حين التقيت بيلجه قرسو في برلين أول مرّة، وكان هذا في صيف 1991، كنت طالب دكتوراه بدأ للتوّ تجاربه الأولي في حقل الترجمة. كنت قد رتّبت مع الكاتب الألماني من أصل تركي »ظافر سينوجاك« سلسلة من الأمسيات الأدبيَّة في المنتدي الأدبي literarisches colloquium بهدف تقديم كُتّاب أتراك مُعاصرين للجمهور المتحدّث بالألمانيّة. وفي مسعي لإيصال أصواتهم، دعونا مِن تركيا فاضل حسني داغلرجه وتومريس أويار وبينار كور ومورتان مونغن وأروهان باموق وآخرين، ورتبنا لهم اللقاء مع كُتّاب برلين. آنذاك، لم تكشف دور النشر الألمانية إلا عن اهتمام قليل بتركيا والأدب التركي، في حين كانت تتصدّر حفنة الكتب المترجمة التي نُشرت في ألمانيا حتّي ذلك الوقت صورة مسجد أو حمّام تركي غلافاً لها. كُنّا نتوق لتحديث هذا التصوّر وتقديم تركيا بوصفها حيزاً لحداثة مُحتملة، فأعددنا مجموعة من الكتابات التركيَّة المعاصرة التي نشرت في أولي كُتب دار النشر المؤسسة حديثاً بابل فرلاجز بغلاف أزرق تجريدي صممه فنان الجرافيك داجمار فون فيلكن، واخترنا له عنواناً مستوحيً من فاضل داغلرجه: سماء تنتمي لكل كلمة (1991). بدأت ترجمة حديقة القطط الرّاحلة لقَرَسو كي أضمها إلي الكتاب. كان بيلجه قرسو ينتمي إلي جيل أبي وكانا صديقين في الجمعيَّة اللغويَّة التركيَّة. كنت قد سمعت اسمه، دون أنْ ألتقي به أبداً. وكان النّاقد التركي أكسيت جوقتورك قد كتب تصديراً لرواية قرسو ليل (1985) طرح فيه فكرة أنّ نصّ قرسو يقاوم توقعات القراء الكسالي الّذين يبحثون عن سببيَّة خطيَّة في أي حكاية. وكان قرسو قد اشتهر بأنّه كاتب صعب وملتبس. كنت أري في قراءة قرسو ضرورة مُلحّة وفي استيعابه ضرورة أكثر إلحاحاً، هكذا أصبح إلمامي يزداد بكتاباته فضلاً عن استمتاعي التّام بها، ومن ثمّ سبرت أغوارها من جديد من خلال الترجمة. كانت الترجمة أيضاً سبيلي للحفاظ علي لغتي التركيَّة في برلين، والإبقاء عليها حيَّة. لغة قرسو عارية مثل بلورة، منطقيَّة وخلاقة دون أثر لإسراف أو فداحة. وقد كان هدفي صناعة نصّ يساوي نصّه شفافيَّة وتدفق باللغة الألمانيَّة. أثناء ترجمة عنوان أولي قصص الجنّ بالكتاب، مثلاً، وظّفت منهجاً في الترجمة عكس أسلوب قرسو، بدلاً من إنتاج كلمة مقابل كلمة. مثلاً، حكاية الصياد الّذي نهشت ذراعه سمكة حملت عنوان Avindan El Alan أو: استئذان الفريسة، ولما كانت عبارة el almak تعني حرفيَّاً يغوثز التي تشير ضمناً لطلب الإذن من السيد، فإنّ عنوان هذه القصّة يعتبر الفريسة سيداً. اخترت أن أترجم هذا العنوان علي النحو التالي: التحديق بفم الفريسة Der Beute aufs Maul geschaut، الّذي يُشير مجازاً إلي تعلّم شيء من الفريسة من خلال الملاحظة الحميمة. أول من صاغ عبارة aufs Maul geschaut والتي تعني النظر داخل الفم هو مارتن لوثر، وكانت معياراً جوهريَّاً اقتدي به أثناء ترجمة الكتاب المقدّس. لقد أعربت عبارة مارتن لوثر Dem Volk aufs Maul geschaut أو: النظر إلي أفواه البشر، عن رغبته في صناعة ألمانية متداولة في الترجمة ألّفت بين اللهجات الدينيَّة المختلفة. تطلّب هذا بالطبع مراقبة حميمة للناس أثناء الكلام، وبالتبعيَّة الجانب الجسدي للعبارة فيما يتعلّق بالفم. كان هدفي الإمساك بمدلول ستعلّم شيء مِن مجاز السلطة إلي جانب حسيَّة التآلف، والتجربة الحياتيَّة الخاصة بالالتهام المتبادل للسمكة والصيّاد. تصادفت قراءة بيلجه قرسو في المنتدي الأدبي في فانسي ببرلين يونيو 1991 مع المباراة الأدبيَّة السنويَّة في كلاجنفورت في النمسا، حيث فازت الكاتبة والممثلة المسرحيَّة »أمينة سيفجي أوزدمار« بجائزة انجبورج باخمان ذلك العام عن رواية: الحياة ما هي إلا خان. لقد ذكرنا البث الإذاعي لقراءة الرواية والمناقشات في كلاجنفورت في بهو المنتدي الأدبي في برلين مرّة أخري كيف تغافلت المؤسسة الأدبيَّة الناطقة بالألمانيَّة عن الإنتاج الأدبي في تركيا. وبدا أنّ الاختراق المبدئي الجاري آنذاك، وأقصد بذلك كتابات المهاجرين الفولكلوريَّة في ألمانيا، منفصل عن الاستقبال الّذي تأخّر طويلاً للحداثة التركيَّة. في خلال ذلك، أغرينا قرسو بنقاشات ممتعة عن كافكا وكالفينو وبورخيس وكورتاثار، عن سيينا والمدن الإيطاليَّة الأخري، عن الحلويات والقطط والسينما والأوبرا والأقليات والمجتمعات الكوزموبوليتانيَّة. أنهيت ترجمة حديقة القطط الراحلة في اسطنبول عام 1993، والتقينا مرّة أخري في أنقرة لمراجعة الترجمة. كان بيلجه قرسو شخصاً لا يُنسي، وقد استرجع مورتان مونغن بشكل جميل في حديثه بملتقي سقراءة بيلجه قرسوز حِسّه السّاخر، واتقاده المتبحِّر، ودِقّته المفرطة في كل عوالم العمل ذ سواء أكان يقطف أوراق البقدونس أو يُحرر ترجمة. قمنا بقراءة بلغتين داخل القنصليَّة الألمانية في اسطنبول معاً وخططنا للقاء آخر في برلين، ورتبا له عضويَّة في الهيئة الألمانية للتبادل الثقافي. كان قرسو قد كتب نص أوبرا Kidememek »العجز عن الرحيل« والمستوحي من الحكاية الثانية في كتاب حديقة القطط »الرجل الّذي فوّت نزهته ليلة تلو أخري« لمشروع أوبرا مشترك مع الملحِّن رولف بومجارت، لكن لسوء الحظّ لم يتمكّن قرسو من العودة أبداً إلي برلين كي يبصر إنتاج مشروعه؛ إذ توفي في صيف 1995. رفضت دور النشر الألمانيَّة الراسخة الاضطلاع بمهمة نشر ترجمتي لحديقة القطط الراحلة، بذريعة عدم وجود قراء لها، وأنّ الكتّاب الأتراك كانوا يكتبون كما لو كانوا مازالوا يعيشون في القرن التاسع عشر. كانت الجهود المماثلة لتقديم كُتّاب يتخيلون جوهر أوربا إلي أوربا تنتهي غالباً إلي طريق مسدود، مع الاشتباك بتحدي تقديم صورة مُغايرة لتركيا من خلال الأدب والفنون الأخري. وقد نمت نقاشاتي مع الناشرة Müge gürsoy في دار نشر ميتيس التركيَّة الرائدة في هذا السياق. في النهاية وافقت دار نشر صغيرة في فرانكفورت هي Literaturca علي نشر الترجمة الألمانيَّة للكتاب عام 2002. أثناء تلك السنوات، هاجرت إلي ساوثهامبتون بانجلترا، ثمّ إلي بركلي بولاية كاليفورنيا. وساعدتني هذه التجربة في الترجمة واختبار العقبات المتواصلة أمام الاستقبال الألماني لها علي شحذ اهتمامي بمسائل التمثيل والرواج في السوق الثقافي. كان الاهتمام العالمي بتركيا والأدب التركي قد ازداد بصورة هائلة، فوز أورهان باموق بجائزة نوبل للأدب عام 2006، إلي جانب قرار معرض فرانكفورت الدولي للكتاب عام 2008 باستقبال تركيا كضيف شرف، مجرّد مؤشرين هامين علي هذا التحوّل بالسنوات الأخيرة. كما ترجم جونلي جن وارون أجيه كُتب قرسو إلي اللغة الإنجليزيَّة وقاعدة قرائه الناطقين بالإنجليزيَّة تشهد اتساعاً مستمراً.
غالباً ما نفترض أنّ القصص القصيرة والراويات التي تنتمي للأدب التركي محدودة بالنطاق التركي. وتميل الدراسات عن رواية قَرَسو ليل، سواء كتبت تلك الدراسات داخل أو خارج تركيا، إلي قراءتها بوصفها استعارة اجتماعيَّة عن الانقلاب العسكري الّذي وقع في الثاني عشر من مارس عام 1971 علي النقيض من ذلك، تحملنا حديقة القطط الراحلة، ومساء يوم طويل إلي أوروبا متخيَّلة غير محصورة بالنطاق التركي، بل تمتد إلي جغرافيا البحر المتوسط المحيطة. تقع أحداث القصة الإطار في حديقة القطط الراحلة بمدينة صغيرة بالقرون الوسطي حيث تُمارس لعبة غامضة، يشترك فيها حوالي خمسمائة مواطن من أهل البلدة في أزياء تقليديَّة تعود للقرن الخامس عشر بموكب يعيد تمثيل أسطورة من عام 1454 تقريباً، يقع فيها نبيلان في حب الابنة الكبري لأمير القلعة فيأمرهما بتسوية خلافاتهما عبر مباراة شطرنج، بدلاً من المبارزة التقليديَّة. يتألف الكتاب مِن اثنتي عشرة حكاية جنيات تتداخل معاً في الحكاية التي تحمل العنوان. تصف فوسون أكاتلي بناء الكتاب كالتالي: سمن البداية إلي النهاية، تتموضع الحكاية الثالثة عشرة حديقة القطط الراحلة داخل الحكايات الأخري، قطعة قطعة. وتكرر الحكاية الثانية عشرة منتصف الليل بناء الكتاب بإيجاز: أحد أشكال السرد الشرقيَّة التقليديَّة (حكايات داخل حكايات، أطر داخل أطر) الانتساب إلي »أشكال السرد الشرقيَّة« التي يضطلع بها قرسو هُنا يمكن قراءته كإشارة لأول كتاب حكايات خرافات في الأدب العالمي وهو كليلة ودمنة. كُتبت هذه الحكايات باللغة السنسكريتيَّة قبل أن تترجم في وقت مبكِّر إلي اللغتين العربية والفارسيَّة. تطرح تقانة الانقطاع حيث تنير القصص وشظايا القصص بعضها الآخر بطرق ديناميكيَّة، حِسّاً زمانيَّاً قائماً علي التواقت أكثر من التتالي الخطي والتسلسل. جميع القصص في حديقة القطط الراحلة تفرض وتستنطق الحدود الفاصلة بين الهويات الفرديَّة. فإلي جانب التأليف بين البشر والحيوانات مثل الرجل السمكة أو راهب العصور الوسطي الّذي أحاط جسده بنصف يربوع ونصف نمس، تدفع القصص بسلسلة من المتناقضات بين الذّات والآخر، المحلي والأجنبي، القريب والبعيد، الحداثي والتقليدي، النور والعتمة، والحياة والموت. وتؤكِّد التحولات أو Metamorphoses علي نحو متكرر التجاور بين المحبّة والالتهام، فالرجل والسمكة، البشر والحيوان، الشاطئ والمحيط باستمرار في حالة من التحوّل والغياب أو الصيرورة. ما من شكل ثابت، والنصّ نفسه هو الآخر هدف مستمر للتغيّر من خلال فعل القراءة. إنّ الرغبة الشاذة التي تبثّ الحياة بالحكاية الإطار والانزياح بين الأنا والهو عند نهاية العلاقة اللعبة تترك القارئ في حالة التباس بشأن الشخصية التي تروي القصة بالتحديد. وكما تتبادل الشخصيات أماكنها، هكذا يفعل الكاتب والقارئ: لأي مدي كنت ناجحاً في وصف ما عرفته من خلال عينيه؟ في واقع ناسخ، تُري أي شيء اعتبرناه واقعنا، برغم كلماته، علي غراره؟ كان طويلاً داكناً. أمّا أنا فمؤرِّخ، هذه حقيقة. باقي القِصّة اختلقت أغلبها بينما كان يكتب إلي جانب النافذة الواسعة التي تطل علي المدينة المجاورة للتلال هذه، نائماً في الفراش علي جانبي الشمال، أو أقرأ وأنا أجلس علي الأريكة بين الطاولة والسرير، أشيح ببصري بعيداً عن النافذة. (الحديقة، ص256) إنّ جغرافيا »أنا« و»هو« مشوشة، و»المدينة المجاورة للتلال« تستحضر صورة مجازية لأنقرة التي بدّلت نفسها بوتيرة سريعة من بلدة ريفيَّة وسط سهول الأناضول إلي عاصمة الجمهوريَّة التركيَّة الشابة في منتصف الثلاثينات. لا يعكس النصّ جغرافيا محليَّة تتشكل فوق الخرائط، بل جغرافيا متخيَّلة، بناء أدبي يذيب الأماكن التي نذكرها بوصفها واقعاً. فيما يتصّل بهذا الشأن نستطيع النقاش بشأن تهيئة حديقة القطط الراحلة التي نُشرت أول مرّة عام 1979 المسرح لرواية أورهان باموق القلعة البيضاء المنشورة عام 1985. ذلك أنّ السرد في رواية القلعة البيضاء مؤطّر بحكاية عن مؤرخ، وفي نهاية الرواية يتبادل السيد والخادم الإيطالي مكانيهما. ومع غياب الحدود الفاصلة بينهما، تصيب القارئ حيرة بشأن هوية الراوي، ومن احتال علي من.
ترتكز نصوص حديقة القطط الرّاحلة علي ثيمات الإظهار والفرجة والسفر، وتُعدّ السينما مصدراً هامّاً للقصص والأحلام والتحولات في تلك النصوص. كانت الناقدة التركيَّة فوسون أكاتلي قد وصفت كتاب قَرَسو الأول، الموت في طروادة، بوصفه نصّاً فسيفسائيَّاً. هِو يتعدي مسألة الفسيفسائيَّة، ذلك أنّ الطبيعة الديناميكيَّة لحديقة القطط الراحلة يُمكن وصفها بالنصّ السينمائي، وهذه الطبيعة السينمائيَّة خلقتها اللغة. ومع أنّ النصوص لا تشير إلي الأفلام صراحة، إلا أنّها تعدّ مصدراً هامّاً في كتابة قرسو مثل الموسيقي والرسم؛ فالسينما وسيط يستطيع إطلاق أعنّة الأماكن وتحريك الجغرافيا. ... تعدّ حكاية سالرّجل الّذي فوّت نزهته ليلة تلو أخريز مثالاً ممتازاً علي هذا. تطوِّر هذه القِصّة منظوراً ينقسم إلي شطرين. في ثنايا عبارات وأجزاء مبتورة تتطوّر من الدّاخل للخارج، يتطوّر النصّ بصريَّاً من خلال صور تتردد بين منظوري الرّاوي والمتلقي. في الوقت ذاته الّذي تمشي فيه الشخصيَّة الرئيسيَّة داخل سوق مزدحم بحثاً عن حافلة تقله إلي سازانديره، مدينة أحلامه الساحليَّة، يرصد نفسه أيضاً من أعلي مثل شخصيَّة تمثِّل في فلم. يشرح ارفنج جوفمان في نظريته عن التأطير، أنّ أي نشاط موضوع داخل إطار مُحدد يجري تطويره من خلال تجاهل معاني أخري تبقي خارج الإطار. وبحسب نظرية الناقد السينمائي الفرنسي أندريه بازين، فإنّ الإطار يشبه قناعاً يحجب النظر، وما يبقي خارج الشّاشة ربّما يساوي في الأهميَّة ما تعرضه تلك الشاشة. إنّ انتباهنا يتنقّل باستمرار أثناء التركيز علي الإطار بين مسائل وأطر أخري خارج الإطار الأول. وبدلاً من مشاهدة ومتابعة قِصّة واحدة من البداية إلي النهاية، ويبدو وكأن حديقة القطط الرّاحلة من خلال استخدامها للتأطير والتداخل، قصص داخل قصص- تطرح علي القارئ في عصر الوسائط المتعددة نظرية حديثة مُجرّدة بشأن القراءة والسفر. لكن مِن أي الأفلام استوحي قرسو هذه الطريقة السينمائيَّة في السرد؟ أي الأفلام كان يشاهدها أثناء تأليف هذا الكتاب؟ أي الأفلام تشير إليها حديقة القطط الراحلة؟ الإشارة الوحيدة التي عثرت عليها لفيلم كانت في حكاية »في مديح السلطعون« وهي لفيلم Blanche للمخرج فاليريان بورفجيك. كان بورفجيك مخرجاً ورساماً بولنديَّاً ولد عام 1923 اشتهر بأفيشات أفلامه والسينما السرياليَّة التي يقدمها قبل أن يهاجر إلي باريس عام 1959 حيث واصل إخراج أفلام فانتازيَّة. يبقي بورفجيك عالقاً في الذّاكرة بأفلامه التي جاءت ضد الرقابة، مثل المشاهد البورنوجرافيَّة الشهيرة في فيلمه La Bête كما وصفه بعض النقاد كواحد من أوائل فناني السينما الحديثة. تُقارن أعماله بسخرية كافكا ولويس بونويل السوداء. تمّ تصوير Blanche في فرنسا عام 1971،من بطولة زوجته ليجيا برانتسيا ويدور داخل أحد القصور بالعصور الوسطي ويحكي قصة امرأة شابة جميلة وزوجها الملك العجوز الغيور. أثناء ترجمة حديقة القطط الراحلة في التسعينات، قبل ظهور جوجل ويوتيوب، ظلّت هذه الإشارة لفيلم ومخرج لم أكن أعرفهما خارج الإطار المرجعي لي. الآن يستطيع القارئ أو المشاهد بسهولة البحث عبر جوجل ومشاهدة شريط الدعاية لهذا الفيلم علي يوتيوب. المشهد الأول لغابة غائمة، نعرف بعده أنّ الفيلم عن تراجيديا Mazeppaللكاتب البولندي يوليوش سوفسكي والتي كتبها في منفاه بباريس عام 1889 بعدئذٍ تنقطع الصورة فجأة، وتدخل حمامة بيضاء كالثلج ترفرف داخل قفص، الشاشة. نعود لمشهد الغابة مرّة أخري ويتضح قصر في قلب الضباب. نري بعدها امرأة شابة تبزغ من المغطس يغطي جسدها العاري جزئيَّاً حجاب دانتيل وشعرها الطويل والمنشفة التي تجلبها خادمة وتلفها داخلها. نرجع من جديد للحمامة البيضاء التي ترفرف داخل قفصها ونفترض أنّ هذا الطائر الحبيس يحمل دلالة مجازية، يؤكدها اللون ونحن نري المرأة وقد ارتدت ثوباً وغطاء للرأس في بياض الثلج، تلبس حليها. وبين تلك المشاهد، يسترجع الفيلم مشاهد من القصر. ثمّة غناء يزغرد يرافق كافة تلك الصور. ونعرف لاحقاً أنّ الموسيقي تصويريَّة يعزفها فريق من أربعة عازفين يظهرون علي الشاشة وأنّ الغناء يؤديه سوبرانو. يقوم المشاهدون المؤطرون داخل نافذة بتحليل الأغاني، وكما تشير تلك الشظية الصغيرة، فإنّ الماضي ليس إلا معزوفة خجولة في هذا الفيلم يرافقها استخدام يقظ للأزياء والصوت والتحرير. تعطل مشاهد الغابة والطائر الحبيس الممنتجة تيار السرد الرئيسي وتشكّل زمناً ومكاناً مشابهين للزمان والمكان في حديقة القطط الراحلة. نأنس سخرية عبثيَّة كرنفالية- تقترب من مونتي بايثون- في الإخراج المسرحي للموسيقيين والمتفرجين. إذا قرأنا حديقة القطط الراحلة في معيَّة هذا النص البصري تبدأ أوجه التشابه في الظهور، ومن مكان لآخر في الكتاب ننتبه كذلك إلي سخرية سوداء وجمالية حيوانية عبثيَّة تقريباً تمتزج مع المنعطفات المصيريَّة في قصص عديدة. وحال اعتبارنا فيلم بياض كلاً متكاملاً، نصادف ما يماثل ثيماته كالحب والغيرة والرغبة المستحيلة والموت في حكايات قرسو. لكن ما يتجاوز سلسلة الأحداث داخل القصص، إمكانيَّة التأسيس تماثل في مستوي المكون البصري والظروف المحيطة والأسلوب السينمائي في الحكي. ربما يكون قرسو قد شاهد هذا الفيلم الّذي نوّه عنه بالمركز الثقافي لفرنسي في أنقرة. وبدلاً من السفر إلي إيطاليا، ربما يكون قد ارتاد السينما. أحد الأجوبة علي سؤال : أين أوروبا؟ هِو: أوروبا داخل السينما! والذيوع والتحوّل بين الميديا المرئيَّة والأدب يكمنان في أساس جغرافيا متخيَّلة.