5 دول لن تشهد انتخابات مجلس الشيوخ.. سوريا والسودان وإسرائيل أبرزهم    محافظ القليوبية يتابع أعمال النظافة ورفع الإشغالات بالخصوص    الرئيس الإيراني يبدأ زيارة رسمية إلى باكستان السبت لتعزيز التعاون الثنائي    ملك المغرب يعطي تعليماته من أجل إرسال مساعدة إنسانية عاجلة لفائدة الشعب الفلسطيني    الرئاسة الفلسطينية: مصر لم تقصر في دعم شعبنا.. والرئيس السيسي لم يتوان لحظة عن أي موقف نطلبه    فرنسا تطالب بوقف أنشطة "مؤسسة غزة الإنسانية" بسبب "شبهات تمويل غير مشروع"    القوات الأوكرانية خسرت 7.5 آلاف عسكري في تشاسوف يار    البرلمان اللبناني يصادق على قانوني إصلاح المصارف واستقلالية القضاء    تقرير: مانشستر يونايتد مهتم بضم دوناروما حارس مرمى باريس سان جيرمان    عدي الدباغ معروض على الزمالك.. وإدارة الكرة تدرس الموقف    خالد الغندور يوجه رسالة بشأن زيزو ورمضان صبحي    راديو كتالونيا: ميسي سيجدد عقده مع إنتر ميامي حتى 2028    أبرزهم آرنولد.. ريال مدريد يعزز صفوفه بعدة صفقات جديدة في صيف 2025    مصر تتأهل لنهائي بطولة العالم لناشئي وناشئات الإسكواش بعد اكتساح إنجلترا    جنوب سيناء تكرم 107 متفوقين في التعليم والرياضة وتؤكد دعمها للنوابغ والمنح الجامعية    تحقيقات موسعة مع متهم طعن زوجته داخل محكمة الدخيلة بسبب قضية خلع والنيابة تطلب التحريات    محافظ القاهرة يقود حملة لرفع الإشغالات بميدان الإسماعيلية بمصر الجديدة    نيابة البحيرة تقرر عرض جثة طفلة توفيت فى عملية جراحية برشيد على الطب الشرعى    مراسل "الحياة اليوم": استمرار الاستعدادات الخاصة بحفل الهضبة عمرو دياب بالعلمين    مكتبة الإسكندرية تُطلق فعاليات مهرجان الصيف الدولي في دورته 22 الخميس المقبل    ضياء رشوان: تظاهرات "الحركة الإسلامية" بتل أبيب ضد مصر كشفت نواياهم    محسن جابر يشارك في فعاليات مهرجان جرش ال 39 ويشيد بحفاوة استقبال الوفد المصري    أسامة كمال عن المظاهرات ضد مصر فى تل أبيب: يُطلق عليهم "متآمر واهبل"    نائب محافظ سوهاج يُكرم حفظة القرآن من ذوي الهمم برحلات عمرة    أمين الفتوى يحذر من تخويف الأبناء ليقوموا الصلاة.. فيديو    ما كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر؟ أمين الفتوى يجيب    القولون العصبي- إليك مهدئاته الطبيعية    جامعة أسيوط تطلق فعاليات اليوم العلمي الأول لوحدة طب المسنين وأمراض الشيخوخة    «بطولة عبدالقادر!».. حقيقة عقد صفقة تبادلية بين الأهلي وبيراميدز    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    لتسهيل نقل الخبرات والمهارات بين العاملين.. جامعة بنها تفتتح فعاليات دورة إعداد المدربين    محقق الأهداف غير الرحيم.. تعرف على أكبر نقاط القوة والضعف ل برج الجدي    وزير العمل يُجري زيارة مفاجئة لمكتبي الضبعة والعلمين في مطروح (تفاصيل)    هيئة الدواء المصرية توقّع مذكرة تفاهم مع الوكالة الوطنية للمراقبة الصحية البرازيلية    قتل ابنه الصغير بمساعدة الكبير ومفاجآت في شهادة الأم والابنة.. تفاصيل أغرب حكم للجنايات المستأنفة ضد مزارع ونجله    الشيخ خالد الجندي: الحر الشديد فرصة لدخول الجنة (فيديو)    عالم بالأوقاف: الأب الذي يرفض الشرع ويُصر على قائمة المنقولات «آثم»    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    ليستوعب 190 سيارة سيرفيس.. الانتهاء من إنشاء مجمع مواقف كوم أمبو في أسوان    تعاون مصري - سعودي لتطوير وتحديث مركز أبحاث الجهد الفائق «EHVRC»    كبدك في خطر- إهمال علاج هذا المرض يصيبه بالأورام    محافظ سوهاج يشهد تكريم أوائل الشهادات والحاصلين على المراكز الأولى عالميا    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير البترول يبحث مع "السويدى إليكتريك" مستجدات مجمع الصناعات الفوسفاتية بالعين السخنة    هشام يكن: انضمام محمد إسماعيل للزمالك إضافة قوية    ضبط طفل قاد سيارة ميكروباص بالشرقية    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    انطلاق المرحلة الثانية لمنظومة التأمين الصحي الشامل من محافظة مطروح    SN أوتوموتيف تطلق السيارة ڤويا Free الفاخرة الجديدة في مصر.. أسعار ومواصفات    خبير علاقات دولية: دعوات التظاهر ضد مصر فى تل أبيب "عبث سياسي" يضر بالقضية الفلسطينية    بدء الدورة ال17 من الملتقى الدولي للتعليم العالي"اديوجيت 2025" الأحد المقبل    يديعوت أحرونوت: نتنياهو وعد بن غفير بتهجير الفلسطينيين من غزة في حال عدم التوصل لصفقة مع الفصائل الفلسطينية    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    فوضى في العرض الخاص لفيلم "روكي الغلابة".. والمنظم يتجاهل الصحفيين ويختار المواقع حسب أهوائه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشعر وأسطورة الرجل الأبيض
نشر في صوت البلد يوم 09 - 09 - 2017

ليس ثمة إجابة يمكننا استلهامها ضمن تساؤلات الشاعر العربي منذ حركة النهضة عن تحولات القيم الشعرية بين الشرق والغرب، هذا إذا اعتبرنا أن الثقافة العربية تتعامل مع الشعر باعتباره جزءاً من نظرية المعرفة، وهو أمر لم يكن واضحاً في أية لحظة من تاريخ النقد العربي، حيث اعتمد النقد العربي كلية على نظرية البلاغة وعلوم اللغة في بناء موقفه الجمالي والفلسفي من الفنون عموماً ومن الشعر بخاصة.
الفلاسفة «المسلمون» وحدهم مَنْ تحدث عن رؤية «ميتا شعرية» لذلك الجوهر الذي رأوه واحداً من أرقى التعبيرات الإنسانية عن مفهوم اللذة. ومن المدهش أن تكون الرؤية النقدية للشعر العربي لدى ابن سينا والفارابي مثلاً، وقد تشكلت قبل ما يقرب من عشرة قرون، أقرب إلى أحدث المناهج النقدية من تلك النظريات التي تعلَّقت بأذيال أحدث المذاهب في نظرية اللغة.
طبعاً قد يتبدى هذا التقارب نتاجاً لتأثر الفلاسفة المسلمين بأرسطو، لكنهم بإجماع فلاسفة الجمال، لم يكونوا مِنْ نَقَلَتِهِ. وأظن أن هذه المقاربات في الثقافة الشرقية كانت ولازالت تعمل تحت وطأة مناهج استشراقية تواشجت وتناقضت بالقوة نفسها مع رائحة الغازي المقيم الذي يعد أعلى تمثيلات القوة في الحضارة الغربية، على رغم أن شعر تلك المركزية وفنونها عموماً، عملت بتناقض ربما كان جذرياً مع تمثيلات القوة كافة، فضلاً عن أن تلك التصورات ارتبطت بحداثة تسلحت بمعرفة اعتبرت أن الأسطورة عدوها الأول، مقابل رائحة الشرق التي لازالت تستخرج التاريخ من سلة الخرافة. ولن يتبين قارئ النص العربي بسهولة تلك الأسباب التي جعلت رائحة الاستشراق ذات نفاذية تتجاوز حدود الانسحاق أمام صورة الغازي الذي ترك الأرض لكنه سكن بقية التفاصيل.
«غرائبية الشرق»، بتعبير إدوارد سعيد، لم تكن عاصماً من وصفه بالبدائية، التي تبدو، لعدم انضباطها، خارج التاريخ المدوَّن. لكن الشاعر سيظل شغوفاً بمزيد من السحرية وهو يتابع نموذجاً معرفياً وإنسانياً فوق مستوى الإدانة تمثله أسطورة القوة، سواء كان في سلوك الغازي الذي يبحث بطريقته عن اللذة، أو في النقيض الذي يتجسد في الفتنة بقصص الضحايا من المشرقيين الذين ذهبوا مسحورين خلف نماذج شعرية تبدت في نصوص استعراضية باذخة كما في «الديوان الشرقي» لغوته مثلاً. ولن يكون غريباً، في هذا السياق، أن يحتفي رجل بقامة عبدالغفار مكاوي بترجمة غوته لقصيدة فريدة للشاعر العربي تأبط شراً ضمن معركة نُصبت رحاها عام 1969 على صفحات مجلة «المجلة»، عندما كتب يحيى حقي مشيداً بذلك الإنجاز. يقول مطلع القصيدة: «إن بالشِعْب الذي دون سُلَّع/ لقتيلاً دمه ما يطل».
رأى حقي أن ترجمة غوته ومكاوي أعادت قصيدة تأبط شراً إلى الحياة وكشفت الكثير من عورات الشعر العربي، لاسيما وأن غوته قام بإعادة ترتيب الأبيات فكشف عن فكرة التفكك في القصيدة الكلاسيكية. فما كان من الشيخ محمود شاكر إلا أن كتب خمس مقالات مطوَّلة رداً على يحيى ومكاوي، وهي المقالات التي مثَّلت في ما بعد قوام كتابه المهم «نمط صعب، ونمط مخيف». فهل كان الشيخ شاكر يملك مراجعة مكاوي على هذا النحو، ثم يصف ترجمته بأنها «بلغت غايتها من الركاكة والسقم»؛ بعد أن يطلب الغفران الإلهي «لكاتب هذا وقارئه»، حيث أنه في رأيه الإجمالي: «كلام بغير زمام ولا خطام».
طبعاً لا يملك أحد أن يجيب نيابة عن الشيخ، لكن المؤكد أن ثمة جرحاً نرجسياً يرتبط بهويته؛ يبدو كأهم دوافع هذا العدوان. وهو جرح يرتبط بإهدار يبدو سافراً لجماليات نص تمَّ إنتاجه في إطار ثقافة ذات تمايزات حضارية. من هنا سيظل من غير المفهوم لدى الشيخ أن تتحقق الشعرية في النص المترجم من دون تحققها في الأصل. ومن المؤكد، أن تمايزات الجمالية العربية التي يدافع عنها الشيخ محمود شاكر ترتبط وثيقاً بإشكالية استغراق النقد العربي؛ قديمه وحديثه؛ في تكريس خصوصية لسانية ربطت من جهة بين الشعر العربي والنص القرآني؛ ومن جهة أخرى ربطت بين النص وبين لغته التي ارتقت إلى القداسة ذاتها. لذلك ستبدو التفضيلات التي تحدث عنها مكاوي، في نظر الشيخ، مجرد واحدة من أعلى التجسيدات المرضية لأسطورة «الرجل الأبيض»؛ وهو تصور تجاوز مفهوم الاستعمار التقليدي، ليصل إلى سطوة تستنبت الحقيقة المزيفة من رماد فجائع تاريخية لم يُكتب لها الثبات في الأحوال كافة، بحيث يبدو التاريخ السحيق، في نظر الشيخ، وكأنه يصنع الآن وغداً. صحيح أن تنامي مفهوم القوة صنع نوعاً من المعرفة المزيفة التي صورت للرجل الأبيض امتلاكه وحده مفتاح الخلود..
لكن ثمة شعراء بامتداد التاريخ والجغرافيا يعلمون أن تلك الفكرة ظلت جوهراً مركزياً في الثقافة الشرقية بعد أن أزاحتها العقلانية الغربية. وستظل تلك الفكرة تمثيلاً ضرورياً لفكرة الحقيقة في التاريخ والأديان والأساطير، فضلاً عن أنها تتبدى تعبيراً عن اعتقاد قديم يسبق الرؤية الأرسطية ويخلُص إلى أن الحياة تمثيل للتخلق اللا حيوي، أعني التخلق بالمصادفة. فبالمصادفة نفسها تمر الحياة، فإذا ما مرت فإنها قطعاً لا تعود. ولا أتصور أن ذلك يتنافى مع البحث الفطري للشاعر عن الخلود سوى بالقدر الذي يتخلى فيه هو نفسه عن كونه خالقاً لا مخلوقاً؛ كما يقول أوكتافيو باث. وهي نزعة تتعاظم في الشرق أكثر من تعاظمها في الغرب على رغم أن جذرها غربي بامتياز.
لا أريد هنا أن أسترسل في قراءة ميتا شعرية لفكرة «الشرق» عبر نماذج تضج بالتزييف والمنبرية، وتبدو محملة بتاريخ مثقل بالقمع أمام سطوة مفهوم القوة. وسيظل مدهشاً أن يخوض شعراء ومفكرون عرب معارك دونكيشوتية تنتهي عادة إلى احتقار المشتركات الإنسانية كافة في النص الشعري تحت وطأة تلك التمايزات ذات الترجيع القوموي البغيض. هؤلاء الشعراء لم تتسع مخيلتهم أبداً للحاضر؛ إلا من خلال الماضي، ومع ذلك يحضر لديهم هذا الماضي كحقيقة مضارعة تستبسل في تأميم المستقبل. وأظن أن قصيدة النثر وهي تتخلق كنمط لا حيوي، عسفت، ربما بالمصادفة نفسها، بالكثير من أراجيح الخصوصية ذات الترجيع السياسي فبدت أقرب الأشكال الفنية المركبة إلى مفهوم النص الإنساني المنفتح على ذلك الجرح الذي لم يكن قصراً على الهويات المجرحة؛ بل شمل الإنسان في كل مكان.
وربما كان أهم ما فعلته الفلسفة العربية أنها بنأيها عن القراءة المقدسة للشعر عززت مشتركات النص من دون إهدار فكرة الخصوصية، حيث عملت على تعميق عنصرين أساسيين هما: «المحاكاة والتخييل»، وهما يمثلان أعلى المشتركات الإنسانية الممكنة. على أن الاقتراب من الحقيقة الشعرية في الثقافات كافة سيظل حلماً طالما كان الشاعر نفسه يجسد وعيه عبر تصورات ممكنة لمفهوم الخصوصية الروحية في إطار تصورات جماعته البشرية من دون إخضاع النص لثنائيات تبدو ذات ترجيعات شبه عنصرية.
وعلى رغم أن الشعر يصنف كواحد من إفرازات اللاعقلانية؛ إلا أن نماذجه لدى الآخر الغربي لم تكن في أي لحظة تمثيلاً لوقاحة المركزية الأوروبية. من هنا بدت تلك النماذج المتعاطفة مع الشرق وكأنها انتصار لثقافات مركزية أهانها التاريخ، وربما هذا ما دفع شاعراً اعترافيا بحجم بول فاليري إلى القول: «إن أوروبا ما هي إلا مجرد قبعة ناتئة من آسيا».
ليس ثمة إجابة يمكننا استلهامها ضمن تساؤلات الشاعر العربي منذ حركة النهضة عن تحولات القيم الشعرية بين الشرق والغرب، هذا إذا اعتبرنا أن الثقافة العربية تتعامل مع الشعر باعتباره جزءاً من نظرية المعرفة، وهو أمر لم يكن واضحاً في أية لحظة من تاريخ النقد العربي، حيث اعتمد النقد العربي كلية على نظرية البلاغة وعلوم اللغة في بناء موقفه الجمالي والفلسفي من الفنون عموماً ومن الشعر بخاصة.
الفلاسفة «المسلمون» وحدهم مَنْ تحدث عن رؤية «ميتا شعرية» لذلك الجوهر الذي رأوه واحداً من أرقى التعبيرات الإنسانية عن مفهوم اللذة. ومن المدهش أن تكون الرؤية النقدية للشعر العربي لدى ابن سينا والفارابي مثلاً، وقد تشكلت قبل ما يقرب من عشرة قرون، أقرب إلى أحدث المناهج النقدية من تلك النظريات التي تعلَّقت بأذيال أحدث المذاهب في نظرية اللغة.
طبعاً قد يتبدى هذا التقارب نتاجاً لتأثر الفلاسفة المسلمين بأرسطو، لكنهم بإجماع فلاسفة الجمال، لم يكونوا مِنْ نَقَلَتِهِ. وأظن أن هذه المقاربات في الثقافة الشرقية كانت ولازالت تعمل تحت وطأة مناهج استشراقية تواشجت وتناقضت بالقوة نفسها مع رائحة الغازي المقيم الذي يعد أعلى تمثيلات القوة في الحضارة الغربية، على رغم أن شعر تلك المركزية وفنونها عموماً، عملت بتناقض ربما كان جذرياً مع تمثيلات القوة كافة، فضلاً عن أن تلك التصورات ارتبطت بحداثة تسلحت بمعرفة اعتبرت أن الأسطورة عدوها الأول، مقابل رائحة الشرق التي لازالت تستخرج التاريخ من سلة الخرافة. ولن يتبين قارئ النص العربي بسهولة تلك الأسباب التي جعلت رائحة الاستشراق ذات نفاذية تتجاوز حدود الانسحاق أمام صورة الغازي الذي ترك الأرض لكنه سكن بقية التفاصيل.
«غرائبية الشرق»، بتعبير إدوارد سعيد، لم تكن عاصماً من وصفه بالبدائية، التي تبدو، لعدم انضباطها، خارج التاريخ المدوَّن. لكن الشاعر سيظل شغوفاً بمزيد من السحرية وهو يتابع نموذجاً معرفياً وإنسانياً فوق مستوى الإدانة تمثله أسطورة القوة، سواء كان في سلوك الغازي الذي يبحث بطريقته عن اللذة، أو في النقيض الذي يتجسد في الفتنة بقصص الضحايا من المشرقيين الذين ذهبوا مسحورين خلف نماذج شعرية تبدت في نصوص استعراضية باذخة كما في «الديوان الشرقي» لغوته مثلاً. ولن يكون غريباً، في هذا السياق، أن يحتفي رجل بقامة عبدالغفار مكاوي بترجمة غوته لقصيدة فريدة للشاعر العربي تأبط شراً ضمن معركة نُصبت رحاها عام 1969 على صفحات مجلة «المجلة»، عندما كتب يحيى حقي مشيداً بذلك الإنجاز. يقول مطلع القصيدة: «إن بالشِعْب الذي دون سُلَّع/ لقتيلاً دمه ما يطل».
رأى حقي أن ترجمة غوته ومكاوي أعادت قصيدة تأبط شراً إلى الحياة وكشفت الكثير من عورات الشعر العربي، لاسيما وأن غوته قام بإعادة ترتيب الأبيات فكشف عن فكرة التفكك في القصيدة الكلاسيكية. فما كان من الشيخ محمود شاكر إلا أن كتب خمس مقالات مطوَّلة رداً على يحيى ومكاوي، وهي المقالات التي مثَّلت في ما بعد قوام كتابه المهم «نمط صعب، ونمط مخيف». فهل كان الشيخ شاكر يملك مراجعة مكاوي على هذا النحو، ثم يصف ترجمته بأنها «بلغت غايتها من الركاكة والسقم»؛ بعد أن يطلب الغفران الإلهي «لكاتب هذا وقارئه»، حيث أنه في رأيه الإجمالي: «كلام بغير زمام ولا خطام».
طبعاً لا يملك أحد أن يجيب نيابة عن الشيخ، لكن المؤكد أن ثمة جرحاً نرجسياً يرتبط بهويته؛ يبدو كأهم دوافع هذا العدوان. وهو جرح يرتبط بإهدار يبدو سافراً لجماليات نص تمَّ إنتاجه في إطار ثقافة ذات تمايزات حضارية. من هنا سيظل من غير المفهوم لدى الشيخ أن تتحقق الشعرية في النص المترجم من دون تحققها في الأصل. ومن المؤكد، أن تمايزات الجمالية العربية التي يدافع عنها الشيخ محمود شاكر ترتبط وثيقاً بإشكالية استغراق النقد العربي؛ قديمه وحديثه؛ في تكريس خصوصية لسانية ربطت من جهة بين الشعر العربي والنص القرآني؛ ومن جهة أخرى ربطت بين النص وبين لغته التي ارتقت إلى القداسة ذاتها. لذلك ستبدو التفضيلات التي تحدث عنها مكاوي، في نظر الشيخ، مجرد واحدة من أعلى التجسيدات المرضية لأسطورة «الرجل الأبيض»؛ وهو تصور تجاوز مفهوم الاستعمار التقليدي، ليصل إلى سطوة تستنبت الحقيقة المزيفة من رماد فجائع تاريخية لم يُكتب لها الثبات في الأحوال كافة، بحيث يبدو التاريخ السحيق، في نظر الشيخ، وكأنه يصنع الآن وغداً. صحيح أن تنامي مفهوم القوة صنع نوعاً من المعرفة المزيفة التي صورت للرجل الأبيض امتلاكه وحده مفتاح الخلود..
لكن ثمة شعراء بامتداد التاريخ والجغرافيا يعلمون أن تلك الفكرة ظلت جوهراً مركزياً في الثقافة الشرقية بعد أن أزاحتها العقلانية الغربية. وستظل تلك الفكرة تمثيلاً ضرورياً لفكرة الحقيقة في التاريخ والأديان والأساطير، فضلاً عن أنها تتبدى تعبيراً عن اعتقاد قديم يسبق الرؤية الأرسطية ويخلُص إلى أن الحياة تمثيل للتخلق اللا حيوي، أعني التخلق بالمصادفة. فبالمصادفة نفسها تمر الحياة، فإذا ما مرت فإنها قطعاً لا تعود. ولا أتصور أن ذلك يتنافى مع البحث الفطري للشاعر عن الخلود سوى بالقدر الذي يتخلى فيه هو نفسه عن كونه خالقاً لا مخلوقاً؛ كما يقول أوكتافيو باث. وهي نزعة تتعاظم في الشرق أكثر من تعاظمها في الغرب على رغم أن جذرها غربي بامتياز.
لا أريد هنا أن أسترسل في قراءة ميتا شعرية لفكرة «الشرق» عبر نماذج تضج بالتزييف والمنبرية، وتبدو محملة بتاريخ مثقل بالقمع أمام سطوة مفهوم القوة. وسيظل مدهشاً أن يخوض شعراء ومفكرون عرب معارك دونكيشوتية تنتهي عادة إلى احتقار المشتركات الإنسانية كافة في النص الشعري تحت وطأة تلك التمايزات ذات الترجيع القوموي البغيض. هؤلاء الشعراء لم تتسع مخيلتهم أبداً للحاضر؛ إلا من خلال الماضي، ومع ذلك يحضر لديهم هذا الماضي كحقيقة مضارعة تستبسل في تأميم المستقبل. وأظن أن قصيدة النثر وهي تتخلق كنمط لا حيوي، عسفت، ربما بالمصادفة نفسها، بالكثير من أراجيح الخصوصية ذات الترجيع السياسي فبدت أقرب الأشكال الفنية المركبة إلى مفهوم النص الإنساني المنفتح على ذلك الجرح الذي لم يكن قصراً على الهويات المجرحة؛ بل شمل الإنسان في كل مكان.
وربما كان أهم ما فعلته الفلسفة العربية أنها بنأيها عن القراءة المقدسة للشعر عززت مشتركات النص من دون إهدار فكرة الخصوصية، حيث عملت على تعميق عنصرين أساسيين هما: «المحاكاة والتخييل»، وهما يمثلان أعلى المشتركات الإنسانية الممكنة. على أن الاقتراب من الحقيقة الشعرية في الثقافات كافة سيظل حلماً طالما كان الشاعر نفسه يجسد وعيه عبر تصورات ممكنة لمفهوم الخصوصية الروحية في إطار تصورات جماعته البشرية من دون إخضاع النص لثنائيات تبدو ذات ترجيعات شبه عنصرية.
وعلى رغم أن الشعر يصنف كواحد من إفرازات اللاعقلانية؛ إلا أن نماذجه لدى الآخر الغربي لم تكن في أي لحظة تمثيلاً لوقاحة المركزية الأوروبية. من هنا بدت تلك النماذج المتعاطفة مع الشرق وكأنها انتصار لثقافات مركزية أهانها التاريخ، وربما هذا ما دفع شاعراً اعترافيا بحجم بول فاليري إلى القول: «إن أوروبا ما هي إلا مجرد قبعة ناتئة من آسيا».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.