عميد تجارة القاهرة الأسبق: الجامعات الحكومية ما زالت الأفضل.. وهذه أسباب تفضيل البعض للخاصة    تنسيق دبلوم التجارة 2025.. قائمة الكليات والمعاهد المتاحة لطلاب 3 سنوات «رابط وموعد التسجيل»    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الجديد.. أسعار الذهب اليوم السبت 23 أغسطس 2025 بالصاغة    سعر السمك البلطي والكابوريا والجمبري في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    أبطال فيلم "وتر واحد" يشاركون ويجز تألقه على مسرح العلمين    من جلسات التدليك لمنتجعه الخاص، جيسلين ماكسويل تكشف تفاصيل مثيرة عن علاقتها بإبستين وترامب    مباراة النصر ضد الأهلي مباشر في السوبر السعودي 2025.. الموعد والقنوات والتردد    «الشمس هتغيب قبل المغرب».. كسوف الشمس الكلي يظهر في سماء 9 دول بهذا التوقيت    «عايز أشكره».. آسر ياسين يصعد على المسرح خلال حفل ويجز بمهرجان العلمين.. ما القصة؟    سهير جودة عن شيرين عبدالوهاب وحسام حبيب: «انفصال وعودة مزمنة.. متى تعود إلينا؟»    فيفي عبده تعلن وفاة الراقصة المعتزلة سهير مجدي    «الأستانلس أم التيفال»: هل نوع حلة الطبخ يغير طعم أكلك؟    تفاصيل قطع المياه لمدة 6 ساعات في المنطقة المحصورة بين الهرم وفيصل بالجيزة    أهم الأخبار الفنية على مدار الساعة.. حسام حبيب ينفى عودته لشيرين.. 3 أفلام جديدة تقتحم شاشات السينما المصرية تباعا حتى أكتوبر.. إيرادات فيلم درويش تتجاوز ال20 مليون جنيه خلال 9 أيام عرض بالسينمات    "حضورك راقي" 11 صورة لزوجة محمد عواد والجمهور يعلق    رئيس أركان الجيش الهندي يزور الجزائر الأسبوع المقبل    أطعمة تسبب الصداع النصفي لدى النساء ونصائح للسيطرة عليه    بهدف رويز.. باريس سان جيرمان ينجو من فخ أنجيه في الدوري الفرنسي    التعليم تطلق دورات تدريبية لمعلمي الابتدائي على المناهج المطورة عبر منصة (CPD)    رسميا.. مدرسة صناعة الطائرات تعلن قوائم القبول للعام الدراسي الجديد 2025/ 2026    رسميا.. جامعة الأزهر 2025 تفتتح أول كلية للبنات في مطروح وتعلن عن تخصصات جديدة    طارق فهمي: الإعلان الأممي عن تفشي المجاعة في غزة يعكس حجم الكارثة الإنسانية    بوتين: واثق أن خبرة ترامب ستسهم في استعادة العلاقات الثنائية بين بلدينا    وزير الخارجية الأردني: على إسرائيل رفع حصارها عن قطاع غزة والسماح بإيصال المساعدات    نشرة التوك شو| موجة حارة جديدة.. وشعبة السيارات تكشف سبب انخفاض الأسعار    العملاق مدحت صالح يبدأ حفله بمهرجان القلعة بأغنية "زى ما هى حبها"    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه    مدحت صالح يتألق بغناء حبيبى يا عاشق وزى المليونيرات بحفله فى مهرجان القلعة    الإنتاج الحربي يستهل مشواره بالفوز على راية الرياضي في دوري المحترفين    المستشار القانوني للزمالك يتحدث عن.. التظلم على سحب أرض أكتوبر.. وأنباء التحقيق مع إدارة النادي    في لحظات.. شقة تتحول إلى ساحة من اللهب والدخان    مراسل من دير البلح: المنطقة باتت مستباحة بالكامل تحت نيران الاحتلال    إسرائيل تشن هجومًا على مخازن تابعة لحزب الله في لبنان    تشيلسي يقسو على وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي (فيديو)    أول تعليق من النني بعد فوز الجزيرة على الشارقة بالدوري الإماراتي    مصدر ليلا كورة: كهربا وقع عقدا مع القادسية الكويتي    غزل المحلة يبدأ استعداداته لمواجهة الأهلي في الدوري.. صور    ارتفاع الكندوز 39 جنيها، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    وزير الري يشارك في جلسة "القدرة على الصمود في مواجهة التغير المناخي بقطاع المياه"    اليوم، دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ربيع الأول لعام 1447 هجريا    سليم غنيم يحافظ على الصدارة للعام الثاني في سباقات الحمام الزاجل الدولية    المنوفية تقدم أكثر من 2.6 مليون خدمة طبية ضمن حملة 100 يوم صحة    صحة المنوفية تواصل حملاتها بسرس الليان لضمان خدمات طبية آمنة وذات جودة    كتر ضحك وقلل قهوة.. طرق للتخلص من زيادة هرمون التوتر «الكورتيزول»    مقتل عنصر من الأمن السورى فى هجوم انتحارى نفذه "داعش" بدير الزور    أخبار × 24 ساعة.. موعد انطلاق العام الدراسى الجديد بالمدارس الدولية والرسمية    قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا    ظهور مفاجئ ل «منخفض الهند».. تحذير بشأن حالة الطقس اليوم: القاهرة تُسجل 40 مئوية    القضاء على بؤرة إجرامية خطرة بأشمون خلال تبادل النار مع قوات الشرطة    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 23 أغسطس 2025    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    ثورة جديدة بتطوير المناهج «2»    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«البيت الأزرق»: هزيمة الراوي أمام شخصيات روايته
نشر في صوت البلد يوم 11 - 01 - 2018

ثمة ارتباك غامض يمس قارئ رواية «البيت الأزرق» لعبده وازن (الصادرة عن دار ضفاف، 2017)، يحيرنا مصدره. ربما هو ارتباك ينتقل إلينا بالعدوى مصدره ارتباك شخصية النص الأساسية «بول»، الثلاثيني الانطوائي دارس ومُحب الفلسفة، لكن المُنعزل تدريجياً عن البشر، والمُتهم ظُلماً بجريمة قتل لم يبذل جهداً في إنكارها.
مكان الرواية مدينة جونية اللبنانية وأحياؤها بما فيها من مقاه وكنائس وجمال بحري ساحر أربك بشراً سابقين منهم، الأتراك والفرنسيين ممن اعتبروها الخليج الأجمل على المتوسط. تتناقض جماليات المكان مع كآبة الأحداث وتراجيديتها، فيتضاعف إرباك «بول» لنا ونحن نقرأه بهلع ونرى تسليمه بمصائره المأساوية. نتمنى لو كان يسمع نصائحنا ونحن نتنقل بحزن بين الصفحات ونحثه على أن يفعل كذا وكذا لتفادي تلك المصائر. نشعر بالعجز عن مساعدته، وبالحنق الأخوي عليه لعدم انتفاضه على قدر سخيف قاده إلى السجن ثم إلى مشفى المرضى النفسيين من السجناء، «البيت الأزرق»، حيث انتهى به الأمر مُنتحراً ببطء. ربما هو الاستسلام المديد لذلك القدر الأهوج، كما مارسه «بول»، السبب في ارتباكنا كقراء، وهو ما دفعنا أيضا إلى النقمة على كل الذين من حوله وتسببوا في انقصاف حياته الشابة. وتمتد نقمتنا لتطال صديقنا عبده وازن لاستفزازه أعصابنا ببطء، وهو يأبى أن يتدخل لإنقاذ «بول» من المآل المحتوم الذي انتظره، بعدما ورطنا في حبه!
قصة «بول»، كما يروي وازن، كتبها لنا روائي وصلته «مخطوطة» كتبها «بول» نفسه قبل أن يموت، وأودعها في عهدة الأب جورج نادر، رئيس جميعة خيرية كانت تُعنى بزيارة نزلاء «البيت الأزرق» وتقدم لهم العون والرعاية الخارجية. الأب جورج حفظ وديعة الراحل وقرر أن يعهد ب«المخطوطة» إلى من يقدر مضمونها، ومن قد يرى فيها نصاً صالحا للنشر. الروائي الذي سلمه الأب جورج المخطوطة تلك، كان يتخبط أصلاً في كتابة الفصل الأخير من آخر رواياته، وفي كيفية صوغ النهاية والخاتمة للشخصية الرئيسة في نصه. كان قد رسم لها مسارا انتهى بها في هاوية اكتئاب سوداء تُفضي إلى انتحار متوقع. لكن بعد مرور عامين على غرقه في الرواية ما عاد بإمكانه الحسم في نهايتها. مع وصول مخطوطة «بول» إليه، ارتبك الروائي بين حماسه المفاجئ لاستكناه قصة «بول» ودوافع انتحاره وصوغها، ولاحماسته الطاغية لاستكمال روايته ذات النهاية المستعصية وإسدال الستار على فصلها الأخير.
عوضاً عن مواجهة النهاية وولوج معارجها التي تزداد صعوبة ومشقة، تبدى للراوي أن الشروع في بداية جديدة أكثر إغراء وسهولة. كأن النهايات عندما تتكثف في مسار عتيد وراسخ تتعقد ملامحها وتستعصي على أصحابها حتى لو كانوا ينسجونها من الخيال. تصبح النهاية مستقلة ذاتياً ترسم نهايتها بنفسها، أو ربما تمتنع عن تلك النهاية أصلاً، وتشل قدرة الراغب في تسطيرها حتى لو كان ذلك الراوي نفسه في «البيت الأزرق»، أو ربما تمردت تلك النهاية أيضا على عبده وازن ذاته كاتب الرواية وكاتب «البيت الأزرق» كليهما. تخط النهاية ما تريد، فتُبقي على نفسها مفتوحة على احتمالات شتى، تربك الكاتب والقارئ وشخوص الرواية، وتدفعهم إلى الوراء، هرباً في مسارات معلومة لما قد حدث، أو بحثاً عن بدايات جديدة من السهل عليهم افتتاحها، لأن حدثها ما زال طريا برسم التحكم ولما يترسخ بعد. الروائي يعجز عن صوغ النهاية، فيما «بول» الشخصية الحقيقية يكتب مأساته كما عاشها ويرسم نهايته بدقة كما ماتها. «بول» هو الحقيقي والراوي الذي انهمك في جمع خيوط حياته كي يكتبها، وعبده وزان من ورائه، ظلا يحومان في خيال مرتبك حول «بول». براعة الرواية تكمن هنا بالضبط في خلط البدايات والنهايات، في سخرية الواقع من خيال الروائي، في قدرة الفرد التراجيدية المهولة على رسم النهاية في الواقع، وفي عجز الروائي عن اجتراح النهاية في الخيال. «بول» لا يكتب رواية في مخطوطته المكتوبة بالرصاص، ترميزاً على تفارق هشاشة الشكل مع جوهرية المضمون. يصوغ بلغة ركيكة تختلط فيها العامية بالفصحى حدث الحياة وقسوتها وجبروتها، وفيها يظل هو المتلقي لأحداث تصنعها الحياة وناسها المحيطون به. «بول» المستسلم الأكبر لسفالات اللصوص الكبار وتجار الدعارة والمخدرات، يظل تفصيلاً صغيرا لا معنى له في حياة لا معنى لها عندما تسحق أناسا كثراً من طينته. المفارقة الكبرى في قصة «بول» صانع الأحداث الأقل، وضحية الأحداث الاكثر، هي أنه صانع النهاية الأوضح والأكثر صرامة، وراسم تفاصيل الانتحار البطيء الذي أقدم عليه عبر التوقف لأسابيع عن الطعام.
لكن «بول» الذي يبدو لنا عديم الإرادة أمام طوفان الحياة يمتلك إرادة الفلسفة. تتجلي في قلبه أسئلة وجودية صعبة، فيرى جوهر الأشياء بصفاء يُذهل استاذه «الأب بيير» حامل دكتوراه اللاهوت والفلسفة، ويدفعه للإقرار: «لقد أثر فيّ بول… أيقظ في نفسي أسئلة ما كنتُ اجرؤ على طرحها بصفتي راهبا. لقد هز إيماني وجعلني أكتشف أنني أحيا بعيداً من الجوهر». جوهرية «بول» هي صلابته وطرواته في الوقت ذاته. كأن تعمقه في دراسة الفلسفة والإبحار في نصوص كبار من كتبوا فيها، ثم مساجلته لهم بينه وبين نفسه ومع أستاذه الراهب، نزعت منه أي شراسة تستوجبها الحياة كي تُعاش. طهرت عقله وقلبه من الأحكام المُسبقة على الآخرين، كل الآخرين، اياً ما كانت أديانهم أو ألوانهم أو ميولهم الطائفية أو السياسية أو الجنسية. في إقامته القصيرة في «البيت الأزرق» أحبه جورج المتحول جنسيا إلى جورجينا، الذي كان محط احتقار واستغلال وبذاءات المساجين. «بول» لا يطلق حكماً على أحد ولا يحتقر أحداً. من يوم أن ترك دراسة الفلسفة في الجامعة بدون سبب رغم تفوقه فيها واكتشافه نعمه المشي صار إنساناً آخر. صار مشاءً يقطع المسافات الطويلة صامتاً، ويثير العجب والاستغراب من قبل من يعرفه ولا يعرفه. يزداد صفاؤه الداخلي ويزداد غموضه الخارجي. وحتى يُكمل مسيرة الانقطاع عن العالم البراني المُزعج، ويغوص في داخله الجواني الصافي، ادعى أنه فقد القدرة على الكلام. لا يريد أن يكلم البشر. يكفيه عنت الاستماع لهم. فلسفته في المشي ضاربة في العمق، يقول: «لم يكن يهمني أن أمشي بحثاً عن نفسي، أو للقاء نفسي بعدما فقدتها، كما يفعل المتأملون عندما يمشون. لم اتأمل يوما خلال تيهاني. كنت أسعى إلى التحرر من نفسي ومن الأفكار التي تنهكني، من الذكريات والماضي، كل ماضي، من حال اغترابي، من انتمائي وهويتي المفقودة أصلاً. أمشي لأتحرر من فكرة الهوية نفسها، من صفتي شخصاً ذا اسم وتاريخ. أمشي لأكون لا أحد، لأكون وحدي، حتى بلا ظل».
نُمسك بنهاية «بول» بوضوح. لكن بداياته كما هي بدايات الراوي الذي أراد كتابة قصته تبدو لنا باهتة وكأنها مفتوحة، على عكس ما تستهدفه نصوص كثيرة تُبقي النهايات مفتوحة. نهاية «بول» نعرفها من الصفحة الأولى حيث قضى مُنتحراً وترك «إرثه» الوحيد، نصه المخطوط. نهاية «بول» هي النهاية الأكثر وضوحاً في الرواية، فيما بقيت هناك نهايات تصر على البقاء في فضاء الانفتاح: نهاية شخصية بطلة الراوي الذي وقع أسير بطلة روايته وصار يؤلمه ان تموت انتحاراً، ونهاية الحب المفاجئ للراوي مع حبيبة «بول» السابقة «غادة»، وكأنها نوع مخفف من الخيانة، ونهاية «الأب بيير» أستاذ الفلسفة الذي درس «بول» وتاه في عشقه عشقا مثلياً صامتاً تعذب به. ووسط أولئك جميعاً نرى حيرة نهايات عبده وازن الممتعة تدور في طول وعرض النصوص التأملية التي اقتبسها كثيرا من أفواه كتاب وفلاسفة وروائيين، ومعه حيرتنا إزاء الأسئلة المعلقة، والحيوات المفتوحة، والبدايات والنهايات التي تقذفها الأقدار على البشر وتقذفهم معها كأحجار النرد.
.....
كاتب وأكاديمي فلسطيني
[email protected]
ثمة ارتباك غامض يمس قارئ رواية «البيت الأزرق» لعبده وازن (الصادرة عن دار ضفاف، 2017)، يحيرنا مصدره. ربما هو ارتباك ينتقل إلينا بالعدوى مصدره ارتباك شخصية النص الأساسية «بول»، الثلاثيني الانطوائي دارس ومُحب الفلسفة، لكن المُنعزل تدريجياً عن البشر، والمُتهم ظُلماً بجريمة قتل لم يبذل جهداً في إنكارها.
مكان الرواية مدينة جونية اللبنانية وأحياؤها بما فيها من مقاه وكنائس وجمال بحري ساحر أربك بشراً سابقين منهم، الأتراك والفرنسيين ممن اعتبروها الخليج الأجمل على المتوسط. تتناقض جماليات المكان مع كآبة الأحداث وتراجيديتها، فيتضاعف إرباك «بول» لنا ونحن نقرأه بهلع ونرى تسليمه بمصائره المأساوية. نتمنى لو كان يسمع نصائحنا ونحن نتنقل بحزن بين الصفحات ونحثه على أن يفعل كذا وكذا لتفادي تلك المصائر. نشعر بالعجز عن مساعدته، وبالحنق الأخوي عليه لعدم انتفاضه على قدر سخيف قاده إلى السجن ثم إلى مشفى المرضى النفسيين من السجناء، «البيت الأزرق»، حيث انتهى به الأمر مُنتحراً ببطء. ربما هو الاستسلام المديد لذلك القدر الأهوج، كما مارسه «بول»، السبب في ارتباكنا كقراء، وهو ما دفعنا أيضا إلى النقمة على كل الذين من حوله وتسببوا في انقصاف حياته الشابة. وتمتد نقمتنا لتطال صديقنا عبده وازن لاستفزازه أعصابنا ببطء، وهو يأبى أن يتدخل لإنقاذ «بول» من المآل المحتوم الذي انتظره، بعدما ورطنا في حبه!
قصة «بول»، كما يروي وازن، كتبها لنا روائي وصلته «مخطوطة» كتبها «بول» نفسه قبل أن يموت، وأودعها في عهدة الأب جورج نادر، رئيس جميعة خيرية كانت تُعنى بزيارة نزلاء «البيت الأزرق» وتقدم لهم العون والرعاية الخارجية. الأب جورج حفظ وديعة الراحل وقرر أن يعهد ب«المخطوطة» إلى من يقدر مضمونها، ومن قد يرى فيها نصاً صالحا للنشر. الروائي الذي سلمه الأب جورج المخطوطة تلك، كان يتخبط أصلاً في كتابة الفصل الأخير من آخر رواياته، وفي كيفية صوغ النهاية والخاتمة للشخصية الرئيسة في نصه. كان قد رسم لها مسارا انتهى بها في هاوية اكتئاب سوداء تُفضي إلى انتحار متوقع. لكن بعد مرور عامين على غرقه في الرواية ما عاد بإمكانه الحسم في نهايتها. مع وصول مخطوطة «بول» إليه، ارتبك الروائي بين حماسه المفاجئ لاستكناه قصة «بول» ودوافع انتحاره وصوغها، ولاحماسته الطاغية لاستكمال روايته ذات النهاية المستعصية وإسدال الستار على فصلها الأخير.
عوضاً عن مواجهة النهاية وولوج معارجها التي تزداد صعوبة ومشقة، تبدى للراوي أن الشروع في بداية جديدة أكثر إغراء وسهولة. كأن النهايات عندما تتكثف في مسار عتيد وراسخ تتعقد ملامحها وتستعصي على أصحابها حتى لو كانوا ينسجونها من الخيال. تصبح النهاية مستقلة ذاتياً ترسم نهايتها بنفسها، أو ربما تمتنع عن تلك النهاية أصلاً، وتشل قدرة الراغب في تسطيرها حتى لو كان ذلك الراوي نفسه في «البيت الأزرق»، أو ربما تمردت تلك النهاية أيضا على عبده وازن ذاته كاتب الرواية وكاتب «البيت الأزرق» كليهما. تخط النهاية ما تريد، فتُبقي على نفسها مفتوحة على احتمالات شتى، تربك الكاتب والقارئ وشخوص الرواية، وتدفعهم إلى الوراء، هرباً في مسارات معلومة لما قد حدث، أو بحثاً عن بدايات جديدة من السهل عليهم افتتاحها، لأن حدثها ما زال طريا برسم التحكم ولما يترسخ بعد. الروائي يعجز عن صوغ النهاية، فيما «بول» الشخصية الحقيقية يكتب مأساته كما عاشها ويرسم نهايته بدقة كما ماتها. «بول» هو الحقيقي والراوي الذي انهمك في جمع خيوط حياته كي يكتبها، وعبده وزان من ورائه، ظلا يحومان في خيال مرتبك حول «بول». براعة الرواية تكمن هنا بالضبط في خلط البدايات والنهايات، في سخرية الواقع من خيال الروائي، في قدرة الفرد التراجيدية المهولة على رسم النهاية في الواقع، وفي عجز الروائي عن اجتراح النهاية في الخيال. «بول» لا يكتب رواية في مخطوطته المكتوبة بالرصاص، ترميزاً على تفارق هشاشة الشكل مع جوهرية المضمون. يصوغ بلغة ركيكة تختلط فيها العامية بالفصحى حدث الحياة وقسوتها وجبروتها، وفيها يظل هو المتلقي لأحداث تصنعها الحياة وناسها المحيطون به. «بول» المستسلم الأكبر لسفالات اللصوص الكبار وتجار الدعارة والمخدرات، يظل تفصيلاً صغيرا لا معنى له في حياة لا معنى لها عندما تسحق أناسا كثراً من طينته. المفارقة الكبرى في قصة «بول» صانع الأحداث الأقل، وضحية الأحداث الاكثر، هي أنه صانع النهاية الأوضح والأكثر صرامة، وراسم تفاصيل الانتحار البطيء الذي أقدم عليه عبر التوقف لأسابيع عن الطعام.
لكن «بول» الذي يبدو لنا عديم الإرادة أمام طوفان الحياة يمتلك إرادة الفلسفة. تتجلي في قلبه أسئلة وجودية صعبة، فيرى جوهر الأشياء بصفاء يُذهل استاذه «الأب بيير» حامل دكتوراه اللاهوت والفلسفة، ويدفعه للإقرار: «لقد أثر فيّ بول… أيقظ في نفسي أسئلة ما كنتُ اجرؤ على طرحها بصفتي راهبا. لقد هز إيماني وجعلني أكتشف أنني أحيا بعيداً من الجوهر». جوهرية «بول» هي صلابته وطرواته في الوقت ذاته. كأن تعمقه في دراسة الفلسفة والإبحار في نصوص كبار من كتبوا فيها، ثم مساجلته لهم بينه وبين نفسه ومع أستاذه الراهب، نزعت منه أي شراسة تستوجبها الحياة كي تُعاش. طهرت عقله وقلبه من الأحكام المُسبقة على الآخرين، كل الآخرين، اياً ما كانت أديانهم أو ألوانهم أو ميولهم الطائفية أو السياسية أو الجنسية. في إقامته القصيرة في «البيت الأزرق» أحبه جورج المتحول جنسيا إلى جورجينا، الذي كان محط احتقار واستغلال وبذاءات المساجين. «بول» لا يطلق حكماً على أحد ولا يحتقر أحداً. من يوم أن ترك دراسة الفلسفة في الجامعة بدون سبب رغم تفوقه فيها واكتشافه نعمه المشي صار إنساناً آخر. صار مشاءً يقطع المسافات الطويلة صامتاً، ويثير العجب والاستغراب من قبل من يعرفه ولا يعرفه. يزداد صفاؤه الداخلي ويزداد غموضه الخارجي. وحتى يُكمل مسيرة الانقطاع عن العالم البراني المُزعج، ويغوص في داخله الجواني الصافي، ادعى أنه فقد القدرة على الكلام. لا يريد أن يكلم البشر. يكفيه عنت الاستماع لهم. فلسفته في المشي ضاربة في العمق، يقول: «لم يكن يهمني أن أمشي بحثاً عن نفسي، أو للقاء نفسي بعدما فقدتها، كما يفعل المتأملون عندما يمشون. لم اتأمل يوما خلال تيهاني. كنت أسعى إلى التحرر من نفسي ومن الأفكار التي تنهكني، من الذكريات والماضي، كل ماضي، من حال اغترابي، من انتمائي وهويتي المفقودة أصلاً. أمشي لأتحرر من فكرة الهوية نفسها، من صفتي شخصاً ذا اسم وتاريخ. أمشي لأكون لا أحد، لأكون وحدي، حتى بلا ظل».
نُمسك بنهاية «بول» بوضوح. لكن بداياته كما هي بدايات الراوي الذي أراد كتابة قصته تبدو لنا باهتة وكأنها مفتوحة، على عكس ما تستهدفه نصوص كثيرة تُبقي النهايات مفتوحة. نهاية «بول» نعرفها من الصفحة الأولى حيث قضى مُنتحراً وترك «إرثه» الوحيد، نصه المخطوط. نهاية «بول» هي النهاية الأكثر وضوحاً في الرواية، فيما بقيت هناك نهايات تصر على البقاء في فضاء الانفتاح: نهاية شخصية بطلة الراوي الذي وقع أسير بطلة روايته وصار يؤلمه ان تموت انتحاراً، ونهاية الحب المفاجئ للراوي مع حبيبة «بول» السابقة «غادة»، وكأنها نوع مخفف من الخيانة، ونهاية «الأب بيير» أستاذ الفلسفة الذي درس «بول» وتاه في عشقه عشقا مثلياً صامتاً تعذب به. ووسط أولئك جميعاً نرى حيرة نهايات عبده وازن الممتعة تدور في طول وعرض النصوص التأملية التي اقتبسها كثيرا من أفواه كتاب وفلاسفة وروائيين، ومعه حيرتنا إزاء الأسئلة المعلقة، والحيوات المفتوحة، والبدايات والنهايات التي تقذفها الأقدار على البشر وتقذفهم معها كأحجار النرد.
.....
كاتب وأكاديمي فلسطيني
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.