخدرِ/ المزلقاناتُ رابضةٌ في مداخلِ القُرى/ وأكوامُ القمامةِ/ والسائرون بلا هُدى». ويقول: «لم يتبق إلا حصني/ حصن الشاعر/ فهيا نعبر إلى قصيدة تالية».
نعم، إنه يكتب قصيدة نثر تحفل بالحياة اليومية، ولغة الحياة اليومية، قصيدة اعتيادية تناسب وتتماهى مع امرأة اعتيادية، هكذا سطحُها يقول، لكنها، أي القصيدة، يصيبها المسُّ كما يصيب المرأةَ فتخرج من اعتياديتها، لتدهشنا بما تكنزه من أعاجيب عالم مأمول، ولنتذكر هنا مقولة شوبنهاور: «الفلسفة هي الدهشة من المألوف والعادي».
إن الخيار بكتابة «شعر اليوميات» يأتي بلوازمه من اللغة والبنية والمجاز والإيقاع، قصيدة لا تتخلى عن المجاز الجزئي وإن كانت تميل نحو المجاز الكلي. قصيدة تساوي في القيمة بين المبتذل والعادي، والمتعالي، «لا شيءَ غيرُ اعتياديٍّ هنا سواي».
نحن أمام ذات غير عادية متورطة في عالم اعتيادي، محاصرة بالقبح والفساد، وعدم احترام الخصوصية، ذات تريد أن تسلخ كل هذا عنها، وتطهر ذاكرتها مما لوثها، بكلمة تريد أن تولد من جديد، تحاول ذلك عبر بناء عالم خاص بها، أكثر حرية وخصوصية وصدقاً مع امرأة. أليس في الحوار بين جسدين ما يشي ببناء عالم بديل، وقصيدة جديدة، وميلاد ذات جديدة، إعمالاً لمقولة ابن عربي «الجسد قبة الروح»
توقفتُ قليلاً عند عنوان ديوان «ثائرٌ مثل غاندي... زاهدٌ كجيفارا» (بتانة)، للشاعر المصري سمير درويش، وما أن قرأتُ الديوان، حتي وجدته يقول في قصيدة «عنف العشاق»
«تستطيعُ أنْ تدلقَ ألواناً صريحةً على البياضِ/ كي تتشكَّلَ ملامحِي كما تراها/ تستطيعُ أن تجعلَني زاهداً مثل غاندِي/ لو اكتفيتَ بالقلم الرصاص والخطوط المبتورةِ/ أو ثائراً كجيفارا/ لو تركتَ لحيتِي نابتةً دونَ تهذيبٍ».
هذا ما قرأته في الديوان المطبوع، بينما في النسخة الإلكترونية، التي تفضل بإرسالها لي، جاءت بالمفارقة كما في العنوان المطبوع، وتساءلتُ: هل النسخة الإلكترونية التي أرسلها لي هي نفسها التي أرسلها إلى الناشر؟ أم أن ولع الشاعر بالمفارقات كان تالياً، وعندما قرر أن يكون العنوان «ثائر مثل غاندي...»؛ كان الديوان قد طبع، وأمكن للناشر بالكاد وضع العنوان المراد على الغلاف؟
الملاحظة الثانية التي استوقفتني، هي تواريخ كتابة القصائد (29 قصيدة)، إذ إنها تبدأ بيوم 8/7/2016 وتنتهي بيوم 24/7/2017، وبعضها كُتب في يوم واحد كما في «الحياة تقريباً» و «قرب الميدان».
ولأن الديوان مفعم بإروسية حميمة، تذكِّر بديوان سعدي يوسف «إيروتيكا» والذي كتبه أيضاً خلال شهر تقريباً، فإن ذلك يؤكد «شعرية اليوميات» التي ميّزت الكتابات الجديدة عند سعدي وعند نزيه أبو عفش والتي اجترحها سمير درويش في دواوين عدة، ولا أدري، لعل تأثير الغربة والوحدة، وغياب الوطن، هو ما يؤدي بهم إلى هذه الجرأة في كشف المستور، وكسر التابو.
هذه، فقط، تضاريس سطح النص، ولكنها تغوي بالغوص في باطن النص، بل وتقترح المفاتيح للدخول إليه، هذه الحمى التي تنفض الشاعر ليتصيد امرأة عادية تماماً، ويقيمها كعالم غير اعتيادي، عالم بديل عن (الوطن الغائب الحاضر)، عالم مقدس بما هو عليه من نقص، وعفوية وبساطة، وحرية كشهوة الحياة. لم تبدأ شعرية اليوميات عند سمير درويش هنا، بل بدأت في ديوانه «يوميات قائد الأوركسترا» واستمرت في «من أجل امرأةٍ عابرة» 2009، «تصطاد الشياطين» 2011، «سأكون ليوناردو دافنشي»، و «غرام افتراضي» 2013.
ولأنه يكتب الشعر بمزاج «اليوميات» كان عليه أن يتخلص من مواريث شعرية، رائجة ومهيبة، كالتعاليم، ولأن الشعر مغامرة، وطفرة الذات في تحولاتها، فهي لا تأبه بالتعاليم، كان عليه أن يكون نفسه، كان عليه أن يضع تعاليم نفسه هو، فهو الشاهد الوحيد على تحولاته، الشاهد الوحيد على القفزة من ذاته القديمة، والعارف الوحيد إلى ما يصبو إليه في ذات جديدة، نعم، كأن يضع كل كله في يومية شعرية، مسجلاً بجرأة، وواقعية، وصدق حالته في المكان والزمان، محاوراً، مازجاً بين الذات والآخر، وبينه وبين العالم المتربص بهما، شاحناً اللحظة بالمهمّش والعابر والمقتحم من الذاكرة، في مشهديه رائقة، تتكون تصويرياً من لقطات مقربة (زووم)، ولا يغيب عنها الصوت كمؤثر سينوغرافي لشهوات تتنفس.
ولأنها يوميات، أو بالأحرى مذكرات شخصية، يكتبها الشاعر بضمير المتكلم/ الراوي العليم، آمناً على خصوصيته من انكشافها للغير في حياته، ولا يتيحها لأحد في حياته، إلا لمن يثق فيه، أو يرغب في ذلك، فقد توفّر فيها للذات المتكلمة أن تتعرى من دون خجل، وتظهر مواقفها من الآخرين من دون حرج، وبصدق جارح أحياناً: «ربما أشاهدُ فيلماً مترجماً/ أو مباراةَ كرةٍ/ وقد أكملُ «شوقَ الدرويشِ» رغمَ أنَّني لمْ أحبَّهَا/ لأنني لا أحبُّ الشمسَ التي تقفُ على رأسي ( ص18)
أو يقول: القصيدةُ- في المطلَق- ابنةُ زنَا/ لأنَّهَا نبْتُ أفكارٍ محرَّمَةٍ وضلالاتٍ/ ولأنَّ الشاعرَ، هذا/ محضُ سكِّيرٍ ينتشِي حتَّى منْ وحدتِهِ/ يستولِدُ لغةً منْ علاقاتٍ/ مشبوهةٍ/ وخيالاتٍ محرَّمةْ/ القصيدةُ –تلكَ- ابنةُ سفاحٍ أصلاً/ لأنَّهَا تمشَّتْ في الشوارِعِ الخاليةِ من المارَّةِ/ في ليل الشتاءِ/ تحسَّسَتْ جسدَ امرأةٍ عزباءَ/ وتلكَّأَتْ فوقَ نهديْهَا الصغيريْنِ/ تحمَّمَتْ معَهَا بماءٍ دافئٍ/ قبلَ أنْ تخرُجَ لي عاريةً/ وتقولُ: اكتبني» (ص63) هذا من جانب، ومن جانب آخر فلليوميات ميزة الفضول، الذي يتابع به القارئ يوميات كائن آخر، متشوقاً لمعرفة أسراره، أي أن التشويق سابق، ومستمر مع القراءة، متقلب مع الأحاسيس، بين التوقع وكسر التوقع.
لسنا هنا أمام (كتابة الجسد) فقط، كما يمكن وصف «إيروتيكا» سعدي يوسف، ولا كتابة «يوميات وطن» كما يمكن وصف يوميات نزيه أبو عفش، بل أمام قصائد كاملة، تراوح بين قصائد قصيرة شديدة التكثيف، دالة بذاتها كالأيقونة، وأخرى مقطعية طويلة، وفي كل من هذه وتلك تمكن ملاحظة العالم الخارجي، فندرك أننا (هنا والآن)، الإشارات في القصائد تجعل من اليوميات أكثر من (كتابة ذات) فقط، فهي عبر الديوان كله ترسم واقع هذا العالم وزمنه لا لتوثيق المكان والزمان، فهي في إشاراتها مختارة بعين ناقدة، ترصد الخلل والقبح في هذا العالم، برغبة في التغيير.
يقول: لا شيءَ غيرُ اعتياديٍّ هنا سواي: البناتُ محجباتٌ/ الشمسُ واقفةٌ على رأسي/ سائقُو النقلِ الثقيلِ مستهترونَ كعهدِهِمْ/ ربما نائمونَ أو تحتَ تأثيرِ المخدرِ/ المزلقاناتُ رابضةٌ في مداخلِ القُرى/ وأكوامُ القمامةِ/ والسائرون بلا هُدى». ويقول: «لم يتبق إلا حصني/ حصن الشاعر/ فهيا نعبر إلى قصيدة تالية».
نعم، إنه يكتب قصيدة نثر تحفل بالحياة اليومية، ولغة الحياة اليومية، قصيدة اعتيادية تناسب وتتماهى مع امرأة اعتيادية، هكذا سطحُها يقول، لكنها، أي القصيدة، يصيبها المسُّ كما يصيب المرأةَ فتخرج من اعتياديتها، لتدهشنا بما تكنزه من أعاجيب عالم مأمول، ولنتذكر هنا مقولة شوبنهاور: «الفلسفة هي الدهشة من المألوف والعادي».
إن الخيار بكتابة «شعر اليوميات» يأتي بلوازمه من اللغة والبنية والمجاز والإيقاع، قصيدة لا تتخلى عن المجاز الجزئي وإن كانت تميل نحو المجاز الكلي. قصيدة تساوي في القيمة بين المبتذل والعادي، والمتعالي، «لا شيءَ غيرُ اعتياديٍّ هنا سواي».
نحن أمام ذات غير عادية متورطة في عالم اعتيادي، محاصرة بالقبح والفساد، وعدم احترام الخصوصية، ذات تريد أن تسلخ كل هذا عنها، وتطهر ذاكرتها مما لوثها، بكلمة تريد أن تولد من جديد، تحاول ذلك عبر بناء عالم خاص بها، أكثر حرية وخصوصية وصدقاً مع امرأة. أليس في الحوار بين جسدين ما يشي ببناء عالم بديل، وقصيدة جديدة، وميلاد ذات جديدة، إعمالاً لمقولة ابن عربي «الجسد قبة الروح»


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.