الرئيس اللبناني: واشنطن طرحت تعاونًا اقتصاديًا بين لبنان وسوريا    ستارمر يخطط للتشاور مع حلفاء أوكرانيا بعد تقارير عن سعي ترامب لاتفاق حول الأراضي    أمير هشام: غضب في الزمالك بعد التعادل أمام المقاولون    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025 في القاهرة والمحافظات    بحضور وزير قطاع الأعمال.. تخرج دفعة جديدة ب «الدراسات العليا في الإدارة»    البنك المصري الخليجي يتصدر المتعاملين الرئيسيين بالبورصة خلال جلسة بداية الأسبوع    السكك الحديدية تعلن تشغيل 49 رحلة يوميا على هذا الخط    إضافة المواليد على بطاقة التموين 2025.. الخطوات والشروط والأوراق المطلوبة (تفاصيل)    انطلاق المؤتمر الدولي السادس ل«تكنولوجيا الأغشية وتطبيقاتها» بالغردقة    رئيس "حماية المستهلك": وفرة السلع في الأسواق الضامن لتنظيم الأسعار تلقائيًا    أوسيم تضيء بذكراه، الكنيسة تحيي ذكرى نياحة القديس مويسيس الأسقف الزاهد    موعد فتح باب التقديم لوظائف وزارة الإسكان 2025    بين السَّماء والأرض.. زائر ليلي يُروّع أهل تبسة الجزائرية على التوالي بين 2024 و2025    الأمم المتحدة: نصف مليون فلسطيني في غزة مهددون بالمجاعة    أبرز تصريحات رئيس الوزراء خلال لقائه نظيره الفلسطيني الدكتور محمد مصطفى    احتجاجات غاضبة أمام مقر نتنياهو تتحول إلى مواجهات عنيفة    ماكرون: بوتين يريد استسلام أوكرانيا لا السلام    بدء اختبارات كشف الهيئة لطلاب مدارس التمريض بالإسكندرية    أمير هشام: الأهلي سيقوم بتحويل قيمة جلب حكام اجانب إلى الجبلاية    "لا يصلح"... رضا عبدالعال يوجه انتقادات قوية ليانيك فيريرا    أتلتيكو مدريد يسقط أمام إسبانيول بثنائية في الدوري الإسباني    وزارة التربية والتعليم تصدر 24 توجيهًا قبل بدء العام الدراسي الجديد.. تشديدات بشأن الحضور والضرب في المدراس    مصرع طفل أسفل عجلات القطار في أسيوط    مصرع سيدة في حادث سير على الطريق الدولي بالشيخ زويد    التحقيق في مقتل لاعبة جودو برصاص زوجها داخل شقتهما بالإسكندرية    سامح حسين يعلن وفاة الطفل حمزة ابن شقيقه عن عمر يناهز ال 4 سنوات    هاجر الشرنوبي تدعو ل أنغام: «ربنا يعفي عنها»    حدث بالفن | عزاء تيمور تيمور وفنان ينجو من الغرق وتطورات خطيرة في حالة أنغام الصحية    "بفستان جريء".. نادين الراسي تخطف الأنظار من أحدث جلسة تصوير    سامح حسين يعلن وفاة نجل شقيقه عن عمر 4 سنوات    حضريها في المنزل بمكونات اقتصادية، الوافل حلوى لذيذة تباع بأسعار عالية    متحدث الصحة يفجر مفاجأة بشأن خطف الأطفال وسرقة الأعضاء البشرية (فيديو)    متحدث الصحة يكشف حقيقة الادعاءات بخطف الأطفال لسرقة أعضائهم    أمسية دينية بلمسة ياسين التهامى فى حفل مهرجان القلعة    طارق مجدي حكما للإسماعيلي والاتحاد وبسيوني للمصري وبيراميدز    الخارجية الأمريكية: لن نتعاون مع أى جماعات لها صلات أو تعاطف مع حماس    أشرف صبحي يجتمع باللجنة الأولمبية لبحث الاستعدادات لأولمبياد لوس أنجلوس    وزير الثقافة ومحافظ الإسماعيلية يفتتحان الملتقى القومي الثالث للسمسمية    «الصيف يُلملم أوراقه».. بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم: منخفض جوى قادم    ننشر أقوال السائق في واقعة مطاردة فتيات طريق الواحات    4 أبراج «مرهقون في التعامل»: صارمون ينتظرون من الآخرين مقابل ويبحثون عن الكمال    رضا عبد العال: فيريرا لا يصلح للزمالك.. وعلامة استفهام حول استبعاد شيكو بانزا    بداية متواضعة.. ماذا قدم مصطفى محمد في مباراة نانت ضد باريس سان جيرمان؟    انطلاق دورة تدريبية لمديري المدارس بالإسماعيلية    اليوم.. أولى جلسات محاكمة المتهمين في واقعة مطاردة طريق الواحات    وائل القباني عن انتقاده ل الزمالك: «ماليش أغراض شخصية»    رغم وفاته منذ 3 سنوات.. أحمد موسى يكشف سبب إدراج القرضاوي بقوائم الإرهاب    حماية المستهلك: نلمس استجابة سريعة من معظم التجار تجاه مبادرة خفض الأسعار    تنسيق الثانوية العامة 2025 المرحلة الثالثة.. كليات التربية ب أنواعها المتاحة علمي علوم ورياضة وأدبي    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025    أمينة الفتوى توضح علامات طهر المرأة وأحكام الإفرازات بعد الحيض    هل يجوز ارتداء الملابس على الموضة؟.. أمين الفتوى يوضح    4 ملايين خدمة صحية مجانية لأهالى الإسكندرية ضمن حملة 100 يوم صحة    قبل بدء الفصل التشريعى الثانى لمجلس الشيوخ، تعرف علي مميزات حصانة النواب    حلاوة المولد، طريقة عمل السمسمية في البيت بمكونات بسيطة    فيديو.. خالد الجندي: عدم الالتزام بقواعد المرور حرام شرعا    رئيس جامعة الوادي الجديد يتابع سير التقديم بكليات الجامعة الأهلية.. صور    مرصد الأزهر: تعليم المرأة فريضة شرعية.. والجماعات المتطرفة تحرمه بتأويلات باطلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السرد التشكيلي في رواية " السنة المفقودة "
نشر في صوت البلد يوم 21 - 08 - 2017

إنَّ أفق الجنس الروائي مفتوحُ على كل الحقول الفنية والأدبية، بما فيه الفن التشكيلي الذي تتفاعلُ معه الأعمال الروائية بطرق مُختلفة، إذ قد تكون التُحف الفنية مُنطلقاً لحركة السرد الروائي، كما يلاحظُ هذا الأمر بالوضوح في رواية "جميلة" لجنكيز إيمتاتوف حيثُ يستعيدُ الراوي (سعيد) وقائع قصة حب في قريته باكاير، عندما يقف متملياً أمام لوحة مرسومة لما تكون عليه حال مسقط رأسه في فصل الخريف.
كذلك فإن رواية "عيناها" للكاتب الإيراني بزورك علوي تتخذ من لوحة البطلة (فرنجيس) منصة لسرد مرحلة فارقة في تاريخ إيران، أكثر من ذلك فإنَّ الإيرلندي صموئيل بيكت قد إستوحى موضوع مسرحيته الذائعة الصيت "في إنتظار جودو" من لوحة دافيد فريدريش.
ولا يبتعدُ الكاتبُ الأرجنتينى بيدرو ميرال عن هذا المنحى في روايته "السنة المفقودة" الصادرة من مسكيلياني للنشر والتوزيع تونس 2016، إذ لا يوجدُ في هذا العمل بطلُ بمعنى المتعارف عليه، إنما تدور مُعظمُ أجزاء الرواية حول ما رسمهُ سالفاتييرا من الصور المرتبطة بواقع حياته على أربعة كيلومترات من الأقمشة، يتكفلُ الإبنُ بسرد إسطورة والده (سالفاتييرا) وهذا يعني أن السارد متضمنُ في القصة، ويظهر نفسه من خلال ضمير الشخص الأول، الأمر الذي يذهب بالتعبيرات والخطاب إلى المستوى الإنفعالي والعاطفي، وفقاً لإستنتاجات الناقد الأنكليزي يان مانفريد، عليه تأتي شهاداتُ بعض شخصيات أخرى على لسان الراوي، لتدعم حركة السرد، لكن ما يُزَّخمُ الراوية بالتشويق هو مشروع اللوحة التي قد إحتاج سالفاتييرا إلى ستين سنة ليكملها.
تتكيء الرواية على قصتين متوازيتين، الأولى تتناولُ حياة الرسام المُنعزل ونشأته وماسبب له العجز في النطق، بينما القصة الثانية تَروي قصة الأثر الفني الذي أنجزه الوالد، إذ كان اللونُ بديلاً للكلمة المنطوقة لدي إبن بارانكالس في الأرجنتين، وما ارتسم على اللوحةِ ليس سوى قصة ألهمها الواقع، بالإضافة لصور بعض شخصيات كانت على علاقة بسالفاتييرا حيث تلتئمُ خيوط محطات من حياة الأسرة وموقع المنشأ على الأقمشة وبذلك تُصبحُ هذه الجدارية بمثابة سيرة مسرودة بالألوان ما يعنى أن السرد لا يختزلُ في نصوص وألفاظ بل أي شيء يحكى يعتبر قصة على حد قول رولان بارت، ومن هنا تلتقي حلقةُ ما يحكيه الإبنُ ميغال مع محتويات المُنْجَز الفني.
عبقرية الصمت
يعتمدُ الكاتبُ نسق الزمن الهابط وذلك عندما يبدأُ بما إنتهى إليه أمرُ اللوحة، حيثُ يضعك الراوي في متحف رويل بأمستردام، تمتدُ النسخة المصورة من لوحة سالفاتييرا حول رواق واقع بين أقسام المبنى، إذ تتوالى مشاهد من هذه التحفة الفنية ويستغرق إتمام دورتها يوما كاملاً، ومن ثُم يشيرُ الإبنُ إلى مداخلات أقارب سالفاتييرا وأهالي بارانكالس في إطار برنامج وثائقي مُعلقاً بأنَّ معظم المشاركين لا يعرفون شيئا عن حياة أبيه الفنية، إلى هنا لا تردُ أي معلومة عن النسخة الأصلية للوحة، كما أنَّ عدم التطرق إلى هذا الموضوع لا يثير أسئلة لدى المتلقى.
بين افتتاحية الرواية وما يذكره الراوي في أجزاء أخيرة عن مصير أربعة كيلومترات من الأقمشة المركونة في كوخ كان بمثابة محترف للوالد، يتمُ إستعراض حياة سالفاتتيرا وما يوصي به ابناه بالإشارة في نزعه الأخير، كان هو في التاسعة من عمره عندما يسقطُ من الحصان وتبقى قدمه ملعقة بالسرج إذ يجره الحصان خلفه بين الأشجار والأحجار الناتئة، وتتكسر جمجمتهُ وحين يعثر عليه أصحابه يسحبونه ولا يساورهم الشكُ بأنَّ الراكب المتعثر قد فارق الحياة، غير أنه بفضل طاهية عجوز تكتبُ له الحياة من جديد، ولكن في الفصول اللاحقة من حياته يفقد القدرة على النطق، ولا تنجحُ كل محاولات أهله لإعادة ابنهم إلى سابق عهده، إذ يخيبُ أملهم بصمته الأبدي.
وما أن استعاد عافيته على المستوى البدني حتى منحه الطبيبُ ألواناً إنجليزية أُحْضِرَتْ من وراء النهر في الباراغواي، وهو النهر نفسه الذي يعبرهُ ابنا سالفاتتيرا بحثاً عن لفافة من الأقمشة المرسومة.
لا يحظى الطفل الأبكم باهتمام والديه، يظلُ مُتسكعا، ولولا حرص أبناء عمومته ما تَعَلَّمَ حرفاً ولا تمكن في القراءة، إذ واظب سالفاتييرا وهو في الخامسة والعشرين من عمره على قراءة سير الرسامين الكبار، ونضجت خلفيته الثقافية بفضل ما توفر في مكتبة أورتيز، وهنا يلتقي بهيلينا راميرانز المرأةُ التي تصبح زوجتهُ، تتزامن معرفته براميرانز مع تحول متدرج في مشاهد لوحاته،إذ كان يميلُ إلى تصوير لحظات مصبغة بإشراق الصباح، عطفاً على ذلك فإنَّ ما يقولهُ الدكتور فيلا عن هذا الرسام يشكفُ عن إفتتانه باقتناص لحظات طبيعية من الواقع، مثلما يتبينُ هذا الجانب أكثر في مناظر لنساء سوداوات يغسلن الملابس على ضفة النهر.
ومن ثُمَّ يرسمُ ضواحي المدينة بشوارعها الطويلة في لحظات الفجر والمارة الذين علت على وجههم أمارات النعس والتعب، هذا إضافة إلى مارسمه من بورتريهات لزوجته في أوضاع مُختلفة والابنة التي غرقت في النهر.
وتُشَكِلُ صورة فرجينيا روكامورا جزءاً آخر من لفائف مطويات داخل الكوخ، ويلقى مشهدُ موظفة مكتب البريد عن وجود علاقات حسية بين الأخيرة والرسام، وبذلك تكون اللوحة بمنزلة وثيقة تكشفُ ماهو طي الكتمان، إذ يتبينُ وجه آخر من حياة سالفاتييرا مع لفافة مفقودة في الأوروغواي.
الكارثة
مع وصول مندوب مؤسسة آدريان رويل، يبدأُ العملُ حثيثاً، لنقل اللفائف إلى إمستردام، ويتحول الكوخُ إلى ورشة عمل لأرشفة اللوحة رقمياً، وذلك ما يقومُ به بوريس الذي رافقتهُ صديقته حنا إلى بارانكالس، بالمقابل ما انفك الابنُ يدورُ عن اللفافة المَفقودة، ويسألُ من أصدقاء وأقارب والده منهم (ماريو جوردان) الذي يعرفُ مما يسمع منه أنَّ ضالته موجودة في الضفة الأُخرى من النهر، وتعودُ أهمية هذه اللفافة المفقودة إلى ما توضحه عن أحداث وقعت بين سالفاتييرا وصديقيه (إيبانيز وسالازار)، وكاد أن يذهب الرسام ضحية تواطؤ الإثنين.
وفي خضم بحثه يتفاجأُ ميغال بأن والده قد عملَ أيضا مهرباً، هكذا تتعاقب التطورات في سياق الرواية، وتأتي كل وحدة ملفعة بغموض شفيف، إلي تنفتحُ قصة الرسام على مرحلة جديدة في الأُوروغواي، هنا لا تكون المهمة سهلةً وما يستدل الأخوان إلى اللفافة إلا عن طريق إبن فرمين إيبانيز الأخير مات في السجن، ويقايضُ ابنُ أخيه اللفافة بفرس ومهر. وبذلك تستقرُ اللفافة في منزل صوريا الذي كان رئيساً لمزرعة لوس لاناريس.
لا ينتهي البحثُ الذي أعيا الإثنين قبل الوصول إلى مكان اللفافة التي تغطي النصف الأعلى من جدار الغرفة المركزية، تتسارع عملية نزع اللفافة التي تردم الهوة القائمة في اللوحة وتكتمل معها القصة، ويلوح للأخ الصغير الذي يعمل في شركة العقارات ببوينس آريس شكل موظفة البريد داخل اللفافة ويتوصلُ الاثنان إلى أن علاقة سالفاتييرا دامت مدة طويلة مع زميلته في مكتب البريد، التي رسمها في لحظات شديدة الحميمية، ما يثيرُ حفيظة لويس مطالباً بعدم تنقيب في حياة أبيه، وترك الموتى يرقدون في السلام، وما تقتربُ الرحلة من النهاية حتي تجلو الضبابيةُ من حياة سالفاتييرا الذي ما كان يوقع لوحاته بالإمضاء، إذ أن المرأة السوداء التي تظهر في اللفافة هي أختُ صديقه فأنجبت منه الصبي الذي كان دليلهما إلى موقع اللوحة.
بينما يفضلُ ابنا سالفاتتيرا اللفافة عند الأخ الجديد، ويتفقان على نقل كل اللفائف عن طريق الأوروغواي إلى هولندا تهرباً من مشقة التصدير لدى اللجنة الوطنية للتاريخ والتراث، بينما يعودُ الإثنان منتشين باكتشافات جديدة، فإذا بالكارثة تحل بالكوخ حيث يرتفع منه لهيب النار، ويحومُ الشكُ على بالدوني صاحب السوبر ماركت الذي أراد شراء الأرض لتوسيع متجره، وما يبقي شيء من الأثر الفني غير اللفافة التي رسمها سنة 1961 والنسخة المصورة بالماسح الضوئي، وبذلك تغدو كل السنوات مفقودة غير السنة التي وصفت بالمفقود من عتبة العنوان.
تذكرك هذه الرواية بفيلم عن حياة يوهانيس فيريمر الذي تتحول فيه اللوحة بدلاً من الفنان بطلا.
إنَّ أفق الجنس الروائي مفتوحُ على كل الحقول الفنية والأدبية، بما فيه الفن التشكيلي الذي تتفاعلُ معه الأعمال الروائية بطرق مُختلفة، إذ قد تكون التُحف الفنية مُنطلقاً لحركة السرد الروائي، كما يلاحظُ هذا الأمر بالوضوح في رواية "جميلة" لجنكيز إيمتاتوف حيثُ يستعيدُ الراوي (سعيد) وقائع قصة حب في قريته باكاير، عندما يقف متملياً أمام لوحة مرسومة لما تكون عليه حال مسقط رأسه في فصل الخريف.
كذلك فإن رواية "عيناها" للكاتب الإيراني بزورك علوي تتخذ من لوحة البطلة (فرنجيس) منصة لسرد مرحلة فارقة في تاريخ إيران، أكثر من ذلك فإنَّ الإيرلندي صموئيل بيكت قد إستوحى موضوع مسرحيته الذائعة الصيت "في إنتظار جودو" من لوحة دافيد فريدريش.
ولا يبتعدُ الكاتبُ الأرجنتينى بيدرو ميرال عن هذا المنحى في روايته "السنة المفقودة" الصادرة من مسكيلياني للنشر والتوزيع تونس 2016، إذ لا يوجدُ في هذا العمل بطلُ بمعنى المتعارف عليه، إنما تدور مُعظمُ أجزاء الرواية حول ما رسمهُ سالفاتييرا من الصور المرتبطة بواقع حياته على أربعة كيلومترات من الأقمشة، يتكفلُ الإبنُ بسرد إسطورة والده (سالفاتييرا) وهذا يعني أن السارد متضمنُ في القصة، ويظهر نفسه من خلال ضمير الشخص الأول، الأمر الذي يذهب بالتعبيرات والخطاب إلى المستوى الإنفعالي والعاطفي، وفقاً لإستنتاجات الناقد الأنكليزي يان مانفريد، عليه تأتي شهاداتُ بعض شخصيات أخرى على لسان الراوي، لتدعم حركة السرد، لكن ما يُزَّخمُ الراوية بالتشويق هو مشروع اللوحة التي قد إحتاج سالفاتييرا إلى ستين سنة ليكملها.
تتكيء الرواية على قصتين متوازيتين، الأولى تتناولُ حياة الرسام المُنعزل ونشأته وماسبب له العجز في النطق، بينما القصة الثانية تَروي قصة الأثر الفني الذي أنجزه الوالد، إذ كان اللونُ بديلاً للكلمة المنطوقة لدي إبن بارانكالس في الأرجنتين، وما ارتسم على اللوحةِ ليس سوى قصة ألهمها الواقع، بالإضافة لصور بعض شخصيات كانت على علاقة بسالفاتييرا حيث تلتئمُ خيوط محطات من حياة الأسرة وموقع المنشأ على الأقمشة وبذلك تُصبحُ هذه الجدارية بمثابة سيرة مسرودة بالألوان ما يعنى أن السرد لا يختزلُ في نصوص وألفاظ بل أي شيء يحكى يعتبر قصة على حد قول رولان بارت، ومن هنا تلتقي حلقةُ ما يحكيه الإبنُ ميغال مع محتويات المُنْجَز الفني.
عبقرية الصمت
يعتمدُ الكاتبُ نسق الزمن الهابط وذلك عندما يبدأُ بما إنتهى إليه أمرُ اللوحة، حيثُ يضعك الراوي في متحف رويل بأمستردام، تمتدُ النسخة المصورة من لوحة سالفاتييرا حول رواق واقع بين أقسام المبنى، إذ تتوالى مشاهد من هذه التحفة الفنية ويستغرق إتمام دورتها يوما كاملاً، ومن ثُم يشيرُ الإبنُ إلى مداخلات أقارب سالفاتييرا وأهالي بارانكالس في إطار برنامج وثائقي مُعلقاً بأنَّ معظم المشاركين لا يعرفون شيئا عن حياة أبيه الفنية، إلى هنا لا تردُ أي معلومة عن النسخة الأصلية للوحة، كما أنَّ عدم التطرق إلى هذا الموضوع لا يثير أسئلة لدى المتلقى.
بين افتتاحية الرواية وما يذكره الراوي في أجزاء أخيرة عن مصير أربعة كيلومترات من الأقمشة المركونة في كوخ كان بمثابة محترف للوالد، يتمُ إستعراض حياة سالفاتتيرا وما يوصي به ابناه بالإشارة في نزعه الأخير، كان هو في التاسعة من عمره عندما يسقطُ من الحصان وتبقى قدمه ملعقة بالسرج إذ يجره الحصان خلفه بين الأشجار والأحجار الناتئة، وتتكسر جمجمتهُ وحين يعثر عليه أصحابه يسحبونه ولا يساورهم الشكُ بأنَّ الراكب المتعثر قد فارق الحياة، غير أنه بفضل طاهية عجوز تكتبُ له الحياة من جديد، ولكن في الفصول اللاحقة من حياته يفقد القدرة على النطق، ولا تنجحُ كل محاولات أهله لإعادة ابنهم إلى سابق عهده، إذ يخيبُ أملهم بصمته الأبدي.
وما أن استعاد عافيته على المستوى البدني حتى منحه الطبيبُ ألواناً إنجليزية أُحْضِرَتْ من وراء النهر في الباراغواي، وهو النهر نفسه الذي يعبرهُ ابنا سالفاتتيرا بحثاً عن لفافة من الأقمشة المرسومة.
لا يحظى الطفل الأبكم باهتمام والديه، يظلُ مُتسكعا، ولولا حرص أبناء عمومته ما تَعَلَّمَ حرفاً ولا تمكن في القراءة، إذ واظب سالفاتييرا وهو في الخامسة والعشرين من عمره على قراءة سير الرسامين الكبار، ونضجت خلفيته الثقافية بفضل ما توفر في مكتبة أورتيز، وهنا يلتقي بهيلينا راميرانز المرأةُ التي تصبح زوجتهُ، تتزامن معرفته براميرانز مع تحول متدرج في مشاهد لوحاته،إذ كان يميلُ إلى تصوير لحظات مصبغة بإشراق الصباح، عطفاً على ذلك فإنَّ ما يقولهُ الدكتور فيلا عن هذا الرسام يشكفُ عن إفتتانه باقتناص لحظات طبيعية من الواقع، مثلما يتبينُ هذا الجانب أكثر في مناظر لنساء سوداوات يغسلن الملابس على ضفة النهر.
ومن ثُمَّ يرسمُ ضواحي المدينة بشوارعها الطويلة في لحظات الفجر والمارة الذين علت على وجههم أمارات النعس والتعب، هذا إضافة إلى مارسمه من بورتريهات لزوجته في أوضاع مُختلفة والابنة التي غرقت في النهر.
وتُشَكِلُ صورة فرجينيا روكامورا جزءاً آخر من لفائف مطويات داخل الكوخ، ويلقى مشهدُ موظفة مكتب البريد عن وجود علاقات حسية بين الأخيرة والرسام، وبذلك تكون اللوحة بمنزلة وثيقة تكشفُ ماهو طي الكتمان، إذ يتبينُ وجه آخر من حياة سالفاتييرا مع لفافة مفقودة في الأوروغواي.
الكارثة
مع وصول مندوب مؤسسة آدريان رويل، يبدأُ العملُ حثيثاً، لنقل اللفائف إلى إمستردام، ويتحول الكوخُ إلى ورشة عمل لأرشفة اللوحة رقمياً، وذلك ما يقومُ به بوريس الذي رافقتهُ صديقته حنا إلى بارانكالس، بالمقابل ما انفك الابنُ يدورُ عن اللفافة المَفقودة، ويسألُ من أصدقاء وأقارب والده منهم (ماريو جوردان) الذي يعرفُ مما يسمع منه أنَّ ضالته موجودة في الضفة الأُخرى من النهر، وتعودُ أهمية هذه اللفافة المفقودة إلى ما توضحه عن أحداث وقعت بين سالفاتييرا وصديقيه (إيبانيز وسالازار)، وكاد أن يذهب الرسام ضحية تواطؤ الإثنين.
وفي خضم بحثه يتفاجأُ ميغال بأن والده قد عملَ أيضا مهرباً، هكذا تتعاقب التطورات في سياق الرواية، وتأتي كل وحدة ملفعة بغموض شفيف، إلي تنفتحُ قصة الرسام على مرحلة جديدة في الأُوروغواي، هنا لا تكون المهمة سهلةً وما يستدل الأخوان إلى اللفافة إلا عن طريق إبن فرمين إيبانيز الأخير مات في السجن، ويقايضُ ابنُ أخيه اللفافة بفرس ومهر. وبذلك تستقرُ اللفافة في منزل صوريا الذي كان رئيساً لمزرعة لوس لاناريس.
لا ينتهي البحثُ الذي أعيا الإثنين قبل الوصول إلى مكان اللفافة التي تغطي النصف الأعلى من جدار الغرفة المركزية، تتسارع عملية نزع اللفافة التي تردم الهوة القائمة في اللوحة وتكتمل معها القصة، ويلوح للأخ الصغير الذي يعمل في شركة العقارات ببوينس آريس شكل موظفة البريد داخل اللفافة ويتوصلُ الاثنان إلى أن علاقة سالفاتييرا دامت مدة طويلة مع زميلته في مكتب البريد، التي رسمها في لحظات شديدة الحميمية، ما يثيرُ حفيظة لويس مطالباً بعدم تنقيب في حياة أبيه، وترك الموتى يرقدون في السلام، وما تقتربُ الرحلة من النهاية حتي تجلو الضبابيةُ من حياة سالفاتييرا الذي ما كان يوقع لوحاته بالإمضاء، إذ أن المرأة السوداء التي تظهر في اللفافة هي أختُ صديقه فأنجبت منه الصبي الذي كان دليلهما إلى موقع اللوحة.
بينما يفضلُ ابنا سالفاتتيرا اللفافة عند الأخ الجديد، ويتفقان على نقل كل اللفائف عن طريق الأوروغواي إلى هولندا تهرباً من مشقة التصدير لدى اللجنة الوطنية للتاريخ والتراث، بينما يعودُ الإثنان منتشين باكتشافات جديدة، فإذا بالكارثة تحل بالكوخ حيث يرتفع منه لهيب النار، ويحومُ الشكُ على بالدوني صاحب السوبر ماركت الذي أراد شراء الأرض لتوسيع متجره، وما يبقي شيء من الأثر الفني غير اللفافة التي رسمها سنة 1961 والنسخة المصورة بالماسح الضوئي، وبذلك تغدو كل السنوات مفقودة غير السنة التي وصفت بالمفقود من عتبة العنوان.
تذكرك هذه الرواية بفيلم عن حياة يوهانيس فيريمر الذي تتحول فيه اللوحة بدلاً من الفنان بطلا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.