قراءة للديوان الأول " الصعود إلي الرحلة القادمة " للشاعر عمارة إبراهيم، الذي صدر عام 1999. بقلم الشاعر الكبير الرائد عبدالمنعم عواد يوسف. بوابة شموس نيوز – خاص هذا هو الديوان الأول للشاعر" عمارة إبراهيم"صدر ضمن سلسلة "الإصدار الأول "التي تصدرها مديرية ثقافة القاهرة التي تتبع هيئة قصور الثقافة،من أجل تشجيع المواهب الشابة،والدفع بهم قدما في طريق الإبداع. ويحتوي الديوان علي ثلاثين قصيدة،ثمان منها متوسطة الطول،والاثنتان والعشرون الباقية من القصائد القصيرة جدا،والتي لا يتعدي طول بعضها حدود السطرين الشعريين.والنسق الموسيقي الذي يقوم عليه الديوان هو النسق التفعيلي،الذي يغلب عليه البحر الشعري"المتدارك"وهذا البحر قد يأتي بتفعيلة مجنونة أي يصبح خببا كما نجد ذلك مثلا في أولي قصائد الديوان "عناقيد شرر" قنديل أبيض فعلن فعلن- بتحريك الحرف الأول والثالث وتسكين . الثاني والرابع. خلف الغيم الأسود يرسم ظلا شيطانيا موتا بحرا 6 تفعيلات سنبلة دون خميرة 3 تفضيلات وقد يأتي"المتدارك"بتفعيلته الأصلية "فاعلن"كما نجد ذلك في قصيدة"وقت": ساعتي مخطئة. أو في قصيدة"بيت": بيتنا واسع فاعلن فاعلن يمتطي صمته فاعلن فاعلن وفي أحيان قليلة يلجأ الشاعر إلي البحر الشعري"المتقارب"،كما نجد ذلك في قصيدة"فضاء لربح تموء" غبار يلف الجسد فعولن فعولن فعولن وريح بصفصافة عارية 4 تفعيلات صهيل علي مطلع اللحظة الغائمة 5 تفعيلات كنت مؤتمرا في شقوق تفتش عن موجة المطر المستباح 8 تفعيلات وتأتي أيضا قصيدة"ناقة الوطن المبتدأ "علي بحر "المتقارب" قليلا يشدوننا تشققت الأرض تحمل سيرتنا تشتهي نفخة لارتشافي سماواتنا تنحني واستطال الفضاء لغير الحدود وقد يأتي بحر"الكامل"نادرا،كما نجد ذلك في قصيدة"مكاشفة" في ليلة متفاعلن خلف الشطوط البعيدة تفعيلتان أو قصيدة"اسكندرية" في غرفتي متفاعلن ساعات نومي غيبتني في مساء نازف 4تفعيلات من غير ماء أو سماء تفعيلات وعلي نفس إيقاع "الكامل"تأتي قصيدة"البيت الكبير" يا هونج الموت…ارتطام في الصخور ص55،وباستثناء هذه النماذج نجد أن إيقاع "المتدارك المخبون"أي"الخبب"يكاد يكون هو المهمين علي إبداع الشاعر من الناحية الموسيقية. والشاعر لا يلتزم بالإيقاع الموسيقي الظاهري التزاما صارما،فهو كثير ما يخرج عليه،وبذلك لا يصبح الالتزام الصارم بالإيقاع سيفا مصلتا علي التجربة الإبداعية، وأنا من الذين يقبلون هذا التصرف الموسيقي،فهو في تصوري أفضل من التخلي تماما عن الإيقاع الموسيقي الظاهري،تحت دعوي قصيدة"النثر" ولعل الظاهرة الفنية اللافتة للنظر في هذا "الديوان"هي شيوع القصائد القصيرة التي يصل عددها إلي اثنتين وعشرين قصيدة من قصائد الديوان الثلاثين كما سبق أن ذكرت. ومثل هذه القصائد المكثفة،أو ما يطلق عليها مصطلح قصيدة"الومضة"،حيث تمكن الشاعر من التعبير عن تجربته الإبداعية خالصة،دون أية زوائد تؤدي إلي ترهل التجربة،أو الثرثرة التي لا مبرر لها فنيا،مثلا في قصيدة"رحلة"،يعبر الشاعر عن تجربة كاملة:رحلة لم تؤت ثمارها،لم تمنح الشاعر الثمرة التي كان يود اغتنامها منها،ما أهمية البقاء.؟،وما الذي يحول دون سفر العودة من رحلة لم تحقق الغاية منها: الرحلة لم تمنحني خضرتها كيف لي أن أرد القطار؟ وفي قصيدة أخري من أربعة أسطر هي"بيت"يرسم الشاعر لوحة فنية لهذا البيت الواسع،الغارق في الصمت(يمتطي صمته)،ما سر هذا الصمت الذي يلفه،هل هو صمت الغضب؟ أو هو صمت الاستسلام لقدره،خضعوا للأمر النافذ؟ بيتنا واسع يمتطي صمته غضبة السكون غبطة الأمر النافذ وفي موضع آخر من الديوان،يرسم لنا الشاعر لوحة أخري، لبيت آخر، إنه "البيت القديم"الذي يقول عنه إنه لم يكن يدري بقدومه،أو وقوعه علي حافة جسر الشتاء،هو البيت الذي تحل فيه امرأة هو جزء منها،لأنها هي التي صنعته،ولكن لماذا يفور كلما صلي فيه ركعة دون أن يمسسها،إنها الآن تودع حلمها،بينما هو واقف في الجهة الأخري، وقد أصبح البيت وقد اكتنفه البرد الشديد(انظر قصيدة البيت القديم ص37). ولشاعرنا في مثل هذه القصائد المكثفة قدرة فائقة علي رسم لوحات كاملة بعدد يسير من الخطوط والظلال بحيث يضعنا داخل الحالة الشعرية التي يعبر عنها مباشرة،وبأقل قدر من التفاصيل،ونقرأ معا هذه الومضة"ريح" الريح تلبس قبعتها في المساء تزرع ما بين جنبي وبين الرمال بعضا من تضاريس في أربعة أسطر فحسب شكل الشاعر حدود العالم الممتد. وكم كنت أود أن أطيل الوقوف أمام هذا الضرب من التعبير الشعري المكثف الذي أبدع فيه شاعرنا وأجاد،ولكن حسبي ان أشير إلي مثل هذه القصائد : (فراشات،موسيقي،آباء، ولد،ظل،خيل،مكاشفة). ولا تقل قدرة شاعرنا التعبيرية خلال قصائده الثماني متوسطة الطول،عن هذا المستوي التعبيري الذي بلغه في قصائده القصيرة. إن شاعرنا يشكل عوالمه الشعرية داخل هذه القصائد من خلال عدد من الآليات التعبيرية التي تمكن من ناصيتها كل التمكن.: معجم شعري منتقي بحرص،يضع كل مفردة منه داخل السياق الأسلوبي الذي لا ينتظم إلا بها،ومقدرة علي التشكيل من خلال الصورة التي يجيد شاعرنا رسم أبعادها بمهارة. وشاعرنا لا يعبر عن تجاربه من خلال التعبير المباشر،وإنما يسوق حالاته الشعرية مغلفة بغلاف من الغموض الذي يشي بما وراءه بأقل قدر من الجهد من المتلقي،لفك مغاليق النص الشعري،القائم علي تعمد التعمية والألغاز، ومهمة المبدع هنا في هذه الحالة أن يضعنا داخل الموقف الشعري الذي أبدع أبعاده،ثم يترك لنا حرية التحرك داخل هذه الأبعاد استكناها للغايات التي توخاها من تجربته الإبداعية. والآن تعالوا بنا نستعرض هذه الآليات التعبيرية من خلال تحليل أحد نصوص هذه المجموعة من القصائد متوسطة الطول،ولتكن هذه القصيدة"مكاشفة": لنتأمل المعجم الشعري المستخدم في مستهل القصيدة: في ليلة خلف الشطوط البعيدة حين أطل علي حقول التمر مصباح فاردا شعلة الألوان يمتد نايا في زرقة الماء ينساب ألف خميلة كالشعر حين يعاود طراوة الصيف يوقظ عصفورة حطت وهون في بحرها الأغنيات مجموعة من المفردات تشكل بناءها التركيبي بقدر كبير من الإيحاء، وكل مفردة في موضعها من بناء الجملة تماما،دون تقديم أو تأخير يخلان بهذا البناء. أما التكوين الشعري من خلال الصورة التي تجدد خطوطها أبعاد المشهد الشعري،فيتحقق في المقطع التالي: كل الثمار عابر شطها مطر يهز صلاتها آهة عاشق تأبط الموج رقصة للمدي يستحث البحر- صناجة للشعر-والماء الذلول يا أيها البحر الإمام الجامع لليل والشط للنورس المجنون الغريب البعيد بهذه القدرة علي التشكيل يرسم الشاعر معالم هذه اللوحة التعبيرية التي تحقق المشهد الشعري الذي توخي الشاعر ادخالنا إليه، حتي يعيش التجربة الفنية التي قصد إليها من كتابة قصيدته. ولا تكتمل الصورة إلا بإيراد ختام القصيدة: إنني الراهب-العابظ-السابح في جمر رياحك يا ريح اقذفيني وبعثريني أذوب في لجة ميادين أباغت جسرك المرصود أدق الجدار المدن المشتهاة أمتص ريحانة العابر تأخذني النجوم تبدي الغيب وردة أبصر سرها لم يعد بيني وبينها غير إعصار هو الصمت وقد أثقله الثمر الناضج. تداخل الأمكنة في قصيدة(عناقيد شرر) في هذه القصيدة تبرز أكثر من إشارة مكانية ولكل دلالاتها الخاصة: من إشارات المكان في هذه القصيدة [السماء-البحر-الارض-النيل-الوطن-الجبال-والسهول].. والسماء في هذه القصيدة تطرح معطياتها في أكثر من موضع: يقول الشاعر في مستهل القصيدة: قنديل أبيض /خلف الغيم الأسود/يرسم ظلا شيطانيا. وتستمر السماء-كمكان-في طرح معطياتها في القصيدة: صار القنديل الأبيض رعدا/وخلف الغيم الأسود /ينزف دمعا. وحتي يبرز المكان هنا-وهو كما اسلفنا السماء-شمسه،تبدو-وفقا للجو العام في القصيدة-خلف غلالة من ظل: وخلف الفين الأسود ينزف دمعا/ملء النيل الناعم خوف/ملء طقوس الشمس الظل/وفوق الشفتين/عناقيد شرر/وطن -نرسمه لون غروب. وتمشيا مع هذا المكان -السماء الغائمة يصبح الطير،وهو من طروحات السماء -كمكان-ضوءا خافت. والإشارة المكانية التالية في هذه القصيدة هي( البحر)..والمكانان [السماء-البحر]،يلتحمان التحاما حميميا في هذه القصيدة.. فالقنديل الأبيض خلف الغيم الأسود يرسم ظلا شيطانيا-بحرا،ويستمر التلاحم بين المكانين-يقول الشاعر: يسأل : كيف الموت الأزرق يجمعنا- والموت الأزرق ،وعلي الشاطئ يمنحنا لحظة صمت،فإذا ضممنا إلي الإشارتين السابقتين إشارة مكانية جديدة هي الوطن-ثم التلاحم بين الإشارات الثلاث:السماء-البحر-الوطن-فيأتي ختام القصيدة منسجما مع تلاحم العناصر المكانية الثلاثة: ومتسقا في الوقت ذاته مع هذا الجو الغائم الذي ساد القصيدة كلها: يا لله/ضاع التمثال/وصار الوطن النازف تحت أعاصير الظلمة/يحتضن الأفق اليابس/صنعنا رغوته حين تغطي الجسد/وعلي شفتيه عناقيد شرر طفل يصعد،ويصعد تتغير ألوان البحر فهل غطي السواد كل شيء؟ وهل يجيء القادم الذي أشار إليه في النهاية بالطفل الذي يمثل جيلا آخر، ربما يأتي.