وزيرة البيئة تنفي بيع المحميات الطبيعية: نتجه للاستثمار فيها    حماس تدين الفيتو الأمريكي ضد مشروع قرار وقف إطلاق النار بغزة: ضوء أخضر لمواصلة حرب الإبادة    رونالدو يقود البرتغال للفوز على ألمانيا والتأهل لنهائي دوري الأمم الأوروبية    الزمالك يواصل التصعيد.. سالم: لا رحيل لأي لاعب قبل يوليو والموسم لم ينتهِ بعد    رسميا.. سيموني إنزاجي يقود الهلال في كأس العالم للأندية    هيجيتا: على خصوم الأهلي في مونديال الأندية الحذر من خطورته    أمن قنا يكشف ملابسات العثور على جثة مذبوحه أسفل كوبري (تفاصيل)    استعلم.. نتيجة الصف الثالث الابتدائي الترم الثاني برقم الجلوس في القاهرة والمحافظات فور إعلانها    «الحمد لله نجانا».. وليد يوسف يتعرض لحادث مروع بطريق المنصورة    أغانى الحج.. رحلة من الشوق والإيمان إلى البيت الحرام    دعاء يوم عرفة..خير يوم طلعت فيه الشمس    واقعة اقتلاع الحجر الأسود.. كيف هاجم القرامطة مكة وأزعجوا المسلمين؟    دبلوماسية روسية: أمريكا أكبر مدين للأمم المتحدة بأكثر من 3 مليارات دولار    انقطاع التيار الكهربائي عن بلدات في زابوريجيا جراء قصف أوكراني    الحوثيون يعلنون استهداف مطار بن غوريون بمسيرتين من نوع يافا    مصادر مطلعة: حماس توافق على مقترح «ويتكوف» مع 4 تعديلات    استطلاع رأي: نظرة سلبية متزايدة تلاحق إسرائيل ونتنياهو عالميًا    دخول رسوم ترامب الجمركية بنسبة 50% على «الصلب والألومنيوم» حيز التنفيذ    قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم عزون شرق قلقيلية بالضفة الغربية    الأمم المتحدة تدعو إلى التوصل لمعاهدة عالمية جديدة لإنهاء التلوث بالمواد البلاستيكية    مفتي الجمهورية يهنئ رئيس الوزراء وشيخ الأزهر بحلول عيد الأضحى المبارك    التأمين الصحى بالقليوبية: رفع درجة الاستعداد القصوى بمستشفيات استعدادًا لعيد الأضحى    مسابقة لتعيين 21 ألف معلم مساعد    «مدبولي» يوجه الحكومة بالجاهزية لتلافي أي أزمات خلال عيد الأضحى    قبل نهائي الزمالك وبيراميدز.. أبطال كأس مصر آخر 25 عامًا    فاروق جعفر: نهائي الكأس بأقدام اللاعبين.. والزمالك يملك التفوق    وكيله: عودة دوناروما إلى ميلان ليست مستحيلة    نور الشربيني تتأهل لربع نهائي بطولة بريطانيا المفتوحة للاسكواش وهزيمة 6 مصريين    «التضامن» تستعرض عملها في الحماية والتمكين أمام الدبلوماسيين    عيار 21 الآن بعد الارتفاع الأخير.. سعر الذهب اليوم الخميس 5 يونيو في الصاغة (تفاصيل)    حفروا على مسافة 300 متر من طريق الكباش.. و«اللجنة»: سيقود لكشف أثري كبير    تجارة الحشيش تقود مقاول للسجن المشدد 18 عاما بالوراق    مطار العاصمة يستقبل أولى الرحلات القادمة من سلوفاكيا على متنها 152 راكبا (صور)    محافظ الدقهلية يتابع إزالة تعديات بناء ورفع كفاءة النظافة والحدائق غرب المنصورة    نجل سميحة أيوب يكشف موعد ومكان عزاء والدته الراحلة    "عصام" يطلب تطليق زوجته: "فضحتني ومحبوسة في قضية مُخلة بالشرف"    مينا مسعود يروج ل «في عز الضهر»    انطلاق أولى رحلات «سمارت وينجز» السلوفاكية إلى العاصمة الإدارية الجديدة    بداية جديدة للتموين.. المنوفي يشيد بتحويل البقال التمويني إلى سوبر ماركت    «الأوقاف» تعلن موضوع خطبة عيد الأضحى    رمضان عبدالمعز عن ثواب الحج : «لو عملت الخطوات دي هتاخد الأجر الحج وأنت في بيتك»    حكم صيام يوم عرفة لمن لم يصم الثمانية أيام قبله| فيديو    فوائد اليانسون يخفف أعراض سن اليأس ويقوي المناعة    قبل يوم عرفة.. طبيب قلب شهير يوجه نصائح للحجاج    «جهار» تعلن نجاح 17 منشأة صحية في الحصول على الاعتماد    وفد الأقباط الإنجيليين يقدم التهنئة لمحافظ أسوان بمناسبة عيد الأضحى    مصرع طالب جامعي بطلق ناري في مشاجرة بين عائلتين بقنا    كريم محمود عبد العزيز يحيي ذكرى ميلاد والده برسالة مؤثرة    أهم أخبار الكويت اليوم الأربعاء.. الأمير يهنئ المواطنين والمقيمين بعيد الأضحى    نقابة الفنانين السوريين تعلن وفاة الفنانة حنان اللولو    جامعة القاهرة ترفع درجة الاستعداد القصوى والطوارئ بجميع مستشفياتها    الصحة: 58 مركزًا لإجراء فحوصات المقبلين على الزواج خلال فترة إجازة عيد الأضحى المبارك    مد فترة التشطيبات.. مستند جديد يفجر مفاجأة في واقعة قصر ثقافة الطفل بالأقصر    صلاح عبدالله يستعيد ذكرياته مع سميحة أيوب في مسرحية رابعة العدوية    أول تحرك من «الطفولة والأمومة» بعد تداول فيديو لخطبة طفلين على «السوشيال»    البابا تواضروس الثاني يهنئ فضيلة الإمام الأكبر بعيد الأضحى المبارك    مسابقة لتعيين 9354 معلم مساعد لغة إنجليزية من «العاملين بالحصة» (تفاصيل)    نتيجة الصف السادس الابتدائي 2025 بالمنوفية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذاكرة إنعام كجه جي بين استعمار وديكتاتورية
نشر في صوت البلد يوم 13 - 11 - 2017

في السطر الثالث من رواية إنعام كجه جي الجديدة «النبيذة» (دار الجديد، بيروت 2017)، يفاجئنا الماضي كما يفاجئ شخصية الرواية «تاج الملوك ذات الأسماء المتعددة»، فيجلس جنبها شامتاً في قطار الأنفاق في باريس التي كانت مسرح أحداث روايات إنعام كجه جي السابقة، مثل «طشاري» روايتها الثالثة و «سواقي القلوب» روايتها الأولى. وتذكرنا تاج الملوك بكاشانية الناجية في «سواقي القلوب» ووردية شماس في «طشاري» حيث تعيشان في المنفى، وتستعيدان الماضي عبر أحداث الرواية. لكنّ حالة التبعثر و»التطشر» ستظل المهيمنة الأساسية في سرد إنعام كجه جي حتى في عملها هذا.
وكما في رواياتها تلك كان الإسترجاع هو سبيل السرد كله. تبدأ الرواية وقد انتهى كل شيء. عاشت تاج الملوك حياتها وتبدلت أسماؤها وأعمالها وسكنها، وخرجت بمرارات ما ضاع منها. لذا كان الماضي شامتاً، لكنها الآن تشركنا في جزئياتها وتبدلاتها الحادّة. تلك التبدلات والتحولات التي يعدها دارسو السرد أساس الرواية وعصبها الرئيس. تحولات جعلت حياتها محتشدة بالرجال، سياسيين وعسكريين، عشاقاً وأزواجاً وأصدقاء، وعبرهم تلقف الزمن صوت السارد وصار سارداً. بل نخرج من الرواية لنصف الزمن بالشخصية الرئيسة، أو البطل بمصطلحات ما قبل الربيع النقدي السردي.
من مفاجأة الزمن المقتحم خلوة القطار يتسلل السارد إلى متن المدونة. يسوق الأحداث المستعادة، ويوازن في فسحات الصمت أو التوقفات السردية بالعودة إلى الحاضر، ولكن بسكون لا يقطعه أو يسرع مجرى أحداثه إلا ذلك اللقاء الذي لم يتم بين تاج الملوك وعاشقها الفلسطيني منصور، زميل الإذاعة الباكستانية بالعربية في الخمسينات.
لقد قذف به الزمن هو الآخر إلى بلدان عدة. فتعادل في النفي والإقصاء مع تاج الملوك، وأخيراً في كاراكاس مستشاراً لرئيسها شافيز ثم مقصى عنه إلى زاوية نسيان تجعله يبحث مجدداً عن حبيبته التي لم يكتمل اقترانه بها وشطت بهما الطرق. هي رواية زمن ماض إذاً، ورواية شتات. الفلسطيني منصور والعراقية تاج الملوك يعيشان قدرهما. لا فرق في اسم المنفى: كاراكاس أو باريس. ولتكتمل المأساة، تأتي الكاتبة بشخصية وديان العراقية الشابة التي ترافق تاج الملوك في منفاها وشيخوختها ، وتشهد- كما نشهد نحن عبرها- لحظات دخول تاج الملوك في غابة من نسيان، هي بدايات شيخوختها ثم أوج الزهايمر. عند هذه النقطة من السرد تنوب عنها صديقتها وديان الصماء المعذبة بماض قريب والهاربة الى المنفى الباريسي. تستكمل وديان ذاكرة تاج وتواصل السرد نيابة عنها لا في المقاطع المخصصة لها فحسب، فهي تحاول إنجاز اللقاء المستحيل بين تاج الملوك والفلسطيني منصور. لقاء يصبح استيهاماً كاذباً لا يتحقق إلا في لا وعي تاج التي تلملم ماضيها وتعرضه لوديان عبر صندوق الصور والرسائل، حيث الزمن المتجمد الذي حملته معها. لكنّ الزمن لا يعني إحصاء الخسارات الشخصية والوطن البعيد فحسب. إنه يقدم هيجان أحداثه ودلالاتها. تحولات رهيبة في مفاصل الحياة العربية تمتد مثل عمر تاج الملوك وعبر صلاتها بالطبقة المتنفذة، وأصحاب القرارات العليا وبواسطة الصحافة والإذاعة واللقاءات والبروتوكولات التي تشهدها.
هي في خصام وتقاطع مع ماضيها. لم تتزوج من تحب. ولم يدم النظام الذي أرادت من خلاله أن تغير الحياة وتؤثر في مجتمعها بل جاءت ثورة 14 تموز (يوليو) لتؤسس الجمهورية على أنقاض الملكية التي تمتعت تاج الملوك بأيامها، قبل أن يتحول الباشا رئيس وزراء العراق الملكي نوري السعيد، ويصبح جلاداً ويوليها ظهره. هكذا تهاجمها ما تسميها «خفافيش ماضيها» وبمقابلها «لعنة الشيخوخة». ولدرء ذلك تستعيد أمجادها.حين كانت «قدماها قد قطعتا جبالاً و عبرتا قارات»، لكنها الآن في كرسيها المتحرك لا تمشي إلا من خلال صور من ماضيها، ضمتها صناديق حملتها معها حيث حلت.
ولكن لماذا هي النبيذة كما حددها العنوان؟ ترد إشارتان لذلك فضلاً عن الدلالة الكلية للنبذ، مقترناً بوجود الشخصيات مقذوفين أو منتبذين أماكن قصية إن لم نقل إنهم منبوذون بقسوة وعنف تؤكدهما تفاصيل حياتهم. لكنّ تاج تجمع معنيين للنبذ كما يرد في الرواية: الأول يتبادر إلى القراءة من التصريف الذي ذكرته الرواية للنبذ، فالراوي يصفها بالقول: «ظلت العصيّة والنبيذة وعلامة الاستفهام»، ثم ترد في جزء خاص بمنصور الذي يقول عنها(تاجي عنقود من عنب أسود يعاند الأرجل العاصرة.نبيذها حلو..)، لكنه بعد أسطر ينساق للمهيمنة اللسانية فيقلّب النبذ لغوياً بالعودة للمعجم: فيجد المعنيين: النبذ بمعنى طرح الشيء، والنبيذ الذي هو غليان العصير، لكنه لا يتوقف عند المعنى الأخير «انتبذ جلس ناحية» بهذا المعنى تكون تاج قد اتخذت هامش الحياة منتبذاً بعدما عاشت مع صناديق ذكرياتها، وصور ماضيها ممزوجة بالخسارت. تقول في إحدى تداعياتها: «العمر محض تلويحات» وكأنها تكمل مايقوله منصور في تداعياته «يمكن وصف حياتي بأنها تاريخ مضغوط في مفكرات». وتلك هي حصيلة ما خرج به الثلاثة. لا أحد رابح أو سعيد. الشتات الموحش والوحدة والعطب الجسدي والركون إلى الماضي. بذا وضعت إنعام كجه جي شخصياتها في حصار خانق: لا الحاضر ذو جدوى ولا المستقبل ممكن، كما أن الماضي غدا ورقاً وصوراً داخل صناديق تنفتح في وحشة الروح وضعفها، لتنجدها كي تقف ثانية. صحيح أن تاج لم تمت في النهاية، لكنّ وطنها ابتعد، وآلَ كل شيء إلى سراب. ولا يمكن أن ننصرف لتاريخ العراق الذي مرّ متقاطعاً مع حيوات الشخصيات. فالرواية- وهذا من فضائلها ومزاياها الكثيرة- لا تريد تدوين تاريخ للمكان، بقدر ارتباطه بمصائر الشخصيات. لقد كانت أحداث التاريخ الحديث من الاحتلال ونشأة الدولة العراقية ثم الجمهورية والأنظمة الدكتاتورية والمتعسفة ترد فقط لإضاءة زمن داخلي هو زمن حياة الشخصيات. التاريخ هنا بأحداثه وتحولاته يغري بالمتابعة ويلبي فضول القارئ لما حصل في وطنه، لكنّ انعكاس ذلك كله على الشخصيات هو ما كان يشغل الكاتبة.
بذكاء وحرفة سردية، تخلق إنعام كجه جي شخصية مكمّلة لتاج الملوك: مصابة بصمم سبّبه لها المعتوه ابن الشيخ الدكتاتور الصغير، وهذه جزئية من وقائع العراق وما مرّ به من أحداث. لقد نقلتها عبر وديان التي تؤدي مهمة سردية أخرى، فهي تملأ ثغرات السرد وفراغاته بمراقبة تاج ومصاحبتها، وتستكمل حيوات لم تشهدها تاج الملوك. وتعينها على التذكر والعيش ومحاولة استرداد حبيبها الذي لم تقترن به. أما رذاذ ألم زواجها الفاشل وتغير اسمها بسببه فهو من ندوب الذاكرة، وما تعاني من ألم. لقد صار اسمها مارتين شامبيون ومات الرجل الذي خذله استقلال الجزائر كجنرال فرنسي. لكنّ المشكلة ليست في الإسم. لقد تغير اسمها مرات عدة كما تقول وديان. المعضلة في الزمن. حاضرها الكسيح مقابل ماضيها الشريف كما تقول. أما وديان فلا ترى عراق تاج بأنه عراقها. ولا زمن تاج زمنها. هذا تاكيد على أنها بديلتها الشخصية لا الزمنية. يكفيها عذابات الدكتاتورية التي جعلتها تفرّ لاجئة في مصحات باريس. وتدع تاج مثل شاشة: ترى من خلالها أحداث تسعين سنة ترويها- أو تروى عن- امرأة في التسعين أيضاً، وهي تقفز عبر أزمان متعددة وأمكنة متباعدة.
تأتي النهاية في ما يشبه ميتا سرد، تفصح فيه وديان عن مصائر الشخصيات الثلاثة. لم تمت مارتين- تاج الملوك «لا تزال تنام فوق صناديقها» تعاني «وجع الذاكرة»، ومنصور الحبيب المستحيل «ما زال غارقاً في اضطرابات فنزويلا، يتأمل كراساته المتراكمة على أمل أن يكتب مذكراته ذات يوم». أما وديان التي اختارت الوحدة وإشباع رغباتها بالخيال، فقد نسيت حبيبها البغدادي يوسف، وجربت جرعة الإيمان: «تغطي رأسها بوشاح، وتحضر حلقات حوار الأديان»، وبدل أن تبعث ملَكَتها الموسيقية كعازفة، راحت تبحث عن فتاوى حُكم سماع الموسيقى.
ماذا تريد إنعام من مثل هذه النهاية؟ التصويت للانسحاب الذي يعيشه الجيل الحاضر كما صوتت بفشل الجيل الثالث في «الحفيدة الأميركية»؟ ربما. فهي من جيل شهد النكسات وتشظى في المنافي وتعذب كثيراً ولم يعد يرى مستقبلاً قريباً للوطن، وللمتمسكين بقشة باقية قد تنقذ ذاكرتهم وحدها من دون شك.
يصف السارد حياة تاج الملوك بأنها «مثل قلائد السحرة والمشعوذين. ملضومة من بقايا خشب وخزف وعاج وريش وجلود. توليفة قديمة من الماضي. لم تعد متوافرة إلا في صور الأسود والأبيض». وأحسب أن هذا ما كانت الكاتبة حريصة على رصده في روايتها ذات النكهة المدهشة في أزمنتها وأمكنتها وشخصياتها ولغتها.
في السطر الثالث من رواية إنعام كجه جي الجديدة «النبيذة» (دار الجديد، بيروت 2017)، يفاجئنا الماضي كما يفاجئ شخصية الرواية «تاج الملوك ذات الأسماء المتعددة»، فيجلس جنبها شامتاً في قطار الأنفاق في باريس التي كانت مسرح أحداث روايات إنعام كجه جي السابقة، مثل «طشاري» روايتها الثالثة و «سواقي القلوب» روايتها الأولى. وتذكرنا تاج الملوك بكاشانية الناجية في «سواقي القلوب» ووردية شماس في «طشاري» حيث تعيشان في المنفى، وتستعيدان الماضي عبر أحداث الرواية. لكنّ حالة التبعثر و»التطشر» ستظل المهيمنة الأساسية في سرد إنعام كجه جي حتى في عملها هذا.
وكما في رواياتها تلك كان الإسترجاع هو سبيل السرد كله. تبدأ الرواية وقد انتهى كل شيء. عاشت تاج الملوك حياتها وتبدلت أسماؤها وأعمالها وسكنها، وخرجت بمرارات ما ضاع منها. لذا كان الماضي شامتاً، لكنها الآن تشركنا في جزئياتها وتبدلاتها الحادّة. تلك التبدلات والتحولات التي يعدها دارسو السرد أساس الرواية وعصبها الرئيس. تحولات جعلت حياتها محتشدة بالرجال، سياسيين وعسكريين، عشاقاً وأزواجاً وأصدقاء، وعبرهم تلقف الزمن صوت السارد وصار سارداً. بل نخرج من الرواية لنصف الزمن بالشخصية الرئيسة، أو البطل بمصطلحات ما قبل الربيع النقدي السردي.
من مفاجأة الزمن المقتحم خلوة القطار يتسلل السارد إلى متن المدونة. يسوق الأحداث المستعادة، ويوازن في فسحات الصمت أو التوقفات السردية بالعودة إلى الحاضر، ولكن بسكون لا يقطعه أو يسرع مجرى أحداثه إلا ذلك اللقاء الذي لم يتم بين تاج الملوك وعاشقها الفلسطيني منصور، زميل الإذاعة الباكستانية بالعربية في الخمسينات.
لقد قذف به الزمن هو الآخر إلى بلدان عدة. فتعادل في النفي والإقصاء مع تاج الملوك، وأخيراً في كاراكاس مستشاراً لرئيسها شافيز ثم مقصى عنه إلى زاوية نسيان تجعله يبحث مجدداً عن حبيبته التي لم يكتمل اقترانه بها وشطت بهما الطرق. هي رواية زمن ماض إذاً، ورواية شتات. الفلسطيني منصور والعراقية تاج الملوك يعيشان قدرهما. لا فرق في اسم المنفى: كاراكاس أو باريس. ولتكتمل المأساة، تأتي الكاتبة بشخصية وديان العراقية الشابة التي ترافق تاج الملوك في منفاها وشيخوختها ، وتشهد- كما نشهد نحن عبرها- لحظات دخول تاج الملوك في غابة من نسيان، هي بدايات شيخوختها ثم أوج الزهايمر. عند هذه النقطة من السرد تنوب عنها صديقتها وديان الصماء المعذبة بماض قريب والهاربة الى المنفى الباريسي. تستكمل وديان ذاكرة تاج وتواصل السرد نيابة عنها لا في المقاطع المخصصة لها فحسب، فهي تحاول إنجاز اللقاء المستحيل بين تاج الملوك والفلسطيني منصور. لقاء يصبح استيهاماً كاذباً لا يتحقق إلا في لا وعي تاج التي تلملم ماضيها وتعرضه لوديان عبر صندوق الصور والرسائل، حيث الزمن المتجمد الذي حملته معها. لكنّ الزمن لا يعني إحصاء الخسارات الشخصية والوطن البعيد فحسب. إنه يقدم هيجان أحداثه ودلالاتها. تحولات رهيبة في مفاصل الحياة العربية تمتد مثل عمر تاج الملوك وعبر صلاتها بالطبقة المتنفذة، وأصحاب القرارات العليا وبواسطة الصحافة والإذاعة واللقاءات والبروتوكولات التي تشهدها.
هي في خصام وتقاطع مع ماضيها. لم تتزوج من تحب. ولم يدم النظام الذي أرادت من خلاله أن تغير الحياة وتؤثر في مجتمعها بل جاءت ثورة 14 تموز (يوليو) لتؤسس الجمهورية على أنقاض الملكية التي تمتعت تاج الملوك بأيامها، قبل أن يتحول الباشا رئيس وزراء العراق الملكي نوري السعيد، ويصبح جلاداً ويوليها ظهره. هكذا تهاجمها ما تسميها «خفافيش ماضيها» وبمقابلها «لعنة الشيخوخة». ولدرء ذلك تستعيد أمجادها.حين كانت «قدماها قد قطعتا جبالاً و عبرتا قارات»، لكنها الآن في كرسيها المتحرك لا تمشي إلا من خلال صور من ماضيها، ضمتها صناديق حملتها معها حيث حلت.
ولكن لماذا هي النبيذة كما حددها العنوان؟ ترد إشارتان لذلك فضلاً عن الدلالة الكلية للنبذ، مقترناً بوجود الشخصيات مقذوفين أو منتبذين أماكن قصية إن لم نقل إنهم منبوذون بقسوة وعنف تؤكدهما تفاصيل حياتهم. لكنّ تاج تجمع معنيين للنبذ كما يرد في الرواية: الأول يتبادر إلى القراءة من التصريف الذي ذكرته الرواية للنبذ، فالراوي يصفها بالقول: «ظلت العصيّة والنبيذة وعلامة الاستفهام»، ثم ترد في جزء خاص بمنصور الذي يقول عنها(تاجي عنقود من عنب أسود يعاند الأرجل العاصرة.نبيذها حلو..)، لكنه بعد أسطر ينساق للمهيمنة اللسانية فيقلّب النبذ لغوياً بالعودة للمعجم: فيجد المعنيين: النبذ بمعنى طرح الشيء، والنبيذ الذي هو غليان العصير، لكنه لا يتوقف عند المعنى الأخير «انتبذ جلس ناحية» بهذا المعنى تكون تاج قد اتخذت هامش الحياة منتبذاً بعدما عاشت مع صناديق ذكرياتها، وصور ماضيها ممزوجة بالخسارت. تقول في إحدى تداعياتها: «العمر محض تلويحات» وكأنها تكمل مايقوله منصور في تداعياته «يمكن وصف حياتي بأنها تاريخ مضغوط في مفكرات». وتلك هي حصيلة ما خرج به الثلاثة. لا أحد رابح أو سعيد. الشتات الموحش والوحدة والعطب الجسدي والركون إلى الماضي. بذا وضعت إنعام كجه جي شخصياتها في حصار خانق: لا الحاضر ذو جدوى ولا المستقبل ممكن، كما أن الماضي غدا ورقاً وصوراً داخل صناديق تنفتح في وحشة الروح وضعفها، لتنجدها كي تقف ثانية. صحيح أن تاج لم تمت في النهاية، لكنّ وطنها ابتعد، وآلَ كل شيء إلى سراب. ولا يمكن أن ننصرف لتاريخ العراق الذي مرّ متقاطعاً مع حيوات الشخصيات. فالرواية- وهذا من فضائلها ومزاياها الكثيرة- لا تريد تدوين تاريخ للمكان، بقدر ارتباطه بمصائر الشخصيات. لقد كانت أحداث التاريخ الحديث من الاحتلال ونشأة الدولة العراقية ثم الجمهورية والأنظمة الدكتاتورية والمتعسفة ترد فقط لإضاءة زمن داخلي هو زمن حياة الشخصيات. التاريخ هنا بأحداثه وتحولاته يغري بالمتابعة ويلبي فضول القارئ لما حصل في وطنه، لكنّ انعكاس ذلك كله على الشخصيات هو ما كان يشغل الكاتبة.
بذكاء وحرفة سردية، تخلق إنعام كجه جي شخصية مكمّلة لتاج الملوك: مصابة بصمم سبّبه لها المعتوه ابن الشيخ الدكتاتور الصغير، وهذه جزئية من وقائع العراق وما مرّ به من أحداث. لقد نقلتها عبر وديان التي تؤدي مهمة سردية أخرى، فهي تملأ ثغرات السرد وفراغاته بمراقبة تاج ومصاحبتها، وتستكمل حيوات لم تشهدها تاج الملوك. وتعينها على التذكر والعيش ومحاولة استرداد حبيبها الذي لم تقترن به. أما رذاذ ألم زواجها الفاشل وتغير اسمها بسببه فهو من ندوب الذاكرة، وما تعاني من ألم. لقد صار اسمها مارتين شامبيون ومات الرجل الذي خذله استقلال الجزائر كجنرال فرنسي. لكنّ المشكلة ليست في الإسم. لقد تغير اسمها مرات عدة كما تقول وديان. المعضلة في الزمن. حاضرها الكسيح مقابل ماضيها الشريف كما تقول. أما وديان فلا ترى عراق تاج بأنه عراقها. ولا زمن تاج زمنها. هذا تاكيد على أنها بديلتها الشخصية لا الزمنية. يكفيها عذابات الدكتاتورية التي جعلتها تفرّ لاجئة في مصحات باريس. وتدع تاج مثل شاشة: ترى من خلالها أحداث تسعين سنة ترويها- أو تروى عن- امرأة في التسعين أيضاً، وهي تقفز عبر أزمان متعددة وأمكنة متباعدة.
تأتي النهاية في ما يشبه ميتا سرد، تفصح فيه وديان عن مصائر الشخصيات الثلاثة. لم تمت مارتين- تاج الملوك «لا تزال تنام فوق صناديقها» تعاني «وجع الذاكرة»، ومنصور الحبيب المستحيل «ما زال غارقاً في اضطرابات فنزويلا، يتأمل كراساته المتراكمة على أمل أن يكتب مذكراته ذات يوم». أما وديان التي اختارت الوحدة وإشباع رغباتها بالخيال، فقد نسيت حبيبها البغدادي يوسف، وجربت جرعة الإيمان: «تغطي رأسها بوشاح، وتحضر حلقات حوار الأديان»، وبدل أن تبعث ملَكَتها الموسيقية كعازفة، راحت تبحث عن فتاوى حُكم سماع الموسيقى.
ماذا تريد إنعام من مثل هذه النهاية؟ التصويت للانسحاب الذي يعيشه الجيل الحاضر كما صوتت بفشل الجيل الثالث في «الحفيدة الأميركية»؟ ربما. فهي من جيل شهد النكسات وتشظى في المنافي وتعذب كثيراً ولم يعد يرى مستقبلاً قريباً للوطن، وللمتمسكين بقشة باقية قد تنقذ ذاكرتهم وحدها من دون شك.
يصف السارد حياة تاج الملوك بأنها «مثل قلائد السحرة والمشعوذين. ملضومة من بقايا خشب وخزف وعاج وريش وجلود. توليفة قديمة من الماضي. لم تعد متوافرة إلا في صور الأسود والأبيض». وأحسب أن هذا ما كانت الكاتبة حريصة على رصده في روايتها ذات النكهة المدهشة في أزمنتها وأمكنتها وشخصياتها ولغتها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.