تنسيق المرحلة الأولى 2025.. قرار من التعليم العالي بشأن تقليل الاغتراب    برلماني: المشاركة في انتخابات الشيوخ واجب وطني ورسالة لوحدة الصف    تجهيز 476 لجنة انتخابية ل«الشيوخ».. 12 مرشحا يتنافسون على 5 مقاعد فردي بالمنيا    بعد تأكيد الحكومة تجاوز الأزمة.. هل الأسعار في طريقها للانخفاض؟    الري: تنفيذ 87% من قناطر ديروط الجديدة.. وفتح بوابات قنطرة الإبراهيمية    في يوم حقلي بالبحيرة.. "الزراعة" تقدم هجن طماطم مصرية جديدة بإنتاجية عالية    عائلات المحتجزين الإسرائيليين تطالب حكومة نتنياهو بوقف «الجنون» في غزة    عبد المنعم سعيد عن منظمي الوقفات الاحتجاجية أمام سفارة مصر بتل أبيب: لا يستحقون عناء الرد    حكومة غزة: 73 شاحنة مساعدات دخلت القطاع يوم الجمعة ونهبت أغلبها    نقابة الموسيقيين تعلن دعمها الكامل للقيادة السياسية وتدين حملات التشويه ضد مصر    تفاؤل في لوس أنجلوس بإتمام صفقة سون    بدون ربيعة.. العين الإماراتي يهزم إلتشي الإسباني وديا    استقبال رسمي لبعثة التجديف بعد التألق في دورة الألعاب الأفريقية للمدارس    مهدد بالحبس.. القصة الكاملة لاتهام أشرف حكيمي بالاغتصاب خلال889 يوما    وزير الشباب والرياضة يفتتح ملعبًا بمركز شباب المعمورة - صور    انفاتينو يقضي إجازته في العلمين.. ومدبولي يهاتفه    إصابة 5 أشخاص إثر حادث انقلاب سيارة ميكروباص في الشرقية    تراجع منخفض الهند «عملاق الصيف».. بيان مهم بشأن حالة الطقس الأسبوع الجاري    إصابة 9 أشخاص في حادث انقلاب ميكروباص بالشرقية    حكم بعدم دستورية قرار وزاري بإنهاء عقود الوكالة التجارية لمجاوزته حدود القانون    حفل أسطوري .. عمرو دياب يحقق أعلى حضور جماهيري في مهرجان العلمين    نادية مصطفى تنعي محمود علي سليمان: رحل صاحب السيرة الطيبة والخلق الرفيع    ريستارت يصعد للمركز الرابع في شباك التذاكر.. والمشروع X يتراجع للمركز الخامس    وفاء عامر تنفي سفرها للخارج: أنا داخل مصر وأثق في نزاهة القضاء    رئيس جامعة بنها يصدر قرارات وتكليفات جديدة في وحدات ومراكز الجامعة    من الطور إلى نويبع.. عروض فنية ومواهب طفولية تضيء جنوب سيناء (صور)    لا تتسرع في الرد والتوقيع.. حظ برج الجوزاء في أغسطس 2025    أفضل أدعية جلب الرزق وقضاء الديون وفقًا للكتاب والسنة    ما حكم الدعاء داخل الصلاة بقضاء حاجة دنيوية وهل تبطل الصلاة بذلك؟.. الإفتاء تجيب    صلاة الأوابين.. الأزهر للفتوى يوضح أهم أحكام صلاة الضحى    الصحة: فحص 18.4 مليون مواطن ضمن مبادرة الأمراض المزمنة والاعتلال الكلوي    الصحة تُطلق منصة تفاعلية رقمية بمستشفيات أمانة المراكز الطبية المتخصصة    ولادة طفل من جنين مجمد منذ 30 عاما|القصة الكاملة    3 مستشفيات تعليمية تحصد جوائز التميز من المنظمة العالمية للسكتة الدماغية    استجابة ل1190 استغاثة... رئيس الوزراء يُتابع جهود اللجنة الطبية العليا والاستغاثات خلال شهر يوليو 2025    طعنة غادرة أنهت حياته.. مقتل نجار دفاعًا عن ابنتيه في كفر الشيخ    النقل: استمرار تلقي طلبات تأهيل سائقي الأتوبيسات والنقل الثقيل    «الخارجية الفلسطينية» تحذر من دعوات تحريضية لاقتحام واسع للمسجد الأقصى غدا    الاستعلامات: 86 مؤسسة إعلامية عالمية تشارك في تغطية انتخابات الشيوخ 2025    هل يشعر الأموات بما يدور حولهم؟ عالم أزهري يجيب    مراسل إكسترا نيوز: الوطنية للانتخابات تتواصل مع سفراء مصر بالخارج لضمان سلاسة التصويت    تعاون بين «الجمارك وتجارية القاهرة».. لتيسير الإجراءات الجمركية    المصريون بالسعودية يواصلون التصويت في انتخابات «الشيوخ»    انطلاق قمة «ستارت» لختام أنشطة وحدات التضامن الاجتماعي بالجامعات    «بيت الزكاة والصدقات»: غدًا صرف إعانة شهر أغسطس للمستحقين    تنسيق المرحلة الثانية للثانوية العامة 2025.. 5 نصائح تساعدك على اختيار الكلية المناسبة    شكل العام الدراسي الجديد 2026.. مواعيد بداية الدراسة والامتحانات| مستندات    أيمن يونس: شيكابالا سيتجه للإعلام.. وعبد الشافي سيكون بعيدا عن مجال كرة القدم    النشرة المرورية.. سيولة فى حركة السيارات على طرق القاهرة والجيزة    22 شهيدا في غزة.. بينهم 12 أثناء انتظار المساعدات    زلزال بقوة 5.6 درجة يضرب قبالة سواحل مدينة كوشيرو اليابانية    ترامب يخطو الخطوة الأولى في «سلم التصعيد النووي»    تعرف على أسعار اللحوم اليوم السبت 2 أغسطس 2025    90 دقيقة تأخيرات «بنها وبورسعيد».. السبت 2 أغسطس 2025    رسميًا.. وزارة التعليم العالي تعلن عن القائمة الكاملة ل الجامعات الحكومية والأهلية والخاصة والمعاهد المعتمدة في مصر    «خدوا بالكم منه».. إعلان عودة معلول ل الصفاقسي يهز مشاعر جماهير الأهلي    سعر الذهب اليوم السبت 2 أغسطس 2025 يقفز لأعلى مستوياته في أسبوع    محافظ سوهاج يقرر غلق محلين بسبب مشاجرة بعض العاملين وتعطيل حركة المواطنين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سيف الرحبي افتتح آفاقاً شعرية غير مألوفة
نشر في صوت البلد يوم 24 - 05 - 2018

جمع الشاعر العماني سيف الرحبي أعماله الشعرية في ثلاثة مجلدات وأصدرها عن دار رياض الريس للكتب بإشراف مكتب جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب. وتضم الأعمال هذه كلّ مجموعات الشاعر الصادرة حتى الآن مع نصوص نقديّة رافقت تجربته واستقرأت خصائصها الجمالية. هنا قراءة في أعمال الرحبي.
تكشف المجلدات الثلاثة التي تضم الأعمال الشعرية عن تجربة الرحبي الشعرية في تنوّعها وتعدّدها وتطوّرها. لا شكّ في أنّ هناك عناصر ثابتة انتظمت هذه المجاميع وجعلتها متقاربة على تباعدها، متجانسة على تنوّعها. لكن هذا التجانس وذلك التقارب لم يطمسا، مع ذلك، اختلاف بعضها عن بعض فهذه المجموعات تنوّعت بتنوّع المراحل التي كتبت فيها، وتلونت بتلوّن الظروف التي صدرت عنها.
تجربة الرحبي ظلت تجربة نامية، متطورة. لهذا لم تكن العلائق التي انعقدت بين هذه المجموعات علائق توافق وانسجام بقدر ما كانت علائق تجاوز واختلاف. كل مجموعة من مجاميع الشاعر لم تكن إلا مختبراً شعريّاً عمل من خلاله على تطوير خطابه الشعريّ وارتياد آفاق جمالية جديدة.
إنّ قصيدة الرحبي هي سليلة القصيدة الحديثة التي تنكّبت عن شعر الاعتراف والبوح وأقبلت على شعر يستضيء بنور الإدراك العاقل والخبرة المعرفيّة الناقدة، قصيدة لا تغنّي بقدر ما تتأمّل وتستبصر، ولا تنشد بقدر ما تفكّر وتستقصي...
يذهب الشاعر سعدي يوسف إلى أنّ ديوان الجبال «يشكّل خطوة الانعطافة الصّعبة في مسيرة الشاعر الذي ظل يحاول الإمساك بناصية الأرض، أرض وطنه عبر عقدين من كتابة مختلفة، كتابة خاصة، كلفته متاعب حياة بأسرها»، ثمّة عاملان اثنان ويسوّغان، في نظر سعدي يوسف، اعتباره هذا الديوان منعطفاً:
أوّلاً أنّ قصائد هذه المجموعة كانت مكرسة لمشاهد بلاده عمان. من هنا كان الحضور الكثيف للطبيعة.
ثانياً أن هذا الديوان أصّل القصيدة العمانية في أديم تراثها... والحال أنّ هذه القصيدة في نظر سعدي يوسف كانت قبل هذا الديوان تفتقد إلى مرجعيّة، من داخل الوطن، تستند إليها...
ونحن إذْ نقرّ بأنّ ديوان «الجبال «يمثّل، فعلاً، منعطفاً مهمّاً في تجربة سيف الرحبي إلا أننا نؤوّل هذا الانعطاف تأويلاً جماليّاً لا تأويلاً دلاليّاً. فأهمّ خصيصة يتميّز بها شعر سيف الرحبي، كما سنبيّن لاحقاً، افتتانه بالمكان. فمنذ ديوانه الأوّل، شغل المكان حيزاً مهمّاً في قصائده بل بات، في نظرنا، الرحم التي منها تحدرت هذه القصائد تحدّر الوليد من الوالدة.
حضور المكان
الفارق بين هذا الديوان/ المنعطف والدواوين السابقة يتمثل في طريقة التعامل مع المكان، في طرائق تصويره، وأساليب تشكيله... فقبل ديوان «الجبال» كان حضور المكان باهتاً في قصائد الشاعر، يتجلّى في بعض الصور والرموز، يشعّ في مقطع أو مقطعين ثمّ يختفي، أما في الدواوين اللاحقة وبدءاً من ديوان «الجبال» فقد تحوّل المكان إلى صورة كليّة واستعارة كبرى تعمّ كامل القصيدة وربّما كامل الديوان. هكذا وجدنا عدداً من دواوين الشاعر تدور حول أمكنة بعينها، منها يستلهم الشاعر صوره ورموزه.
لكن هذه المجموعات لم تسترفد المكان فحسب بل استرفدت أساطيره وتشرّبت رموزه وسعت إلى كتابة تاريخه الروحيّ العميق... قصائد الرحبي هي قصائد الأوابد تتعاوى في البراري والنباتات التي لا أسماء لها، والجبال الرابضة كحيوانات أسطورية على مشارف الصحراء. لكأننا نشهد، في هذه المجموعات، ميلاد الكون، وانبثاق العناصر. لكأنّ الأرض، في شعره، تخرج للتوّ من العماء الأوّل، والجبال تنبثق من البحار، والسماء تتزيّن للمرة الأولى بالنجوم. لكن هذا لا يعني أن سيف الرحبي اكتفى بترديد أساطير جاهزة أو استحضار تاريخ منجز، كلا فالرّحبي، مثل كلّ الشعراء، واضع أساطير وخالق رموز.
كلّ قصائد الرحبي تنطوي على حوار يعقدهُ الشّاعر مع أسلافه الموتى من شعَرَاء وصُنّاع أساطير ورجال حكمة. وخلال هذا الحوار لا يشحنُ الشاعر قصيدته بقوّة الماضي فحسب وإنّما يشحنُ ذلك التّراث بطاقة الحاضر فيبرزُهُ على هيئة جديدة. فكلّ كتابة إنّما هي إحياء لآثار سابقة، إيقاظٌ للأرواح النّائمة فيها، تحرير لطاقاتها الرّمزيّة والتخييليّة.
إنّ غاية هذه القصيدة هي إيقاظ حسّ الدّهشة في القارئ وتشكيكه في تأويلاته النهائية للأشياء ودفعه إلى النّظر إلى العالم بعينين جديدتين. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، عمدت هذه القصيدة إلى استرفاد رؤاها وصورها ورموزها من آفاق ميثيولوجيّة وخرافيّة ودينيّة مختلفة. كل هذا جعل شعر سيف الرحبي ينطوي في الكثير من نماذجه، على بنية سرديّة ذات نَبْضٍ دراميّ. هذا النّمط من الشّعر قد جمع بين صيرورة القصّ، وكينونة الشّعر وانفتح على أجناس أدبيّة وفنيّة أخرى يستدعيها ويستفيدُ منها.
إنّ قصيدة الرّحبي قصيدة مركّبة تجدل خيوطها أصواتٌ عدة متداخلة، تتحدَّر من أزمنة شتّى. هذه القصيدة تنهض على المفارقات، وعلاقات التماثل والتضاد، والحوار المستمرّ بين الصّفات والخصائص النّوعيّة المختلفة. وقد أسهمت البنية السردية في تطوير نزعتها الدراميّة بما انطوت عليه من جدل بين أطراف متقابلة متفاعلة (مثل الحاضر والماضي، والذّات والآخر، والأسطورة والتّاريخ...) وهي في كلّ هذا تختلف عن القصيدة الحديثة، في مرحلتها الأولى، حين كانت قصيدة غنائيّة بسيطة، ذات صوت منفرد، وإيقاع واحد متواتر.
إنّ مفهوم ”البناء“ أصبح يمثّل، لدى سيف، هاجساً من هواجس الكتابة الشعريّة، فسيف أصبح يعوّل على الفكر في تشكيل القصيدة، وصوغ بنائها. سيف خرج منذ مجموعته الأولى، من بساطة التجربة الغنائية التي تهيب، في الغالب الأعمّ، ببناء جاهز، وجنح إلى كتابة قصيدة جديدة تحفر كلّ مرّة شكلها كما يحفر النّهر مجراه.
من المؤكد أنّ هذا التصوّر لفعل الكتابة يجعل القصيدة أفقاً مفتوحاً على شتّى الأجناس الأدبيّة والألوان الفنيّة، فيها تتضَامُّ أمْشاجٌ من الفنون القصصية والمسرحية والسينمائيّة لتشيد كلّهَا هذا البناء وفق نظرة جديدة لا تلقي بالاً للحدود من الأجناس والأنواع. من هنا كان تواتر تقنيات فنيّة في القصيدة الدّراميّة تؤول إذا تأمّلناها إلى فنون أخرى، من بين هذه التقنيات الحوار، والحوار الدّاخلي، وتعدّد الأصوات، والمفارقة، والسخريّة، ومنها الإهابة بالتعبير القصصيّ الذي يشدّ إليه كلّ حركات القصيدة وعناصرها، ومنها المزج بين السّكون والحركة والصّمت والكلام، والبياض والسّواد.
كلّ هذه التقنيات جعلت نصّ سيف الرحبي لا يقتصر على الصّور الفنّيّة التقليديّة، في بناء خطابه. بل أصبح قيمة تشكيليّة مركّبة لا ترى إلا متقاطعة الخيوط، متداخلة العناصر. والواقع أنّ كل قصائد الرحبي إنّما هي تأمّل في فاعلية الكتابة، وتفكير في وظيفة الشعر واستقراء لإمكانات اللغة... هكذا تمكن الرحبي من نقل أسئلة الشّعر من خارج القصيدة إلى داخلها، وأسهم في استبدال الأسئلة الاجتماعيّة والإيديولوجيّة التي كانت تستبدّ باهتمام القصيدة بأسئلة الكتابة وقضايا الشعر.
إنّ وظيفة الشّعر، في هذا الديوان، هي خلخلة الموجود من أجل الظّفر بوجود أبهى وأزكى، فباللّغة يعرف الكائن العالم، لكن باللّغة أيضاً يستدرك على هذا العالم ويعيد ترتيب أشيائه، يحرّض الاسم على المسمّى، يفصل الدّالّ والمدلول، يهيّئ العالم ليكون شيئاً آخر، يسلّط الثّقافة على الطّبيعة ليكون الاختلاف وتكون المغايرة.
يرفض الرحبي اللّغة الجاهزة السّابقة على تجربته ويسعى إلى ابتكار «لغته» التي تقول تجربته المخصوصة. فاللّغة عنده ليست صندوقاً يستخرج منه الألفاظ ليضعها علامة على الأشياء، وإنّما هي مجلاه، تجربته، أو بعبارة أدونيس «مجده». لكنّ قصيدة الرحبي ليست مجرّد رسالة تنطوي على رؤى الشاعر الفكرية فحسب، وإنما هي قبل كلّ شيء خطاب شعري، تشدّنا دوالّه إلى حضورها الذاتيّ قبل أن تشدّنا إلى شيء آخر خارج عنها.
ويعدّ هذا الاحتفاء بالدالّ ملمحاً مهمّاً من ملامح شعريّة الحداثة. هذه الشعريّة التي تعتبر الكلمة «الفعل الخلّاق للرّوح» وأنّ من تمام حريّتها أن تنسلخ عن مرجعيّتها ”وتترك لحركاتها الخالصة التي توجّهها كيف تشاء أن تبعث إيقاعاتها وإيحاءاتها“.
إنّ هذا الازدواج في طبيعة القصيدة التي كتبها سيف الرحبي بوصفها كتابة وتأمّلاً لتلك الكتابة من شأنه أن يستدرج القارئ للإسهام في صوغ معانيها وتأويل رموزها. فاللّغة فيها ليست أداة توصيل شفّافة أو حياديّة وإنّما هي بمثابة الزّجاج الذي تملأه الصّور وتغطّيه الألوان فيشدّ الانتباه إليه بقدر ما يشدّه إلى ما وراءه.
جمع الشاعر العماني سيف الرحبي أعماله الشعرية في ثلاثة مجلدات وأصدرها عن دار رياض الريس للكتب بإشراف مكتب جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب. وتضم الأعمال هذه كلّ مجموعات الشاعر الصادرة حتى الآن مع نصوص نقديّة رافقت تجربته واستقرأت خصائصها الجمالية. هنا قراءة في أعمال الرحبي.
تكشف المجلدات الثلاثة التي تضم الأعمال الشعرية عن تجربة الرحبي الشعرية في تنوّعها وتعدّدها وتطوّرها. لا شكّ في أنّ هناك عناصر ثابتة انتظمت هذه المجاميع وجعلتها متقاربة على تباعدها، متجانسة على تنوّعها. لكن هذا التجانس وذلك التقارب لم يطمسا، مع ذلك، اختلاف بعضها عن بعض فهذه المجموعات تنوّعت بتنوّع المراحل التي كتبت فيها، وتلونت بتلوّن الظروف التي صدرت عنها.
تجربة الرحبي ظلت تجربة نامية، متطورة. لهذا لم تكن العلائق التي انعقدت بين هذه المجموعات علائق توافق وانسجام بقدر ما كانت علائق تجاوز واختلاف. كل مجموعة من مجاميع الشاعر لم تكن إلا مختبراً شعريّاً عمل من خلاله على تطوير خطابه الشعريّ وارتياد آفاق جمالية جديدة.
إنّ قصيدة الرحبي هي سليلة القصيدة الحديثة التي تنكّبت عن شعر الاعتراف والبوح وأقبلت على شعر يستضيء بنور الإدراك العاقل والخبرة المعرفيّة الناقدة، قصيدة لا تغنّي بقدر ما تتأمّل وتستبصر، ولا تنشد بقدر ما تفكّر وتستقصي...
يذهب الشاعر سعدي يوسف إلى أنّ ديوان الجبال «يشكّل خطوة الانعطافة الصّعبة في مسيرة الشاعر الذي ظل يحاول الإمساك بناصية الأرض، أرض وطنه عبر عقدين من كتابة مختلفة، كتابة خاصة، كلفته متاعب حياة بأسرها»، ثمّة عاملان اثنان ويسوّغان، في نظر سعدي يوسف، اعتباره هذا الديوان منعطفاً:
أوّلاً أنّ قصائد هذه المجموعة كانت مكرسة لمشاهد بلاده عمان. من هنا كان الحضور الكثيف للطبيعة.
ثانياً أن هذا الديوان أصّل القصيدة العمانية في أديم تراثها... والحال أنّ هذه القصيدة في نظر سعدي يوسف كانت قبل هذا الديوان تفتقد إلى مرجعيّة، من داخل الوطن، تستند إليها...
ونحن إذْ نقرّ بأنّ ديوان «الجبال «يمثّل، فعلاً، منعطفاً مهمّاً في تجربة سيف الرحبي إلا أننا نؤوّل هذا الانعطاف تأويلاً جماليّاً لا تأويلاً دلاليّاً. فأهمّ خصيصة يتميّز بها شعر سيف الرحبي، كما سنبيّن لاحقاً، افتتانه بالمكان. فمنذ ديوانه الأوّل، شغل المكان حيزاً مهمّاً في قصائده بل بات، في نظرنا، الرحم التي منها تحدرت هذه القصائد تحدّر الوليد من الوالدة.
حضور المكان
الفارق بين هذا الديوان/ المنعطف والدواوين السابقة يتمثل في طريقة التعامل مع المكان، في طرائق تصويره، وأساليب تشكيله... فقبل ديوان «الجبال» كان حضور المكان باهتاً في قصائد الشاعر، يتجلّى في بعض الصور والرموز، يشعّ في مقطع أو مقطعين ثمّ يختفي، أما في الدواوين اللاحقة وبدءاً من ديوان «الجبال» فقد تحوّل المكان إلى صورة كليّة واستعارة كبرى تعمّ كامل القصيدة وربّما كامل الديوان. هكذا وجدنا عدداً من دواوين الشاعر تدور حول أمكنة بعينها، منها يستلهم الشاعر صوره ورموزه.
لكن هذه المجموعات لم تسترفد المكان فحسب بل استرفدت أساطيره وتشرّبت رموزه وسعت إلى كتابة تاريخه الروحيّ العميق... قصائد الرحبي هي قصائد الأوابد تتعاوى في البراري والنباتات التي لا أسماء لها، والجبال الرابضة كحيوانات أسطورية على مشارف الصحراء. لكأننا نشهد، في هذه المجموعات، ميلاد الكون، وانبثاق العناصر. لكأنّ الأرض، في شعره، تخرج للتوّ من العماء الأوّل، والجبال تنبثق من البحار، والسماء تتزيّن للمرة الأولى بالنجوم. لكن هذا لا يعني أن سيف الرحبي اكتفى بترديد أساطير جاهزة أو استحضار تاريخ منجز، كلا فالرّحبي، مثل كلّ الشعراء، واضع أساطير وخالق رموز.
كلّ قصائد الرحبي تنطوي على حوار يعقدهُ الشّاعر مع أسلافه الموتى من شعَرَاء وصُنّاع أساطير ورجال حكمة. وخلال هذا الحوار لا يشحنُ الشاعر قصيدته بقوّة الماضي فحسب وإنّما يشحنُ ذلك التّراث بطاقة الحاضر فيبرزُهُ على هيئة جديدة. فكلّ كتابة إنّما هي إحياء لآثار سابقة، إيقاظٌ للأرواح النّائمة فيها، تحرير لطاقاتها الرّمزيّة والتخييليّة.
إنّ غاية هذه القصيدة هي إيقاظ حسّ الدّهشة في القارئ وتشكيكه في تأويلاته النهائية للأشياء ودفعه إلى النّظر إلى العالم بعينين جديدتين. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، عمدت هذه القصيدة إلى استرفاد رؤاها وصورها ورموزها من آفاق ميثيولوجيّة وخرافيّة ودينيّة مختلفة. كل هذا جعل شعر سيف الرحبي ينطوي في الكثير من نماذجه، على بنية سرديّة ذات نَبْضٍ دراميّ. هذا النّمط من الشّعر قد جمع بين صيرورة القصّ، وكينونة الشّعر وانفتح على أجناس أدبيّة وفنيّة أخرى يستدعيها ويستفيدُ منها.
إنّ قصيدة الرّحبي قصيدة مركّبة تجدل خيوطها أصواتٌ عدة متداخلة، تتحدَّر من أزمنة شتّى. هذه القصيدة تنهض على المفارقات، وعلاقات التماثل والتضاد، والحوار المستمرّ بين الصّفات والخصائص النّوعيّة المختلفة. وقد أسهمت البنية السردية في تطوير نزعتها الدراميّة بما انطوت عليه من جدل بين أطراف متقابلة متفاعلة (مثل الحاضر والماضي، والذّات والآخر، والأسطورة والتّاريخ...) وهي في كلّ هذا تختلف عن القصيدة الحديثة، في مرحلتها الأولى، حين كانت قصيدة غنائيّة بسيطة، ذات صوت منفرد، وإيقاع واحد متواتر.
إنّ مفهوم ”البناء“ أصبح يمثّل، لدى سيف، هاجساً من هواجس الكتابة الشعريّة، فسيف أصبح يعوّل على الفكر في تشكيل القصيدة، وصوغ بنائها. سيف خرج منذ مجموعته الأولى، من بساطة التجربة الغنائية التي تهيب، في الغالب الأعمّ، ببناء جاهز، وجنح إلى كتابة قصيدة جديدة تحفر كلّ مرّة شكلها كما يحفر النّهر مجراه.
من المؤكد أنّ هذا التصوّر لفعل الكتابة يجعل القصيدة أفقاً مفتوحاً على شتّى الأجناس الأدبيّة والألوان الفنيّة، فيها تتضَامُّ أمْشاجٌ من الفنون القصصية والمسرحية والسينمائيّة لتشيد كلّهَا هذا البناء وفق نظرة جديدة لا تلقي بالاً للحدود من الأجناس والأنواع. من هنا كان تواتر تقنيات فنيّة في القصيدة الدّراميّة تؤول إذا تأمّلناها إلى فنون أخرى، من بين هذه التقنيات الحوار، والحوار الدّاخلي، وتعدّد الأصوات، والمفارقة، والسخريّة، ومنها الإهابة بالتعبير القصصيّ الذي يشدّ إليه كلّ حركات القصيدة وعناصرها، ومنها المزج بين السّكون والحركة والصّمت والكلام، والبياض والسّواد.
كلّ هذه التقنيات جعلت نصّ سيف الرحبي لا يقتصر على الصّور الفنّيّة التقليديّة، في بناء خطابه. بل أصبح قيمة تشكيليّة مركّبة لا ترى إلا متقاطعة الخيوط، متداخلة العناصر. والواقع أنّ كل قصائد الرحبي إنّما هي تأمّل في فاعلية الكتابة، وتفكير في وظيفة الشعر واستقراء لإمكانات اللغة... هكذا تمكن الرحبي من نقل أسئلة الشّعر من خارج القصيدة إلى داخلها، وأسهم في استبدال الأسئلة الاجتماعيّة والإيديولوجيّة التي كانت تستبدّ باهتمام القصيدة بأسئلة الكتابة وقضايا الشعر.
إنّ وظيفة الشّعر، في هذا الديوان، هي خلخلة الموجود من أجل الظّفر بوجود أبهى وأزكى، فباللّغة يعرف الكائن العالم، لكن باللّغة أيضاً يستدرك على هذا العالم ويعيد ترتيب أشيائه، يحرّض الاسم على المسمّى، يفصل الدّالّ والمدلول، يهيّئ العالم ليكون شيئاً آخر، يسلّط الثّقافة على الطّبيعة ليكون الاختلاف وتكون المغايرة.
يرفض الرحبي اللّغة الجاهزة السّابقة على تجربته ويسعى إلى ابتكار «لغته» التي تقول تجربته المخصوصة. فاللّغة عنده ليست صندوقاً يستخرج منه الألفاظ ليضعها علامة على الأشياء، وإنّما هي مجلاه، تجربته، أو بعبارة أدونيس «مجده». لكنّ قصيدة الرحبي ليست مجرّد رسالة تنطوي على رؤى الشاعر الفكرية فحسب، وإنما هي قبل كلّ شيء خطاب شعري، تشدّنا دوالّه إلى حضورها الذاتيّ قبل أن تشدّنا إلى شيء آخر خارج عنها.
ويعدّ هذا الاحتفاء بالدالّ ملمحاً مهمّاً من ملامح شعريّة الحداثة. هذه الشعريّة التي تعتبر الكلمة «الفعل الخلّاق للرّوح» وأنّ من تمام حريّتها أن تنسلخ عن مرجعيّتها ”وتترك لحركاتها الخالصة التي توجّهها كيف تشاء أن تبعث إيقاعاتها وإيحاءاتها“.
إنّ هذا الازدواج في طبيعة القصيدة التي كتبها سيف الرحبي بوصفها كتابة وتأمّلاً لتلك الكتابة من شأنه أن يستدرج القارئ للإسهام في صوغ معانيها وتأويل رموزها. فاللّغة فيها ليست أداة توصيل شفّافة أو حياديّة وإنّما هي بمثابة الزّجاج الذي تملأه الصّور وتغطّيه الألوان فيشدّ الانتباه إليه بقدر ما يشدّه إلى ما وراءه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.