انخفاض أسعار الأسماك في سوق بورسعيد.. الفسيخ ب190 جنيها    ضياء رشوان: بعد فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها لا يتبقى أمام نتنياهو إلا العودة بالأسرى    رئيس الزمالك السابق: فتيات أحمد مرتضى فعلوا المستحيل ليسعدوا جماهير الزمالك    روما يواجه يوفنتوس.. مواعيد مباريات اليوم الأحد 5- 5- 2024 في الدوري الإيطالي    الأهلي يقرر تغريم أفشة 50 ألف جنيه    حسام عاشور: رفضت عرض الزمالك خوفا من جمهور الأهلي    تحسن حالة. الطقس اليوم والعظمى في القاهرة تسجل 28 درجة    عمرو أديب ل التجار: يا تبيع النهاردة وتنزل السعر يا تقعد وتستنى لما ينزل لوحده    انخفاض كبير الآن.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأحد 5 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    اليوم.. قطع المياه عن 5 مناطق في أسوان    مصطفى بكري: جريمة إبراهيم العرجاني هي دفاعه عن أمن بلاده    فضيحة تهز برلين، خرق أمني أتاح الوصول إلى معلومات سرية عن 6 آلاف اجتماع للجيش الألماني    كاتب صحفي: نتوقع هجرة إجبارية للفلسطينيين بعد انتهاء حرب غزة    احتجاج مناهض للحرب في غزة وسط أجواء حفل التخرج بجامعة ميشيجان الأمريكية    رئيس الحكومة الجزائرية يبحث مع أمين عام منظمة التعاون الإسلامي سبل الدفاع عن قضايا الأمة    البابا تواضروس يصلي قداس عيد القيامة في الكاتدرائية بالعباسية    حزب العدل يشارك في احتفالات «الإنجيلية» بأعياد القيامة    الآلاف من الأقباط يؤدون قداس عيد الميلاد بالدقهلية    محافظ الغربية يشهد قداس عيد القيامة بكنيسة مار جرجس في طنطا    حسب نتائج الدور الأول.. حتحوت يكشف سيناريوهات التأهل للبطولات الأفريقية    مختار مختار ينصح كولر بهذا الأمر قبل نهائي إفريقيا أمام الترجي    «تجارية الجيزة»: انخفاض أسعار الأجهزة الكهربائية بنسبة 30%    مصرع شاب غرقا أثناء الاستحمام بترعة في الغربية    إصابة 8 مواطنين في حريق منزل بسوهاج    رئيس قضايا الدولة من الكاتدرائية: مصر تظل رمزا للنسيج الواحد بمسلميها ومسيحييها    الزراعة تعلن تجديد اعتماد المعمل المرجعي للرقابة على الإنتاج الداجني    كريم فهمي يُعلق على ارتداء على معلول شارة قيادة نادي الأهلي: ليه كلنا فرحانين؟    مكياج هادئ.. زوجة ميسي تخطف الأنظار بإطلالة كلاسيكية أنيقة    دار الإفتاء تنهي عن كثرة الحلف أثناء البيع والشراء    حكم زيارة أهل البقيع بعد أداء مناسك الحج.. دار الإفتاء ترد    صناعة الدواء: النواقص بالسوق المحلي 7% فقط    أبو العينين وحسام موافي| فيديو الحقيقة الكاملة.. علاقة محبة وامتنان وتقدير.. وكيل النواب يسهب في مدح طبيب "جبر الخواطر".. والعالم يرد الحسنى بالحسنى    عبارات تهنئة بمناسبة عيد شم النسيم 2024    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    "حب جديد هيدق بابك".. بشرى سارة لمواليد برج الجوزاء اليوم (توقعات الصعيد المهني والمادي)    تساحي هنجبي: القوات الإسرائيلية كانت قريبة جدا من القضاء على زعيم حماس    احتدام المنافسة بانتخابات البرلمان الأوروبي.. الاشتراكيون في مواجهة تحالف المحافظين مع اليمين المتطرف    بمشاركة مصطفى محمد.. نانت يتعادل مع بريست في الدوري الفرنسي    رئيس جامعة دمنهور يشهد قداس عيد القيامة المجيد بكاتدرائية السيدة العذراء    محافظ القليوبية يشهد قداس عيد القيامة المجيد بكنيسة السيدة العذراء ببنها    صيام شم النسيم في عام 2024: بين التزام الدين وتقاطع الأعياد الدينية    خاص| زاهي حواس يكشف تفاصيل جديدة عن البحث على مقبرة نفرتيتي    بعد الوحدة.. كم هاتريك أحرزه رونالدو في الدوري السعودي حتى الآن؟    إصابة 10 أشخاص فى أسيوط إثر انقلاب سيارة "تمناية"    "قطعتها على طريقة الجزارين".. اعترافات مثيرة لقاتلة الحاجة عائشة بالفيوم    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    نميرة نجم: حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها غير موجود لأنها دولة احتلال    سعاد صالح: لم أندم على فتوى خرجت مني.. وانتقادات السوشيال ميديا لا تهمني    عوض تاج الدين: تأجير المستشفيات الحكومية يدرس بعناية والأولوية لخدمة المواطن    لطلاب الثانوية العامة 2024.. خطوات للوصول لأعلى مستويات التركيز أثناء المذاكرة    نجل «موظف ماسبيرو» يكشف حقيقة «محاولة والده التخلص من حياته» بإلقاء نفسه من أعلى المبنى    المنيا تستعد لاستقبال عيد القيامة المجيد وشم النسيم    رسالة دكتوراة تناقش تشريعات المواريث والوصية في التلمود.. صور    ب 150 ألف مقدم.. تفاصيل شقق الإسكان المتميز قبل طرحها بأيام- (صور)    مهران يكشف أهمية استخدام الذكاء الاصطناعي في التأمين    محافظ بني سويف يشهد مراسم قداس عيد القيامة المجيد بمطرانية ببا    التحالف الوطني يكرم ذوي الهمم العاملين بالقطاعين العام والخاص بالأقصر    من القطب الشمالي إلى أوروبا .. اتساع النطاق البري لإنفلونزا الطيور عالميًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الروائية التركية سيما كايغوسوز ترسم صورة قاتمة لبلادها
نشر في صوت البلد يوم 25 - 02 - 2018

في روايتها الأولى «سقوط الصلوات» (2006)، أحلّت الكاتبة التركية سيما كايغوسوز مناخاً سحرياً على جزيرة تحضر فيها التقاليد والأساطير كعنصر تشويشٍ وقلقٍ لقاطنيها، لا تفلت منه سوى الطبيعة الخاضعة لقوانينها الخاصة. وها هي تعيد الكرة في روايتها الثالثة، «قهقهة البربري» (2015)، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار «أكت سود» الباريسية، وتستبدل كايغوسوز فيها الجزيرة بفندقٍ يقع على شاطئ بحر إيجيه وتقصده شخصياتها لنسيان واقعها اليومي وتمضية عطلتها في إطارٍ ساحر.
في فندق «الحمامة الزرقاء»، نتعرّف أولاً إلى تورغاي الذي يحمل بصمت وألم سرّ زوجته التي تعرّضت في صباها إلى اغتصاب على يد مجموعة من الشرطيين والعسكر، ثم إلى إيدا وأوفوك اللذين يعيشان على وقع رغباتهما المشتعلة، فإلى صديقات أربع يمضين وقتهنّ في اللعب بورق الشدّة والثرثرة مع أزواجهن. هنالك أيضاً المؤرّخة العجوز سيمين التي تحمل آثار واحدة من المجازر التي أدمت تاريخ تركيا خلال القرن الماضي، والشابّان المثليان إسماعيل ومليح اللذان يعبران أزمة عاطفية، والفتى أوزون الذي يفتنه العنف فيمارسه على الحيوانات التي تعبر طريقه. شخصيات مختلفة نراها في مطلع الرواية تحاول الترويح عن نفسها وإشباع رغبتها في التمتّع بعطلتها، حين يقع حادثٌ فريد ومقرف في الفندق يقضّ مضجعها.
ففي أحد الصباحات، يستيقظ نزلاء «الحمامة الزرقاء» وموظّفوه ليجدوا كل الشراشف والمناشف والوسادات مبلولة بالبول. كيف حصل ذلك؟ ومَن أقدم على هذه الفعلة؟ أحد الموظفين؟ أحد الزبائن؟ ولماذا؟ بسرعة ترتفع أصوات الاستنكار. وسواء في ساحة الفندق أو على الشاطئ المقابل له أو في حميمية الغرف، لن تلبث طبيعة هذا الحدث أن تلعب دوراً كاشفاً، فتتعرّى طباع هذه الشخصيات أمامنا وتنحلّ ألسنتها، موقظةً توترات كامنة بينها ومسبِّبةً مواجهات عنيفة وتراشُقاً بالأحكام المسبقة.
ولأن هذه الفعلة ستتكرّر على نطاق واسع وبطريقة معيّنة، تُوجَّه أصابع الاتّهام بالتناوب إلى الرجال، قبل أن تطرد مديرة الفندق الحدائقي البريء، ويتعرّض تورغاي إلى الضرب على يد فاروق، وهو زوج واحدة من الصديقات الأربع، لأنه تجرّأ في مطلع الرواية على التبويل علناً في البحر، كاشفاً بذلك عورته أمامها. أما إدنا فلن تتردد في التنزّه بصدرٍ مكشوف على الشاطئ والتكلّم بصوتٍ عالٍ عن رغباتها الجنسية، ما يُربِك حبيبها أوفوك ويخلّف شعوراً بالغيرة أو الامتعاض لدى الآخرين.
شهود الصمت
وكما في رواية كايغوسوز الأولى، يبدو البحر والجبل وأشجار النخيل والزيتون في «قهقهة البربري» كشهودٍ صامتين على سلوك بشرٍ يستسلمون فجأةً لمكايد وتصفية حسابات، ويفرّغون كل ما كانوا يحفظونه داخلهم. وكان بإمكان هؤلاء اختيار الحلّ الأبسط لتجنّب هذه ال «سيكودراما» الجماعية، أي مغادرة الفندق، لولا اعتبارهم عطلتهم حقّاً مقدّساً لهم، نظراً إلى رمادية واقعهم اليومي وخيباته. ومن هذا المنطلق، يغالي كل واحد منهم في تصرّفاته ويتشبّث بموقفه وأفكاره، مثل إدنا التي تثير حفيظتها ما أن يتطرّق حبيبها إلى موضوع القدرات الجنسية للمرأة بطريقة لا تتناغم مع أفكارها المتحرّرة، فتردّ عليه في شكلٍ هستيري غير مكترثةٍ لاستماع المحيطين بهما إلى مونولوغها الطويل والمُحكَم، إضافة إلى إسماعيل ومليح اللذين لن يلبث ماضي كلٍّ منهما والسلوك الناتج منه أن يدفعا بهما إلى تبادل انتقادات قاسية أمام الجميع تودي بعلاقتهما.
وحدها سيمين العجوز تبقى على حِدَة وتحافظ على رباطة جأشها، مدوّنةً في دفتر يومياتها كل الأحداث التي تقع تحت نظرها ومانحةً إيانا قراءة حكيمة لها وللشخصيات التي تقف خلفها أو تقع ضحيّتها. قراءة تختلف بنبرتها الساكنة ومضمونها عن تلك الحادة والقارصة التي تضطلع بها الروائية في فصولٍ مستقلّة أو خلال عملية السرد. وفي معرض تعليقها على الحدث الرئيس، تتوقف سيمين في لحظةٍ ما عند فوائد البول كعنصر شفائي استخدمه شعب الأزتيك والهنود لتطهير الجروح، وكعنصر نظافة استخدمه الرومان لتبييض الغسيل، وكعنصرٍ وسيط استعان سكان سيبيريا القدماء به للتواصل مع الأرواح، علماً أن كايغوسوز تستثمر رمزيته العالية كعنصر تلويث لبلوغ هدفٍ آخر.
وفعلاً، لا يفوت قارئ روايتها أن بياضات الفندق الملوّثة بالبول هي استعارة واضحة لحال وطنها اليوم. فجميع الشخصيات والأحداث التي تبتكرها في هذا العمل تشكّل بورتريه دقيقاً ولا مهادنة فيه لتركيا التي تتجلى أمامنا كفضاءٍ مشحون بالتوتر وممزَّق بين تقليد وحداثة، وبين توقٍ إلى الاندماج بأوروبا ورغبة في التجذّرٍ داخل المحيط الإسلامي. بورتريه يفضح أيضاً مجتمعاً تركياً توارت فيه المبادئ والقيم الأخلاقية، ما يعزّز الخوف الذي يطغى على أفراده ويدفعهم إلى العيش بسطحية، كل يوم بيومه، من دون أي رؤية أو تخطيط لمستقبلهم.
ومن خلال شخصيتَي فاروق وزوجته ومواقفهما العدائية، تكشف الكاتبة أيضاً خطر تنامي الحسّ القومي في وطنها ليس فقط على الأجانب والإثنيات الأخرى التي تعيش داخله، بل أيضاً على الأتراك الذين لا يشاركون القوميين أفكارهم الخطيرة. ولأن التزمّت الديني الناتج من سياسات أردوغان يشدّ أيضاً بتركيا إلى الوراء، لا تهمله كايغوسوز، بل تتناوله بطريقة مثيرة عن طريق تخيّلها حواراً ليلياً يحصل على أحد شرفات الفندق بين شابّين يعملان فيه، ويقول أحدهما للآخر خلاله: «ثمة شيءٌ يدعى «مصيبة التركي المتديّن»، هل تعرف ذلك؟ العالم الموجود داخل رأسه لا يتوافق مع العالم الموجود خارجه»، ثم يضيف: «مَن لم يدفعه الفضول يوماً إلى التساؤل حول الطريقة التي يعمل فيها جهاز الراديو، يبحث اليوم في الكتاب عن إشارة للموجات (الكهرومغناطيسية) داخله، ليقول بعد ذلك أننا نحن من تكلّم عن هذا الموضوع أولاً... لذلك، لن نتمكّن يوماً من ابتكار أي شيء».
وكما لو أن ذلك لا يكفي، تستثمر الكاتبة النقاش الدائر في الفندق، وقصة سيمين خصوصاً، للتطرق إلى تاريخ تركيا الحديث وفتح ملفات المجازر التي ارتُكبت بحقّ الأرمن والسريان واليونانيين والأكراد فيها، وما استتبعها من طرد جماعي وهجرة قسرية لأبناء هذه الطوائف، ومن إنكار رسمي لوقائعها المأساوية. مجازر تختصر أسبابها جملةٌ معبّرة في الرواية: «لن تتمكن من أن تكون تركياً إن لم تبتكر عدواً لك».
باختصار، نصٌّ تراجيدي- كوميدي تتمكنّ صاحبته فيه من تشييد عالمٍ واقعي، معقّد ومؤلم في مبالغاته وإنكاراته، هو عالم تركيا اليوم، علماً أن خطابها يتجاوز هذا الفضاء الجغرافي لنقد غباء وسفالة الجنس البشري ككُلّ. وفي هذا السياق، «البربري» في عنوان روايتها هو ذلك العنصري الذي لا يحترم الآخر ولا الطبيعة، ويرمي على الغريب دائماً مسؤولية المشكلات التي يعاني منها وطنه.
بعبارة أخرى، تقول كايغوسوز لنا في روايتها إن نواة الطبيعة البشرية لا تختلف كثيراً مع اختلاف الجغرافيا والثقافة والدين والزمن. ولقول ذلك، تستعين بسلاحَي السخرية والدعابة الماضيين، وبلغةٍ تستمدّ كل حيويتها من وقوعها عند تقاطع المحكية والكتابة الأدبية.
في روايتها الأولى «سقوط الصلوات» (2006)، أحلّت الكاتبة التركية سيما كايغوسوز مناخاً سحرياً على جزيرة تحضر فيها التقاليد والأساطير كعنصر تشويشٍ وقلقٍ لقاطنيها، لا تفلت منه سوى الطبيعة الخاضعة لقوانينها الخاصة. وها هي تعيد الكرة في روايتها الثالثة، «قهقهة البربري» (2015)، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار «أكت سود» الباريسية، وتستبدل كايغوسوز فيها الجزيرة بفندقٍ يقع على شاطئ بحر إيجيه وتقصده شخصياتها لنسيان واقعها اليومي وتمضية عطلتها في إطارٍ ساحر.
في فندق «الحمامة الزرقاء»، نتعرّف أولاً إلى تورغاي الذي يحمل بصمت وألم سرّ زوجته التي تعرّضت في صباها إلى اغتصاب على يد مجموعة من الشرطيين والعسكر، ثم إلى إيدا وأوفوك اللذين يعيشان على وقع رغباتهما المشتعلة، فإلى صديقات أربع يمضين وقتهنّ في اللعب بورق الشدّة والثرثرة مع أزواجهن. هنالك أيضاً المؤرّخة العجوز سيمين التي تحمل آثار واحدة من المجازر التي أدمت تاريخ تركيا خلال القرن الماضي، والشابّان المثليان إسماعيل ومليح اللذان يعبران أزمة عاطفية، والفتى أوزون الذي يفتنه العنف فيمارسه على الحيوانات التي تعبر طريقه. شخصيات مختلفة نراها في مطلع الرواية تحاول الترويح عن نفسها وإشباع رغبتها في التمتّع بعطلتها، حين يقع حادثٌ فريد ومقرف في الفندق يقضّ مضجعها.
ففي أحد الصباحات، يستيقظ نزلاء «الحمامة الزرقاء» وموظّفوه ليجدوا كل الشراشف والمناشف والوسادات مبلولة بالبول. كيف حصل ذلك؟ ومَن أقدم على هذه الفعلة؟ أحد الموظفين؟ أحد الزبائن؟ ولماذا؟ بسرعة ترتفع أصوات الاستنكار. وسواء في ساحة الفندق أو على الشاطئ المقابل له أو في حميمية الغرف، لن تلبث طبيعة هذا الحدث أن تلعب دوراً كاشفاً، فتتعرّى طباع هذه الشخصيات أمامنا وتنحلّ ألسنتها، موقظةً توترات كامنة بينها ومسبِّبةً مواجهات عنيفة وتراشُقاً بالأحكام المسبقة.
ولأن هذه الفعلة ستتكرّر على نطاق واسع وبطريقة معيّنة، تُوجَّه أصابع الاتّهام بالتناوب إلى الرجال، قبل أن تطرد مديرة الفندق الحدائقي البريء، ويتعرّض تورغاي إلى الضرب على يد فاروق، وهو زوج واحدة من الصديقات الأربع، لأنه تجرّأ في مطلع الرواية على التبويل علناً في البحر، كاشفاً بذلك عورته أمامها. أما إدنا فلن تتردد في التنزّه بصدرٍ مكشوف على الشاطئ والتكلّم بصوتٍ عالٍ عن رغباتها الجنسية، ما يُربِك حبيبها أوفوك ويخلّف شعوراً بالغيرة أو الامتعاض لدى الآخرين.
شهود الصمت
وكما في رواية كايغوسوز الأولى، يبدو البحر والجبل وأشجار النخيل والزيتون في «قهقهة البربري» كشهودٍ صامتين على سلوك بشرٍ يستسلمون فجأةً لمكايد وتصفية حسابات، ويفرّغون كل ما كانوا يحفظونه داخلهم. وكان بإمكان هؤلاء اختيار الحلّ الأبسط لتجنّب هذه ال «سيكودراما» الجماعية، أي مغادرة الفندق، لولا اعتبارهم عطلتهم حقّاً مقدّساً لهم، نظراً إلى رمادية واقعهم اليومي وخيباته. ومن هذا المنطلق، يغالي كل واحد منهم في تصرّفاته ويتشبّث بموقفه وأفكاره، مثل إدنا التي تثير حفيظتها ما أن يتطرّق حبيبها إلى موضوع القدرات الجنسية للمرأة بطريقة لا تتناغم مع أفكارها المتحرّرة، فتردّ عليه في شكلٍ هستيري غير مكترثةٍ لاستماع المحيطين بهما إلى مونولوغها الطويل والمُحكَم، إضافة إلى إسماعيل ومليح اللذين لن يلبث ماضي كلٍّ منهما والسلوك الناتج منه أن يدفعا بهما إلى تبادل انتقادات قاسية أمام الجميع تودي بعلاقتهما.
وحدها سيمين العجوز تبقى على حِدَة وتحافظ على رباطة جأشها، مدوّنةً في دفتر يومياتها كل الأحداث التي تقع تحت نظرها ومانحةً إيانا قراءة حكيمة لها وللشخصيات التي تقف خلفها أو تقع ضحيّتها. قراءة تختلف بنبرتها الساكنة ومضمونها عن تلك الحادة والقارصة التي تضطلع بها الروائية في فصولٍ مستقلّة أو خلال عملية السرد. وفي معرض تعليقها على الحدث الرئيس، تتوقف سيمين في لحظةٍ ما عند فوائد البول كعنصر شفائي استخدمه شعب الأزتيك والهنود لتطهير الجروح، وكعنصر نظافة استخدمه الرومان لتبييض الغسيل، وكعنصرٍ وسيط استعان سكان سيبيريا القدماء به للتواصل مع الأرواح، علماً أن كايغوسوز تستثمر رمزيته العالية كعنصر تلويث لبلوغ هدفٍ آخر.
وفعلاً، لا يفوت قارئ روايتها أن بياضات الفندق الملوّثة بالبول هي استعارة واضحة لحال وطنها اليوم. فجميع الشخصيات والأحداث التي تبتكرها في هذا العمل تشكّل بورتريه دقيقاً ولا مهادنة فيه لتركيا التي تتجلى أمامنا كفضاءٍ مشحون بالتوتر وممزَّق بين تقليد وحداثة، وبين توقٍ إلى الاندماج بأوروبا ورغبة في التجذّرٍ داخل المحيط الإسلامي. بورتريه يفضح أيضاً مجتمعاً تركياً توارت فيه المبادئ والقيم الأخلاقية، ما يعزّز الخوف الذي يطغى على أفراده ويدفعهم إلى العيش بسطحية، كل يوم بيومه، من دون أي رؤية أو تخطيط لمستقبلهم.
ومن خلال شخصيتَي فاروق وزوجته ومواقفهما العدائية، تكشف الكاتبة أيضاً خطر تنامي الحسّ القومي في وطنها ليس فقط على الأجانب والإثنيات الأخرى التي تعيش داخله، بل أيضاً على الأتراك الذين لا يشاركون القوميين أفكارهم الخطيرة. ولأن التزمّت الديني الناتج من سياسات أردوغان يشدّ أيضاً بتركيا إلى الوراء، لا تهمله كايغوسوز، بل تتناوله بطريقة مثيرة عن طريق تخيّلها حواراً ليلياً يحصل على أحد شرفات الفندق بين شابّين يعملان فيه، ويقول أحدهما للآخر خلاله: «ثمة شيءٌ يدعى «مصيبة التركي المتديّن»، هل تعرف ذلك؟ العالم الموجود داخل رأسه لا يتوافق مع العالم الموجود خارجه»، ثم يضيف: «مَن لم يدفعه الفضول يوماً إلى التساؤل حول الطريقة التي يعمل فيها جهاز الراديو، يبحث اليوم في الكتاب عن إشارة للموجات (الكهرومغناطيسية) داخله، ليقول بعد ذلك أننا نحن من تكلّم عن هذا الموضوع أولاً... لذلك، لن نتمكّن يوماً من ابتكار أي شيء».
وكما لو أن ذلك لا يكفي، تستثمر الكاتبة النقاش الدائر في الفندق، وقصة سيمين خصوصاً، للتطرق إلى تاريخ تركيا الحديث وفتح ملفات المجازر التي ارتُكبت بحقّ الأرمن والسريان واليونانيين والأكراد فيها، وما استتبعها من طرد جماعي وهجرة قسرية لأبناء هذه الطوائف، ومن إنكار رسمي لوقائعها المأساوية. مجازر تختصر أسبابها جملةٌ معبّرة في الرواية: «لن تتمكن من أن تكون تركياً إن لم تبتكر عدواً لك».
باختصار، نصٌّ تراجيدي- كوميدي تتمكنّ صاحبته فيه من تشييد عالمٍ واقعي، معقّد ومؤلم في مبالغاته وإنكاراته، هو عالم تركيا اليوم، علماً أن خطابها يتجاوز هذا الفضاء الجغرافي لنقد غباء وسفالة الجنس البشري ككُلّ. وفي هذا السياق، «البربري» في عنوان روايتها هو ذلك العنصري الذي لا يحترم الآخر ولا الطبيعة، ويرمي على الغريب دائماً مسؤولية المشكلات التي يعاني منها وطنه.
بعبارة أخرى، تقول كايغوسوز لنا في روايتها إن نواة الطبيعة البشرية لا تختلف كثيراً مع اختلاف الجغرافيا والثقافة والدين والزمن. ولقول ذلك، تستعين بسلاحَي السخرية والدعابة الماضيين، وبلغةٍ تستمدّ كل حيويتها من وقوعها عند تقاطع المحكية والكتابة الأدبية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.