«الوزير» ورئيس وزراء الكويت يبحثان تحويل الوديعة الكويتية لاستثمارات في مصر    سعر الذهب اليوم الثلاثاء 22 يوليو 2025 بعد الارتفاع الجديد وعيار 21 بالمصنعية    سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الثلاثاء 22-7-2025 بعد هبوطه ب8 بنوك    ترامب: مستعدون لشن ضربات متكررة على المنشآت النووية الإيرانية إذا لزم الأمر    صبرها بدأ ينفد، واشنطن تطالب حماس برد على المقترح المحدث وتهدد بهذا الإجراء    العاهل الأردني يؤكد دعم المملكة لأمن سوريا واستقرارها ووحدة أراضيها    أجنة على حافة الموت.. تقرير أممي يكشف مأساة الحوامل في غزة    البيت الأبيض: ترامب يسعى إلى حل دبلوماسي لصراعات الشرق الأوسط    «الأجواء أصبحت أكثر سخونة».. تعليق مثير من كريم فؤاد بشأن صفقات الأهلي    النصر يقترب من حسم صفقة مدوية، وإعلامي سعودي: أقسم بالله سيكون حديث الشارع الرياضي    «هل انتهت القصة؟».. جون إدوارد يرفض كل سُبل الاتصال مع نجم الزمالك (تفاصيل)    وسيط كولومبوس ل في الجول: النادي أتم اتفاقه مع الأهلي لشراء وسام أبو علي    اللينك المعتمد ل نتيجة الثانوية العامة 2025 فور ظهورها على موقع وزارة التربية والتعليم    دموع الفراق وفرحة العودة، شاهد ماذا فعل السودانيون بعد وصولهم أسوان قبل العودة لبلادهم (فيديو وصور)    7 أيام عِجاف.. تحذير شديد بشأن حالة الطقس: درجة الحرارة فوق معدلاتها الطبيعية    رانيا محمود ياسين غاضبة: «منفعلتش على أمي.. كنت بدور عليها ومش لاقياها»    وزير العمل: أي عامل بلا عقد سيُعتبر دائما.. والأجنبي لن يعمل إلا بتصريح    يوسف معاطي يكشف سر رفض فيلم "حسن ومرقص" وهذا طلب البابا شنودة للموافقة (فيديو)    9 اختبارات تؤهلك للالتحاق بكلية الشرطة    10 تيسيرات من «الداخلية» للمُتقدمين للالتحاق بكلية الشرطة 2025    أهلي جدة يحسم موقفه من المشاركة في السوبر السعودي بعد انسحاب الهلال    ثلاث صفقات من العيار الثقيل في الزمالك خلال ساعات (تفاصيل)    مفاجأة مدوية، محمد صلاح يتدخل لانتقال كوكا إلى الأهلي    هي دي مصر، رجال الشرطة بأسوان يساعدون النساء وكبار السن السودانيين لتسهيل عودتهم إلى بلادهم (فيديو)    باستثناء الرومي والشيدر، ارتفاع كبير يضرب جميع أصناف الجبن بالأسواق، وصل إلى 37 جنيها    زيلينسكي: الجولة الجديدة من المحادثات مع روسيا تنعقد في إسطنبول الأربعاء    لندن: فرض عقوبات على من يسهلون رحلات المهاجرين عبر القنال الإنجليزي    «انهيار لغوي».. محمد سعيد محفوظ يرصد أخطاء بالجملة في بيان نقابة الموسيقيين ضد راغب علامة    إيمان العاصي تشارك في «قسمة العدل» والعرض خارج رمضان (تفاصيل)    تامر أمين ل «فشخرنجية الساحل»: التباهي بالثراء حرام شرعا ويزيد الاحتقان المجتمعي    طريقة عمل الأرز البسمتي، في خطوات بسيطة وأحلى من الجاهز    دراسة "تبرئ" البيض من تهمة إيذاء القلب، ماذا قالت عن الكوليسترول الضار    إسرائيل تقتحم منشآت تابعة لمنظمة الصحة العالمية في غزة وتحتجز موظفين    جثة و3 مصابين في حادث تصادم ميكروباص وسيارة نصف نقل بالمنيا- صور    موعد مباراة ألمانيا وإسبانيا في نصف نهائي أمم أوروبا للسيدات والقناة الناقلة    سيمون توجّه رسالة حاسمة لجمهورها: لن أعلّق على ما لا يستحق    معتصم ينتقم من مسعد بعد خطف ريم..حلقة 29 من فات الميعاد    مصرع شاب في مشاجرة بين تجار خُردة بالإسماعيلية.. والأمن يُلقي القبض على المتهم    محافظ شمال سيناء يستقبل وفد من دار الإفتاء المصرية    «خاتم فرعوني» عمره 3500 سنة يُعرض للبيع في مزاد بلندن بسعر بخس    الداخلية تعلن بدء التقديم لكلية الشرطة 2025-2026 إلكترونيًا    تفسير آية| «أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا» الشعراوي يوضح سر وجود الإنسان وغاية خلقه    لا علاقة له ب العنف الجسدي.. أمين الفتوى يوضح معنى «واضربوهن»    وصول قطار العائدين السودانيين إلى محطة السد العالي في أسوان    السفيرالمصري ببرلين يدعوا إلي زيارة مصرومشاهدة معالمها الأثرية والتاريخية والسياحية    التصريح بدفن جثة ربة منزل لقيت مصرعها خنقًا علي يد زوجها بالقليوبية    عراقجى: منشآتنا النووية تعرضت لأضرار جسيمة لكننا لن نتخلى عن التخصيب    الداخلية تكشف ملابسات فيديو يظهر شخصًا يمارس البلطجة باستخدام سلاح أبيض في المنوفية    "مستقبل وطن" ينظم مؤتمرًا جماهيريًا بالشرقية لدعم مرشحيه في انتخابات الشيوخ    تنسيق الثانوية العامة 2025 علمي علوم.. مؤشرات كليات طب بيطري 2024 بالدرجات    أول بيان من «الداخلية» بشأن فيديو مواطن تعدى بالضرب على زوجة شقيقه المتوفى للاستيلاء على أرض زراعية في البحيرة    برلمانيون: نائب رئيس "مستقبل وطن" يحظى بشعبية كبيرة في الشرقية (صور)    التحقيق في وفاة سيدة مسنة إثر سقوطها من الطابق السادس بمستشفى طيبة بإسنا    ماذا قال عن بيان الاتحاد الفلسطيني؟.. وسام أبو علي يعتذر لجماهير الأهلي    سقوط سيارة نقل من معدية شرق التفريعة ببورسعيد وجهود لإنقاذ مستقليها    رسميا.. افتتاح وحدة مناظير أورام النساء بمستشفى 15 مايو التخصصي    ملتقى أزهري يكشف عن مظاهر الإعجاز في حديث القرآن عن الليل والنهار    هل النية شرط لصحة الوضوء؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الروائية التركية سيما كايغوسوز ترسم صورة قاتمة لبلادها
نشر في صوت البلد يوم 25 - 02 - 2018

في روايتها الأولى «سقوط الصلوات» (2006)، أحلّت الكاتبة التركية سيما كايغوسوز مناخاً سحرياً على جزيرة تحضر فيها التقاليد والأساطير كعنصر تشويشٍ وقلقٍ لقاطنيها، لا تفلت منه سوى الطبيعة الخاضعة لقوانينها الخاصة. وها هي تعيد الكرة في روايتها الثالثة، «قهقهة البربري» (2015)، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار «أكت سود» الباريسية، وتستبدل كايغوسوز فيها الجزيرة بفندقٍ يقع على شاطئ بحر إيجيه وتقصده شخصياتها لنسيان واقعها اليومي وتمضية عطلتها في إطارٍ ساحر.
في فندق «الحمامة الزرقاء»، نتعرّف أولاً إلى تورغاي الذي يحمل بصمت وألم سرّ زوجته التي تعرّضت في صباها إلى اغتصاب على يد مجموعة من الشرطيين والعسكر، ثم إلى إيدا وأوفوك اللذين يعيشان على وقع رغباتهما المشتعلة، فإلى صديقات أربع يمضين وقتهنّ في اللعب بورق الشدّة والثرثرة مع أزواجهن. هنالك أيضاً المؤرّخة العجوز سيمين التي تحمل آثار واحدة من المجازر التي أدمت تاريخ تركيا خلال القرن الماضي، والشابّان المثليان إسماعيل ومليح اللذان يعبران أزمة عاطفية، والفتى أوزون الذي يفتنه العنف فيمارسه على الحيوانات التي تعبر طريقه. شخصيات مختلفة نراها في مطلع الرواية تحاول الترويح عن نفسها وإشباع رغبتها في التمتّع بعطلتها، حين يقع حادثٌ فريد ومقرف في الفندق يقضّ مضجعها.
ففي أحد الصباحات، يستيقظ نزلاء «الحمامة الزرقاء» وموظّفوه ليجدوا كل الشراشف والمناشف والوسادات مبلولة بالبول. كيف حصل ذلك؟ ومَن أقدم على هذه الفعلة؟ أحد الموظفين؟ أحد الزبائن؟ ولماذا؟ بسرعة ترتفع أصوات الاستنكار. وسواء في ساحة الفندق أو على الشاطئ المقابل له أو في حميمية الغرف، لن تلبث طبيعة هذا الحدث أن تلعب دوراً كاشفاً، فتتعرّى طباع هذه الشخصيات أمامنا وتنحلّ ألسنتها، موقظةً توترات كامنة بينها ومسبِّبةً مواجهات عنيفة وتراشُقاً بالأحكام المسبقة.
ولأن هذه الفعلة ستتكرّر على نطاق واسع وبطريقة معيّنة، تُوجَّه أصابع الاتّهام بالتناوب إلى الرجال، قبل أن تطرد مديرة الفندق الحدائقي البريء، ويتعرّض تورغاي إلى الضرب على يد فاروق، وهو زوج واحدة من الصديقات الأربع، لأنه تجرّأ في مطلع الرواية على التبويل علناً في البحر، كاشفاً بذلك عورته أمامها. أما إدنا فلن تتردد في التنزّه بصدرٍ مكشوف على الشاطئ والتكلّم بصوتٍ عالٍ عن رغباتها الجنسية، ما يُربِك حبيبها أوفوك ويخلّف شعوراً بالغيرة أو الامتعاض لدى الآخرين.
شهود الصمت
وكما في رواية كايغوسوز الأولى، يبدو البحر والجبل وأشجار النخيل والزيتون في «قهقهة البربري» كشهودٍ صامتين على سلوك بشرٍ يستسلمون فجأةً لمكايد وتصفية حسابات، ويفرّغون كل ما كانوا يحفظونه داخلهم. وكان بإمكان هؤلاء اختيار الحلّ الأبسط لتجنّب هذه ال «سيكودراما» الجماعية، أي مغادرة الفندق، لولا اعتبارهم عطلتهم حقّاً مقدّساً لهم، نظراً إلى رمادية واقعهم اليومي وخيباته. ومن هذا المنطلق، يغالي كل واحد منهم في تصرّفاته ويتشبّث بموقفه وأفكاره، مثل إدنا التي تثير حفيظتها ما أن يتطرّق حبيبها إلى موضوع القدرات الجنسية للمرأة بطريقة لا تتناغم مع أفكارها المتحرّرة، فتردّ عليه في شكلٍ هستيري غير مكترثةٍ لاستماع المحيطين بهما إلى مونولوغها الطويل والمُحكَم، إضافة إلى إسماعيل ومليح اللذين لن يلبث ماضي كلٍّ منهما والسلوك الناتج منه أن يدفعا بهما إلى تبادل انتقادات قاسية أمام الجميع تودي بعلاقتهما.
وحدها سيمين العجوز تبقى على حِدَة وتحافظ على رباطة جأشها، مدوّنةً في دفتر يومياتها كل الأحداث التي تقع تحت نظرها ومانحةً إيانا قراءة حكيمة لها وللشخصيات التي تقف خلفها أو تقع ضحيّتها. قراءة تختلف بنبرتها الساكنة ومضمونها عن تلك الحادة والقارصة التي تضطلع بها الروائية في فصولٍ مستقلّة أو خلال عملية السرد. وفي معرض تعليقها على الحدث الرئيس، تتوقف سيمين في لحظةٍ ما عند فوائد البول كعنصر شفائي استخدمه شعب الأزتيك والهنود لتطهير الجروح، وكعنصر نظافة استخدمه الرومان لتبييض الغسيل، وكعنصرٍ وسيط استعان سكان سيبيريا القدماء به للتواصل مع الأرواح، علماً أن كايغوسوز تستثمر رمزيته العالية كعنصر تلويث لبلوغ هدفٍ آخر.
وفعلاً، لا يفوت قارئ روايتها أن بياضات الفندق الملوّثة بالبول هي استعارة واضحة لحال وطنها اليوم. فجميع الشخصيات والأحداث التي تبتكرها في هذا العمل تشكّل بورتريه دقيقاً ولا مهادنة فيه لتركيا التي تتجلى أمامنا كفضاءٍ مشحون بالتوتر وممزَّق بين تقليد وحداثة، وبين توقٍ إلى الاندماج بأوروبا ورغبة في التجذّرٍ داخل المحيط الإسلامي. بورتريه يفضح أيضاً مجتمعاً تركياً توارت فيه المبادئ والقيم الأخلاقية، ما يعزّز الخوف الذي يطغى على أفراده ويدفعهم إلى العيش بسطحية، كل يوم بيومه، من دون أي رؤية أو تخطيط لمستقبلهم.
ومن خلال شخصيتَي فاروق وزوجته ومواقفهما العدائية، تكشف الكاتبة أيضاً خطر تنامي الحسّ القومي في وطنها ليس فقط على الأجانب والإثنيات الأخرى التي تعيش داخله، بل أيضاً على الأتراك الذين لا يشاركون القوميين أفكارهم الخطيرة. ولأن التزمّت الديني الناتج من سياسات أردوغان يشدّ أيضاً بتركيا إلى الوراء، لا تهمله كايغوسوز، بل تتناوله بطريقة مثيرة عن طريق تخيّلها حواراً ليلياً يحصل على أحد شرفات الفندق بين شابّين يعملان فيه، ويقول أحدهما للآخر خلاله: «ثمة شيءٌ يدعى «مصيبة التركي المتديّن»، هل تعرف ذلك؟ العالم الموجود داخل رأسه لا يتوافق مع العالم الموجود خارجه»، ثم يضيف: «مَن لم يدفعه الفضول يوماً إلى التساؤل حول الطريقة التي يعمل فيها جهاز الراديو، يبحث اليوم في الكتاب عن إشارة للموجات (الكهرومغناطيسية) داخله، ليقول بعد ذلك أننا نحن من تكلّم عن هذا الموضوع أولاً... لذلك، لن نتمكّن يوماً من ابتكار أي شيء».
وكما لو أن ذلك لا يكفي، تستثمر الكاتبة النقاش الدائر في الفندق، وقصة سيمين خصوصاً، للتطرق إلى تاريخ تركيا الحديث وفتح ملفات المجازر التي ارتُكبت بحقّ الأرمن والسريان واليونانيين والأكراد فيها، وما استتبعها من طرد جماعي وهجرة قسرية لأبناء هذه الطوائف، ومن إنكار رسمي لوقائعها المأساوية. مجازر تختصر أسبابها جملةٌ معبّرة في الرواية: «لن تتمكن من أن تكون تركياً إن لم تبتكر عدواً لك».
باختصار، نصٌّ تراجيدي- كوميدي تتمكنّ صاحبته فيه من تشييد عالمٍ واقعي، معقّد ومؤلم في مبالغاته وإنكاراته، هو عالم تركيا اليوم، علماً أن خطابها يتجاوز هذا الفضاء الجغرافي لنقد غباء وسفالة الجنس البشري ككُلّ. وفي هذا السياق، «البربري» في عنوان روايتها هو ذلك العنصري الذي لا يحترم الآخر ولا الطبيعة، ويرمي على الغريب دائماً مسؤولية المشكلات التي يعاني منها وطنه.
بعبارة أخرى، تقول كايغوسوز لنا في روايتها إن نواة الطبيعة البشرية لا تختلف كثيراً مع اختلاف الجغرافيا والثقافة والدين والزمن. ولقول ذلك، تستعين بسلاحَي السخرية والدعابة الماضيين، وبلغةٍ تستمدّ كل حيويتها من وقوعها عند تقاطع المحكية والكتابة الأدبية.
في روايتها الأولى «سقوط الصلوات» (2006)، أحلّت الكاتبة التركية سيما كايغوسوز مناخاً سحرياً على جزيرة تحضر فيها التقاليد والأساطير كعنصر تشويشٍ وقلقٍ لقاطنيها، لا تفلت منه سوى الطبيعة الخاضعة لقوانينها الخاصة. وها هي تعيد الكرة في روايتها الثالثة، «قهقهة البربري» (2015)، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار «أكت سود» الباريسية، وتستبدل كايغوسوز فيها الجزيرة بفندقٍ يقع على شاطئ بحر إيجيه وتقصده شخصياتها لنسيان واقعها اليومي وتمضية عطلتها في إطارٍ ساحر.
في فندق «الحمامة الزرقاء»، نتعرّف أولاً إلى تورغاي الذي يحمل بصمت وألم سرّ زوجته التي تعرّضت في صباها إلى اغتصاب على يد مجموعة من الشرطيين والعسكر، ثم إلى إيدا وأوفوك اللذين يعيشان على وقع رغباتهما المشتعلة، فإلى صديقات أربع يمضين وقتهنّ في اللعب بورق الشدّة والثرثرة مع أزواجهن. هنالك أيضاً المؤرّخة العجوز سيمين التي تحمل آثار واحدة من المجازر التي أدمت تاريخ تركيا خلال القرن الماضي، والشابّان المثليان إسماعيل ومليح اللذان يعبران أزمة عاطفية، والفتى أوزون الذي يفتنه العنف فيمارسه على الحيوانات التي تعبر طريقه. شخصيات مختلفة نراها في مطلع الرواية تحاول الترويح عن نفسها وإشباع رغبتها في التمتّع بعطلتها، حين يقع حادثٌ فريد ومقرف في الفندق يقضّ مضجعها.
ففي أحد الصباحات، يستيقظ نزلاء «الحمامة الزرقاء» وموظّفوه ليجدوا كل الشراشف والمناشف والوسادات مبلولة بالبول. كيف حصل ذلك؟ ومَن أقدم على هذه الفعلة؟ أحد الموظفين؟ أحد الزبائن؟ ولماذا؟ بسرعة ترتفع أصوات الاستنكار. وسواء في ساحة الفندق أو على الشاطئ المقابل له أو في حميمية الغرف، لن تلبث طبيعة هذا الحدث أن تلعب دوراً كاشفاً، فتتعرّى طباع هذه الشخصيات أمامنا وتنحلّ ألسنتها، موقظةً توترات كامنة بينها ومسبِّبةً مواجهات عنيفة وتراشُقاً بالأحكام المسبقة.
ولأن هذه الفعلة ستتكرّر على نطاق واسع وبطريقة معيّنة، تُوجَّه أصابع الاتّهام بالتناوب إلى الرجال، قبل أن تطرد مديرة الفندق الحدائقي البريء، ويتعرّض تورغاي إلى الضرب على يد فاروق، وهو زوج واحدة من الصديقات الأربع، لأنه تجرّأ في مطلع الرواية على التبويل علناً في البحر، كاشفاً بذلك عورته أمامها. أما إدنا فلن تتردد في التنزّه بصدرٍ مكشوف على الشاطئ والتكلّم بصوتٍ عالٍ عن رغباتها الجنسية، ما يُربِك حبيبها أوفوك ويخلّف شعوراً بالغيرة أو الامتعاض لدى الآخرين.
شهود الصمت
وكما في رواية كايغوسوز الأولى، يبدو البحر والجبل وأشجار النخيل والزيتون في «قهقهة البربري» كشهودٍ صامتين على سلوك بشرٍ يستسلمون فجأةً لمكايد وتصفية حسابات، ويفرّغون كل ما كانوا يحفظونه داخلهم. وكان بإمكان هؤلاء اختيار الحلّ الأبسط لتجنّب هذه ال «سيكودراما» الجماعية، أي مغادرة الفندق، لولا اعتبارهم عطلتهم حقّاً مقدّساً لهم، نظراً إلى رمادية واقعهم اليومي وخيباته. ومن هذا المنطلق، يغالي كل واحد منهم في تصرّفاته ويتشبّث بموقفه وأفكاره، مثل إدنا التي تثير حفيظتها ما أن يتطرّق حبيبها إلى موضوع القدرات الجنسية للمرأة بطريقة لا تتناغم مع أفكارها المتحرّرة، فتردّ عليه في شكلٍ هستيري غير مكترثةٍ لاستماع المحيطين بهما إلى مونولوغها الطويل والمُحكَم، إضافة إلى إسماعيل ومليح اللذين لن يلبث ماضي كلٍّ منهما والسلوك الناتج منه أن يدفعا بهما إلى تبادل انتقادات قاسية أمام الجميع تودي بعلاقتهما.
وحدها سيمين العجوز تبقى على حِدَة وتحافظ على رباطة جأشها، مدوّنةً في دفتر يومياتها كل الأحداث التي تقع تحت نظرها ومانحةً إيانا قراءة حكيمة لها وللشخصيات التي تقف خلفها أو تقع ضحيّتها. قراءة تختلف بنبرتها الساكنة ومضمونها عن تلك الحادة والقارصة التي تضطلع بها الروائية في فصولٍ مستقلّة أو خلال عملية السرد. وفي معرض تعليقها على الحدث الرئيس، تتوقف سيمين في لحظةٍ ما عند فوائد البول كعنصر شفائي استخدمه شعب الأزتيك والهنود لتطهير الجروح، وكعنصر نظافة استخدمه الرومان لتبييض الغسيل، وكعنصرٍ وسيط استعان سكان سيبيريا القدماء به للتواصل مع الأرواح، علماً أن كايغوسوز تستثمر رمزيته العالية كعنصر تلويث لبلوغ هدفٍ آخر.
وفعلاً، لا يفوت قارئ روايتها أن بياضات الفندق الملوّثة بالبول هي استعارة واضحة لحال وطنها اليوم. فجميع الشخصيات والأحداث التي تبتكرها في هذا العمل تشكّل بورتريه دقيقاً ولا مهادنة فيه لتركيا التي تتجلى أمامنا كفضاءٍ مشحون بالتوتر وممزَّق بين تقليد وحداثة، وبين توقٍ إلى الاندماج بأوروبا ورغبة في التجذّرٍ داخل المحيط الإسلامي. بورتريه يفضح أيضاً مجتمعاً تركياً توارت فيه المبادئ والقيم الأخلاقية، ما يعزّز الخوف الذي يطغى على أفراده ويدفعهم إلى العيش بسطحية، كل يوم بيومه، من دون أي رؤية أو تخطيط لمستقبلهم.
ومن خلال شخصيتَي فاروق وزوجته ومواقفهما العدائية، تكشف الكاتبة أيضاً خطر تنامي الحسّ القومي في وطنها ليس فقط على الأجانب والإثنيات الأخرى التي تعيش داخله، بل أيضاً على الأتراك الذين لا يشاركون القوميين أفكارهم الخطيرة. ولأن التزمّت الديني الناتج من سياسات أردوغان يشدّ أيضاً بتركيا إلى الوراء، لا تهمله كايغوسوز، بل تتناوله بطريقة مثيرة عن طريق تخيّلها حواراً ليلياً يحصل على أحد شرفات الفندق بين شابّين يعملان فيه، ويقول أحدهما للآخر خلاله: «ثمة شيءٌ يدعى «مصيبة التركي المتديّن»، هل تعرف ذلك؟ العالم الموجود داخل رأسه لا يتوافق مع العالم الموجود خارجه»، ثم يضيف: «مَن لم يدفعه الفضول يوماً إلى التساؤل حول الطريقة التي يعمل فيها جهاز الراديو، يبحث اليوم في الكتاب عن إشارة للموجات (الكهرومغناطيسية) داخله، ليقول بعد ذلك أننا نحن من تكلّم عن هذا الموضوع أولاً... لذلك، لن نتمكّن يوماً من ابتكار أي شيء».
وكما لو أن ذلك لا يكفي، تستثمر الكاتبة النقاش الدائر في الفندق، وقصة سيمين خصوصاً، للتطرق إلى تاريخ تركيا الحديث وفتح ملفات المجازر التي ارتُكبت بحقّ الأرمن والسريان واليونانيين والأكراد فيها، وما استتبعها من طرد جماعي وهجرة قسرية لأبناء هذه الطوائف، ومن إنكار رسمي لوقائعها المأساوية. مجازر تختصر أسبابها جملةٌ معبّرة في الرواية: «لن تتمكن من أن تكون تركياً إن لم تبتكر عدواً لك».
باختصار، نصٌّ تراجيدي- كوميدي تتمكنّ صاحبته فيه من تشييد عالمٍ واقعي، معقّد ومؤلم في مبالغاته وإنكاراته، هو عالم تركيا اليوم، علماً أن خطابها يتجاوز هذا الفضاء الجغرافي لنقد غباء وسفالة الجنس البشري ككُلّ. وفي هذا السياق، «البربري» في عنوان روايتها هو ذلك العنصري الذي لا يحترم الآخر ولا الطبيعة، ويرمي على الغريب دائماً مسؤولية المشكلات التي يعاني منها وطنه.
بعبارة أخرى، تقول كايغوسوز لنا في روايتها إن نواة الطبيعة البشرية لا تختلف كثيراً مع اختلاف الجغرافيا والثقافة والدين والزمن. ولقول ذلك، تستعين بسلاحَي السخرية والدعابة الماضيين، وبلغةٍ تستمدّ كل حيويتها من وقوعها عند تقاطع المحكية والكتابة الأدبية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.