تعرفت على عوالم الطبيب الروائي أحمد عبد المنعم رمضان بالصدفة ، على هامش أحد المناقشات الثقافية. بعكسي أنا المثرثرة الجالسة دائما في مقعد أمامي. كان يجلس كظل مبتسم ينصت في الخلف. في هذا الحوار جلس صاحب روايتيّ "رائحة مولانا" و"رسائل سبتمبر" ، ومجموعتيّ "في مواجهة شون كونري" و"أحلام الدبلير"-تحت الطبع- خلف شاشة الكمبيوتر في منزله يوم إجازته-وسط المرضى لا مكان لكاتب فقط لطبيب- وسأجلس خلف شاشة جهاز عملي-في البيت لا مكان إلا لزوج وأم- في سقف عالم افتراضي، يمكن للطبيب والإنسان الكاتب الإفصاح ولو قليلا عن مشاعره وهواجسه وأفكاره. يمكن بمساعدة سقف غرفته مراقبة انفعالاته ومشاركته أحلامه بحرية أكبر من قدرته المباشرة على مشاركتنا جميعا. يمكننا محاولة الغوص أكثر في مخيلة قاص يكتب الرواية بروح القصة، فهو ليس منضبطا ككتاب الروايات. يرى أنه عشوائيا تأتيه الكتابة كإلهام، كشرارة نبؤة، "يستجيب لأفكار سريعة خاطفة ويبثها وهى تتدافع داخل عقله، فيجرى وراء الكلمات التي تلاحق الأفكار، فيلهث متقطع الأنفاس.. - كيف ترى الصلة بين مهنتك كطبيب وبين كاتب يُشرّح مجتمعه؟ العلاقة بين الأديب والطبيب عميقة. بالإضافة للدراسة العلمية للطبيب التى قد تساعد على تأطير الأفكار وبلورتها، فهي أيضا مهنة تتيح للكاتب مشاهدة النفس البشرية فى أضعف صورها، ومراقبة الأشخاص وهم متعرون تماما، منفضين عن وجوههم ونفوسهم أى مساحيق للتجميل، كاشفين عن كل جروحهم وآلامهم، ومتخلصين من كل أوهامهم عن أنفسهم. - في روايتك "رسائل سبتمبر" لماذا لجأت في أغلب الأحيان إلى لغة الإخبار والتقرير؟ لم أتعمد استخدام تلك اللغة، اختارت الرواية لغتها، وهى لغة مختلفة بعض الشئ عما أعتدت استخدامه فى القصص، أو حتى في روايتي الأولى "رائحة مولانا"، فالنص بدا في خيالي بهذا الشكل، وكأن الموت متجلٍ في أوضح صوره، وكأن كل شيء تعرّى، فلا يوجد مكان للمجاز. - لا مكان للمجاز.. الموت يبعث لك الآن برسالة.. أمامك مثل أبطالك يومين، فماذا أنت فاعل؟ سأرتبك وتضطرب ضربات قلبي، لكن لن أخبر أهلي بشيء، سأبحث عن طريقة لتسهيل الأمر عليهم. سأبلغ أحد أصدقائي بالأمر. سأبكي وحيدا، ثم أتصل بفتاة تعجبني وأخبرها أني أحبها وأدبر معها موعدا.سأحاول إنجاز بعض قصصي غير المكتملة. أشرب أكوابًا من القهوة والنسكافية، كي لا أضيّع ساعة مما تبقى لي. لكني سأبدد الوقت كله، وستباغتني اللحظة الحاسمة، كأني لم أعلم أبدا بتلك الزيارة. - تبدو لى حياتك كإنسان مؤجلة إلى تلك اللحظة؟ ليس بهذا المعنى... إلا أننا نعيد فعل الأشياء نفسها، ولدينا تصور ما، تصور ساذج بأن هناك فائض من الوقت لفعل ما نريد، فننتظر ونسوف ونكرر أخطاءنا، وهكذا تمضى الحياة سواء بقي معنا يومين أو قرنين. - تسويفنا مخيف.. أتذكّر أنك قلت في أحد حواراتك السابقة إن الخوف أساس، وهاجس من هواجس كتابتي.. فمم تخاف؟ أعتقد أن الخوف هو المحرك الأساسي لأفعالنا، الخوف من المستقبل، من الموت، من المجهول، من الفقر، من الوحدة. وأنه لولا مشاعر الخوف تلك لاختلفت حيواتنا..حتى الثوار تحركهم مشاعر الخوف، الخوف على أفكارهم من الاندثار، على أنفسهم من فقدان هويتها، أو ربما أيضا الخوف من مستقبل أقسى وأكثر ظلمة وظلما. كلما تقدم بي العمر كلما زادت مخاوفي. فأنا أعاني من فوبيا المناطق العليا، وأخاف من الأمراض المزمنة وغير المزمنة. من الموت الرابض على آخر العمر. أخاف أن أفقد حياتي على حين غفلة مني، كما أنني أخاف الحياة نفسها وأخاف من مرورها السريع من بين يدي. أخاف من الكوابيس ليلا ومن تصديق الأحلام نهارا. أخاف من الله-سبحانه وتعالى- ومن الشيطان. أخاف من الزلازل والعواصف والسيول، ومن وجه جارتنا ذات الملامح الشريرة. أخاف من الفشل والحزن. أخاف من طبيب الأسنان ومن أدواته. أخاف من الحشرات ومن الزواحف، أخاف من الظلمة ومن العمى. - كيف تتغلب على هذا الكم الهائل من المخاوف؟ بالاندماج في الحياة، والبحث عن الصحبة، وعن الحب، وبالكتابة عن مخاوفي، وفضحها. إلا أنني أعتقد فيما قالته إيزابيل الليندي، من إن هناك طرق عدة لتخطي الخوف، وما من واحدة تؤدي وظيفتها. - هل الكتابة وسيلة لتخطي المخاوف، أم أنها هدف بحد ذاتها؟ أظن أن الكتابة على عكس أي فعل آخر، نتورط أولا في حبه والاندفاع نحوه، ثم نبدأ البحث عن الأسباب. وعندما نمسك بإجابة أو عدة إجابات ونظن أنها صحيحة، أو أنها تناسبنا، تصبح هي البوصلة لكتاباتنا اللاحقة. إننا لانختار أن نكتب، لكننا نختار ماذا سنفعل بكتابتنا.أنني أكتب لأصنع عوالم جديدة، مختلفة عن عالمنا الذي لا أحبه؛ لأخلق شخصيات تبعدني عن الوحدة، ولأتغلب على صمتي وقلة كلامي. دعيني أستعين بأقوال الروائيين الزملاء مرة أخرى، إذ يقول كونديرا إننا مقتنعون بأننا نكتب لنقول ما لم يقله أحد، وقول ما لم يقله أحد يعني معارضة الجميع، لذا فإن الكتابة هي متعة المعارضة، وسعادة أن تكون وحيدا ضد الجميع، وفرح أن تستفز أعداءك وتثير أصدقاءك. - عن أي عوالم مختلفة تتحدث؛ كتابتك قاتمة لدرجة أنها ملقبة ب"الديستوبيا"؟ هى عوالم لا أتمناها أيضا، لكنها أكثر وضوحا وصراحة وصدقا، هي الامتداد الطبيعي للواقع بعد إزالة مساحيق التجميل، هي العوالم التى أراها خلف الصورة التى يتم تزيينها، حتى تبدو في نظري حقيقية وفجة، فأسعى من خلال ما أكتبه أن يراها القارئ كما أراها، أن يشاركنى النظر. - أين نراك وسط تلك العوالم؟ على هامشها، وربما مراقب. - نترك تلك العوالم العامة كإنسان ونتوغل معك في عالمك الخاص ككاتب ورؤيتك عن فعالية الجوائز ودور الدولة وحركة النقد والنشر؟ لدينا تعثر في حركة النقد، كما أن الدولة غائبة عن دورها في دعم الإبداع، متفرغة فقط لتوزيع العطايا على رعاياها المخلصين، وانشغل أغلب الناشرين باستنزاف شباب الكتاب ماديا. وأمام هذا زادت قيمة الجوائز، وأصبحت الوسيلة المتاحة للوصول إلى قدر من التحقق والشهرة، والوصول إلى الجمهور وإلى المال. ولرواية الجوائز مواصفات مثالية، من حيث عدد معين من الصفحات، والقضايا التي تناقشها إلى آخره، وهو ما يدفع بعض الكتاب للسعي وراء الجوائز على حساب التجربة، مما يضر بعملية الإبداع برمتها، وتحجيمها، وتأطيرها. وأذكر أن أحدهم حدثني يوما ما بأن دار النشر طلبت منه زيادة صفحات روايته، من مئة وخمسين صفحة، إلى ثلاثمئة صفحة، وقد فعل، هكذا ببساطة، والعيب هنا ليس في منظومة الجوائز ذاتها، لكن في هذا المناخ المشوه؛ الذي زاد من قيمتها وجعلها متحكمة بشكل كبير في الحركة الأدبية، إلا أنني أؤمن بأن الأدب من الأشياء القليلة في الحياة التي يطرد فيها الطيب الغث، بمرور الزمن، فسيستمر إدريس والمخزنجي، وكافكا وساراماجو وكامو ونجيب محفوظ، يطردوا غيرهم من محدودي الموهبة، حتى لو جمعوا كل جوائز الدنيا. - كيف ترى في هذا المناخ المشوه إقبال أعداد كبيرة من القراء على روايات وكتب ال"بست سيلر"؟ في العالم أجمع، كتابات البوب هي الأكثر انتشارا وتحقيقا للنجاح، وهذا ليس وضعا استثنائيا في مصر ف"البوب أرت" بطبيعته يخاطب مشاعر حسية وغرائزية سهلة المنال، كأن يخاطب عاطفة الخوف، أو الإثارة، أو الجنس، دون أي رؤية أو تصور مرهق للعقل، وفي أفضل الأحوال يأتي حاملا رؤية سهلة الهضم، مطلوبة، مريحة، توافق رؤية المتلقي التقليدي، ولا تضيف له سوى دقائق معدودة من الإثارة والمتعة الوقتية، لكنها لا تغير شيئا في أفكاره أو رؤيته للحياة. وهذا ليس حكرا على الأدب، فالأمر ذاته يحدث في السينما وشتى الفنون، حتى أن تعبير "أفلام المهرجانات"، صار تعبيرا سيء السمعة، بل إن الأمر يبدو مشابهًا في السياسة، فالسياسيون الأكثر شعبية، والمتنافسون على الكراسي، أي ال"بست سيلر"، لم يكونوا أبدا الأكثر كفاءة، وهم أيضا يخاطبون الغرائز الدينية تارة، والقومية تارة أخرى؛ فيتاجرون بالقيم الدينية، والنعرات العنصرية. إلا أن الأمر في مصر بالتأكيد يبدو أكثر سوءًا، لكن هذا أيضا طبيعي في بلد لا يلقى فيه التلاميذ الحد الأدنى من التعليم، ولا يؤدي فيه النقاد والإعلام الحد الأدنى من واجبهم. تعرفت على عوالم الطبيب الروائي أحمد عبد المنعم رمضان بالصدفة ، على هامش أحد المناقشات الثقافية. بعكسي أنا المثرثرة الجالسة دائما في مقعد أمامي. كان يجلس كظل مبتسم ينصت في الخلف. في هذا الحوار جلس صاحب روايتيّ "رائحة مولانا" و"رسائل سبتمبر" ، ومجموعتيّ "في مواجهة شون كونري" و"أحلام الدبلير"-تحت الطبع- خلف شاشة الكمبيوتر في منزله يوم إجازته-وسط المرضى لا مكان لكاتب فقط لطبيب- وسأجلس خلف شاشة جهاز عملي-في البيت لا مكان إلا لزوج وأم- في سقف عالم افتراضي، يمكن للطبيب والإنسان الكاتب الإفصاح ولو قليلا عن مشاعره وهواجسه وأفكاره. يمكن بمساعدة سقف غرفته مراقبة انفعالاته ومشاركته أحلامه بحرية أكبر من قدرته المباشرة على مشاركتنا جميعا. يمكننا محاولة الغوص أكثر في مخيلة قاص يكتب الرواية بروح القصة، فهو ليس منضبطا ككتاب الروايات. يرى أنه عشوائيا تأتيه الكتابة كإلهام، كشرارة نبؤة، "يستجيب لأفكار سريعة خاطفة ويبثها وهى تتدافع داخل عقله، فيجرى وراء الكلمات التي تلاحق الأفكار، فيلهث متقطع الأنفاس.. - كيف ترى الصلة بين مهنتك كطبيب وبين كاتب يُشرّح مجتمعه؟ العلاقة بين الأديب والطبيب عميقة. بالإضافة للدراسة العلمية للطبيب التى قد تساعد على تأطير الأفكار وبلورتها، فهي أيضا مهنة تتيح للكاتب مشاهدة النفس البشرية فى أضعف صورها، ومراقبة الأشخاص وهم متعرون تماما، منفضين عن وجوههم ونفوسهم أى مساحيق للتجميل، كاشفين عن كل جروحهم وآلامهم، ومتخلصين من كل أوهامهم عن أنفسهم. - في روايتك "رسائل سبتمبر" لماذا لجأت في أغلب الأحيان إلى لغة الإخبار والتقرير؟ لم أتعمد استخدام تلك اللغة، اختارت الرواية لغتها، وهى لغة مختلفة بعض الشئ عما أعتدت استخدامه فى القصص، أو حتى في روايتي الأولى "رائحة مولانا"، فالنص بدا في خيالي بهذا الشكل، وكأن الموت متجلٍ في أوضح صوره، وكأن كل شيء تعرّى، فلا يوجد مكان للمجاز. - لا مكان للمجاز.. الموت يبعث لك الآن برسالة.. أمامك مثل أبطالك يومين، فماذا أنت فاعل؟ سأرتبك وتضطرب ضربات قلبي، لكن لن أخبر أهلي بشيء، سأبحث عن طريقة لتسهيل الأمر عليهم. سأبلغ أحد أصدقائي بالأمر. سأبكي وحيدا، ثم أتصل بفتاة تعجبني وأخبرها أني أحبها وأدبر معها موعدا.سأحاول إنجاز بعض قصصي غير المكتملة. أشرب أكوابًا من القهوة والنسكافية، كي لا أضيّع ساعة مما تبقى لي. لكني سأبدد الوقت كله، وستباغتني اللحظة الحاسمة، كأني لم أعلم أبدا بتلك الزيارة. - تبدو لى حياتك كإنسان مؤجلة إلى تلك اللحظة؟ ليس بهذا المعنى... إلا أننا نعيد فعل الأشياء نفسها، ولدينا تصور ما، تصور ساذج بأن هناك فائض من الوقت لفعل ما نريد، فننتظر ونسوف ونكرر أخطاءنا، وهكذا تمضى الحياة سواء بقي معنا يومين أو قرنين. - تسويفنا مخيف.. أتذكّر أنك قلت في أحد حواراتك السابقة إن الخوف أساس، وهاجس من هواجس كتابتي.. فمم تخاف؟ أعتقد أن الخوف هو المحرك الأساسي لأفعالنا، الخوف من المستقبل، من الموت، من المجهول، من الفقر، من الوحدة. وأنه لولا مشاعر الخوف تلك لاختلفت حيواتنا..حتى الثوار تحركهم مشاعر الخوف، الخوف على أفكارهم من الاندثار، على أنفسهم من فقدان هويتها، أو ربما أيضا الخوف من مستقبل أقسى وأكثر ظلمة وظلما. كلما تقدم بي العمر كلما زادت مخاوفي. فأنا أعاني من فوبيا المناطق العليا، وأخاف من الأمراض المزمنة وغير المزمنة. من الموت الرابض على آخر العمر. أخاف أن أفقد حياتي على حين غفلة مني، كما أنني أخاف الحياة نفسها وأخاف من مرورها السريع من بين يدي. أخاف من الكوابيس ليلا ومن تصديق الأحلام نهارا. أخاف من الله-سبحانه وتعالى- ومن الشيطان. أخاف من الزلازل والعواصف والسيول، ومن وجه جارتنا ذات الملامح الشريرة. أخاف من الفشل والحزن. أخاف من طبيب الأسنان ومن أدواته. أخاف من الحشرات ومن الزواحف، أخاف من الظلمة ومن العمى. - كيف تتغلب على هذا الكم الهائل من المخاوف؟ بالاندماج في الحياة، والبحث عن الصحبة، وعن الحب، وبالكتابة عن مخاوفي، وفضحها. إلا أنني أعتقد فيما قالته إيزابيل الليندي، من إن هناك طرق عدة لتخطي الخوف، وما من واحدة تؤدي وظيفتها. - هل الكتابة وسيلة لتخطي المخاوف، أم أنها هدف بحد ذاتها؟ أظن أن الكتابة على عكس أي فعل آخر، نتورط أولا في حبه والاندفاع نحوه، ثم نبدأ البحث عن الأسباب. وعندما نمسك بإجابة أو عدة إجابات ونظن أنها صحيحة، أو أنها تناسبنا، تصبح هي البوصلة لكتاباتنا اللاحقة. إننا لانختار أن نكتب، لكننا نختار ماذا سنفعل بكتابتنا.أنني أكتب لأصنع عوالم جديدة، مختلفة عن عالمنا الذي لا أحبه؛ لأخلق شخصيات تبعدني عن الوحدة، ولأتغلب على صمتي وقلة كلامي. دعيني أستعين بأقوال الروائيين الزملاء مرة أخرى، إذ يقول كونديرا إننا مقتنعون بأننا نكتب لنقول ما لم يقله أحد، وقول ما لم يقله أحد يعني معارضة الجميع، لذا فإن الكتابة هي متعة المعارضة، وسعادة أن تكون وحيدا ضد الجميع، وفرح أن تستفز أعداءك وتثير أصدقاءك. - عن أي عوالم مختلفة تتحدث؛ كتابتك قاتمة لدرجة أنها ملقبة ب"الديستوبيا"؟ هى عوالم لا أتمناها أيضا، لكنها أكثر وضوحا وصراحة وصدقا، هي الامتداد الطبيعي للواقع بعد إزالة مساحيق التجميل، هي العوالم التى أراها خلف الصورة التى يتم تزيينها، حتى تبدو في نظري حقيقية وفجة، فأسعى من خلال ما أكتبه أن يراها القارئ كما أراها، أن يشاركنى النظر. - أين نراك وسط تلك العوالم؟ على هامشها، وربما مراقب. - نترك تلك العوالم العامة كإنسان ونتوغل معك في عالمك الخاص ككاتب ورؤيتك عن فعالية الجوائز ودور الدولة وحركة النقد والنشر؟ لدينا تعثر في حركة النقد، كما أن الدولة غائبة عن دورها في دعم الإبداع، متفرغة فقط لتوزيع العطايا على رعاياها المخلصين، وانشغل أغلب الناشرين باستنزاف شباب الكتاب ماديا. وأمام هذا زادت قيمة الجوائز، وأصبحت الوسيلة المتاحة للوصول إلى قدر من التحقق والشهرة، والوصول إلى الجمهور وإلى المال. ولرواية الجوائز مواصفات مثالية، من حيث عدد معين من الصفحات، والقضايا التي تناقشها إلى آخره، وهو ما يدفع بعض الكتاب للسعي وراء الجوائز على حساب التجربة، مما يضر بعملية الإبداع برمتها، وتحجيمها، وتأطيرها. وأذكر أن أحدهم حدثني يوما ما بأن دار النشر طلبت منه زيادة صفحات روايته، من مئة وخمسين صفحة، إلى ثلاثمئة صفحة، وقد فعل، هكذا ببساطة، والعيب هنا ليس في منظومة الجوائز ذاتها، لكن في هذا المناخ المشوه؛ الذي زاد من قيمتها وجعلها متحكمة بشكل كبير في الحركة الأدبية، إلا أنني أؤمن بأن الأدب من الأشياء القليلة في الحياة التي يطرد فيها الطيب الغث، بمرور الزمن، فسيستمر إدريس والمخزنجي، وكافكا وساراماجو وكامو ونجيب محفوظ، يطردوا غيرهم من محدودي الموهبة، حتى لو جمعوا كل جوائز الدنيا. - كيف ترى في هذا المناخ المشوه إقبال أعداد كبيرة من القراء على روايات وكتب ال"بست سيلر"؟ في العالم أجمع، كتابات البوب هي الأكثر انتشارا وتحقيقا للنجاح، وهذا ليس وضعا استثنائيا في مصر ف"البوب أرت" بطبيعته يخاطب مشاعر حسية وغرائزية سهلة المنال، كأن يخاطب عاطفة الخوف، أو الإثارة، أو الجنس، دون أي رؤية أو تصور مرهق للعقل، وفي أفضل الأحوال يأتي حاملا رؤية سهلة الهضم، مطلوبة، مريحة، توافق رؤية المتلقي التقليدي، ولا تضيف له سوى دقائق معدودة من الإثارة والمتعة الوقتية، لكنها لا تغير شيئا في أفكاره أو رؤيته للحياة. وهذا ليس حكرا على الأدب، فالأمر ذاته يحدث في السينما وشتى الفنون، حتى أن تعبير "أفلام المهرجانات"، صار تعبيرا سيء السمعة، بل إن الأمر يبدو مشابهًا في السياسة، فالسياسيون الأكثر شعبية، والمتنافسون على الكراسي، أي ال"بست سيلر"، لم يكونوا أبدا الأكثر كفاءة، وهم أيضا يخاطبون الغرائز الدينية تارة، والقومية تارة أخرى؛ فيتاجرون بالقيم الدينية، والنعرات العنصرية. إلا أن الأمر في مصر بالتأكيد يبدو أكثر سوءًا، لكن هذا أيضا طبيعي في بلد لا يلقى فيه التلاميذ الحد الأدنى من التعليم، ولا يؤدي فيه النقاد والإعلام الحد الأدنى من واجبهم.