«التضامن» توافق على إشهار جمعيتين في محافظة البحيرة    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025    يوسف معاطي: سمير غانم لن يتكرر وأكثر كوميديان يضحك عادل إمام    الصحة: توقيع بروتوكول لدعم الولادات الطبيعية ضمن المبادرة الرئاسية «الألف يوم الذهبية»    للطلاب المتقدمين لمدارس التكنولوجيا التطبيقية.. طريقة دفع رسوم الاختبار    وزير العمل: التعليم الفني يشهد طفرة كبيرة في السنوات الأخيرة بتعاون وجهود ملحوظة من القطاع الخاص    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج الدراسات القانونية باللغة الفرنسية ب "حقوق حلوان"    وزير الري يتابع أعمال مصلحة الميكانيكا والكهرباء وموقف إعداد خطة لإدارة وصيانة محطات الرفع بمصر    معيط: دمج مراجعتي صندوق النقد يمنح مصر وقتًا أوسع لتنفيذ الإصلاحات    وزير التنمية المحلية: شركاء التنمية حليف قوي في دفع العمل البيئي والمناخي في مصر    ترامب: لا أسعى للقاء جين بينج لكني قد أزور الصين تلبية لدعوته    ارتفاع حصيلة ضحايا إطلاق النار فى نيويورك ل5 أشخاص بينهم ضابط شرطة    ترامب: لا أسعى للقاء جين بينج لكني قد أزور الصين تلبية لدعوته    دخول 9 شاحنات مساعدات إنسانية إلى معبر كرم أبو سالم تمهيدًا لدخولها لقطاع غزة    وزير الخارجية يلتقي بقادة مجموعة الحكماء The Elders الداعمة للسلام    رئيس الوزراء البريطاني يعقد اجتماعا طارئا لبحث مسار السلام في غزة    رئيس اتحاد طنجة: عبد الحميد معالي اختار الانضمام إلى الزمالك عن أندية أوروبا    كريم رمزي يعلق على ستوري عبد القادر.. ويفجر مفاجأة بشأن موقف الزمالك    ثنائي المصري أحمد وهب وأحمد شرف ضمن معسكر منتخب الشباب استعدادًا لبطولة كأس العالم بشيلي    بعد القبض على رمضان صبحي.. تعرف على موقفة القانوني ومدة الحبس وموعد الأفراج عن اللاعب    نقيب المهندسين ل طلاب الثانوية العامة: احذروا من الالتحاق بمعاهد غير معتمدة.. لن نقيد خريجيها    بيان عاجل من الكهرباء بشأن انقطاع التيار بالجيزة.. والوزارة: انتهاء التغذيات في هذا الموعد    "حرارة مرتفعة ورطوبة خانقة".. الأرصاد تكشف عن تفاصيل طقس الثلاثاء    عاجل.. الشرطة تلقي القبض على رمضان صبحي بعد عودته من تركيا    أسعار الخضروات والفاكهة اليوم الثلاثاء في شمال سيناء    سميرة صدقي: محمد رمضان وأحمد العوضي مش هيعرفوا يبقوا زي فريد شوقي (فيديو)    العظماء السبعة في دولة التلاوة، خريطة إذاعة القرآن الكريم اليوم الثلاثاء    رسميًا الآن.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الثلاثاء 29-7-2025 في البنوك    حملة «100 يوم صحة» تقدم 19.2 مليون خدمة طبية مجانية خلال 13 يوما    تفاصيل القبض على رمضان صبحي في مطار القاهرة (إنفوجراف)    رابط التقديم الإلكتروني ل تنسيق الصف الأول الثانوي 2025.. مرحلة ثانية (الحد الأدني ب 6 محافظات)    ضياء رشوان: الأصوات المشككة لن تسكت.. والرئيس السيسي قال ما لم يقله أحد من الزعماء العرب    مصرع 30 شخصًا في العاصمة الصينية بكين جراء الأمطار الغزيرة    يقل فوج من المصطافين.. إصابة 59 شخصاً إثر انقلاب أتوبيس رحلات خلال العودة من مطروح    بفرمان من ريبيرو.. الأهلي يتراجع عن صفقته الجديدة.. شوبير يكشف    من «ظلمة» حطام غزة إلى «نور» العلم فى مصر    «رجب»: احترام العقود والمراكز القانونية أساس بناء الثقة مع المستثمرين    بدء اختبارات مشروع تنمية المواهب بالتعاون بين الاتحادين الدولي والمصري لكرة القدم    من هو ريان الرحيمي لاعب البنزرتي الذي أشاد به ريبيرو؟    تحت عنوان «إتقان العمل».. أوقاف قنا تعقد 126 قافلة دعوية    وزير الثقافة يشهد العرض المسرحي «حواديت» على مسرح سيد درويش بالإسكندرية    لا تليق بمسيرتي.. سميرة صدقي تكشف سبب رفضها لبعض الأدوار في الدراما    مرشح الجبهة الوطنية: تمكين الشباب رسالة ثقة من القيادة السياسية    تشييع جثماني طبيبين من الشرقية لقيا مصرعهما في حادث بالقاهرة    لجنة للمرور على اللجان الانتخابية بالدقهلية لبحث جاهزيتها لانتخابات الشيوخ    صراع على السلطة في مكان العمل.. حظ برج الدلو اليوم 29 يوليو    غادة عادل vs صبا مبارك.. انطلاق تصوير «وتر حساس» الجزء الثاني    محافظ سوهاج يوجه بتوفير فرصة عمل لسيدة كفيفة بقرية الصلعا تحفظ القرآن بأحكامه    تشييع جثمانى طبيبين من الشرقية لقيا مصرعهما فى حادث على الدائرى.. صور    «النادي ممكن يتقفل».. رسائل نارية من نصر أبوالحسن لجماهير الإسماعيلي    لها مفعول السحر.. رشة «سماق» على السلطة يوميًا تقضي على التهاب المفاصل وتخفض الكوليسترول.    للحماية من التهاب المرارة.. تعرف على علامات حصوات المرارة المبكرة    بدون تكلفة ومواد ضارة.. أفضل وصفة طبيعية لتبييض الأسنان    مي كساب بإطلالة جديدة باللون الأصفر.. تصميم جذاب يبرز قوامها    ما الوقت المناسب بين الأذان والإقامة؟.. أمين الفتوى يجيب    هل "الماكياج" عذر يبيح التيمم للنساء؟.. أمينة الفتوى تُجيب    إلقاء بقايا الطعام في القمامة.. هل يجوز شرعًا؟ دار الإفتاء توضح    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لعبة السرد بين التجربة الداخلية وهول الأفعال
نشر في صوت البلد يوم 12 - 02 - 2018

كثيرون أولئك الذين وقعوا تحت وطأة الافتتان بتفكيكية تنقض مجموع البنى الرمزية القائمة على رؤية واحدة للعالم، وهو النقض الذي يسمح بمجابهة ما جرى تأطيره في حزمة من المسلمات والثوابت، بل التصدي له حين يصبح مادة قابلة للتفكيك وإعادة النظر.
ما من شك في أن للأمر دوافع إنسانية جذابة، كما حين اختارت جين رايس في نص «بحر ساركوسا الواسع» الذائع الصيت، أن تحيي المرأة السجينة في العلية من جديد وتجعلها تنطق، بدلا من إسكاتها كما فعلت شارلوت برونتي في روايتها «جين إير» غير العابئة بمأساة هذه المرأة، التي لم نر فيها سوى الجنون والعبث والتخريب، لنصبح مع نسخة رايس قادرين على الاستماع إلى مأساتها غير المنقطعة، عن كونها خليطا من دم أبيض وجامايكي، قبالة نسخة أولى ركنت إلى الصمت عن منابع ومدخلات هذه الشخصية «المرأة المجنونة في العلية» بما يجعلنا نركن إلى أن السكوت هو وجه من وجوه القمع اللغوي الكتابي الذي تجري تغطيته بقناع ملون جميل.
لكن ما صار يشغلني هذه الأيام أننا بتنا قابعين في صلب اللعبة السردية على نحو دائري لا حد له، وصار مسموحا لنا أن نمنح حتى القاتل الرهيب – يقينا لا شكا- فرصة تقديم نفسه على أنه الضحية الحقيقية، فعلى مستوى التخييل والإبداع نذكر رواية ماري شيل المعروفة «فرانكشتاين» حين تركت للمجرم إمكانية تقديم نفسه ضحية حقيقية، وأنه ما كان ليرتكب جرائمه لولا كرهه للوحدة، وتوقه للعيش مع من يفهمه، لذلك نراه في الرواية، وبعد موت صاحبه بسبب ما ارتكبه من جرائم، نراه وقد تملكه شعور بالعار، لدرجة أنه يندفع لإلقاء نفسه في النار. بما أمكن إحالته إلى رغبة شديدة في التوغل في نفوس المستبدين، بما يسمح، وعلى نحو شديد الخطورة، بتفهم ما يقومون به من جرائم لا تعد ولا تحصى، بل لربما قبولها. في هذا السياق يكشف سلافوي جيجيك في كتابه «العنف: تأملات في وجوهه الستة» أنك إذ تنتابك هذه الرغبة، فقد لا يبدو لك هتلر عدوا لو استمعت لقصته، بل قد يصلك ألا شيء يستدعي الشعور بالخجل أو بالذنب مما ارتكبه. الشيء ذاته يكون مع ستالين الذي قدمته ابنته أبا مفعما بالدفء وقائدا راعيا، وأن جرائمه كانت مفروضة عليه، لأن الآخرين أشرار، في وقت تنقل السجلات الدقيقة أنه كان مجرما طاغية.
داود الصغير
لا يفوتني في هذا المقام أدب صهيوني تدعمه مؤسسة صهيونية يروج في العالم من خلال كتاب ملون اسمه «داود الصغير» لشخصية رقيقة تقدم للقراء بوجه مورد مبتسم، يتطلع إلى أرض الميعاد، في وقت يظهر فيه الآخر العربي معتديا شبيها بهتلر، والكتاب عموما كما يصفه هادي الهيتي يزرع في خبث شديد بذور الشفقة في نفوس الأطفال تجاه داود الصغير، الذي وجد نفسه في مستهل تأسيس دولته يواجه اضطهاد العرب والإنكليز معا. وهو الاضطهاد الذي عبرت عنه أيضا قصة «كتكوت صغير» الذي يقف وحيدا وسط أعداد من الديكة المتوحشة الملتفة حوله بغرض الفتك به، بينما ينادي هذا المسكين بأنه لا يريد سوى العيش في سلام وسط هذه الديكة المتوحشة المعتدية.
ما أسعى إلى قوله هو أننا كثيرا ما نتورط بإغراءات الكلام، لتنقلب المفاهيم رأسا على عقب، بما يفضي إلى إحساس قاهر، بأن العالم واقع تحت وطأة اختلال مرضي عجيب، يسمح لمن هب ودب أن يثني على الحريات والديمقراطية من جهة، ويحاربها من جهة أخرى. ألم يفعلها من قبل جون ستيورات ميل وهو من أعطي لقب (أبو الحريات) حين قام بتبرير الاستعمار البريطاني في الهند، بحجة أن الهند تحتاج إلى من يحميها من همجية أبنائها ووحشيتهم؟ وهو ما فعله بالمثل ألكسيس دي توكفيل المفكر الفرنسي، ممثل القيم الديمقراطية الليبرالية، حين انتقد وبشجاعة سوء معاملة الأمريكيين للهنود الحمر والسود، أما حين احتلت فرنسا الجزائر ومارست حربا وحشية ضد الجزائرين، لم يتحرك حسه الإنساني بالإدانة، فالمسلمون «يستحقون أن ترتكب المجازر بحقهم لأنهم ينتمون إلى دين أدنى منزلة، ولا بدّ من تأديبهم».
بإمكاننا الحديث في هذا السياق عن النازيين الذين لم يتوانوا عن تقديم أنفسهم بتقارير مفصلة عن الخطاب الأخلاقي النازي، الذي وفر مبررا لجرائمهم، ألم يكتب هتلر في «كفاحي» ما مفاده أن سيادة العرق الآري هي سيادة حتمية، لا بد أن تتم بالقوة حتى يسود السلام على الأرض؟ ليصبح من الطبيعي ارتكاب أفظع أنواع الجرائم، وممارسة العنف المخيف ضد من رآهم أعداء له، بدون أن يتعارض هذا الأمر .
تأملات في وجوهه الستة
كما يطرح كتاب «العنف: تأملات في وجوهه الستة» مع قدرة لافتة على إبداء العواطف الإنسانية الدافئة تجاه أعضاء دائرته الخاصة، ليصبح من غير المستهجن أن ترى ذاك الذي يقتل رهينته، يكتب رسالة مفعمة بالحب الصادق، مع أنه وبقليل من التركيز يمكن احتسابه شكلا من أشكال التناقض المريع مع النفس، ويصبح من الطبيعي أن نتساءل: كيف تستوي هذه العاطفة مع كل التقارير والمحاكمات؟ أو ليس هذا شكلا من أشكال العمى النفسي الرهيب؟ أو ليس هذا واحدا من أعلى درجات التناقض الذرائعي؟ ومعه تغدو الحقيقة ثانوية لو قورنت بالممارسة العملية، بما يدخل في الصميم من طروحات النظرية البراغماتية، التي تفضي إلى التفكير بأن وضعك سيكون أفضل لو إنك تمسكت بهذا الجانب دونا عن غيره بعيدا عن أي مثاليات ممكنة، من شأنها حال تمسكك بها إعاقة الحلول، ليبقى أن هذا جيد أو سيئ وفقا للشخص المعني الذي يستقي قراره من معايير خاصة يحتكم إليها من منظور نفعي خاص.
ولا أدل على ما أسلفنا من طفرات حماسية إجرائية عاشتها الثورة الفرنسية، وكذلك التجربة السوفييتية، وحتى الثورة الخمينية، فكل منها اعتمد على مواقف أخفت الواقع وزيفته، وكان المنغمسون بها كما يشرح سلافوي جيجيك في كتابه الآنف الذكر يختارون تجاهل الممارسات الوحشية، أو إنهم يعرفون ولا يريدون تحمل مسؤولية ما يعرفون، كما الثورة الإيرانية التي طرحت نفسها بأنها الأكثر إنسانية في التاريخ كله، في وقت يطلع فيه علينا الخميني بإجابة لأحد الصحافيين عن أحكام الإعدام يصف فيها من أعدموا بالقول: «أولئك الذين قتلناهم لم يكونوا بشرا، بل كلابا مجرمة». بما يذكرني بالنظام المصري الحالي – مع اختلاف كلي بالتفاصيل- حين صار يحدد ما هو أخلاقي من غير الأخلاقي، أو حين يضع الحد الفاصل بين الأخيار والأشرار بمعايير مختلقة لغايات لم تعد تخفى على أحد. الكتاب نفسه يطرح الأخلاق البوذية القائمة على التضامن مع كل كائن حي، ليظهرها أنموذجا على فكرة الانقلاب إلى النقيض حين أيدت مواقف عسكرية مفرطة في عنفها تقف وراء العنف المفرط والجارح.
إذن هي الوجوه المتعددة للشخص الواحد، أو هي لعبة السارد الذي ما إن تتأمله وقد استبعد أطروحة حتى تراه من جديد يعود ليثبت حضورها. بالتالي بات الحديث عن الحرية والديمقراطية مجرد حالة عشقية مظهرية تخفي وراءها استبدادا وقحا، وحديثا كاذبا عن مساواة لا وجود لها، لنكون في الصلب من حالة فصامية بين النظرية والتطبيق، تستبيح الآخر وتتعامل معه من منطلق علوي متفرد.
أختت برأي لحنة أرندت تفضح فيه تلك الهوة الساحقة بين التجربة الداخلية وهول الأفعال، وتشرح أن الواحد من هؤلاء العتاة حين يحكي حكايته، فإنه يروي لنفسه عن نفسه ما يبرر ما يفعله، مع أن الكلام لا يعدو أن يكون كذبة كبرى من ألفها إلى يائها، فالحقيقة تكمن في الخارج، أي ما نفعله تجاه الآخرين.
كثيرون أولئك الذين وقعوا تحت وطأة الافتتان بتفكيكية تنقض مجموع البنى الرمزية القائمة على رؤية واحدة للعالم، وهو النقض الذي يسمح بمجابهة ما جرى تأطيره في حزمة من المسلمات والثوابت، بل التصدي له حين يصبح مادة قابلة للتفكيك وإعادة النظر.
ما من شك في أن للأمر دوافع إنسانية جذابة، كما حين اختارت جين رايس في نص «بحر ساركوسا الواسع» الذائع الصيت، أن تحيي المرأة السجينة في العلية من جديد وتجعلها تنطق، بدلا من إسكاتها كما فعلت شارلوت برونتي في روايتها «جين إير» غير العابئة بمأساة هذه المرأة، التي لم نر فيها سوى الجنون والعبث والتخريب، لنصبح مع نسخة رايس قادرين على الاستماع إلى مأساتها غير المنقطعة، عن كونها خليطا من دم أبيض وجامايكي، قبالة نسخة أولى ركنت إلى الصمت عن منابع ومدخلات هذه الشخصية «المرأة المجنونة في العلية» بما يجعلنا نركن إلى أن السكوت هو وجه من وجوه القمع اللغوي الكتابي الذي تجري تغطيته بقناع ملون جميل.
لكن ما صار يشغلني هذه الأيام أننا بتنا قابعين في صلب اللعبة السردية على نحو دائري لا حد له، وصار مسموحا لنا أن نمنح حتى القاتل الرهيب – يقينا لا شكا- فرصة تقديم نفسه على أنه الضحية الحقيقية، فعلى مستوى التخييل والإبداع نذكر رواية ماري شيل المعروفة «فرانكشتاين» حين تركت للمجرم إمكانية تقديم نفسه ضحية حقيقية، وأنه ما كان ليرتكب جرائمه لولا كرهه للوحدة، وتوقه للعيش مع من يفهمه، لذلك نراه في الرواية، وبعد موت صاحبه بسبب ما ارتكبه من جرائم، نراه وقد تملكه شعور بالعار، لدرجة أنه يندفع لإلقاء نفسه في النار. بما أمكن إحالته إلى رغبة شديدة في التوغل في نفوس المستبدين، بما يسمح، وعلى نحو شديد الخطورة، بتفهم ما يقومون به من جرائم لا تعد ولا تحصى، بل لربما قبولها. في هذا السياق يكشف سلافوي جيجيك في كتابه «العنف: تأملات في وجوهه الستة» أنك إذ تنتابك هذه الرغبة، فقد لا يبدو لك هتلر عدوا لو استمعت لقصته، بل قد يصلك ألا شيء يستدعي الشعور بالخجل أو بالذنب مما ارتكبه. الشيء ذاته يكون مع ستالين الذي قدمته ابنته أبا مفعما بالدفء وقائدا راعيا، وأن جرائمه كانت مفروضة عليه، لأن الآخرين أشرار، في وقت تنقل السجلات الدقيقة أنه كان مجرما طاغية.
داود الصغير
لا يفوتني في هذا المقام أدب صهيوني تدعمه مؤسسة صهيونية يروج في العالم من خلال كتاب ملون اسمه «داود الصغير» لشخصية رقيقة تقدم للقراء بوجه مورد مبتسم، يتطلع إلى أرض الميعاد، في وقت يظهر فيه الآخر العربي معتديا شبيها بهتلر، والكتاب عموما كما يصفه هادي الهيتي يزرع في خبث شديد بذور الشفقة في نفوس الأطفال تجاه داود الصغير، الذي وجد نفسه في مستهل تأسيس دولته يواجه اضطهاد العرب والإنكليز معا. وهو الاضطهاد الذي عبرت عنه أيضا قصة «كتكوت صغير» الذي يقف وحيدا وسط أعداد من الديكة المتوحشة الملتفة حوله بغرض الفتك به، بينما ينادي هذا المسكين بأنه لا يريد سوى العيش في سلام وسط هذه الديكة المتوحشة المعتدية.
ما أسعى إلى قوله هو أننا كثيرا ما نتورط بإغراءات الكلام، لتنقلب المفاهيم رأسا على عقب، بما يفضي إلى إحساس قاهر، بأن العالم واقع تحت وطأة اختلال مرضي عجيب، يسمح لمن هب ودب أن يثني على الحريات والديمقراطية من جهة، ويحاربها من جهة أخرى. ألم يفعلها من قبل جون ستيورات ميل وهو من أعطي لقب (أبو الحريات) حين قام بتبرير الاستعمار البريطاني في الهند، بحجة أن الهند تحتاج إلى من يحميها من همجية أبنائها ووحشيتهم؟ وهو ما فعله بالمثل ألكسيس دي توكفيل المفكر الفرنسي، ممثل القيم الديمقراطية الليبرالية، حين انتقد وبشجاعة سوء معاملة الأمريكيين للهنود الحمر والسود، أما حين احتلت فرنسا الجزائر ومارست حربا وحشية ضد الجزائرين، لم يتحرك حسه الإنساني بالإدانة، فالمسلمون «يستحقون أن ترتكب المجازر بحقهم لأنهم ينتمون إلى دين أدنى منزلة، ولا بدّ من تأديبهم».
بإمكاننا الحديث في هذا السياق عن النازيين الذين لم يتوانوا عن تقديم أنفسهم بتقارير مفصلة عن الخطاب الأخلاقي النازي، الذي وفر مبررا لجرائمهم، ألم يكتب هتلر في «كفاحي» ما مفاده أن سيادة العرق الآري هي سيادة حتمية، لا بد أن تتم بالقوة حتى يسود السلام على الأرض؟ ليصبح من الطبيعي ارتكاب أفظع أنواع الجرائم، وممارسة العنف المخيف ضد من رآهم أعداء له، بدون أن يتعارض هذا الأمر .
تأملات في وجوهه الستة
كما يطرح كتاب «العنف: تأملات في وجوهه الستة» مع قدرة لافتة على إبداء العواطف الإنسانية الدافئة تجاه أعضاء دائرته الخاصة، ليصبح من غير المستهجن أن ترى ذاك الذي يقتل رهينته، يكتب رسالة مفعمة بالحب الصادق، مع أنه وبقليل من التركيز يمكن احتسابه شكلا من أشكال التناقض المريع مع النفس، ويصبح من الطبيعي أن نتساءل: كيف تستوي هذه العاطفة مع كل التقارير والمحاكمات؟ أو ليس هذا شكلا من أشكال العمى النفسي الرهيب؟ أو ليس هذا واحدا من أعلى درجات التناقض الذرائعي؟ ومعه تغدو الحقيقة ثانوية لو قورنت بالممارسة العملية، بما يدخل في الصميم من طروحات النظرية البراغماتية، التي تفضي إلى التفكير بأن وضعك سيكون أفضل لو إنك تمسكت بهذا الجانب دونا عن غيره بعيدا عن أي مثاليات ممكنة، من شأنها حال تمسكك بها إعاقة الحلول، ليبقى أن هذا جيد أو سيئ وفقا للشخص المعني الذي يستقي قراره من معايير خاصة يحتكم إليها من منظور نفعي خاص.
ولا أدل على ما أسلفنا من طفرات حماسية إجرائية عاشتها الثورة الفرنسية، وكذلك التجربة السوفييتية، وحتى الثورة الخمينية، فكل منها اعتمد على مواقف أخفت الواقع وزيفته، وكان المنغمسون بها كما يشرح سلافوي جيجيك في كتابه الآنف الذكر يختارون تجاهل الممارسات الوحشية، أو إنهم يعرفون ولا يريدون تحمل مسؤولية ما يعرفون، كما الثورة الإيرانية التي طرحت نفسها بأنها الأكثر إنسانية في التاريخ كله، في وقت يطلع فيه علينا الخميني بإجابة لأحد الصحافيين عن أحكام الإعدام يصف فيها من أعدموا بالقول: «أولئك الذين قتلناهم لم يكونوا بشرا، بل كلابا مجرمة». بما يذكرني بالنظام المصري الحالي – مع اختلاف كلي بالتفاصيل- حين صار يحدد ما هو أخلاقي من غير الأخلاقي، أو حين يضع الحد الفاصل بين الأخيار والأشرار بمعايير مختلقة لغايات لم تعد تخفى على أحد. الكتاب نفسه يطرح الأخلاق البوذية القائمة على التضامن مع كل كائن حي، ليظهرها أنموذجا على فكرة الانقلاب إلى النقيض حين أيدت مواقف عسكرية مفرطة في عنفها تقف وراء العنف المفرط والجارح.
إذن هي الوجوه المتعددة للشخص الواحد، أو هي لعبة السارد الذي ما إن تتأمله وقد استبعد أطروحة حتى تراه من جديد يعود ليثبت حضورها. بالتالي بات الحديث عن الحرية والديمقراطية مجرد حالة عشقية مظهرية تخفي وراءها استبدادا وقحا، وحديثا كاذبا عن مساواة لا وجود لها، لنكون في الصلب من حالة فصامية بين النظرية والتطبيق، تستبيح الآخر وتتعامل معه من منطلق علوي متفرد.
أختت برأي لحنة أرندت تفضح فيه تلك الهوة الساحقة بين التجربة الداخلية وهول الأفعال، وتشرح أن الواحد من هؤلاء العتاة حين يحكي حكايته، فإنه يروي لنفسه عن نفسه ما يبرر ما يفعله، مع أن الكلام لا يعدو أن يكون كذبة كبرى من ألفها إلى يائها، فالحقيقة تكمن في الخارج، أي ما نفعله تجاه الآخرين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.