التنمية المحلية: انطلاق البرنامج الثاني من مبادرة الحزم التدريبية لكوادر الإدارة الحكومية    لدعم حماية الطفل وتعزيز الخدمات الأسرية.. افتتاح فرع المجلس القومي للطفولة والأمومة ببني سويف    رئيس الجامعة الفيوم يستقبل فريق الهيئة القومية لضمان جودة التعليم    سيمنس العالمية عن قطار فيلارو بمصر: نموذج للتميز الهندسي بفضل تجهيزاته الحديثة    9 نوفمبر 2025.. البورصة تقفز وتحقق مستوى تاريخي جديد    إيثيدكو تتعاقد مع SES لإنشاء محطة لإنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية    رئيس البورصة: 5 شركات جديدة تستعد للقيد خلال 2026    رسميًا.. موعد صرف معاشات شهر ديسمبر 2025 ل 11 مليون مواطن    ديوان نتنياهو: قواتنا تسلمت من الصليب الأحمر جثة مختطف وهي الآن في طريقها لإسرائيل    شراكة متكاملة، تفاصيل اجتماع وزير الخارجية بسفراء دول أمريكا اللاتينية والوسطى والكاريبي    إعادة إعمار سوريا ورفع ما تبقى من عقوبات اقتصادية.. ملفات يحملها الشرع إلى واشنطن    السوبر المصري.. ملعب محمد بن زايد يتزين لقمة الأهلي والزمالك    إصابة 3 أشخاص في حادث إنقلاب سيارة ملاكي بالفيوم    تحرير 204 محضر وضبط طن مواد غذائية متنوعة في حملات بالدقهلية    "الست بسيمة" يشارك بمهرجان Youth empowerment بلبنان    وصول سمير عمر رئيس قطاع الأخبار بالشركة المتحدة للمشاركة بمنتدى إعلام مصر 2030    صينية القرنبيط بالفرن مع الجبن والبهارات، أكلة اقتصادية ومغذية    انطلاق فعاليات اختبارات الائمه لمرافقة بعثة الحج بمديرية أوقاف المنوفية    البابا تواضروس يترأس صلوات تدشين كنيسة العذراء في أكتوبر    ضبط تشكيل عصابي لتهريب المخدرات بقيمة 105 مليون جنيه بأسوان    بمشاركة نخبة من الخبراء.. منتدى مصر للإعلام يناقش تحديات ومستقبل الإعلام في يومه الثاني    زلزال قوي يضرب الساحل الشمالي لليابان وتحذير من تسونامي    حفل أسطوري .. أحمد سعد يتألق على مسرح "يايلا أرينا" بألمانيا    مهرجان القاهرة يعلن عن القائمة النهائية للبانوراما المصرية خارج المسابقة    توقيع مذكرة تفاهم بين التعليم العالي والتضامن ومستشفى شفاء الأورمان لتعزيز التعاون في صعيد مصر    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي إلى نحو مليون و151 ألف فرد منذ بداية الحرب    امتحانات الشهادة الإعدادية للترم الأول وموعد تسجيل استمارة البيانات    استخرج تصاريح العمل خلال 60 دقيقة عبر "VIP إكسبريس".. انفوجراف    ما حكم الخروج من الصلاة للذهاب إلى الحمام؟ (الإفتاء تفسر)    عاجل- مئات المتظاهرين العرب يحتجون أمام مكتب نتنياهو بسبب موجة العنف في المجتمع العربي    «صرف الإسكندرية»: فرق طوارئ ومتابعة ميدانية استعدادًا لانتخابات مجلس النواب    تعليم القليوبية تحيل واقعة تعدي عاملة على معلمة بالخصوص لتحقيق    «أكبر خيانة».. ما هي الأبراج التي تكره الكذب بشدة؟    أهم 10 معلومات عن حفل The Grand Ball الملكي بعد إقامته في قصر عابدين    «زي كولر».. شوبير يعلق على أسلوب توروب مع الأهلي قبل قمة الزمالك    القاهرة تحتضن منتدى مصر للإعلام بمشاركة نخبة من الخبراء    وجبات خفيفة صحية، تمنح الشبع بدون زيادة الوزن    الأوقاف توضح ديانة المصريين القدماء: فيهم أنبياء ومؤمنون وليسوا عبدة أوثان    «سكك حديد مصر» تشارك في نقل القضاة المشرفين على انتخابات النواب    تأجيل محاكمة 10 متهمين بخلية التجمع لجلسة 29 ديسمبر    «كفاية كوباية قهوة وشاي واحدة».. مشروبات ممنوعة لمرضى ضغط الدم    التشكيل المتوقع للزمالك أمام الأهلي في نهائي السوبر    الزمالك كعبه عالي على بيراميدز وعبدالرؤوف نجح في دعم لاعبيه نفسيًا    مواعيد مباريات الأحد 9 نوفمبر - نهائي السوبر المصري.. ومانشستر سيتي ضد ليفربول    تشييع جنازة مصطفى نصر عصر اليوم من مسجد السلطان بالإسكندرية    طولان: محمد عبد الله في قائمة منتخب مصر الأولية لكأس العرب    «لعبت 3 مباريات».. شوبير يوجه رسالة لناصر ماهر بعد استبعاده من منتخب مصر    أمين الفتوى: الصلاة بملابس البيت صحيحة بشرط ستر الجسد وعدم الشفافية    على خطى النبي.. رحلة روحانية تمتد من مكة إلى المدينة لإحياء معاني الهجرة    قافلة «زاد العزة» ال 68 تدخل إلى الفلسطينيين بقطاع غزة    برلماني يدعو المصريين للنزول بكثافة إلى صناديق الاقتراع    مئات المستوطنين يقتحمون باحات المسجد الأقصى والاحتلال يواصل الاعتقالات في الضفة الغربية    معلومات الوزراء : 70.8% من المصريين تابعوا افتتاح المتحف الكبير عبر التليفزيون    قبل بدء التصويت في انتخابات مجلس النواب 2025.. تعرف على لجنتك الانتخابية بالخطوات    الذكاء الاصطناعى أخطر على الدين من الإلحاد    تعرف على مواقيت الصلاة بمطروح اليوم وأذكار الصباح    بعد مسلسل كارثة طبيعية، ما مدى أمان الحمل بسبعة توائم على الأم والأجنة؟    «الكلام اللي قولته يجهلنا.. هي دي ثقافتك؟».. أحمد بلال يفتح النار على خالد الغندور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السرد التشكيلي في رواية " السنة المفقودة "
نشر في صوت البلد يوم 21 - 08 - 2017

إنَّ أفق الجنس الروائي مفتوحُ على كل الحقول الفنية والأدبية، بما فيه الفن التشكيلي الذي تتفاعلُ معه الأعمال الروائية بطرق مُختلفة، إذ قد تكون التُحف الفنية مُنطلقاً لحركة السرد الروائي، كما يلاحظُ هذا الأمر بالوضوح في رواية "جميلة" لجنكيز إيمتاتوف حيثُ يستعيدُ الراوي (سعيد) وقائع قصة حب في قريته باكاير، عندما يقف متملياً أمام لوحة مرسومة لما تكون عليه حال مسقط رأسه في فصل الخريف.
كذلك فإن رواية "عيناها" للكاتب الإيراني بزورك علوي تتخذ من لوحة البطلة (فرنجيس) منصة لسرد مرحلة فارقة في تاريخ إيران، أكثر من ذلك فإنَّ الإيرلندي صموئيل بيكت قد إستوحى موضوع مسرحيته الذائعة الصيت "في إنتظار جودو" من لوحة دافيد فريدريش.
ولا يبتعدُ الكاتبُ الأرجنتينى بيدرو ميرال عن هذا المنحى في روايته "السنة المفقودة" الصادرة من مسكيلياني للنشر والتوزيع تونس 2016، إذ لا يوجدُ في هذا العمل بطلُ بمعنى المتعارف عليه، إنما تدور مُعظمُ أجزاء الرواية حول ما رسمهُ سالفاتييرا من الصور المرتبطة بواقع حياته على أربعة كيلومترات من الأقمشة، يتكفلُ الإبنُ بسرد إسطورة والده (سالفاتييرا) وهذا يعني أن السارد متضمنُ في القصة، ويظهر نفسه من خلال ضمير الشخص الأول، الأمر الذي يذهب بالتعبيرات والخطاب إلى المستوى الإنفعالي والعاطفي، وفقاً لإستنتاجات الناقد الأنكليزي يان مانفريد، عليه تأتي شهاداتُ بعض شخصيات أخرى على لسان الراوي، لتدعم حركة السرد، لكن ما يُزَّخمُ الراوية بالتشويق هو مشروع اللوحة التي قد إحتاج سالفاتييرا إلى ستين سنة ليكملها.
تتكيء الرواية على قصتين متوازيتين، الأولى تتناولُ حياة الرسام المُنعزل ونشأته وماسبب له العجز في النطق، بينما القصة الثانية تَروي قصة الأثر الفني الذي أنجزه الوالد، إذ كان اللونُ بديلاً للكلمة المنطوقة لدي إبن بارانكالس في الأرجنتين، وما ارتسم على اللوحةِ ليس سوى قصة ألهمها الواقع، بالإضافة لصور بعض شخصيات كانت على علاقة بسالفاتييرا حيث تلتئمُ خيوط محطات من حياة الأسرة وموقع المنشأ على الأقمشة وبذلك تُصبحُ هذه الجدارية بمثابة سيرة مسرودة بالألوان ما يعنى أن السرد لا يختزلُ في نصوص وألفاظ بل أي شيء يحكى يعتبر قصة على حد قول رولان بارت، ومن هنا تلتقي حلقةُ ما يحكيه الإبنُ ميغال مع محتويات المُنْجَز الفني.
عبقرية الصمت
يعتمدُ الكاتبُ نسق الزمن الهابط وذلك عندما يبدأُ بما إنتهى إليه أمرُ اللوحة، حيثُ يضعك الراوي في متحف رويل بأمستردام، تمتدُ النسخة المصورة من لوحة سالفاتييرا حول رواق واقع بين أقسام المبنى، إذ تتوالى مشاهد من هذه التحفة الفنية ويستغرق إتمام دورتها يوما كاملاً، ومن ثُم يشيرُ الإبنُ إلى مداخلات أقارب سالفاتييرا وأهالي بارانكالس في إطار برنامج وثائقي مُعلقاً بأنَّ معظم المشاركين لا يعرفون شيئا عن حياة أبيه الفنية، إلى هنا لا تردُ أي معلومة عن النسخة الأصلية للوحة، كما أنَّ عدم التطرق إلى هذا الموضوع لا يثير أسئلة لدى المتلقى.
بين افتتاحية الرواية وما يذكره الراوي في أجزاء أخيرة عن مصير أربعة كيلومترات من الأقمشة المركونة في كوخ كان بمثابة محترف للوالد، يتمُ إستعراض حياة سالفاتتيرا وما يوصي به ابناه بالإشارة في نزعه الأخير، كان هو في التاسعة من عمره عندما يسقطُ من الحصان وتبقى قدمه ملعقة بالسرج إذ يجره الحصان خلفه بين الأشجار والأحجار الناتئة، وتتكسر جمجمتهُ وحين يعثر عليه أصحابه يسحبونه ولا يساورهم الشكُ بأنَّ الراكب المتعثر قد فارق الحياة، غير أنه بفضل طاهية عجوز تكتبُ له الحياة من جديد، ولكن في الفصول اللاحقة من حياته يفقد القدرة على النطق، ولا تنجحُ كل محاولات أهله لإعادة ابنهم إلى سابق عهده، إذ يخيبُ أملهم بصمته الأبدي.
وما أن استعاد عافيته على المستوى البدني حتى منحه الطبيبُ ألواناً إنجليزية أُحْضِرَتْ من وراء النهر في الباراغواي، وهو النهر نفسه الذي يعبرهُ ابنا سالفاتتيرا بحثاً عن لفافة من الأقمشة المرسومة.
لا يحظى الطفل الأبكم باهتمام والديه، يظلُ مُتسكعا، ولولا حرص أبناء عمومته ما تَعَلَّمَ حرفاً ولا تمكن في القراءة، إذ واظب سالفاتييرا وهو في الخامسة والعشرين من عمره على قراءة سير الرسامين الكبار، ونضجت خلفيته الثقافية بفضل ما توفر في مكتبة أورتيز، وهنا يلتقي بهيلينا راميرانز المرأةُ التي تصبح زوجتهُ، تتزامن معرفته براميرانز مع تحول متدرج في مشاهد لوحاته،إذ كان يميلُ إلى تصوير لحظات مصبغة بإشراق الصباح، عطفاً على ذلك فإنَّ ما يقولهُ الدكتور فيلا عن هذا الرسام يشكفُ عن إفتتانه باقتناص لحظات طبيعية من الواقع، مثلما يتبينُ هذا الجانب أكثر في مناظر لنساء سوداوات يغسلن الملابس على ضفة النهر.
ومن ثُمَّ يرسمُ ضواحي المدينة بشوارعها الطويلة في لحظات الفجر والمارة الذين علت على وجههم أمارات النعس والتعب، هذا إضافة إلى مارسمه من بورتريهات لزوجته في أوضاع مُختلفة والابنة التي غرقت في النهر.
وتُشَكِلُ صورة فرجينيا روكامورا جزءاً آخر من لفائف مطويات داخل الكوخ، ويلقى مشهدُ موظفة مكتب البريد عن وجود علاقات حسية بين الأخيرة والرسام، وبذلك تكون اللوحة بمنزلة وثيقة تكشفُ ماهو طي الكتمان، إذ يتبينُ وجه آخر من حياة سالفاتييرا مع لفافة مفقودة في الأوروغواي.
الكارثة
مع وصول مندوب مؤسسة آدريان رويل، يبدأُ العملُ حثيثاً، لنقل اللفائف إلى إمستردام، ويتحول الكوخُ إلى ورشة عمل لأرشفة اللوحة رقمياً، وذلك ما يقومُ به بوريس الذي رافقتهُ صديقته حنا إلى بارانكالس، بالمقابل ما انفك الابنُ يدورُ عن اللفافة المَفقودة، ويسألُ من أصدقاء وأقارب والده منهم (ماريو جوردان) الذي يعرفُ مما يسمع منه أنَّ ضالته موجودة في الضفة الأُخرى من النهر، وتعودُ أهمية هذه اللفافة المفقودة إلى ما توضحه عن أحداث وقعت بين سالفاتييرا وصديقيه (إيبانيز وسالازار)، وكاد أن يذهب الرسام ضحية تواطؤ الإثنين.
وفي خضم بحثه يتفاجأُ ميغال بأن والده قد عملَ أيضا مهرباً، هكذا تتعاقب التطورات في سياق الرواية، وتأتي كل وحدة ملفعة بغموض شفيف، إلي تنفتحُ قصة الرسام على مرحلة جديدة في الأُوروغواي، هنا لا تكون المهمة سهلةً وما يستدل الأخوان إلى اللفافة إلا عن طريق إبن فرمين إيبانيز الأخير مات في السجن، ويقايضُ ابنُ أخيه اللفافة بفرس ومهر. وبذلك تستقرُ اللفافة في منزل صوريا الذي كان رئيساً لمزرعة لوس لاناريس.
لا ينتهي البحثُ الذي أعيا الإثنين قبل الوصول إلى مكان اللفافة التي تغطي النصف الأعلى من جدار الغرفة المركزية، تتسارع عملية نزع اللفافة التي تردم الهوة القائمة في اللوحة وتكتمل معها القصة، ويلوح للأخ الصغير الذي يعمل في شركة العقارات ببوينس آريس شكل موظفة البريد داخل اللفافة ويتوصلُ الاثنان إلى أن علاقة سالفاتييرا دامت مدة طويلة مع زميلته في مكتب البريد، التي رسمها في لحظات شديدة الحميمية، ما يثيرُ حفيظة لويس مطالباً بعدم تنقيب في حياة أبيه، وترك الموتى يرقدون في السلام، وما تقتربُ الرحلة من النهاية حتي تجلو الضبابيةُ من حياة سالفاتييرا الذي ما كان يوقع لوحاته بالإمضاء، إذ أن المرأة السوداء التي تظهر في اللفافة هي أختُ صديقه فأنجبت منه الصبي الذي كان دليلهما إلى موقع اللوحة.
بينما يفضلُ ابنا سالفاتتيرا اللفافة عند الأخ الجديد، ويتفقان على نقل كل اللفائف عن طريق الأوروغواي إلى هولندا تهرباً من مشقة التصدير لدى اللجنة الوطنية للتاريخ والتراث، بينما يعودُ الإثنان منتشين باكتشافات جديدة، فإذا بالكارثة تحل بالكوخ حيث يرتفع منه لهيب النار، ويحومُ الشكُ على بالدوني صاحب السوبر ماركت الذي أراد شراء الأرض لتوسيع متجره، وما يبقي شيء من الأثر الفني غير اللفافة التي رسمها سنة 1961 والنسخة المصورة بالماسح الضوئي، وبذلك تغدو كل السنوات مفقودة غير السنة التي وصفت بالمفقود من عتبة العنوان.
تذكرك هذه الرواية بفيلم عن حياة يوهانيس فيريمر الذي تتحول فيه اللوحة بدلاً من الفنان بطلا.
إنَّ أفق الجنس الروائي مفتوحُ على كل الحقول الفنية والأدبية، بما فيه الفن التشكيلي الذي تتفاعلُ معه الأعمال الروائية بطرق مُختلفة، إذ قد تكون التُحف الفنية مُنطلقاً لحركة السرد الروائي، كما يلاحظُ هذا الأمر بالوضوح في رواية "جميلة" لجنكيز إيمتاتوف حيثُ يستعيدُ الراوي (سعيد) وقائع قصة حب في قريته باكاير، عندما يقف متملياً أمام لوحة مرسومة لما تكون عليه حال مسقط رأسه في فصل الخريف.
كذلك فإن رواية "عيناها" للكاتب الإيراني بزورك علوي تتخذ من لوحة البطلة (فرنجيس) منصة لسرد مرحلة فارقة في تاريخ إيران، أكثر من ذلك فإنَّ الإيرلندي صموئيل بيكت قد إستوحى موضوع مسرحيته الذائعة الصيت "في إنتظار جودو" من لوحة دافيد فريدريش.
ولا يبتعدُ الكاتبُ الأرجنتينى بيدرو ميرال عن هذا المنحى في روايته "السنة المفقودة" الصادرة من مسكيلياني للنشر والتوزيع تونس 2016، إذ لا يوجدُ في هذا العمل بطلُ بمعنى المتعارف عليه، إنما تدور مُعظمُ أجزاء الرواية حول ما رسمهُ سالفاتييرا من الصور المرتبطة بواقع حياته على أربعة كيلومترات من الأقمشة، يتكفلُ الإبنُ بسرد إسطورة والده (سالفاتييرا) وهذا يعني أن السارد متضمنُ في القصة، ويظهر نفسه من خلال ضمير الشخص الأول، الأمر الذي يذهب بالتعبيرات والخطاب إلى المستوى الإنفعالي والعاطفي، وفقاً لإستنتاجات الناقد الأنكليزي يان مانفريد، عليه تأتي شهاداتُ بعض شخصيات أخرى على لسان الراوي، لتدعم حركة السرد، لكن ما يُزَّخمُ الراوية بالتشويق هو مشروع اللوحة التي قد إحتاج سالفاتييرا إلى ستين سنة ليكملها.
تتكيء الرواية على قصتين متوازيتين، الأولى تتناولُ حياة الرسام المُنعزل ونشأته وماسبب له العجز في النطق، بينما القصة الثانية تَروي قصة الأثر الفني الذي أنجزه الوالد، إذ كان اللونُ بديلاً للكلمة المنطوقة لدي إبن بارانكالس في الأرجنتين، وما ارتسم على اللوحةِ ليس سوى قصة ألهمها الواقع، بالإضافة لصور بعض شخصيات كانت على علاقة بسالفاتييرا حيث تلتئمُ خيوط محطات من حياة الأسرة وموقع المنشأ على الأقمشة وبذلك تُصبحُ هذه الجدارية بمثابة سيرة مسرودة بالألوان ما يعنى أن السرد لا يختزلُ في نصوص وألفاظ بل أي شيء يحكى يعتبر قصة على حد قول رولان بارت، ومن هنا تلتقي حلقةُ ما يحكيه الإبنُ ميغال مع محتويات المُنْجَز الفني.
عبقرية الصمت
يعتمدُ الكاتبُ نسق الزمن الهابط وذلك عندما يبدأُ بما إنتهى إليه أمرُ اللوحة، حيثُ يضعك الراوي في متحف رويل بأمستردام، تمتدُ النسخة المصورة من لوحة سالفاتييرا حول رواق واقع بين أقسام المبنى، إذ تتوالى مشاهد من هذه التحفة الفنية ويستغرق إتمام دورتها يوما كاملاً، ومن ثُم يشيرُ الإبنُ إلى مداخلات أقارب سالفاتييرا وأهالي بارانكالس في إطار برنامج وثائقي مُعلقاً بأنَّ معظم المشاركين لا يعرفون شيئا عن حياة أبيه الفنية، إلى هنا لا تردُ أي معلومة عن النسخة الأصلية للوحة، كما أنَّ عدم التطرق إلى هذا الموضوع لا يثير أسئلة لدى المتلقى.
بين افتتاحية الرواية وما يذكره الراوي في أجزاء أخيرة عن مصير أربعة كيلومترات من الأقمشة المركونة في كوخ كان بمثابة محترف للوالد، يتمُ إستعراض حياة سالفاتتيرا وما يوصي به ابناه بالإشارة في نزعه الأخير، كان هو في التاسعة من عمره عندما يسقطُ من الحصان وتبقى قدمه ملعقة بالسرج إذ يجره الحصان خلفه بين الأشجار والأحجار الناتئة، وتتكسر جمجمتهُ وحين يعثر عليه أصحابه يسحبونه ولا يساورهم الشكُ بأنَّ الراكب المتعثر قد فارق الحياة، غير أنه بفضل طاهية عجوز تكتبُ له الحياة من جديد، ولكن في الفصول اللاحقة من حياته يفقد القدرة على النطق، ولا تنجحُ كل محاولات أهله لإعادة ابنهم إلى سابق عهده، إذ يخيبُ أملهم بصمته الأبدي.
وما أن استعاد عافيته على المستوى البدني حتى منحه الطبيبُ ألواناً إنجليزية أُحْضِرَتْ من وراء النهر في الباراغواي، وهو النهر نفسه الذي يعبرهُ ابنا سالفاتتيرا بحثاً عن لفافة من الأقمشة المرسومة.
لا يحظى الطفل الأبكم باهتمام والديه، يظلُ مُتسكعا، ولولا حرص أبناء عمومته ما تَعَلَّمَ حرفاً ولا تمكن في القراءة، إذ واظب سالفاتييرا وهو في الخامسة والعشرين من عمره على قراءة سير الرسامين الكبار، ونضجت خلفيته الثقافية بفضل ما توفر في مكتبة أورتيز، وهنا يلتقي بهيلينا راميرانز المرأةُ التي تصبح زوجتهُ، تتزامن معرفته براميرانز مع تحول متدرج في مشاهد لوحاته،إذ كان يميلُ إلى تصوير لحظات مصبغة بإشراق الصباح، عطفاً على ذلك فإنَّ ما يقولهُ الدكتور فيلا عن هذا الرسام يشكفُ عن إفتتانه باقتناص لحظات طبيعية من الواقع، مثلما يتبينُ هذا الجانب أكثر في مناظر لنساء سوداوات يغسلن الملابس على ضفة النهر.
ومن ثُمَّ يرسمُ ضواحي المدينة بشوارعها الطويلة في لحظات الفجر والمارة الذين علت على وجههم أمارات النعس والتعب، هذا إضافة إلى مارسمه من بورتريهات لزوجته في أوضاع مُختلفة والابنة التي غرقت في النهر.
وتُشَكِلُ صورة فرجينيا روكامورا جزءاً آخر من لفائف مطويات داخل الكوخ، ويلقى مشهدُ موظفة مكتب البريد عن وجود علاقات حسية بين الأخيرة والرسام، وبذلك تكون اللوحة بمنزلة وثيقة تكشفُ ماهو طي الكتمان، إذ يتبينُ وجه آخر من حياة سالفاتييرا مع لفافة مفقودة في الأوروغواي.
الكارثة
مع وصول مندوب مؤسسة آدريان رويل، يبدأُ العملُ حثيثاً، لنقل اللفائف إلى إمستردام، ويتحول الكوخُ إلى ورشة عمل لأرشفة اللوحة رقمياً، وذلك ما يقومُ به بوريس الذي رافقتهُ صديقته حنا إلى بارانكالس، بالمقابل ما انفك الابنُ يدورُ عن اللفافة المَفقودة، ويسألُ من أصدقاء وأقارب والده منهم (ماريو جوردان) الذي يعرفُ مما يسمع منه أنَّ ضالته موجودة في الضفة الأُخرى من النهر، وتعودُ أهمية هذه اللفافة المفقودة إلى ما توضحه عن أحداث وقعت بين سالفاتييرا وصديقيه (إيبانيز وسالازار)، وكاد أن يذهب الرسام ضحية تواطؤ الإثنين.
وفي خضم بحثه يتفاجأُ ميغال بأن والده قد عملَ أيضا مهرباً، هكذا تتعاقب التطورات في سياق الرواية، وتأتي كل وحدة ملفعة بغموض شفيف، إلي تنفتحُ قصة الرسام على مرحلة جديدة في الأُوروغواي، هنا لا تكون المهمة سهلةً وما يستدل الأخوان إلى اللفافة إلا عن طريق إبن فرمين إيبانيز الأخير مات في السجن، ويقايضُ ابنُ أخيه اللفافة بفرس ومهر. وبذلك تستقرُ اللفافة في منزل صوريا الذي كان رئيساً لمزرعة لوس لاناريس.
لا ينتهي البحثُ الذي أعيا الإثنين قبل الوصول إلى مكان اللفافة التي تغطي النصف الأعلى من جدار الغرفة المركزية، تتسارع عملية نزع اللفافة التي تردم الهوة القائمة في اللوحة وتكتمل معها القصة، ويلوح للأخ الصغير الذي يعمل في شركة العقارات ببوينس آريس شكل موظفة البريد داخل اللفافة ويتوصلُ الاثنان إلى أن علاقة سالفاتييرا دامت مدة طويلة مع زميلته في مكتب البريد، التي رسمها في لحظات شديدة الحميمية، ما يثيرُ حفيظة لويس مطالباً بعدم تنقيب في حياة أبيه، وترك الموتى يرقدون في السلام، وما تقتربُ الرحلة من النهاية حتي تجلو الضبابيةُ من حياة سالفاتييرا الذي ما كان يوقع لوحاته بالإمضاء، إذ أن المرأة السوداء التي تظهر في اللفافة هي أختُ صديقه فأنجبت منه الصبي الذي كان دليلهما إلى موقع اللوحة.
بينما يفضلُ ابنا سالفاتتيرا اللفافة عند الأخ الجديد، ويتفقان على نقل كل اللفائف عن طريق الأوروغواي إلى هولندا تهرباً من مشقة التصدير لدى اللجنة الوطنية للتاريخ والتراث، بينما يعودُ الإثنان منتشين باكتشافات جديدة، فإذا بالكارثة تحل بالكوخ حيث يرتفع منه لهيب النار، ويحومُ الشكُ على بالدوني صاحب السوبر ماركت الذي أراد شراء الأرض لتوسيع متجره، وما يبقي شيء من الأثر الفني غير اللفافة التي رسمها سنة 1961 والنسخة المصورة بالماسح الضوئي، وبذلك تغدو كل السنوات مفقودة غير السنة التي وصفت بالمفقود من عتبة العنوان.
تذكرك هذه الرواية بفيلم عن حياة يوهانيس فيريمر الذي تتحول فيه اللوحة بدلاً من الفنان بطلا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.