منطقة السويس الأزهرية تعلن أسماء أوائل الإعدادية    تراجع أسعار الذهب في مصر 0.5 % خلال أسبوع    نائب وزير المالية: اتخذنا إجراءات للحياد التنافسي بإلغاء المعاملات التفضيلية الممنوحة لشركات الدولة    برقصات استفزازية وصلوات تلمودية.. اقتحامات إسرائيلية جديدة للمسجد الأقصى    التصريح بدفن جثة طالب لقي مصرعه غرقا في النيل أثناء زيارته لدير السيدة العذراء بالمنيا    ضبط أسمدة زراعية مدعمة محظور تداولها بيعها بالسوق السوداء بالفيوم    جندي إسرائيلي يُنهي حياته بعد تلقيه أمرًا بالعودة للخدمة في قطاع غزة (تفاصيل)    شبح الاستضافة يطارد ألمانيا.. هل تتوج «الماكينات» باللقب على أرضها؟    ثنائي الأهلي يتلقى عروضًا من الدوري السعودي    مصادر ل «أهل مصر»: دمج وزارتي «النقل» و«الطيران» تحت قيادة كامل الوزير    العواصف القوية تعوق التصويت في بعض مراكز التصويت بانتخابات البرلمان الأوروبي في النمسا    ضبط صاحب محل لبيع أجهزة الريسيفرات التي تقوم بفك شفرات القنوات الفضائية بدون تصريح بالقليوبية    سفاح التجمع عن علاقاته الجنسية وممارسة الرذيلة: "كنت عايز أثبت لنفسي إني لسه كويس وراجل"    محامي عمرو دياب أمام النيابة: «المعجب أمسك به من الظهر لإجباره على التصوير»    المهرجان القومي للمسرح المصري يضع اللمسات الأخيرة لدورته ال17    تعرف على أعضاء مجلس أمناء مؤسسة «زاهي حواس» للآثار والتراث    في ذكرى رحيل عبد الله محمود.. بدأ موظفًا في كلية الزراعة وتعاون مع عمالقة النجوم وهزمه السرطان (تقرير)    تقرير ل«أ ش أ»: مواقيت الإحرام.. محطات للاستعداد وبوابات لدخول ضيوف الرحمن بيت الله الحرام    «الصحة» تعلن الانتهاء من قوائم الانتظار لعمليات قسطرة القلب بمستشفى السويس العام    هذه أماكن صرف مرتبات العاملين بالدولة لشهر يونيو 2024    «لأعضاء هيئة التدريس».. فتح باب التقدم لجوائز جامعة القاهرة لعام 2024    لتنفيذ التوصيات.. رئيس «الشيوخ» يحيل 14 تقريرا إلى الحكومة    درجات الحرارة وصلت 50.. بيان عاجل من النائبة بشأن ارتفاع درجات الحرارة في أسوان    بعد تخطيها 48 درجة.. كيف تعاملت الأقصر مع ارتفاع قيم الحرارة؟    "النواب العراقي" يدين القصف الإسرائيلي على مخيم النصيرات بغزة    محافظ كفرالشيخ يعلن فتح المجازر لاستقبال الأضاحى وذبحها «بالمجان»    مركز تحديث الصناعة يشارك في معرض "الأعمال الخضراء" بالأقصر    ميدو: الزمالك اتظلم في ملف نادي القرن    فورير    موراتا يواصل مطاردة توريس وراؤول    أفضل الأدعية والأعمال في يوم التروية    أوبلاك.. صمام أمان سلوفينيا في الظهور الأوروبي الثاني    محافظ كفر الشيخ يتابع جهود حملات إزالة الإشغالات بدسوق    العمل: زيارات ميدانية لتفقد مواقع الإنتاج بأسيوط    إعلام إسرائيلي: اندلاع حريق كبير شمالي الجولان عقب سقوط عدد من الصواريخ    «التضامن الاجتماعي» توافق على قيد ونقل تبعية 3 جمعيات بالقاهرة والغربية    عمرو محمود يس وياسمين عبدالعزيز في رمضان 2025 من جديد.. ماذا قدما سويا؟    فكري صالح: مصطفى شوبير حارس متميز وشخصيته في الملعب أقوى من والده    إخماد حريق داخل معرض ملابس فى الموسكى دون إصابات.. صور    إدريس : أتوقع أن نحقق من 7 إلى 11 ميدالية في أولمبياد باريس    وزارة الصحة: نستهدف رفع الوعي بالكشف المبكر عن الأورام السرطانية    محافظ الشرقية يُفاجئ المنشآت الصحية والخدمية بمركزي أبو حماد والزقازيق (تفاصيل)    «معلومات الوزراء» يلقي الضوء على ماهية علم الجينوم وقيمته في المجالات البشرية المختلفة    مع ارتفاع درجات الحرارة.. نصائح للحماية من ضربات الشمس    «مع بدء طرح أفلام العيد».. 4 أفلام مهددة بالسحب من السينمات    «الداخلية»: ضبط 552 مخالفة عدم ارتداء الخوذة وسحب 1334 رخصة خلال 24 ساعة    حزب الله يستهدف موقع الرمثا الإسرائيلي في تلال كفر شوبا اللبنانية المحتلة    عالم أزهري يوضح فضل الأيام العشر الأوائل من ذي الحجة وكيفية اغتنامها    3 طرق صحيحة لأداء مناسك الحج.. اعرف الفرق بين الإفراد والقِران والتمتع    «الإفتاء» توضح أعمال يوم النحر للحاج وغير الحاج.. «حتى تكتمل الشعائر»    «البحرية البريطانية» تعلن وقوع حادث على بعد 70 ميلا جنوب غربي عدن اليمنية    وزيرة البيئة: إطلاق مركز التميز الأفريقي للمرونة والتكيف بالقاهرة خلال 2024    إلغاء الأدبي والعلمي.. تفاصيل نظام الثانوية الجديد وموعد تطبيقه    الملامح النهائية للتشكيل الحكومي الجديد 2024    برقم الجلوس.. الموقع الرسمي لنتيجة الصف الثالث الإعدادى 2024 الترم الثاني للمحافظات (رابط مباشر)    هذه الأبراج يُوصف رجالها بأنهم الأكثر نكدية: ابتعدي عنهم قدر الإمكان    من تعليق المعاهدات إلى حرب «البالونات» الأزمة الكورية تتخذ منعطفًا خطيرًا    أمير هشام: كولر يعطل صفقة يوسف أيمن رغم اتفاقه مع الأهلي ويتمسك بضم العسقلاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المورسكي التائه في الزمن
نشر في أخبار الأدب يوم 25 - 04 - 2015

أعتقد أن صبحي موسي لو خير في عمله لاختار أن يكون مؤرخا، فهو يكتب أعماله
( الروائية أو الشعرية ) بعد أن يغوص في أعماقها مفكرا في أحداثها، وفي شخصياتها، وفي فلسلفتها في مسار الحضارة، فهو مفكر كلي، يري العالم من خلال عدسة التاريخ الإجمالية، ولكن لأنه شاعر وروائي، فهو يمزج العالم المرئي بمشاعر وأهواء الناس، ويقف أمام خشبة المسرح التاريخي ليستوعب كل المؤثرات الضوئية والصوتية، ويخرج بالتالي ممتلئا بفلسفة الموقف العام، رائيا الصورة الإجمالية للعالم والأشياء والأشخاص، وكل ذلك من خلال أسطورة الفعل، وأسطورة الفكر، حاملا رؤيته العامة، وكأنها بديل للعالم، ولذلك هو يعتبر عاشقا للتاريخ الإنساني العام، أما الزمن فلا معني له أكثر من قدرته علي الانتقال من حدث تاريخي إلي آخر، بدون أن يبين لنا كيف حدث ذلك. ولذلك نجد التاريخ في أعماله السابقة هو الذي يحمل بطولة الرؤية، والقدرة علي صوغ أسطورة الرواية التي تنسج خلاياها من الأحداث التاريخية، ولكن، هذه الأساطير لا يمكنها إلا أن تنز من عناوين رواياته فقد أصدر من قبل أربعة أعمال روائية هي " أساطير رجل الثلاثاء""أساطير رجل الثلاثاء" التي فازت بجائزة أفضل عمل روائي في معرض القاهرة لعام 2014، و"صمت الكهنة" و"حمامة بيضاء" و"المؤلف" وخمسة دواوين هي "يرفرف بجانبها وحده" و"قصائد الغرفة المغلقة" و"هانيبال" و"لهذا أرحل" و"في وداع المحبة" ، فجسد هذه الكتابات ليس إلا نواة كم هائل ، يشتمل علي كل ما أنجز حوله ، والذي يتحول مع الزمن الي مجموعة من العناصر التأويلية التي تتحكم في مسارات المتخيل النقدي المصاحب لفعل القراءة أو المنتمي لبروتوكول القراءة ، ذاته . فالكثير من النصوص الخالدة تشكلها القراءة المتخيلة يوميا، وتدفع بها الي الواجهة ، بل إن عظمة عمق المتخيل الأدبي داخل نسيج هذه النصوص ، دفع بالنص المتخيل الي درجة مغادرة صاحبه نهائيا وتحقيق وجود مستقل يقع خارج الحالة الزمنية المرهقة والمغنية لكل التفاصيل المشروطة بالحياة والموت . فالقليل منا مثلا يعير أهمية كبيرة لسرفانتس ولكن كلنا نعرف دون كيخوتي (دون كيشوت ) وكأنه إنسان حي بلحمه ودمه ، وليست شخصية متخيلة زاحمت الواقع بقدراتها، حتي احتلت وحدها مساحة النص والكاتب معا. الشي ء نفسه ، وان بدرجة أقل يمكن أن يقال عن إيفا بوفاري في "مدام بوفاري" لجوستاف فلوبير،وعن شهرزاد في ألف ليلية وليلة ، والتي لا يشغلنا كثيرا كاتبها أو كتابها كعادة النص الشعبي، بل شهرزاد هي التي تشغلنا، وقدراتها علي الالتجاء الي الحكاية والمخيلة لإنقاذ ذاتها من الواقع المسطح واليومي والتاريخي. إن ما صنع هذه النصوص وخلدها هو قدراتها التخيلية وبياضاتها المستديمة القادرة باستمرار علي استفزاز القاريء ودفعه الي فعل إثبات جدوي القراءة الجديدة ، وتنميقها: "تنحو الكتابة ، والنص معا الي اللعب ومن ثمة لشرح ذاتها وممكناتها التقنية واللغوية والدلالية وتدخل في هذه اللعبة ذات الكاتب المخيبة وذات القاريء المستحضرة . إنها تستدعي متخيلهما معا ليشاركا في لحظة القراءة . الكتابة ، ويعيدا تشكيل صورة النص ، إذ بكل نص خصائص وثغرة دائمة متجددة الاشتغال تهدي للقراءة فراغها باعتباره موطيء قدم رغبات ومتخيل القاريء ومجال تجدد النص في الزمن والفضاء. إنها موطن القلق الذي يفترض التساؤل حول المعني، والتواصل والكتابة ويفجر مسببات القلق الأدبي (1) .
وإذا كان النقاد يرفضون الرواية التاريخية، متعللين أن التاريخ ثابت بلا خيال.. بل إن الواقعة قد انتهت، فما الذي يمكن إضافته في الرواية كحدثٍ منتهٍ ! لكن هذه المادة التاريخية التي كُتبت كخبر بارد بين السطور في كتب التاريخ، ألا تحتاج خطاباً شاعرياً ملهماً لاستعادة تلك القيمة المنسية من المشاعر؟ ألا تستحق إعادتها كعبرة وكقيمة بتطلعات معاصرة؟إن إعادة تفكيك الحوادث الماضية والمؤلمة وفهم تفاصيلها وتركيبها من جديد، ومن ثم إنشاء الخطاب الروائي حولها.. يحتاج إلي خيال كبير لتخطي الحدود إلي الرحابة المفتوحة، وليصبح التاريخ رواية كالحلم تسحر القارئ، بل يضعه الروائي المستلهم في عالم لم يعشه وهو يقرأ. ويتهم النقاد روائيي التاريخ بأنهم يلجؤون إلي مصادر ومرجعيات تاريخية ثم يخالفونها ولا يتبعونها، لذا فهم يسيؤون للتاريخ نفسه بل ويهينون الرواية، ليعتقد القارئ المتلقي بصحة النقل التاريخي، وتصبح الرواية مجرد وسيلة لبلوغ الهدف.ورغم أن الرواية الآن تطورت وأصبحت تحمل معاني سامية، لكن يخشي النقاد من ضعف الخيال الروائي الذي يعد العمود الفقري للرواية، وكذلك الخوف من أن يصبح السرد الفني كالخبر، وينزلق الكاتب في تلك القيود بين جوهر الرواية والحقيقة التاريخية.الإنسان يحتاج إلي إعادة التوضيح من جديد لفهم الماهيات التي يعيشها، عن طريق التاريخ والأدب اللذين بينهما ارتباط إنساني عظيم.من الذي يجري خلف الآخر، التاريخ أم الإنسان؟.. بلا شك التاريخ هو اللاهث وراء الإنسان من عصر إلي عصر، باحثاً مستفسراً عن حقيقته ودوره في هذا الكون، لذا حين يتكبد الروائي بحثاً عن تلك الحكاية التاريخية التي ثبتت في محلها بين السطور وفي رفوف المكتبات، متخيلاً تلك الحكاية البعيدة ليعبّر عن غرضه الحقيقي وهو نقل الحدث روائياً، ومن ثم نقل قولا ما لم يقله التاريخ، أليس ذلك فناً جديداً ومعياراً أدبياً مبدعاً؟
هل الرواية تاريخ؟
الإجابات المبلورة حتي الآن انطلاقا من هذا السؤال تضع الرواية كنص أدبي، ضمن مصاف التاريخ . وعلي هذا الأساس تبدأ في إنجاز مشروعها النقدي الذي يحاسب الرواية بمسطرة التاريخ المسبقة . ضمن منظور يعتبر الفعل التاريخي، فعلا منجزا ومغلقا وفق نمطية (منهجية ) مسبقة . هذا العقل الناقد، ما يزال حتي الآن ماثلا بيننا، بل وفاعلا ومقوما(؟) أحيانا. ويكفي أن أسوق مقالا بسيطا ومحرجا لنتبين فداحة هذا النقد الإحالي للتاريخ ، حتي عندما يتعلق الأمر بنص مبدع ، أي ببنية مؤسسة جوهريا علي عناصر ودلالات تحكمها عملية التخيل أكثر مما تحكمها التنضيدات التاريخية للوقائع والأحداث ، تلك هي "آيات شيطانية " لسلمان رشدي التي حركت الكثير من القراءات الأدبية النقدية ، العربية ، لتتحول فجأة الي قراءات في نص يفترض وكأنه من التاريخ ، وبدأت في تقييمه علي هذا الأساس (تهديمه ؟) ناهيك عن اعتماد هذه القراءات علي الإعلامي، واليومي، والأيديولوجي والاستهلاكي، وبدون قراءة للنص . ويكفي - الرجوع لكتاب ذهنية التحريم لصادق جلال العظم (2 ) لنكشف هول الفاجعة .
إننا لا نبحث عن التاريخ في الرواية، أو حتي عن وظيفة التاريخ في الرواية، بل نحن نبحث عن تقنية الجمال الأدبي؛ من صور وحركات وتشبيهات وإلهام ومشاعر مختلفة.. خاصة بعد أن تقرأ ذلك التعبير الوجداني عن هذا الإنسان وسيرته وحكاياته المؤرخة روائيا.( 3 )
ولكن هذه الرواية تمزج بين عوامل كثيرة متناقضة بل ومتضاربة فهي نوع روائيّ، نزعم أنّه يفيض علي الرواية والسيرة الذاتيّة معا؛ وهو السيرة الروائيّة. وهو ليس من أدب التراجم ولا الاعترافات، وإنّما هو من "الأجناس التخييليّة" أو هو قصّة وتخييل، أو هو ملتقي الفنّ والحياة؛ أو"الحق" الفنّي و"الحقّ" التاريخي. ونقدّر أنّ نصوصا غير قليلة لنجيب محفوظ وإلياس خوري وغادة السمّان وواسيني الأعرج تنضوي ضمن هذا الجنس الرائج الآن والذي يمكن أن نسميه "السرد التخيّلي" حيث يلتبس التاريخ بالواقع والسيرة والرحلة أو السفر. والسرد أو القَصَص مهما يكنْ نصيبه من الواقع، أو من الإيهام به، لا يعدو كونه تخيّلا أو افتراضا. وخير دليل لذلك هو اقتصاص أثر اللغة نفسها في هذا النمط من الخطاب، والعلائق المعقودة
بين القصّ أو الإخبار في السياق الذي نحن به، والقصّة أو الحكاية. فثمّة صلات وثيقة بين الإخبار والحكاية، سواء في المستوي الزمني أو في مستوي الشخصيّة. وفي المستوي الأوّل يمكن أن نرصد علاقة التسلسل التاريخي أو الترتيب الزمني المعقودة بين فعل السرد أو الإخبار والأحداث المنقولة، علي ضوء الطريقة التي تُروي بها. والسرد المتوخّي في الروايةّ.
ونجده يشرح طريقة تفكيره التي تمزج التاريخ بالرواية في حوار مع محمد أحمد محمد بقوله عن طريقة تفكيره في الكتابة عن ابن لادن، أنها كانت "حلماً أو مجرد افتتان فني" ثم طورت الفكرة إلي جماعات الخروج في التاريخ الإسلامي، الخروج بمعني طلب السلطة أو الحكم، مما اضطرني لعمل بانوراما تاريخية لاستعراض فكرة طلب السلطة تحت راية الدين أو باسمها، فوجدت أن الكارثة أكبر من مجموعة خوارج جدد يرغبون في الوصول إلي الحكم أو اكتساب سلطة علي الناس باسم الدين، فقد وصل الأمر إلي أن أهدرت دماء لا حصر لها، وكان من الممكن أن يكون الأمر أقل وطأة لو أن الخروج لم يكن باسم الحفاظ علي الدين، ولم يكن الحفاظ علي السلطة باسم الدين أيضاً، ومن ثم فقد رأيت تاريخاً دموياً طويلاً يبدأ من أول خلاف عقب وفاة الرسول" (صلي الله عليه وسلم) وحتي مقتل عثمان ليفتح الباب علي سؤال لم تتم الإجابة عنه طوال التاريخ حتي سقوط مبارك، وهو كيف يمكن تغيير الحاكم إذا اختلف الناس علي أدائه دون أن يلجأوا إلي تكفيره هو وأنصاره، وكيف يستجيب الحاكم لطلب الرحيل دون أن يعلن عليهم الجهاد باسم الحفاظ علي دين الله، هذا السؤال ظل مؤجلاً حتي أسقط الناس سلمياً نظاماً عاتياً، ولم يكن قد سقط حتي ساعة الانتهاء من كتابة الرواية. إن هذا التصور للموقف الروائي نبع من القدرة علي ملاحظة التاريخ، واستخراج المشاعر المصاحبة لأحداثه، والقدرة علي المقارنة بين ما حدث في زمن ما وما حدث في زمن آخر، فالزمن هو اللعبة الكبري للحياة، هو ما يجعل التاريخ ماضيا، كما أنه هو ما يجعل الحاضر مجالا للقياس علي ما حدث سابقا، ولأن الزمن لا يمكن الإمساك به، فإنه كموج البحر ما يمضي لا يعود.
يقول صبحي موسي عن طريقة عمله في روايته السابقة (أساطير رجل الثلاثاء) إن المادة التاريخية كانت ضاغطة علي العمل بشكل واضح، وإنني لا بد من أن أتخفف كثيراً منها، فقد كنت أوردت صفحات من كتب التاريخ ومذكرات الجماعات وغيرها، كانت الفكرة توثيقية بامتياز، لكنني بدرجة كبيرة أكره فكرة العمل التوثيقي، وأشعر بأن الوثائق تخرج القارئ عن الموضوع، وتحول الأمر إلي كتاب علمي، وتحد من قدرة الكاتب علي التخيل وتوظيف المادة الوثائقية، الأمر الثاني أنني شعرت بأن المادة التاريخية التي ضمنتها كانت في سردها ولغتها أكثر أسطورية من كتابتي، وأنها بمثابة النص الأعلي والأكثر فتنة" وهنا يحدث الصدام بين التاريخ والرواية، فالتاريخ يحكي عما هو ثابت، وماض، ومتعال علي الزمن. أما الرواية فتعزف ألحانا من المشاعر التي لم يرها أحد، لا المؤرخون، ولا سواهم، ولا يستطيع أن يستعيد هذه الألحان إلا الروائي الموهوب القادر علي بناء عالم من الخيال يشرح ما غمض عنه المؤرخون، ويستعيد ما ضاع في حلقات الزمن الضائع.
وهذا هو عين ما حدث في رواية المورسكي، يمكن القول إن لعبة الزمن وتفتيته وتقسيمه علي عدة مسارات كانت الحاكم الرئيس في رواية "الموريسكي الأخير"، فقد قام كل زمن سواء القديم أو الحديث علي عدة أزمنة، أولها الحاضر ثم الماضي والماضي التام، ففي الزمن القديم قام الجد محمد بن عبد الله بن جهور بكتابة يوميات وأحداث ثورة البشرات الكبري التي شارك فيها هو ووالده، كما كتب أحداث الطرد التي شهدها بنفسه حتي مات في شفشاون بالمغرب بعد سنوات من الطرد، وفي خلال ذلك جاء الماضي البسيط الذي حكي فيه عن أولي ثورات الموريسكيين في الأندلس وهي ثورة البيازين عام 1495، أي بعد ثلاث سنوات من سقوط غرناطة، وهذه الثورة التي كانت جدته سبباً فيها حين خرجت بجواريها وخدمها إلي السوق فاعتدي الجنود الأسبان عليهن، مما جعل المسلمين يتجمعون لنصرتها فقامت الثورة التي سيطروا فيها علي حي البيازين واعتلوا أبراجه مغلقين أبوابه علي أنفسهم معلنين مجلساً ثورياً لقيادتهم، لكن هذه الثورة لم تستمر كثيراً، فسرعان ما أبدي الأسبان جانب الود وتنازل الثوار عن غضبتهم وفتحوا أبوابهم للإسبان الذين سرعان ما غدروا بهم وقاموا بتهجيرهم خارج البيازين وغرناطة، ثم جاءت إيزابيلا بنفسها إلي غرناطة لتعلن قرارها بالتنصير الإجباري علي كل من في الأراضي الأسبانية، ولأن الغالبية العظمي منهم كانت من المسلمين، وقلة قليلة كانت من اليهود، فقد ظهر مصطلح الموريسكيين الذي يعني النصرانيين الجدد، وهو مصطلح مأخوذ من كلمة مورو أي مغربي، فكل مسلم بالنسبة لهم كان مغربياً لأن المغرب كان المحطة التي انطلقت منها المسلمون من الشاطئ الجنوبي للمتوسط إلي الشاطئ الشمالي له، أما الماضي التام فكان ضرورة لإعطاء مقارنة بين ما يحدث الآن في العالم العربي من تقسمات ونزاعات وحروب الطائفية، وكان هذا الزمن بعد سقوط الخلافة في قرطبة وظهور ملوك الطوائف واستعانتهم بالأسبان أو القشتاليين لمحاربة بعضهم بعض، ومن ثم فقد رصدت الرواية هذه الحالة من الفوضي التي سادت قرطبة مع ظهور البربر بها، والتي انتهت بإنهاء الخلافة وتولي بني جهور الحكم، ليصبح الحزم بن جهور هو الجد الأول في الرواية لعبد الله بن جهور بطل أحداث ثورة البشرات العظمي ومؤسسها، بينما ابنه محمد هو كاتبها وراصد ما حدث من بعدها حتي ثورة بلنسية التي انتهت بقرار الطرد.
لعب موسي في هذه الرواية علي ثنائية الزمن بين الحديث والقديم، فقد بدأت الرواية بفصل في ميدان التحرير يرصد وقائع ثورة المصريين ضد مبارك ونظامه، أي ثورة الشعب ضد الحاكم، أي حاكم، وليكن الخليفة، أي الحاكم باسم الدين، ويتضح ذلك حينما نقرأ الأسئلة التي دارت في ذهن المؤلف، عن الشعب، وكيفية خلع الحاكم، وهل يجوز ذلك؟ وكيف يتصرف الحالكم المسلم في مثل هذا الموقف؟ ليكون هذا الفصل خطاً ظل يتقاطع في مساره مع الخط القديم الذي يبدأ مع أحداث السقيفة ويمتد علي طول جسد التاريخ الإسلامي - الذي يرصد حياة الموريسكيين في الأندلس حتي تهجيرهم عنها ما بين أعوام 1609 حتي 1613، وذلك عبر شخصية مراد رفيق حبيب وابنة عمته ناريمان وسعيهما لاسترداد وقف العائلة الذي خصصه جدهما الملتزم عطية الله لعائلة الموريسكي ورواق المغاربة بالجامع الأزهر، ظل هذا الخط يمتد ليرصد أحداث الثورة المصرية في ظل حكم المجلس العسكري وأحداث محمد محمود ومجلس الوزراء وبرلمان الإخوان حتي وصول الإخوان إلي الحكم، لنجد أنفسنا أمام لحظة تتشابه مع التاريخ القديم، حيث محاولة فرض دين بعينه علي المصريين، وظهور جماعات دينية موالية أخذت تقوم بدور محاكم التفتيش، لتنتهي الرواية وتلك الحقبة بسقوط حكم الإخوان في الثلاثين من يونيو، وليتحول الإخوان من جماعة كانت ترغب في فرض دينها إلي جماعة راغبة في هدم الدولة المصرية التي فشلت في جمع شملها.
يحدثنا (بول ريكور) في سلسلة (الزمان والسرد) عن (التصور السردي)، وهو عبارة عن عملية تصوُّر تنتجها المُخيلة المنتجة، ويفترض افتراضاً أن (التصوُّر) هو مصطلح مرادف (للقصص الخيالي)، إلاَّ أن هذا الافتراض سينتج عنه عدم إيجاد مصطلح يوضح العلاقات المختلفة بين هذين النمطين السرديين بمسألة الحقيقة. وإذن يشترك السرد التاريخي والسرد القصصي في كونهما ينبعان من العمليات التصورية نفسها التي يضعها (ريكور) تحت مسمي (محاكاة)، ولذلك فإن ما يخلق الضدية بينهما لا يتعلق بالفاعلية البنيوية المبثوثة في بنيتيهما السرديتين بوصفهما كذلك، بل ما يتعلق ب (ادعاء الصحة) - علي حد تعبير ريكور- الذي يميز العلاقة المحاكاتية الثالثة، وهي ستقودنا إلي العلاقة المحاكاتية بين (الفعل)و(السرد) التي تعتمد علي تعميق فكرة (الحبك) في مواجهة الفهم السردي الذي شكَّله اعتيادنا علي المرويات التي تتناقلها ثقافاتنا، مع العقلانية التي يستخدمها علم السرد اليوم، وإذا تساءلنا عن الفرق بين الرواية والتاريخ، لوجدنا أننا أمام شبح التاريخ، أو جسده المقطّع، كما يتصوره دعاة ما بعد الحداثة المشككون بتخريجات علم التاريخ.. فالكاتب لايأبه لعلاقات الزمن الكرونولوجي التراتبية، فهو حر تماما في الانتقال من زمن إلي آخر، بنفس القدرة السحرية التي تمكنه من الانتقال في المكان بلا أي عائق، فالرواية تبدأ من ميدان التحرير، ومن ثورة شعب ضد حاكمه الظالم، إلي ثورة شعب آخر ضد حاكمه الظالم أيضا، تماما كما حدث في زمن الخوارج وصولا إلي ثورة البشرات، وامتدادا إلي ثورة الموريسكيين، والكاتب حر أيضا في رسم شخصياته، فمن الممكن أن يتحول مراد إلي المورسكي، فالكاتب يذكر مراد باسمه هذا، وبعد سطور قليلة يذكره بأنه المورسكي، والعكس صحيح، خصوصا في الفصل الختامي الذي يعود بالشكل الروائي إلي الشكل الدائري، وبذا يتركنا الروائي في حيرة من أمرنا لأنه انطلق في رحاب الحرية الفنية بلا أي معوقات ولا موانع، ولكن عالمه الذي شيّده مقنع لأن مادته من طين الواقع وقد أعيد تشكيله بقدرة الفن، ولأن النص الذي أنجزه زائف بالمعيار الواقعي، من جهة ثانية. لكنه يتوفر، بالرغم من ذلك، علي الشرط الأساس في كل عمل سردي.. أقصد؛ الصدق الفني والقدرة علي الإقناع.
الهوامش :
1 - فريد الزاهي، الحكاية والمتخيل . افريقيا الشرق . الدار البيضاء ، 1991ص.
2- صادق جلآل العظم . ذهنية التحريم .دار نجيب الريس . لندن 1992.
3 ريم الكمالي، الرواية التاريخية والنقاد، مقال علي الشبكة العنكبوتية في 13 مارس 2014.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.