وزير الخارجية الأمريكي: استخدمنا الفيتو لحماية جهودنا الدبلوماسية ولن نتخلى عن دعم إسرائيل    ناجي الشهابي مهنئًا الرئيس السيسي بعيد الأضحى المبارك: نقف خلفكم.. ومواقفكم أعادت لمصر دورها القيادي    أسعار الفراخ والبيض في بورصة وأسواق الشرقية الخميس 5 يونيو 2025    المصرية للاتصالات WE تطلق رسميًا خدمات الجيل الخامس في مصر لدعم التحول الرقمي    «أضحى الخير» يرسم البسمة على وجوه 5 آلاف أسرة بالوادي الجديد.. صور    حزب الوعي: نخوض الانتخابات البرلمانية على 60% من مقاعد الفردي    زعيم كوريا الشمالية يتعهد بدعم روسيا دون قيد أو شرط في الحرب ضد أوكرانيا    قرار ترامب بحظر دخول مواطني 12 دولة إلى الولايات المتحدة يدخل حيز التنفيذ 9 يونيو    قاضٍ أمريكي يوقف ترحيل عائلة المصري المشتبه به في هجوم كولورادو    «اصبر أحنا مطولين مع بعض».. محامي زيزو يتوعد عضو مجلس الزمالك بعد واقعة الفيديو    رد جديد من اتحاد الكرة بشأن أزمة عقد زيزو مع الزمالك: «ملتزمون بهذا الأمر»    ملامح تشكيل الزمالك أمام بيراميدز في نهائي كأس مصر.. الرمادي يجهز أسلحته    بعثة الأهلى تغادر مطار دبى إلى أمريكا للمشاركة فى كأس العالم للأندية    ارتفاع درجات الحرارة والعظمى في القاهرة 35.. حالة الطقس يوم عرفة    نتيجة الشهادة الإعدادية 2025 بالجيزة.. الموعد و خطوات الاستعلام عبر الموقع الرسمي    إصابة 3 أشخاص في انقلاب ملاكي بمحور أسيوط - الوادي الجديد    طرح البوستر الدعائي الأول ل "the seven dogs" بطولة كريم عبد العزيز وأحمد عز    بث مباشر جبل عرفات الآن لحظة بلحظة.. توافد الحجاج على عرفة لأداء ركن الحج الأعظم    دعاء فجر يوم عرفة للرزق وتيسير الأمور وقضاء الحوائج.. ردده الآن    تهنئة عيد الأضحى 2025.. أجمل عبارات التهنئة لأحبائك وأصدقائك (ارسلها الآن)    «صحة مطروح» تستعد لعيد الأضحى    موعد أذان الفجر اليوم في القاهرة وجميع المحافظات للصائمين يوم عرفة    الإفتاء تحسم الجدل.. هل تسقط صلاة الجمعة إذا وافقت يوم العيد؟    غرفة عمليات ذكية لضمان أجواء آمنة.. صحة مطروح تُجهز الساحل الشمالي ل صيف 2025    ب3 أرقام.. كريستيانو رونالدو يواصل كتابة التاريخ مع البرتغال    بحضور نجوم الفن.. حماقي وبوسي يحييان حفل زفاف محمد شاهين ورشا الظنحاني    أحمد سالم: صفقة انتقال بيكهام إلى الأهلي "علامة استفهام"    رسميًا.. الهلال السعودي يعلن تعاقده مع سيموني إنزاجي خلفًا لجيسوس    «الأرصاد» تكشف عن حالة الطقس اليوم الخميس.. والعظمى بالقاهرة 35    أمين مجمع البحوث الإسلامية الأسبق يكرم حفظة القرآن الكريم بمدينة طهطا    9 ذو الحجة.. ماذا يفعل الحجيج في يوم عرفة؟    بعد ارتفاع عيار 21 لأعلى سعر.. أسعار الذهب اليوم الخميس 5 يونيو بالصاغة محليًا وعالميًا    نجاح أول جراحة لاستبدال الشريان الأورطي بمستشفى المقطم للتأمين الصحي    نصائح مهمة يجب اتباعها على السحور لصيام يوم عرفة بدون مشاكل    صحة الإسكندرية ترفع درجة الاستعداد القصوى خلال إجازة عيد الأضحى    نجاة السيناريست وليد يوسف وأفراد أسرته من حادث سير مروع    أغانى الحج.. رحلة من الشوق والإيمان إلى البيت الحرام    أيمن بهجت قمر يحتفل بتخرج ابنه: أخيرا بهجت عملها (صور)    التعليم العالى تعتزم إنشاء أكبر مجمع صناعي للأجهزة التعويضية    مطار العاصمة الإدارية يستقبل أولى الرحلات القادمة من سلوفاكيا على متنها 152 راكبا (صور)    محافظ الدقهلية يتابع عمليات نظافة الحدائق والميادين استعدادا للعيد    الرسوم الجمركية «مقامرة» ترامب لانتشال الصناعة الأمريكية من التدهور    حدث ليلًا| استرداد قطعًا أثرية من أمريكا وتفعيل شبكات الجيل الخامس    دعاء من القلب بصوت الدكتور علي جمعة على قناة الناس.. فيديو    الوزير: "لدينا مصنع بيفتح كل ساعتين صحيح وعندنا قائمة بالأسماء"    قبل صدام بيراميدز.. كم مرة توج الزمالك ببطولة كأس مصر بالألفية الجديدة؟    القائد العام للقوات المسلحة ووزير خارجية بنين يبحثان التعاون فى المجالات الدفاعية    "عصام" يطلب تطليق زوجته: "فضحتني ومحبوسة في قضية مُخلة بالشرف"    مفتي الجمهورية يهنئ رئيس الوزراء وشيخ الأزهر بحلول عيد الأضحى المبارك    حفروا على مسافة 300 متر من طريق الكباش.. و«اللجنة»: سيقود لكشف أثري كبير    مسابقة لتعيين 21 ألف معلم مساعد    «مدبولي» يوجه الحكومة بالجاهزية لتلافي أي أزمات خلال عيد الأضحى    دبلوماسية روسية: أمريكا أكبر مدين للأمم المتحدة بأكثر من 3 مليارات دولار    مصادر مطلعة: حماس توافق على مقترح «ويتكوف» مع 4 تعديلات    قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم عزون شرق قلقيلية بالضفة الغربية    الأمم المتحدة تدعو إلى التوصل لمعاهدة عالمية جديدة لإنهاء التلوث بالمواد البلاستيكية    نجل سميحة أيوب يكشف موعد ومكان عزاء والدته الراحلة    فوائد اليانسون يخفف أعراض سن اليأس ويقوي المناعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ذكرى ميلادها الخامس والثمانين.. داليدا العنقود الروحي الهش
نشر في صوت البلد يوم 25 - 02 - 2018

لعل السؤال المحير الذي يراودني دائما عند التفكير بالفنانة داليدا، إذا كانت رسائل المحبة تصل لأصحابها الراحلين مباشرة أم تظل عالقة وقتا بين السماء والأرض، ريثما يكون المتلقي جاهزا لاستقبالها.
الصورة الأولى في ذاكرتي للفنانة داليدا حين كنت في السادسة من عمري، أجلس أمام تلفزيون لبنان، أشاهد استعراضا للرقص، أجلس منبهرة أمام الشاشة الصغيرة، بينما جدتي وجارتها تحتسيان القهوة، ويلفت انتباه الجارة أنني مأخوذة بحركات داليدا ورقصها، من دون أن أعرف من هي، فتكسر خيالاتي الطفولية بعبارة: «ههه …تعجبك إنها في عمر جدتك»، أحول نظري بين الشاشة وجدتي…كنت أحب جدتي، لكني لم أجد بينهما أي قاسم مشترك، تلك العبارة ظلت عالقة في ذهني كلما شاهدت هذا الاستعراض.
في عام 2007، أعادت المغنية الكندية إميلي بيغن، تأدية الأغنية في كليب لم تجتهد لأن تضمنه أي نوع من الحساسية الموجودة في الاستعراض الأصلي، بل جاء كليبا مبتذلا، لا يجد فيه المتلقي إلا تكرارا للكلمات التي غنتها داليدا، مع فقدان أية تقاطعات أخرى.
«حلوة يا بلدي»
بعد سنوات قليلة من الصورة الأولى، كانت أغنية «حلوة يا بلدي»، ثم فيلم «اليوم السادس» مشاهدات أخرى غير مقصودة، لم تعن لي أغنية «حلوة يا بلدي» شيئا كثيرا، وجدت في كلماتها وآدائها مجاملة مفرطة، تشبه الفلكلور المصنوع خصيصا للترويج السياحي، أكثر مما هو أداء حب عميق ميز أغنيات أخرى لها.
أما فيلم اليوم السادس، فيطول الحديث بشأنه، سواء في ما يتعلق بإداء داليدا، أو ارتباطه بالمرحلة الزمنية من عمرها، وما أحاط بها من أحداث عاطفية وفنية، فبدت في الفيلم امرأة حزينة تغلب شخصية داليدا الحقيقية وحزنها على الدور الذي تؤديه.
«العنقود الروحي»
في السادسة عشرة من عمري بدأت رحلة اكتشافي لداليدا بشكل فني هذه المرة، بعيدا عن الانجذاب العاطفي الطفولي، ثم تداخلا معا بشكل يصعب فصله، فتبدو تلك المرأة الجميلة الهشة وكأنها في حديث متصل قريب أكثر مما أظن، وبلا تفسير سوى الاستعانة بعبارة «العنقود الروحي» التي تجعل بعض الأشخاص قريبين أكثر من غيرهم بلا مبرر منطقي مقبول أو مفهوم، لكن في النتيجة الاستغراق في طرح التساؤل يبدو غير مجد، بقدر أن نترك الأشياء تُعبر عن ذاتها بتجرد، كما في أغنيتها « كلمات» التي أدتها مع آلان ديلون،في رهافة يصعب فصل معانيها عن الاحساس بخيبة الأمل، والخوف من الهجر والوحدة.
«تأمل الجبل»
لنقل أن الفقد بمعناه الشمولي والأوسع شكل حجر الأساس الأول في حياة داليدا، وشخصيتها.فقد العاطفة الأبوية السليمة، فقد الأمان، فقد الوطن، بالتوازي مع وجود بركان داخلي من الفن والاحتياج للحب يحتاج للتدفق ملقيا بحممه التي جاءت حارقة أحيانا.
ثمة نوع من أنواع التأمل يسمى «تأمل الجبل»، تقوم فكرته أن كياننا الداخلي يشبه الجبل، مرة يعلوه الاخضرار، وأخرى الثلوج، ومرة يكون أجردا ، الجبل راسخ في وجوده لكنه يتغير من السطح فيما داخله ثابت، ثم يأتي إليه الزوار ويدلون بآرائهم بشأنه قائلين: «أوه إنه مذهل جدا..أو إنه ليس جميلا كما ظننا..أو الجبل السابق كان أجمل من هذا..الخ».
لعل التشبيه الأقرب لداليدا هو القول إن الكيان الداخلي لجبلها لم يكن مستقرا بسبب الأذى الذي تعرض له من قبل مرتاديه، لقد ترك كل زائر بصمات ثقيلة على كيان الجبل سببت في تأذيه ونزوعه إلى التفتت رويدا رويدا ..هكذا هي داليدا، لذا في الرابعة والثلاثين من عمرها وقفت لتطرح سؤالها المؤلم قائلة: «في هذا العمر من دون أمل، من دون حب، من دون أطفال».ربما ما تؤكده حياة داليدا أن السعادة أو الرضا محض هبة داخلية ليس للعالم الخارجي علاقة بها.لم تفعل الشهرة شيئا، ولم يجلب المال ولا الحظ البراق الاطمئنان أوالأمل لصاحبته.
بعض الأشخاص يبدو وجودهم الهش والضبابي حقيقيا، أكثر من وجودهم الواقعي، وهذا الأمر ليس اختياريا أبدا، أن يولد الإنسان ويعيش وفق كيان هش قابل للانكسار بسبب قسوة الحياة عموما وأنانية الآخرين، أمر لا علاقة له سوى بوجود حالة من النبل الداخلي عصية على الزوال، إنها تلك النظرة التي يمكن رؤيتها في عينين حالمتين، أو في تلك المحبة المتدفقة بسخاء يُحير المتلقي بشأن وجودها وحقيقتها، فيفضل الفرار على البقاء مع حب لا يستطيع فهمه.
شكلت داليدا حسب ظني حالة غامضة، بالنسبة للرجال الذين عرفتهم، وانعكست رغبتها الداخلية في الفناء على علاقة ثلاثة منهم مع الحياة، لذا يبدو التأويل المقبول في حدوث ذاك التقارب بين داليدا وهؤلاء الرجال الذين عبروا حياتها واتخذوا قرار المغادرة قبلها هو وجود هالة ما في داخلها اجتذبتهم للارتباط بها..هالة تشعل فتيل غواية الرحيل في داخلهم.
داليدا أيضا كانت منجذبة في كل ما فعلته نحو حالة من التلاشي أكثر ما تتجلى في غنائها للأغنية الأيقونية «أنا مريضة» مع سيرغي لاما، يبدو في هذه الأغنية مقدار ما تعانيه من ألم، حالة من الاحتراق الداخلي تفيض من كيانها لتصل إلى المتلقي حتى هذا الوقت، فما مقدار المعاناة التي مرت بها إذن؟
العلاقة مع الرئيس ميتران
الفيلم الذي قدم حياة داليدا في عام (2017) من إخراج وتأليف ليزا أزويلوس، ومن بطولة عارضة الأزياء الايطالية سفيفا ألفيتي، وشاركها البطولة ريكاردو سكاماركاو، وجان بول روف، ونيكولا ديفاوشيلي..تناول المحاور الأساسية في حياتها، في أداء مميز جدا من بطلته، لكن ماذا عن الأحداث الأخرى التي وقعت وراء الستار؟ الأحداث الأكثر ألما، تلك التي لا يعرفها أحد إلا صاحبها، التي يمكن تخمينها ولا يمكن تأكيدها أبدا لأنها ستظل سرا من الأسرار الكثيرة المدفونة في طيات الحياة.
ماذا عن علاقتها مع الرئيس ميتران؟ وتحذير طبيبها النفسي بأنها انسانة «هشة» بينما أولئك القوم من السياسيين أقوياء اعتادوا المواجهات والنزاعات، سواء الضمنية أو المعلنة.لكن داليدا لم تستمع لنصائح الطبيب، ومضت في علاقتها مع ميتران وأصدقائه..العلاقة مع ميتران بدأت قبل وصوله إلى كرسي الحكم، حيث كان يزورها في بيتها متخفيا، ويركن سيارته في شارع مجاور ويصعد اليها حاملا باقة من الورد، ليتناول العشاء برفقتها ويتحدثان عن الفن والسياسة والأحلام التي تلوح في الأفق.
لكن ما حدث بعد ذلك هو السيرورة الطبيعية للأحداث بين سياسي طموح وفنانة حساسة…العلاقة مع المغنية بدأت تُحرج الرئيس الجديد، وراح الممثلون الهزليون يطلقون عليه لقب «ميمي العاشق» نسبة إلى أغنية لداليدا بعنوان «جيجي العاشق».كما راح بعض العابرين في تلّة مونمارتر، حيث تسكن داليدا، يلقون برسائل مليئة بالشتائم والتهديدات من فوق سور بيتها، فيما نظرت إليها الجارات التقليديات نظرة احتقار على اعتبار أنها محظية الرئيس، ومن المرجح أن داليدا تعرضت لتحرشات مزعجة من الرجال.
تقطعت خيوط العلاقة بين داليدا والرئيس، الذي انشغل بمنصبه، وبعلاقات نسائية أخرى، وكان من أثر هذه القطيعة كآبة نفسية حادة لم تستطع داليدا هذه المرة الخروج من مائها الآسن ، لعله من العبث اعتبار العلاقة مع ميتران السبب في انتحارها، لكنها القطرة الأخيرة التي أفاضت الكأس.
السؤال الذي قدمه الفيلم يتعلق بالأمومة في حياة داليدا، ملوحا أن خسارتها الفادحة لكيانها كأم أحد الأسباب المباشرة لانتحارها، وأن طموحاتها في الحياة العيش كأي ربة بيت عادية، لكن هذا الطرح ليس دقيقا تماما.
الفن منجاة من الهاوية
لأن كل ما قدمته داليدا من فن كان المنجى الوحيد من الهاوية المؤجلة.هي لم تكن بأمان أبدا، لأنها ليست امرأة عادية، حيث حالات الرضا النادرة، والتصالح القليل مع الذات والسكون المعتدل، الذي يأتي ليرحل، دفعها للبحث عن مأوى مريح.
سافرت داليدا ذات يوم إلى الهند بحثا عن « الحكمة» في التعامل مع حياتها، وعن «النظام» في إدراة شؤونها العاطفية.لكن الاحتراق جزء من كيانها الداخلي مهما خبا وقتيا، سرعان ما يعاود اشتعاله رغبة في الفناء الأخير.
مرور الزمن على داليدا وتقدمها في السن، ظنت أنه السبب في نقص توهجها، لكن توهجها لم يكن ينقص سوى لوقوعه ضحية قوتين شريرتين تناهشتاها: هما «الخوف»، و«العوز» العاطفي.هاتان القوتان ظلتا تتجاذبان داليدا طوال حياتها، من دون أن تقوم بمواجهة حاسمة معهما،لذا كانت المعركة الأخيرة لصالحهما، حين أنهت حياتها في سن الرابعة والخمسين، تاركة وراءها رسالة تعتذر فيها عن موتها، قائلة: «سامحوني إن الحياة ما عادت تحتمل».
منحت داليدا مستمعيها البهجة والمسرة من خلال موسيقاها وكلمات أغنياتها، في حين أمضت هي حياة حافلة بالألم الداخلي وبالتعاسة، وهنا تكمن عمق المفارقة في حياة هذه الفنانة وفي اختيارها طريقة رحيلها أيضا.
لعل السؤال المحير الذي يراودني دائما عند التفكير بالفنانة داليدا، إذا كانت رسائل المحبة تصل لأصحابها الراحلين مباشرة أم تظل عالقة وقتا بين السماء والأرض، ريثما يكون المتلقي جاهزا لاستقبالها.
الصورة الأولى في ذاكرتي للفنانة داليدا حين كنت في السادسة من عمري، أجلس أمام تلفزيون لبنان، أشاهد استعراضا للرقص، أجلس منبهرة أمام الشاشة الصغيرة، بينما جدتي وجارتها تحتسيان القهوة، ويلفت انتباه الجارة أنني مأخوذة بحركات داليدا ورقصها، من دون أن أعرف من هي، فتكسر خيالاتي الطفولية بعبارة: «ههه …تعجبك إنها في عمر جدتك»، أحول نظري بين الشاشة وجدتي…كنت أحب جدتي، لكني لم أجد بينهما أي قاسم مشترك، تلك العبارة ظلت عالقة في ذهني كلما شاهدت هذا الاستعراض.
في عام 2007، أعادت المغنية الكندية إميلي بيغن، تأدية الأغنية في كليب لم تجتهد لأن تضمنه أي نوع من الحساسية الموجودة في الاستعراض الأصلي، بل جاء كليبا مبتذلا، لا يجد فيه المتلقي إلا تكرارا للكلمات التي غنتها داليدا، مع فقدان أية تقاطعات أخرى.
«حلوة يا بلدي»
بعد سنوات قليلة من الصورة الأولى، كانت أغنية «حلوة يا بلدي»، ثم فيلم «اليوم السادس» مشاهدات أخرى غير مقصودة، لم تعن لي أغنية «حلوة يا بلدي» شيئا كثيرا، وجدت في كلماتها وآدائها مجاملة مفرطة، تشبه الفلكلور المصنوع خصيصا للترويج السياحي، أكثر مما هو أداء حب عميق ميز أغنيات أخرى لها.
أما فيلم اليوم السادس، فيطول الحديث بشأنه، سواء في ما يتعلق بإداء داليدا، أو ارتباطه بالمرحلة الزمنية من عمرها، وما أحاط بها من أحداث عاطفية وفنية، فبدت في الفيلم امرأة حزينة تغلب شخصية داليدا الحقيقية وحزنها على الدور الذي تؤديه.
«العنقود الروحي»
في السادسة عشرة من عمري بدأت رحلة اكتشافي لداليدا بشكل فني هذه المرة، بعيدا عن الانجذاب العاطفي الطفولي، ثم تداخلا معا بشكل يصعب فصله، فتبدو تلك المرأة الجميلة الهشة وكأنها في حديث متصل قريب أكثر مما أظن، وبلا تفسير سوى الاستعانة بعبارة «العنقود الروحي» التي تجعل بعض الأشخاص قريبين أكثر من غيرهم بلا مبرر منطقي مقبول أو مفهوم، لكن في النتيجة الاستغراق في طرح التساؤل يبدو غير مجد، بقدر أن نترك الأشياء تُعبر عن ذاتها بتجرد، كما في أغنيتها « كلمات» التي أدتها مع آلان ديلون،في رهافة يصعب فصل معانيها عن الاحساس بخيبة الأمل، والخوف من الهجر والوحدة.
«تأمل الجبل»
لنقل أن الفقد بمعناه الشمولي والأوسع شكل حجر الأساس الأول في حياة داليدا، وشخصيتها.فقد العاطفة الأبوية السليمة، فقد الأمان، فقد الوطن، بالتوازي مع وجود بركان داخلي من الفن والاحتياج للحب يحتاج للتدفق ملقيا بحممه التي جاءت حارقة أحيانا.
ثمة نوع من أنواع التأمل يسمى «تأمل الجبل»، تقوم فكرته أن كياننا الداخلي يشبه الجبل، مرة يعلوه الاخضرار، وأخرى الثلوج، ومرة يكون أجردا ، الجبل راسخ في وجوده لكنه يتغير من السطح فيما داخله ثابت، ثم يأتي إليه الزوار ويدلون بآرائهم بشأنه قائلين: «أوه إنه مذهل جدا..أو إنه ليس جميلا كما ظننا..أو الجبل السابق كان أجمل من هذا..الخ».
لعل التشبيه الأقرب لداليدا هو القول إن الكيان الداخلي لجبلها لم يكن مستقرا بسبب الأذى الذي تعرض له من قبل مرتاديه، لقد ترك كل زائر بصمات ثقيلة على كيان الجبل سببت في تأذيه ونزوعه إلى التفتت رويدا رويدا ..هكذا هي داليدا، لذا في الرابعة والثلاثين من عمرها وقفت لتطرح سؤالها المؤلم قائلة: «في هذا العمر من دون أمل، من دون حب، من دون أطفال».ربما ما تؤكده حياة داليدا أن السعادة أو الرضا محض هبة داخلية ليس للعالم الخارجي علاقة بها.لم تفعل الشهرة شيئا، ولم يجلب المال ولا الحظ البراق الاطمئنان أوالأمل لصاحبته.
بعض الأشخاص يبدو وجودهم الهش والضبابي حقيقيا، أكثر من وجودهم الواقعي، وهذا الأمر ليس اختياريا أبدا، أن يولد الإنسان ويعيش وفق كيان هش قابل للانكسار بسبب قسوة الحياة عموما وأنانية الآخرين، أمر لا علاقة له سوى بوجود حالة من النبل الداخلي عصية على الزوال، إنها تلك النظرة التي يمكن رؤيتها في عينين حالمتين، أو في تلك المحبة المتدفقة بسخاء يُحير المتلقي بشأن وجودها وحقيقتها، فيفضل الفرار على البقاء مع حب لا يستطيع فهمه.
شكلت داليدا حسب ظني حالة غامضة، بالنسبة للرجال الذين عرفتهم، وانعكست رغبتها الداخلية في الفناء على علاقة ثلاثة منهم مع الحياة، لذا يبدو التأويل المقبول في حدوث ذاك التقارب بين داليدا وهؤلاء الرجال الذين عبروا حياتها واتخذوا قرار المغادرة قبلها هو وجود هالة ما في داخلها اجتذبتهم للارتباط بها..هالة تشعل فتيل غواية الرحيل في داخلهم.
داليدا أيضا كانت منجذبة في كل ما فعلته نحو حالة من التلاشي أكثر ما تتجلى في غنائها للأغنية الأيقونية «أنا مريضة» مع سيرغي لاما، يبدو في هذه الأغنية مقدار ما تعانيه من ألم، حالة من الاحتراق الداخلي تفيض من كيانها لتصل إلى المتلقي حتى هذا الوقت، فما مقدار المعاناة التي مرت بها إذن؟
العلاقة مع الرئيس ميتران
الفيلم الذي قدم حياة داليدا في عام (2017) من إخراج وتأليف ليزا أزويلوس، ومن بطولة عارضة الأزياء الايطالية سفيفا ألفيتي، وشاركها البطولة ريكاردو سكاماركاو، وجان بول روف، ونيكولا ديفاوشيلي..تناول المحاور الأساسية في حياتها، في أداء مميز جدا من بطلته، لكن ماذا عن الأحداث الأخرى التي وقعت وراء الستار؟ الأحداث الأكثر ألما، تلك التي لا يعرفها أحد إلا صاحبها، التي يمكن تخمينها ولا يمكن تأكيدها أبدا لأنها ستظل سرا من الأسرار الكثيرة المدفونة في طيات الحياة.
ماذا عن علاقتها مع الرئيس ميتران؟ وتحذير طبيبها النفسي بأنها انسانة «هشة» بينما أولئك القوم من السياسيين أقوياء اعتادوا المواجهات والنزاعات، سواء الضمنية أو المعلنة.لكن داليدا لم تستمع لنصائح الطبيب، ومضت في علاقتها مع ميتران وأصدقائه..العلاقة مع ميتران بدأت قبل وصوله إلى كرسي الحكم، حيث كان يزورها في بيتها متخفيا، ويركن سيارته في شارع مجاور ويصعد اليها حاملا باقة من الورد، ليتناول العشاء برفقتها ويتحدثان عن الفن والسياسة والأحلام التي تلوح في الأفق.
لكن ما حدث بعد ذلك هو السيرورة الطبيعية للأحداث بين سياسي طموح وفنانة حساسة…العلاقة مع المغنية بدأت تُحرج الرئيس الجديد، وراح الممثلون الهزليون يطلقون عليه لقب «ميمي العاشق» نسبة إلى أغنية لداليدا بعنوان «جيجي العاشق».كما راح بعض العابرين في تلّة مونمارتر، حيث تسكن داليدا، يلقون برسائل مليئة بالشتائم والتهديدات من فوق سور بيتها، فيما نظرت إليها الجارات التقليديات نظرة احتقار على اعتبار أنها محظية الرئيس، ومن المرجح أن داليدا تعرضت لتحرشات مزعجة من الرجال.
تقطعت خيوط العلاقة بين داليدا والرئيس، الذي انشغل بمنصبه، وبعلاقات نسائية أخرى، وكان من أثر هذه القطيعة كآبة نفسية حادة لم تستطع داليدا هذه المرة الخروج من مائها الآسن ، لعله من العبث اعتبار العلاقة مع ميتران السبب في انتحارها، لكنها القطرة الأخيرة التي أفاضت الكأس.
السؤال الذي قدمه الفيلم يتعلق بالأمومة في حياة داليدا، ملوحا أن خسارتها الفادحة لكيانها كأم أحد الأسباب المباشرة لانتحارها، وأن طموحاتها في الحياة العيش كأي ربة بيت عادية، لكن هذا الطرح ليس دقيقا تماما.
الفن منجاة من الهاوية
لأن كل ما قدمته داليدا من فن كان المنجى الوحيد من الهاوية المؤجلة.هي لم تكن بأمان أبدا، لأنها ليست امرأة عادية، حيث حالات الرضا النادرة، والتصالح القليل مع الذات والسكون المعتدل، الذي يأتي ليرحل، دفعها للبحث عن مأوى مريح.
سافرت داليدا ذات يوم إلى الهند بحثا عن « الحكمة» في التعامل مع حياتها، وعن «النظام» في إدراة شؤونها العاطفية.لكن الاحتراق جزء من كيانها الداخلي مهما خبا وقتيا، سرعان ما يعاود اشتعاله رغبة في الفناء الأخير.
مرور الزمن على داليدا وتقدمها في السن، ظنت أنه السبب في نقص توهجها، لكن توهجها لم يكن ينقص سوى لوقوعه ضحية قوتين شريرتين تناهشتاها: هما «الخوف»، و«العوز» العاطفي.هاتان القوتان ظلتا تتجاذبان داليدا طوال حياتها، من دون أن تقوم بمواجهة حاسمة معهما،لذا كانت المعركة الأخيرة لصالحهما، حين أنهت حياتها في سن الرابعة والخمسين، تاركة وراءها رسالة تعتذر فيها عن موتها، قائلة: «سامحوني إن الحياة ما عادت تحتمل».
منحت داليدا مستمعيها البهجة والمسرة من خلال موسيقاها وكلمات أغنياتها، في حين أمضت هي حياة حافلة بالألم الداخلي وبالتعاسة، وهنا تكمن عمق المفارقة في حياة هذه الفنانة وفي اختيارها طريقة رحيلها أيضا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.