"مستقبل وطن" يحشد جماهير مطاي في مؤتمر لدعم مرشحيه بانتخابات الشيوخ 2025    لمدة 7 ساعات.. قطع التيار الكهربائي عن 12 منطقة في البحيرة    7 شهداء إثر استهداف شقة سكنية في منطقة تل الهوا غرب قطاع غزة    جيش الاحتلال يُحاصر مستشفيين ويقتحم بلدات في الضفة الغربية    ترامب يبرم اتفاقًا تجاريًا مع الفلبين ويفرض رسومًا جمركية على وارداتها بنسبة 19%    جوتيريش: الجوع يطرق كل باب في قطاع غزة    غابارد تنتقد فريق أوباما: تقرير تدخل روسيا "مفبرك" ومحاولة لإسقاط ترامب    صاحبة المركز التاسع بالثانوية: "النجاح بالمحبة والاجتهاد لا بالعبقرية" (صور)    رئيس اتحاد الخماسي يُكرم طالب بني سويف الأول على الجمهورية ب100 ألف جنيه    رئيس "بنك الطعام": نقدم نموذج شمولي فريد بالتعاون مع 5 آلاف جمعية    عيار 21 الآن يواصل الارتفاع.. سعر الذهب اليوم الأربعاء 23 يوليو في الصاغة    برلماني: «ثورة يوليو» الشرارة الأولى لإرساء مبادئ العدالة الاجتماعية    تعليم البحيرة تهنئ الطالبة نوران نبيل لحصولها على المركز السادس فى الثانوية العامة    جامعة الإسكندرية تستقبل وفد المركز الإعلامي الأوزبكستاني    بعد ظهور نتيجة الثانوية العامة 2025 .. نصائح لاختيار الجامعة والكلية المناسبة لك    مؤشرات تنسيق الثانوية العامة 2025 أدبي.. الحد الأدني ل كليات المرحلة الأولي 2024 (بالنسبة المئوية %)    كتائب القسام: قصفنا موقع قيادة وناقلة جند إسرائيلية بالقذائف والصواريخ    عبد المنعم سعيد: الاستقرار في مصر والسعودية نتاج قرار وطني ينبذ التفرقة الطائفية    عبدالمنعم سعيد: المنطقة كانت تتجه نحو السلام قبل 7 أكتوبر    عصام سالم: هناك كيل بمكيالين في التعامل مع أزمة فتوح    «الأهلي بياخد الدوري كل أثنين وخميس».. نجم الزمالك السابق يتغنى ب مجلس الخطيب    تطورات الحالة الصحية ل حسن شحاتة.. فاروق جعفر يكشف    رياضة ½ الليل| وفاة لاعب فلسطيني.. صفقة الزمالك «منظورة».. رحيل «عادل» للإمارات.. وأحلام زيزو بالأهلي    تنسيق الثانوية العامة 2025 بالدرجات علمي علوم وأدبي كليات تقبل من 65%.. ما هي؟    سعر الزيت والسكر والسلع الأساسية في الأسواق اليوم الأربعاء 23 يوليو 2025    لم تيأس بعد عامين من الرسوب.. طالبة ال 4% تحصد 70% في الثانوية العامة بقنا    حزب الجبهة الوطنية: دعم مادي بقيمة 50 ألف جنيه لأوائل الثانوية العامة    لينك نتيجة الصف الثالث الثانوي 2025 بالاسم ورقم الجلوس.. رسميًا الآن عبر الموقع الرسمي ل وزارة التربية والتعليم    الأولى على الثانوية العامة شعبة أدبي ل«المصري اليوم»: «بكيت فرحًا وسألتحق بالألسن»    بعد نجاحها في الثانوية.. سوزي الأردنية تعلن خطبتها قريبًا    النيران اشتعلت في «الهيش».. الحماية المدنية تسيطر على حريق بأسيوط    شخص مقرب منك يؤذي نفسه.. برج الجدي اليوم 23 يوليو    محمد التاجي: جدي «عبدالوارث عسر» لم يشجعني على التمثيل    محمد التاجي: فهمي الخولي اكتشف موهبتي.. ومسرح الطليعة كان بوابتي للاحتراف    الرابعة على الثانوية: تنظيم الوقت سر النجاح.. وحلمي أكون طبيبة    فرصة لإدراك تأثير جروح الماضي.. حظ برج القوس اليوم 23 يوليو    ما حكم الاعتداء على المال العام؟.. أمين الفتوى يجيب    منها السبانخ والكرنب.. أهم الأطعمة المفيدة لصحة القلب    «الإندومي» والمشروبات الغازية.. أطعمة تسبب التوتر والقلق (ابتعد عنها)    بدون أدوية.. 6 طرق طبيعية لتخفيف ألم الدورة الشهرية    الكشف عن بديل الهلال في السوبر السعودي    دروجبا: محمد شريف هداف مميز.. والأهلي لا يتوقف على أحد    أتلتيكو مدريد يتعاقد مع مارك بوبيل رسميا    وساطات بتركيا تسعى لإطلاق سراحه .. إعلام "المتحدة" يُشيع تسليم محمد عبدالحفيظ    بالصور.. صبا مبارك تستمتع بعطلتها الصيفية أمام برج إيفل    أندية سعودية تنافس بنفيكا على ضم جواو فيليكس    نشرة التوك شو| قانون الإيجار القديم ينتظر قرار الرئيس السيسي.. و"الزراعة" توفر الأسمدة رغم التحديات    ب"فستان تايجر".. أحدث جلسة تصوير جريئة ل نورهان منصور تخطف الأنظار    حدث بالفن| زفاف مخرج ونقل زوج فنانة إلى المستشفى وأحدث أزمات حفلات الساحل الشمالي    ما هي كفارة اليمين؟.. أمين الفتوى يجيب    اعتماد أولى وحدات مطروح الصحية للتأمين الشامل.. وتكامل حكومي - مجتمعي لرفع جودة الخدمات    أهم أخبار الكويت اليوم.. ضبط شبكة فساد في الجمعيات التعاونية    هل يجوز الوضوء مع ارتداء الخواتم؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    محافظ شمال سيناء يفتتح "سوق اليوم الواحد" بالعريش لتوفير السلع بأسعار مخفضة    انطلاق المبادرة الوطنية للتطعيم ضد السعار من الإسماعيلية    أدعية لطلاب الثانوية العامة قبل النتيجة من الشيخ أحمد خليل    البورصة المصرية تخسر 12.5 مليار جنيه في ختام تعاملات الثلاثاء    حملة دعم حفظة القرآن الكريم.. بيت الزكاة والصدقات يصل المنوفية لدعم 5400 طفل من حفظة كتاب الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جون راي يجعل من الزمن بطلاً روائياً
نشر في صوت البلد يوم 27 - 01 - 2018

جون راي كاتب أميركي يمارس الكتابة الروائية كبهلوان يسير عالياً على خيطٍ مشدود. ولا شك في أن ذلك يفسّر شهرته الباكرة في وطنه، وأيضاً إقدام دار «سوي» الباريسية حديثاً على إصدار الترجمة الفرنسية لروايته الأخيرة «حوادث الزمن الضائع» (2016). عملٌ شيّده على شكل جدارية عائلية وتاريخية مذهلة في طابعها المبتكَر ومراجعها العلمية والثقافية الغزيرة، وتتجلى فيه مرةً أخرى كل مهارات راي السردية والكتابية، وأيضاً ثقافته المدوخة.
بطل الرواية وراويها شاب أميركي يدعى فالدي تولا. في مطلع النص نراه في شقة نيويوركية معزولاً خارج الزمن: «أنا عالق في مكانٍ يقع خارج تسلسل الزمن، بلا رفقة أو أمل ظاهر في إنقاذ. لكني حيّ وبصحّة جيدة على ما يبدو، ما يناقض جميع قوانين الفيزياء». ولأنه يعشق امرأة تدعى السيدة هافين، يمسك بقلمه وينطلق في الكتابة من أجل سرد قصة عائلته لها التي تفسّر كيف وصل إلى الوضع الذي هو فيه، الأمر الذي يوجّهه ويوجّهنا معه نحو لغز الرواية المركزي، أي ماهيّة الزمن وحوادثه.
هكذا، يعود فالدي بِنَا أولاً إلى عام 1903 لتقديم والد جدّه، أوتوكار تولا، الذي عاش في مدينة سنويمو التشيكية ومارس مهنة تمليح الخيار وتعليبه، إلى جانب شغفه بعلم الفيزياء الذي جعله يكتشف يوماً أن الزمن لا يسير بطريقة مستقيمة بل دائرية، لكن تعرّضه لحادث سير قاتل مباشرةً بعد ذلك حال دون كشفه هذا الاكتشاف إلى أحد. فقط بضعة أوراق كان قد دوّن عليها نظريته بطريقة ملغّزة هي كل ما تبقّى من اكتشافه، لكنها تصبح بسرعة محرّك بحثٍ يتسلط على ثلاثة أجيال من عائلته.
وفعلاً، لن يلبث ابنا أوتوكار، كاسبار وفالديمار، أن ينتقلا إلى فيينا لدراسة علم الفيزياء ومتابعة بحث والدهما. انتقال يسمح لنا بالغوص في أجواء تلك المدينة التي كانت تعجّ آنذاك بالمفكرين والعلماء والصالونات الأدبية، وكان أبناؤها يستيقظون كل يوم على خبر اكتشافٍ كان يغيّر فهمنا للعالم، قبل أن ترتفع تدريجاً أصداء تلك العقيدة القومية القاتلة داخل هذا الغليان الفكري، ومعها شعور الخوف مما تحمله السنوات المقبلة لفيينا، وأوروبا عموماً.
في العاصمة النمساوية، يتبع كل من كاسبار وفالديمار مساراً مختلفاً عن الآخر. فبينما يستسلم الأول لمحدودية كفاءته كعالِم في مجال الفيزياء، يستثمر الآخر عبقريته في هذا المجال، وأيضاً نظرية والده، لقيادة اختبارات مرعبة في أحد معسكرات الموت النازية تؤدّي إلى اكتشافه طريقة للسفر داخل الزمن. ولأن كاسبار سيتزوج ويستقر مع زوجته في الولايات المتحدة، هرباً من الحرب الدائرة في أوروبا، ينتقل فالدي بنا في سرديته إلى نيويورك لقصّ حياة ابنتيّ كاسبار فيها. هكذا نتعرّف أيضاً إلى إنزيان التي تتابع، مثل عمّها فالديمار، بحث جدّها أوتوكار، وإلى جينسيان التي تسهر على راحة أختها التوأم وتنظّم سهرات في منزلهما يحضرها أبرز الوجوه الفكرية والفنية والأدبية في المدينة، ما يطلعنا على أجواء نيويورك الثقافية خلال الخمسينات والستينات، وعلى الأفكار والتيارات الفنية والأدبية التي كانت فاعلة فيها آنذاك.
ولأن بورتريه عائلة تولا يبقى ناقصاً من دون قصّة أورسون، وهو ابن كاسبار من زوجته الثانية، ووالد فالدي، يسرد هذا الأخير قصّته للسيدة هافين، فيتبيّن لنا أن أورسون تمرّد على ميل أفراد عائلته إلى دراسة علم الفيزياء ورفض متابعة بحثهم، فأصبح باكراً كاتب قصص وروايات تنتمي إلى ميدان الخرافة العلمية. ومع أنه سيسعى جاهداً إلى إبعاد ابنه عن الهاجس المتسلّط على عائلته منذ أجيال، لكنه لا يفشل فقط في ذلك، كما تشهد على ذلك قصة فالدي بالذات، بل يصبح مرغماً «نبي» طائفة دينية يؤمن أفرادها بالأفكار المسيَّرة داخل قصصه ورواياته حول الزمن. طائفة يتّضح لنا بسرعة أن مؤسّسها الدجّال ليس سوى زوج السيدة هافين.
وقد تبدو قصة «حوادث الزمن الضائع» معقّدة بعض الشيء، لكن التعقيد ليس بالضرورة سلبياً. والدليل هو هذه الرواية المجنونة بالذات التي تعجّ بالشخصيات المثيرة والتطوّرات والمغامرات، وتعبرها قصة حب مؤثّرة تلوّن نثرها. ولتذوّقها، لا بد من ترك كاتبها يسافر بنا عبر سردية شخصيتها الرئيسة، نظراً إلى تملّكه كلياً فن السرد وبراعته في زرع عنصر التشويق فيه والقفز بنا من مفاجأة إلى أخرى،، وبالتالي في جذبنا إلى داخل نصّه وحضّنا على التأمّل في موضوعاته الكثيرة. وبذلك، تشكّل الرواية عملاً أدبياً باهراً يفتننا أيضاً بكتابته المتطلّبة ونبرته الفَكِهة وإيقاعه السيّال.
في مكان ما من الرواية، يقول راي على لسان شخصية أوتوكار: «لكن لديّ مفاجأة لهم، لا شيء يتقدّم بخطٍّ مستقيم، ولا حتى التاريخ». جملة تنطبق أيضاً على سرديته التي تذهب في كل الاتجاهات، ولا ينفكّ الكاتب يسائل فيها قارئه حول قِيَم العِلم والبحث العلمي، وخصوصاً حول التقدّم الحاصل في عِلم الفيزياء والرهانات والتوقّعات التي يثيرها علماؤه. وفي هذا السياق، نتآلف داخلها مع الطُرُق التي تم فيها اكتشاف النظريات الفيزيائية الكبرى، ومع طريقة تملّك الإنسان لها واستثمارها، فنتابع مثلاً سيرورة اكتشاف نظرية النسبية التي وضعها ألبرت أينشتاين، وكيفية استقبال المحيط العلمي لها، ونفهم نتائجها الإيجابية والسلبية على تاريخ القرن العشرين. نتابع أيضاً تطوُّر النظريات التي وُضِعت حول سرعة الضوء، وتأمّلات سان أوغستان ونيوتن ونيتشه المثيرة في موضوع الزمن.
ومن جهةٍ أخرى، يأخذ البحث المستحوذ على أفراد آل تولا طابعاً مسارّياً لدى بعض أفراد هذه العائلة، وطابعاً وجودياً لدى معظمهم، مسائلاً رابط الدم، وبالتالي مسألة تسلسل الأجيال داخل عائلة واحدة. فهل علينا أن نتبع الدرب الذي خطّه أسلافنا قبلنا؟ أم علينا أن ننمّي فرديتنا على حساب الانتماء العائلي؟ وإلى أي حدّ يمكن الفردية أن تحيا في ظلّ إرثٍ عائلي ثقيل؟
باختصار، «حوادث الزمن الضائع» فسيفساء مذهلة تنتمي قِطَعها الغزيرة إلى الخرافة العلمية والتاريخ والفلسفة والعلوم، وتستحضر إلى أذهاننا لدى قراءتها تارةً إيتالو كالفينو، وتارةً دايفيد ميتشيل، وتارةً جايمس جويس، علماً أنها تقع خصوصاً بين رواية بول فرهيغين «أوميغا مينور» وروايات ريتشارد باورز، وتستعير بعض قوانينها من الرواية ما بعد الحديثة، وبعضاً آخر من القصّ الما ورائي (métafiction).
أما هندستها الفريدة وطموح الكاتب فيها، فيتعذّر الإمساك كلياً بهما قبل بلوغ صفحتها الأخيرة. إذ أكثر من رغبته في كشف آليات السفر داخل الزمن، موضوع الرواية الظاهر، يتّضح لنا في النهاية أن راي يهتم خصوصاً بفرصة السرد والتنظير معاً التي يمنحها هذا الموضوع لكاتب روايات خيالية مثله، وأيضاً بإمكانية استثماره كاستعارة قوية لكشف وتصوير قدرة الروائي وحده على التنقل كما يشاء داخل الزمن.
جون راي كاتب أميركي يمارس الكتابة الروائية كبهلوان يسير عالياً على خيطٍ مشدود. ولا شك في أن ذلك يفسّر شهرته الباكرة في وطنه، وأيضاً إقدام دار «سوي» الباريسية حديثاً على إصدار الترجمة الفرنسية لروايته الأخيرة «حوادث الزمن الضائع» (2016). عملٌ شيّده على شكل جدارية عائلية وتاريخية مذهلة في طابعها المبتكَر ومراجعها العلمية والثقافية الغزيرة، وتتجلى فيه مرةً أخرى كل مهارات راي السردية والكتابية، وأيضاً ثقافته المدوخة.
بطل الرواية وراويها شاب أميركي يدعى فالدي تولا. في مطلع النص نراه في شقة نيويوركية معزولاً خارج الزمن: «أنا عالق في مكانٍ يقع خارج تسلسل الزمن، بلا رفقة أو أمل ظاهر في إنقاذ. لكني حيّ وبصحّة جيدة على ما يبدو، ما يناقض جميع قوانين الفيزياء». ولأنه يعشق امرأة تدعى السيدة هافين، يمسك بقلمه وينطلق في الكتابة من أجل سرد قصة عائلته لها التي تفسّر كيف وصل إلى الوضع الذي هو فيه، الأمر الذي يوجّهه ويوجّهنا معه نحو لغز الرواية المركزي، أي ماهيّة الزمن وحوادثه.
هكذا، يعود فالدي بِنَا أولاً إلى عام 1903 لتقديم والد جدّه، أوتوكار تولا، الذي عاش في مدينة سنويمو التشيكية ومارس مهنة تمليح الخيار وتعليبه، إلى جانب شغفه بعلم الفيزياء الذي جعله يكتشف يوماً أن الزمن لا يسير بطريقة مستقيمة بل دائرية، لكن تعرّضه لحادث سير قاتل مباشرةً بعد ذلك حال دون كشفه هذا الاكتشاف إلى أحد. فقط بضعة أوراق كان قد دوّن عليها نظريته بطريقة ملغّزة هي كل ما تبقّى من اكتشافه، لكنها تصبح بسرعة محرّك بحثٍ يتسلط على ثلاثة أجيال من عائلته.
وفعلاً، لن يلبث ابنا أوتوكار، كاسبار وفالديمار، أن ينتقلا إلى فيينا لدراسة علم الفيزياء ومتابعة بحث والدهما. انتقال يسمح لنا بالغوص في أجواء تلك المدينة التي كانت تعجّ آنذاك بالمفكرين والعلماء والصالونات الأدبية، وكان أبناؤها يستيقظون كل يوم على خبر اكتشافٍ كان يغيّر فهمنا للعالم، قبل أن ترتفع تدريجاً أصداء تلك العقيدة القومية القاتلة داخل هذا الغليان الفكري، ومعها شعور الخوف مما تحمله السنوات المقبلة لفيينا، وأوروبا عموماً.
في العاصمة النمساوية، يتبع كل من كاسبار وفالديمار مساراً مختلفاً عن الآخر. فبينما يستسلم الأول لمحدودية كفاءته كعالِم في مجال الفيزياء، يستثمر الآخر عبقريته في هذا المجال، وأيضاً نظرية والده، لقيادة اختبارات مرعبة في أحد معسكرات الموت النازية تؤدّي إلى اكتشافه طريقة للسفر داخل الزمن. ولأن كاسبار سيتزوج ويستقر مع زوجته في الولايات المتحدة، هرباً من الحرب الدائرة في أوروبا، ينتقل فالدي بنا في سرديته إلى نيويورك لقصّ حياة ابنتيّ كاسبار فيها. هكذا نتعرّف أيضاً إلى إنزيان التي تتابع، مثل عمّها فالديمار، بحث جدّها أوتوكار، وإلى جينسيان التي تسهر على راحة أختها التوأم وتنظّم سهرات في منزلهما يحضرها أبرز الوجوه الفكرية والفنية والأدبية في المدينة، ما يطلعنا على أجواء نيويورك الثقافية خلال الخمسينات والستينات، وعلى الأفكار والتيارات الفنية والأدبية التي كانت فاعلة فيها آنذاك.
ولأن بورتريه عائلة تولا يبقى ناقصاً من دون قصّة أورسون، وهو ابن كاسبار من زوجته الثانية، ووالد فالدي، يسرد هذا الأخير قصّته للسيدة هافين، فيتبيّن لنا أن أورسون تمرّد على ميل أفراد عائلته إلى دراسة علم الفيزياء ورفض متابعة بحثهم، فأصبح باكراً كاتب قصص وروايات تنتمي إلى ميدان الخرافة العلمية. ومع أنه سيسعى جاهداً إلى إبعاد ابنه عن الهاجس المتسلّط على عائلته منذ أجيال، لكنه لا يفشل فقط في ذلك، كما تشهد على ذلك قصة فالدي بالذات، بل يصبح مرغماً «نبي» طائفة دينية يؤمن أفرادها بالأفكار المسيَّرة داخل قصصه ورواياته حول الزمن. طائفة يتّضح لنا بسرعة أن مؤسّسها الدجّال ليس سوى زوج السيدة هافين.
وقد تبدو قصة «حوادث الزمن الضائع» معقّدة بعض الشيء، لكن التعقيد ليس بالضرورة سلبياً. والدليل هو هذه الرواية المجنونة بالذات التي تعجّ بالشخصيات المثيرة والتطوّرات والمغامرات، وتعبرها قصة حب مؤثّرة تلوّن نثرها. ولتذوّقها، لا بد من ترك كاتبها يسافر بنا عبر سردية شخصيتها الرئيسة، نظراً إلى تملّكه كلياً فن السرد وبراعته في زرع عنصر التشويق فيه والقفز بنا من مفاجأة إلى أخرى،، وبالتالي في جذبنا إلى داخل نصّه وحضّنا على التأمّل في موضوعاته الكثيرة. وبذلك، تشكّل الرواية عملاً أدبياً باهراً يفتننا أيضاً بكتابته المتطلّبة ونبرته الفَكِهة وإيقاعه السيّال.
في مكان ما من الرواية، يقول راي على لسان شخصية أوتوكار: «لكن لديّ مفاجأة لهم، لا شيء يتقدّم بخطٍّ مستقيم، ولا حتى التاريخ». جملة تنطبق أيضاً على سرديته التي تذهب في كل الاتجاهات، ولا ينفكّ الكاتب يسائل فيها قارئه حول قِيَم العِلم والبحث العلمي، وخصوصاً حول التقدّم الحاصل في عِلم الفيزياء والرهانات والتوقّعات التي يثيرها علماؤه. وفي هذا السياق، نتآلف داخلها مع الطُرُق التي تم فيها اكتشاف النظريات الفيزيائية الكبرى، ومع طريقة تملّك الإنسان لها واستثمارها، فنتابع مثلاً سيرورة اكتشاف نظرية النسبية التي وضعها ألبرت أينشتاين، وكيفية استقبال المحيط العلمي لها، ونفهم نتائجها الإيجابية والسلبية على تاريخ القرن العشرين. نتابع أيضاً تطوُّر النظريات التي وُضِعت حول سرعة الضوء، وتأمّلات سان أوغستان ونيوتن ونيتشه المثيرة في موضوع الزمن.
ومن جهةٍ أخرى، يأخذ البحث المستحوذ على أفراد آل تولا طابعاً مسارّياً لدى بعض أفراد هذه العائلة، وطابعاً وجودياً لدى معظمهم، مسائلاً رابط الدم، وبالتالي مسألة تسلسل الأجيال داخل عائلة واحدة. فهل علينا أن نتبع الدرب الذي خطّه أسلافنا قبلنا؟ أم علينا أن ننمّي فرديتنا على حساب الانتماء العائلي؟ وإلى أي حدّ يمكن الفردية أن تحيا في ظلّ إرثٍ عائلي ثقيل؟
باختصار، «حوادث الزمن الضائع» فسيفساء مذهلة تنتمي قِطَعها الغزيرة إلى الخرافة العلمية والتاريخ والفلسفة والعلوم، وتستحضر إلى أذهاننا لدى قراءتها تارةً إيتالو كالفينو، وتارةً دايفيد ميتشيل، وتارةً جايمس جويس، علماً أنها تقع خصوصاً بين رواية بول فرهيغين «أوميغا مينور» وروايات ريتشارد باورز، وتستعير بعض قوانينها من الرواية ما بعد الحديثة، وبعضاً آخر من القصّ الما ورائي (métafiction).
أما هندستها الفريدة وطموح الكاتب فيها، فيتعذّر الإمساك كلياً بهما قبل بلوغ صفحتها الأخيرة. إذ أكثر من رغبته في كشف آليات السفر داخل الزمن، موضوع الرواية الظاهر، يتّضح لنا في النهاية أن راي يهتم خصوصاً بفرصة السرد والتنظير معاً التي يمنحها هذا الموضوع لكاتب روايات خيالية مثله، وأيضاً بإمكانية استثماره كاستعارة قوية لكشف وتصوير قدرة الروائي وحده على التنقل كما يشاء داخل الزمن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.