إعلام فلسطيني: طائرات الاحتلال تجدد استهداف المناطق الشرقية لمدينة غزة    تغيرات مفاجئة.. مناطق سقوط الأمطار وتنبيهات عاجلة للأرصاد بشأن حالة الطقس اليوم    ترامب: الضربات الجوية على أهداف في فنزويلا ستبدأ قريبًا    أول تعليق من ترامب على ظهوره مع نساء في صور أرشيف إبستين    دمج وتمكين.. الشباب ذوي التنوع العصبي يدخلون سوق العمل الرقمي بمصر    زيادة متوقعة في إنتاج اللحوم الحمراء بمصر إلى 600 ألف طن نهاية العام الجاري    أذان الفجر اليوم السبت13 ديسمبر 2025.. دعاء مستحب بعد أداء الصلاة    تدريب واقتراب وعطش.. هكذا استعدت منى زكي ل«الست»    بين مصر ودبي والسعودية.. خريطة حفلات رأس السنة    بدأ العد التنازلي.. دور العرض تستقبل أفلام رأس السنة    قفزة تاريخية.. مصر تقترب من الاكتفاء الذاتي للقمح والأرز    د.هبة مصطفى: مصر تمتلك قدرات كبيرة لدعم أبحاث الأمراض المُعدية| حوار    بعد الخروج أمام الإمارات، مدرب منتخب الجزائر يعلن نهايته مع "الخضر"    تقرير أممي: التوسع الاستيطاني بالضفة الغربية يبلغ أعلى مستوى له منذ عام 2017 على الأقل    ياسمين عبد العزيز: كان نفسي أبقى مخرجة إعلانات.. وصلاة الفجر مصدر تفاؤلي    مصرع شخص وإصابة 7 آخرين فى حادث تصادم بزراعى البحيرة    ترامب يثمن دور رئيس الوزراء الماليزى فى السلام بين كمبوديا وتايلاند    هشام نصر: سنرسل خطابا لرئيس الجمهورية لشرح أبعاد أرض أكتوبر    اليوم.. محاكمة المتهمين في قضية خلية تهريب العملة    ياسمين عبد العزيز: ما بحبش مسلسل "ضرب نار"    سلوى بكر ل العاشرة: أسعى دائما للبحث في جذور الهوية المصرية المتفردة    أكرم القصاص: الشتاء والقصف يضاعفان معاناة غزة.. وإسرائيل تناور لتفادي الضغوط    محمد فخرى: كولر كان إنسانا وليس مدربا فقط.. واستحق نهاية أفضل فى الأهلى    وول ستريت جورنال: قوات خاصة أمريكية داهمت سفينة وهي في طريقها من الصين إلى إيران    قرار هام بشأن العثور على جثة عامل بأكتوبر    بسبب تسريب غاز.. قرار جديد في مصرع أسرة ببولاق الدكرور    محمود عباس يُطلع وزير خارجية إيطاليا على التطورات بغزة والضفة    كأس العرب - مجرشي: لا توجد مباراة سهلة في البطولة.. وعلينا القتال أمام الأردن    أحمد حسن: بيراميدز لم يترك حمدي دعما للمنتخبات الوطنية.. وهذا ردي على "الجهابذة"    الأهلي يتراجع عن صفقة النعيمات بعد إصابته بالرباط الصليبي    الأهلي يتأهل لنصف نهائي بطولة أفريقيا لكرة السلة سيدات    فرانشيسكا ألبانيزي: تكلفة إعمار غزة تتحملها إسرائيل وداعموها    تعيين الأستاذ الدكتور محمد غازي الدسوقي مديرًا للمركز القومي للبحوث التربوية والتنمية    ياسمين عبد العزيز: أرفض القهر ولا أحب المرأة الضعيفة    ننشر نتيجة إنتخابات نادي محافظة الفيوم.. صور    محافظ الدقهلية يهنئ الفائزين في المسابقة العالمية للقرآن الكريم من أبناء المحافظة    إصابة 3 أشخاص إثر تصادم دراجة نارية بالرصيف عند مدخل بلقاس في الدقهلية    إشادة شعبية بافتتاح غرفة عمليات الرمد بمجمع الأقصر الطبي    روشتة ذهبية .. قصة شتاء 2025 ولماذا يعاني الجميع من نزلات البرد؟    عمرو أديب ينتقد إخفاق منتخب مصر: مفيش جدية لإصلاح المنظومة الرياضية.. ولما نتنيل في إفريقيا هيمشوا حسام حسن    بعد واقعة تحرش فرد الأمن بأطفال، مدرسة بالتجمع تبدأ التفاوض مع شركة حراسات خاصة    سعر جرام الذهب، عيار 21 وصل لهذا المستوى    الإسعافات الأولية لنقص السكر في الدم    الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر بشأن تزايد الطلب على موارد المياه مع ازدياد الندرة    مفتي الجمهورية يشهد افتتاح مسجدي الهادي البديع والواحد الأحد بمدينة بشاير الخير بمحافظة الإسكندرية    غلق مزلقان مغاغة في المنيا غدا لهذا السبب    لجنة المحافظات بالقومي للمرأة تناقش مبادرات دعم تحقيق التمكين الاقتصادي والاجتماعي    مواقيت الصلاه اليوم الجمعه 12ديسمبر 2025 فى المنيا    انطلاقة قوية للمرحلة الثانية لبرنامج اختراق سوق العمل بجامعة سوهاج |صور    محافظ أسوان يأمر بإحالة مدير فرع الشركة المصرية للنيابة العامة للتحقيق لعدم توافر السلع بالمجمع    اسعار الفاكهه اليوم الجمعه 12ديسمبر 2025 فى المنيا    سويلم: العنصر البشري هو محور الاهتمام في تطوير المنظومة المائية    هشام طلعت مصطفى يرصد 10 ملايين جنيه دعمًا لبرنامج دولة التلاوة    ضبط المتهمين بتقييد مسن فى الشرقية بعد فيديو أثار غضب رواد التواصل    نقيب العلاج الطبيعى: إلغاء عمل 31 دخيلا بمستشفيات جامعة عين شمس قريبا    بتوجيهات الرئيس.. قافلة حماية اجتماعية كبرى من صندوق تحيا مصر لدعم 20 ألف أسرة في بشاير الخير ب226 طن مواد غذائية    في الجمعة المباركة.. تعرف على الأدعية المستحبة وساعات الاستجابة    عاجل- الحكومة توضح حقيقة بيع المطارات المصرية: الدولة تؤكد الملكية الكاملة وتوضح أهداف برنامج الطروحات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سركون بولص‮.. ‬مخالب الشعر
نشر في أخبار الحوادث يوم 24 - 09 - 2016

سركون بولص أحد أبرز شعراء مابعد الحداثة العربية،‮ ‬تكفل شعره بتأسيس القصيدة العربية الجديدة وتفعيلها واقعًا حيًّا ووجودًا ملموسًا،‮ ‬بنقل القصيدة من حيز التجريدي والرمزي المسكون بالأساطير إلي ما هو واقعي ويومي،‮ ‬جاعلاً‮ ‬الواقع نفسه أسطورة لما يحفل به من‮ ‬غرائبية ومفارقة تُفجِّر الدهشة،‮ ‬فبعد أن كانت أن كانت الأسطورة فيما قبل شعر مابعد الحداثة هي بمثابة قناع رمزي يحتل من لوحة الشعر الشكل،‮ ‬أما الحدثي والوقائعي فيكون بمثابة ظلال لها أو أرضية‮ (‬خلفية‮)‬،‮ ‬فقد صارت الأسطورة‮- ‬كما في شعر سركون بولص‮- ‬عنصرًا من عناصر اللوحة ومكونًا من مكونات الخلفية يزواجه الشاعر بالواقع كأحد أنسجته،‮ ‬لقد صار الوجود،‮ ‬أي شيء بالوجود‮- ‬في الفكر الأسطوري المابعد حداثي‮- ‬قابلاً‮ ‬للأسطرة،‮ ‬وبحسب‮- ‬رولان بارت‮- ‬فإنّ‮ "‬كل ما يخضع للخطاب من شأنه أن يصبح أسطورةً‮. ‬الأسطورة لا تُعرَّف بموضوع رسالتها‮. ‬إنما من خلال الطريقة التي تلفظها بها‮: ‬هناك حدود شكلية للأسطورة،‮ ‬ولا وجود للحدود الجوهرية فيها‮. ‬إذن كلُّ‮ ‬شيءٍ‮ ‬يمكن أن يصبح أسطورة؟ نعم،‮ ‬أعتقدُ‮ ‬هذا،‮ ‬لأنّ‮ ‬العالم معينٌ‮ ‬لا ينضب من الإيحاءات‮. ‬فكل موضوع من موضوعات العالم يمكنه الانتقال من وجودٍ‮ ‬مغلق،‮ ‬أخرس إلي حالة شفوية منفتحة أمام امتلاك المجتمع،‮ ‬لأنّ‮ ‬ما من قانون طبيعي،‮ ‬أو‮ ‬غير طبيعي،‮ ‬يمنعنا من الكلام علي الأشياء‮"‬،‮ ‬وهو ما وعاه سركون بولص في جعله الواقع بكل ما فيه من واقعية وتجربة معاشة أسطورة لشعره،‮ ‬كما يقول سركون في قصيدة‮ "‬ألف ليلة وليلة‮":‬
كان ذلك
عندما أبصرتُ‮ ‬رمزي المفضَّل
يهبط كالنسناس من راحة يدي
ويدلني علي أماكن مجهولة يتصاعد منها تنُّفس الأحياء
تبعتُه وعينايَ‮ ‬معصوبتان
بريش معرفتي القليلة
ويدايَ‮ ‬مقيّدتان بالحريّة وأسنانها
تنغرز في رسغي والألم
يجعلني أتطوّح كالسكّير في أزقة‮ ‬غريبة أسرارُها لم تنجح
في مواساتي
واثبًا في الهواء بحركات
المعذَّبين الخرقاء‮.‬
يُفصح الشاعر عن فلسفته الشعرية واستراتيجيته الترميزية التي تتأسس علي إطلاق الرمز وتحريره من قبضة الشاعر وارتياده أراضي جديدة والخوض به في مناطق‮ ‬غريبة لم يطؤها من قبل،‮ ‬وكما يبدو من خلال الصورة التي يرسمها الشاعر لتحولات الرمز لديه‮ (‬أبصرتُ‮ ‬رمزي المفضَّل يهبط كالنسناس من راحة يدي‮) ‬فقد أخذ الرمز‮ (‬يهبط‮) ‬في إشارة لتخلي الرمز عن تعاليه ونزوله لمستوي الأرضي والواقعي،‮ ‬كما أمسي الرمز‮ (‬كالنسناس‮) ‬في إشارة لانتقال الصور الشعرية وعمليات الترميز لطور وحشي،‮ ‬بدائي،‮ ‬تراجعًا عن الأساليب البلاغية والطرائق التصويرية المتعالية،‮ ‬فالصورة عند سركون بولص تباغت المتلقي ورُبما تصدم أفق توقعه بما يوسع من‮ "‬المسافة الجمالية‮" ‬Distance Esthetic) ،التي يقطعها الأداء الشعري التي تتمدد‮- ‬بحسب ياوس‮- ‬بمباعدة الكتابة عن أفق توقعات التلقي والقراءة‮. ‬
ولكن،‮ ‬كيف تكون الحرية مقيّدة للشاعر؟ هل وقع الشاعر‮- ‬بذلك في تناقض؟ يبدو أن الشاعر قد تخلي عن رؤاه الفنية السابقة بخصوص صناعة الشعر للرموز،‮ ‬فالشاعر‮ (‬الصياغة الشعرية‮) ‬يبدو وكأنّه يترك الرمز يسكن مناطق مجهولة،‮ ‬فضاءات لم يبلغها الشعر من قبل،‮ ‬فيما يُمثِّل خروجًا علي التراث الشعري وتمردًا علي آلياته التقليدية في صناعة الرموز وانتهاكًا لمقدساته في تشكيل صوره‮. ‬وهو ما جعل الشاعر‮ (‬يتطوح كالسكير‮) ‬في إشارة لأثر الشعرية الجديدة علي الشاعر إذ تدخل به في نشوة كالسكر بعد أن تخلخل مستقراته وتهز ثوابته وهو ما يجعله يتطوح،‮ ‬في حركات أقرب لأفعال الانتشاء الصوفي‮.‬
لقد تخلي الشاعر عن دوره كإله متعالٍ‮ ‬يجافي الواقع،‮ ‬يخلق رموزًا‮ ‬غريبة عن هذا الواقع،‮ ‬فبعد أن كان الشعر سجينًا في عالم المثال المفارق والرمز المتعالي،‮ ‬نجد الشاعر يطلق سراح الرمز لينطلق في عوالم الواقعي واليومي‮:‬
كأنّ‮ ‬طيور الأرض التي اجتمعتْ‮ ‬تحت صدري
تبدأ انتفاضها الموسمي في الأعماق
وكان ذلك
عندما اكتشفوا عنقاء الشعراء بالصُّدفة
تختبئ في سراديبَ‮ ‬سرّية وتُشعلُ‮ ‬نفسها من حين لحين
بكبريت الوقائع اليوميّة
باحتقار الدخول إلا اقتحامًا
من الأبواب المحصّنة‮.‬
يُمثِّل لنا الشاعر لانتفاضة شعرية تجتاحه وتثوِّر الشعر نفسه لما يلعبه اليومي والواقعي في إعادة خلق الأسطوري وتوجيه الرمزي،‮ ‬إذ إنّه‮ "‬ليس هناك أي تنافر بين الواقعية والأسطورة‮" ‬بحسب بارت‮. ‬وإذا جاز لنا أن نعتبر الطيور التي اجتمعت تحت صدر الشاعر هي الرموز،‮ ‬فالطير رمز،‮ ‬وأما إسنادها للفعل‮ (‬اجتمعت‮) ‬والتموضع المكاني‮ (‬تحت صدري‮) ‬فيشير إلي تشكُّل هذه الرموز وسكناها أعماق الشاعر بما يشي باستقرارها نوعًا ما‮- ‬فلنا أن نتابع ما تفعله‮ (‬عنقاء الشعراء‮) ‬التي ترمز إلي‮ (‬الأسطورة‮)‬،‮ ‬لتلك العنقاء‮/ ‬الكائن الأسطوري الذي ما إن يتحرّق في النار حتي يبعث في رمادها طائرًا جديدًا وكائنًا جديدًا مشابهًا للذي كان،‮ ‬وكأنّ‮ ‬الوقائع اليومية بمثابة كبريت يُشعِل الأسطوري ليبتعث من جديد،‮ ‬ما يفضي لانتفاض الرمزي‮ (‬طيور الأرض‮) ‬في ذات الشاعر،‮ ‬فالعنقاء رمز الميلاد الجديد لا يكون ميلادها الجديد‮- ‬في الكون الشعري‮- ‬إلا من خلال الوقائع اليومية،‮ ‬فكأنّ‮ ‬الشاعر يعيد رؤاه وصياغاته الرمزية وفقًا لفعل اليومي والواقعي بما هو أسطوري،‮ ‬فالشعر باستراتيجاته الجديدة التي تتبني اليومي والواقعي ليكون أساسًا لأسطوريته الجديدة إنما يخترق بذلك الأبواب المحصنة،‮ ‬وتحطيم القواعد الكلاسيكية للشعر التي عدّها المحافظون تابوهات محصّنة،‮ ‬وذلك بإعادة تعريف مفهوم الشعر نفسه وتحديث آلياته وإعادة صياغة مفهوم الأسطورة‮.‬
ولكي يصنع الشاعر أساطيره من فيض الوقائع اليومية تلازم هذا مع انحيازه المُرجِّح للشعر اللاتفعيلي،‮ "‬قصيدة النثر‮"‬،‮ ‬رغم تمكُّنه الفني وقدرته علي كتابة الشعر الموزون،‮ "‬قصيدة التفعيلة‮"‬،‮ ‬لاتساع الحرية التي تتيحها القصيدة اللاتفعيلية أو قصيدة النثر للشاعر،‮ ‬فيقول سركون‮:‬
علي النثر أن ينشب مخالبَهُ
في رقبة الشعر الهزيلة‮.‬
وكأنّ‮ ‬الشاعر يري بحاجة الشعر لقالب‮ "‬قصيدة النثر‮" ‬تجديدًا لدماء الشعر،‮ ‬وتقويةً‮ ‬له،‮ ‬ومقاومة لهزاله،‮ ‬لذا كانت‮ "‬قصيدة النثر‮" ‬خيارًا حرًا ونابعًا من قناعة فنية من سركون بولص باحتياج الشعر لها تثويرًا له،‮ ‬وكأنّ‮ ‬مخالب النثر هي مخالب الشعر أيضًا أو الشعر تكون مخالبه بإفادته من طاقات الكتابة النثرية وإمكاناتها‮.‬
وقد تتبدي مخالب الشعر أو بالأحري مخالب الشاعر لدي سركون بولص بتجاوزه آباءه وأسلافه من الشعراء‮:‬
‮(‬أخذ يدخّن هنا
دون أن يقوي
علي احتمال الجو‮) ‬إنقاذ الشاعر الذي يُمضي
حياته في البحث عن مفتاح
يتبيّنُ‮ ‬له أنه لا يصلح لبابِه
لذلك يقضي حياته من جديدٍ
في البحث عن بابٍ
يصلحُ‮ ‬للمفتاح الذي وجدَهُ‮ (‬هنا
أخذ يفكّرُ‮ ‬عمليًّا بقتل عددٍ‮ ‬من الرمزييّن
والبلابل الغنائيّة،‮ ‬حتي إنه عبّأ مسدّسًا وبدل ذلك
أكل تفّاحة قديمة وجدها تحت يده بالصدفة‮)‬
أراد سركون أن يدفع انتباه المتلقي لعمليات الصناعة الشعرية أو بالأحري الأداء الشعري وما يختلج ذات الشاعر أثناء سيره في دروب القصيدة من ترددات واضطرابات كما في‮ (‬أخذ يدخّن هنا دون أن يقوي علي احتمال الجو‮) ‬بما يُسجِّل تذبذبات الذات بين عالم الشعر وعالم الواقع،‮ ‬بين عالم الداخل وعالم الخارج مما يخلق إيقاعًا نفسيًّا للقصيدة تتراوح نبضاته بتراوحات انفعالات الذات وما تتخذه من مواقف وتحولات،‮ ‬فقد استبدلت قصيدة النثر أو الشعر اللاتفعيلي إيقاع الصورة بما تصنعه من توازيات استعارية والإيقاع النفسي بإيقاع الوزن والتفعيلة الذي هو‮ ‬غالبٌ‮ ‬في‮ ‬قصيدة التفعيلة‮. ‬
ثم يكون الإبراز الأهم لصوت الشاعر-الضد لما فكَّر به شاعرنا‮: (‬هنا أخذ يفكّرُ‮ ‬عمليًّا بقتل عددٍ‮ ‬من الرمزييّن والبلابل الغنائيّة،‮ ‬حتي إنه عبّأ مسدّسًا وبدل ذلك أكل تفّاحة قديمة وجدها تحت يده بالصدفة‮) ‬مُشَكِّلاً‮ ‬عقيدته الشعرية بالانقلاب علي أسلافه من الشعراء الرمزيين والغنائيين من الرومانسيين،‮ ‬إنها‮ "‬كتابة-ضد‮"‬،‮ "‬كتابة ضد الكتابة‮"- ‬كما يُعرِّفها عبد الله الغذامي‮- ‬باعتبار أن‮ "‬الكتابة عمل مضادٌ‮ ‬من خلال مسعاها إلي تجاوز كل الآخرين ومحاولة نفيهم‮- ‬بواسطة اختلافها عنهم وتميُّزها عما لديهم‮"‬،‮ ‬فالشاعر‮- ‬بتعبير أدونيس‮- ‬يقتل أباه،‮ ‬كما يقول بإحدي قصائده‮: ‬اأمحو،‮ ‬وأنتظر من يمحوني‮»‬‬،‮ ‬ولكنها عملية قتل فني بتجاوز السالف‮/ ‬الأب،‮ ‬كما يذهب أدونيس بأن‮ "‬من يقتل أباه،‮ ‬يجب أن يقتله بلغة يبتكرها،‮ ‬هو‮"‬،‮ ‬وكأنّ‮ ‬وصول الشاعر إلي جمرة الشعر ينبغي له أن يقتل في طريقه أباءه من الشعراء الأسلاف بتجاوزهم فنيًّا‮.‬
ثم يواصل الشاعر المضي في طريقه إلي الجمرة،‮ ‬كما تتابع‮- ‬بالتوازي‮- ‬إرشادات الشاعر‮- ‬الضد،‮ ‬أو الذات-الظل‮:‬
أو،‮ ‬هربًا من السقوط في هوّة الذاكرة
اللعينة إلي الأبد،‮ ‬الاغتسال بنتْريك السياسة الأسود
وتبنّي راية من الجلد
حيث يشعر الشاعر المسكين بأهمية ضئيلة
لكنها مناسبة،‮ ‬99٪‮ ‬منها هواء و1٪‮ ‬للتشجيع المجاني
من قِبل أصدقائه‮ (‬هنا أحرق راياته
القديمة والجديدة بولّاعته
وألقي بالولّاعة في الحريق
ثم ألقي برأسه
خلف الولاعة فقويت النار واشتدّت لأنه
كان طويلَ‮ ‬الشعر‮. ‬كثيفهُ‮.‬
وبعد أن فعل ذلك أنهي هذه القصيدة
وبدأ يكتبُ‮ ‬قصيدةً‮ ‬جديدة هذه المرّة عن عجائب القدم
اليسري‮).‬
هل تكون كتابة الشاعر السفر،‮ ‬وسفر الشاعر في الكتابة بغرض النجاة من السقوط في فخاخ الذاكرة والوقوع بأسر الماضي؟ ولكن،‮ ‬كيف يحرق الشاعر راياته القديمة والجديدة؟ كيف يلقي الشاعر برأسه في أتون النيران المستعر؟ هل معني ذلك أن الشاعر ينتحر؟ بالطبع لا‮. ‬الشاعر في‮ "‬كتابته الضد‮" ‬إنما هو ينفي نفسه أيضًا،‮ ‬يتخلي عن قناعاته السابقة،‮ ‬ينزع وجوهه القديمة،‮ ‬بحثًا عن وجه جديد له،‮ ‬حيث إن‮ "‬الكتابة ضد الكتابة‮" ‬ بحسب الغذامي‮- ‬تكون بأن‮ "‬الذات وهي تكتب إنما تفعل ذلك لكي تدلَ‮ ‬علي كل ما هو مفقود منها،‮ ‬وبذا فهي لا تدلّ‮ ‬إلا علي كل ما هو سواها وما هو‮ ‬غيرها،‮ ‬وكأنما الذات‮- ‬هنا‮- ‬تنفي نفسها من خلال الكتابة مثلما أنها تنفي الآخر بتجاوزها له،‮ ‬وفي كلتا الحالتين فإن الكتابة تقدّم الاختلاف وتعرض الضدّ‮: ‬الذات المختلفة في النصّ‮ ‬المختلف‮. ‬ومن هنا ينشأ العمل المضاد بما هو اختلاف عن الأصل وعن الشبيه،‮ ‬فالمؤلف ليس هو الشخص ذاته،‮ ‬والنص كتابة جديدة لا تشبه ما عداها،‮ ‬ولذا فهي الضدّ‮"‬،‮ ‬فالكتابة ضد الكتابة نفي للذات كما هي نفي للآخر،‮ ‬فرار من الزمان وسعي للتخلص من الماضي،‮ ‬الفكاك من تلك الوسائل الفنية التي كانت تستخدمها الذات في ماضيها بغية تثوير خطابها الإبداعي‮.‬
وفي مقطع تكون فيه الذات المغتربة في المكان الآخر‮/ ‬مهجرها‮/ ‬منفاها الاختياري في زيارة لصديق لها من المكان الأول،‮ ‬حتي تجلي‮ ‬غرضها من الشعر‮:‬
في الصباح أذهب إلي فلمور وهو حيّ‮ ‬الزنوج
في سان فرنسيسكو علي طريقة هارلم في نيويورك
لأزورَ‮ ‬صديقي الفلسطيني
في دكّانه المسيَّج بالقضبان‮ (‬جميع الدكاكين في أحياء
الفقرَاء بأميركا
مسيّجة بالقضبان‮) ‬صباح الخير
كيف الصحّة أبو الشباب؟ وكأنّه يقذفُ‮ ‬باتّجاهي
قرحةً‮ ‬مزمنة‮:‬
بلاد العرصات
بدّك تشنق حالك،‮ ‬مش هيك؟
بيخلّوك تروح تستأجر شجرة‮! ‬وإلا عمود تلغراف؟
كيف حال الشعر هذي الأيام؟
غالبًا ما يكون فضاء الذات الخارجي في المكان الآخر الذي تلتقي فيه ببعض الأصدقاء هو فضاء‮ "‬الهامشي‮" ‬الذي يكشف عن زيف المكان الآخر،‮ ‬الغرب،‮ ‬وكذب وهم اليوتوبيا التي يدعيها،‮ ‬حيث يُعزَل الأقليات وأصحاب العرقيات المختلفين عن أغلبية السكان في تجمعات تكون بمثابة‮ "‬جيتو‮" ‬في ممارسة تغريبة إزاء الآخر الشريك في المكان والوطن،‮ ‬كأحياء الزنوج والأقليات مثل‮ "‬هارلم‮" ‬في نيويورك‮"‬،‮ ‬و"فلمور‮" ‬في سان فرنسيسكو ليستحيل المكان هناك أرضًا للخوف والريبة،‮ ‬إذ إن‮: (‬جميع الدكاكين في أحياء الفقرَاء بأميركا مسيّجة بالقضبان‮)‬،‮ ‬فما تنقله الكاميرا الشعرية لسركون بولص من مشاهد يكون قيمتها الفنية ليس فقط في طاقاتها السردية أو مدلولاها الدرامي،‮ ‬وإنما أيضًا في مدلولاتها الأيدولوجية التي تكني المشاهد الشعرية عنها،‮ ‬دونما انزلاق في فخاخ الخطابية أو سذاجة المباشرة وطنطنة الإنشائية،‮ ‬وأحيانًا ما يعتمد الخطاب الشعري لدي سركون علي الحوار في ثنايا السردي،‮ ‬وهو ما يشحن النص بجرعات درامية،‮ ‬والذات‮- ‬كما هنا‮- ‬في زيارة لصديق فلسطيني لأنه يمثل لها أثرًا من المكان الأول بمفهومه الواسع ومداه الأرحب،‮ ‬الوطن العربي،‮ ‬والثقافة العربية‮:‬
لعلك أدركتَ‮ ‬قصدي،‮ ‬من الواضح كما تري
أنني أهدف إلي شيء‮ ‬غامض قليلاً
لأنه لم يكتمل بعد وأقول هذا بمنتهي البساطة
أيّها الصديق لا أريدكَ‮ ‬أن تسئ فهمي
هذه كلمات بسيطة مكتوبة بالعربية بالمناسبة
أذكر هذا لكي لا تتّهمني بأنني تأثرت في كتابتها
بشاعر‮ "‬عالمي‮!"‬
أيُّ‮ ‬شاعر يخاطر بالكتابة علي هذا النحو
لن يكونَ‮ ‬حتّي محلييَّ‮! ‬وسيقضي سنواته الباقية
بعيني نسر محموم أو رجل ينتظر زيارة صاحب البيت‮ ‬
الشهرية وهذا يعرف جيدًا أن الرجل الفقير لا يستطيع
أن يدفع الإيجار
لكنّه مع ذلك وللتسلية،‮ ‬أو إشباعًا لنزعة‮ ‬غريبة في
الإرهاب،‮ ‬أو ربما لأن الكلب
يعرفُ‮ ‬أن شرطة العالم والتاريخ كلّها تقف من ورائه
يقرع الباب بحذائه،‮ ‬وخصوصًا بالكعب
المليء بالمسامير‮...‬
سيقضي سنواته الباقية إذًا بانتظار الجلاّد
الذي سيأتي متنكّرًا ببدلة ممرّض رسمي طيّب القلب
يخفي وراء ظهره سلسلة حديديّة وسترةً‮ ‬للمجانين‮.‬
ابتسامتُهُ‮ ‬الكاذبةُ‮ ‬ستملأ الأرضَ‮ ‬بموضوع هذه القصيدة‮.‬
الشعر إذن،‮ ‬هو المشترك الثقافي الذي يجمع الذات بآخرها من المكان الأول،‮ ‬والشعر أيضًا هو‮- ‬في حد ذاته‮- ‬أثر من المكان الأول،‮ ‬تعيش الذات به في المكان الآخر،‮ ‬وفي هذا المقطع يطرح الشاعر فلسفته في الشعر وهدفه منه في ثلاثة أغراض؛ الأول‮: ‬إذ يبدو أن الشاعر يُفضّل أن يكون القول الشعري يتسم بشيء من الغموض دون المبالغة أو الإسراف في هذا الغموض‮. ‬هو إذن ليس مع مجانية القول الشعري أو سذاجة التعبير التي تختار المباشرة طريقًا يسلكه الخطاب الشعري،‮ ‬الذي يريده الشاعر قولاً‮ ‬لا يكتمل؛ دالاً‮ ‬لا يحسم مدلوله،‮ ‬مدلولاً‮ ‬يستحيل دالاً،‮ ‬اختلافًا مرجأً‮ ‬للمعني،‮ ‬يُمدد عملية التأويل لمعني لانهائي‮.‬
الغرض الآخر‮: ‬البساطة،‮ ‬والحرص علي أن يبدو الشعر عفويًّا،‮ ‬وهو ما يتصل بأمر الصياغة الفنية،‮ ‬والحرص علي تجنب التكلف المجازي والافتعال الموسيقي،‮ ‬وهو ما يُفقِد الشعر طبيعيته‮.‬
الغرض الثالث‮: ‬الحرص علي أصالة التجربة الشعرية،‮ ‬وعربية اللغة‮- ‬بما يحفظ للشاعر انتماءه للمكان الأول ويقيه خطرَ‮ ‬تبدد هويته الثقافية وانمحاء شخصيته الإبداعية الخاصة،‮ ‬وتفرد الصوت الشعري‮- ‬رغم ثقافة سركون الجامعة بين روافد عربية وأجنبية‮- ‬بعدم الوقوع في فخ تقليد الشعراء العالميين الكبار،‮ ‬الفكرة التي يُمثِّل لها الشاعر بمعادل رمزي ونظير أمثولي،‮ ‬وهو بقاء المستأجر الفقير‮/ ‬الشاعر المُقلِّد تحت رحمة صاحب البيت‮/ ‬الشاعر الأصلي،‮ ‬وسيكون وقتَها هذا الشاعر المُقَلِّد نهبًا لجَلد التاريخ له‮.‬
وتبدو اللغة،‮ ‬أو إشكالية اللغة،‮ ‬بمثابة الطريق الوعر الذي خاضه سركون في دروب‮ "‬العربية‮" ‬كلغة يغترب فيها،‮ ‬أو بالأحري كأثر مفروض علي الشاعر،‮ ‬سعي الشاعر إلي ممارسة‮ "‬التغريب‮" ‬فيه،‮ ‬بإعادة تشكيل صياغات اللغة،‮ ‬وصناعة صورها‮:‬
العربية لغة مقدسة مليئة بالطيور الجارحة والسكاكين
حديدها ممغنط قليلاً
هذه السكاكين
بعيني جائع تدور الأرض حولهما،‮ ‬رغيفًا مسكونًا بالأشجار
أجنّة الحرب تولد وأصابعُ‮ ‬الشعراء
في مقاهي العالم للمنفيّين
تشعلُ‮ ‬نهاية الحلم الجافة،‮ ‬سيجارة في الفجر
ساحبين عباءة الجنوب البرتقاليّة إلي حريق هائل يُقام في
قصيدة
تُكتَبُ‮ ‬علي شكل قبضة‮.‬
القادة يشربون نخبًا مطوّلاً‮ ‬علي شرف الليل
والشعراء في الثكنات البعيدة يسحرون قامة التمرّد
بالقصائد
ويصغون إلي الطبول المنصوبة في الجبال،‮ ‬أيدي البرابرة
الكبيرة ترفرف في المضائق
وهناك ساهرون في البراكين
يأكلون نظائرَ‮ ‬مشعّة ضد الظلام وأسلحة
تكلّم الشعوب الضائعة التي تبحث عن جبالها في الأودية‮.‬
تُشكِّل العربية كلغة الأثر الأقوي والعامل الارتباطي الأكبر الذي يصل الذات بمكانها الأول،‮ ‬ولكنّ‮ ‬الذات تري اللغة‮ "‬العربية‮" "‬مليئة بالطيور الجارحة والسكاكين‮"‬،‮ ‬ولكن‮ "‬بعيني جائع‮" ‬وفي المقابل تري الأرض‮/ "‬العالم‮" "‬رغيفًا مسكونًا بالأشجار‮"‬،‮ ‬في إشارة لقوة اللغة وقدراتها الالتهامية،‮ ‬ولكن هذه السكاكين‮/ ‬آلات اللغة وأدواتها إنما‮ "‬بعيني جائع‮"/ ‬الذات‮/ ‬الشاعر،‮ ‬في إشارة لمركزية الذات بالنسبة إلي لغتها،‮ ‬والعالم،‮ ‬فالذات هي التي تُشهِر سكاكين اللغة وتغرزها في جسد‮ "‬الأرض‮"/ ‬العالم‮. ‬فعند سركون بولص صارت اللغة أكبر من العالم أو لنقل هي المهيمن علي العالم،‮ ‬والذات هي مركز اللغة،‮ ‬بعد أن كانت الذات تابعًا للغة،‮ ‬وبالتالي أمسي العالم نفسه خاضعًا للذات وتابعًا لها عبر استملاك الذات عالمها بواسطة اللغة‮.‬
‮ ‬ولكنّ‮ ‬العالم مسكون بالعنف وحافل بالحرب ما يدفع الشعراء في المنافي إلي مجابهة عنف العالم بعنف إبداعي تتجلي تمظهراته في اللغة التي تسكن القصيدة بل تؤسسها وتؤجج حرائقها الجمالية في أنحائها حتي تستحيل القصيدة قبضة تُمسِك بالعالم وتُحكم السيطرة عليه في انفلاتاته وجنونه،‮ ‬فيبدو الشعراء بتمردهم الإبداعي وثوراتهم الجمالية في مواجهة قادة العالم وبرابرته الجدد،‮ ‬في إشارة رُبما إلي الاستعمار العالمي الجديد وتأثرًا بالحرب علي بلاده العراق‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.