في عمله الثالث في الترجمة عن الإسبانية، يُقدِّمُ لنا مارك جمال روايةً ل(بيدرو مايرال) تحت عنوان (سالباتييرَّا)، والتي صدرتْ عن الكرمة مؤخرًا. روايةٌ صغيرةٌ، في تسعةٍ وثلاثينَ فصلًا، و183 صفحة. تدورُ حول حياة شخصٍ يُدعي (سالباتييرَّا)، أو بالأحري ما فعله في حياته، وما وقع بعد حياته، وتأويل ما خبَّأه مِن حياته أثناء حياته. وقع لسالباتييرَّا في طفولته حادثٌ خطيرٌ، فقد كان يتنزَّهُ مع أبناء عمه علي الخيول في بستان قرب النهر، وأثناء عدوه السريع، جفل فجأةً، وفي هذه اللحظات سقط سالباتييرَّا عن ظهر الحصان الذي أخذ يتخبَّط بين الأشجار، ممَّا أدَّي إلي تهشُّمِ جمجة وفك سالباتييرَّا، وخلْع فخذه. بعد بحثٍ طويلٍ، تم الاهتداء إلي مكانه، وحُمِل وهم يظنونَهُ قد مات. لكنَّ القَدَر كان يريدُ له أن يبقي، فأنقذتْه الطاهيةالعجوزالعوراء، غطَّتْ جروحَهُ بخلطةٍ غريبةٍ. بعد الحادث، كان سالباتييرَّا قد فَقَدَ القدرة علي الكلام، ولكنَّهُ لم يفقد السمع. حاول الأهل في البيت أن يعالجوه ويساعدوه علي استعادة الكلام، لكن فشلتْ جميع المحاولات، لكنَّهم نجحوا في جعله يرسم. بناءً علي هذا، يتم إعفاؤه مِمَّا يُناط بالذكور في العائلة، ويرافق بنات عمه، اللواتي كُنَّ يصطحبنه في كل مكانٍ، حتي عند الاستحمام في النهر. حين يكبر قليلًا، ويصير في الرابعة عشر، تهجرُهُ بناتُ عمه، وتشتدُّ عزلتُهُ وغربتُهُ، فيدفعُهُ هذا إلي التعرُّف علي هولت، الفنَّان الألماني، الذي كان يسمح له بالجلوس جواره، ويرسم ما شاء.يُفتن سالباتييرَّا بالرسم، وينشغل به، لكن لا أحد يعلم بهذا إلا قليلون جدًّا. في هذه الفترة كان يرسم لوحاتٍ صغيرةً. لكن حين تلقَّي لأول مرةٍ لفافةً كاملةً، قرَّر أن يرسم عليها كلها، دون أن يقصَّها، حدث هذا في العشرين مِن عمره. ومِن هنا كانت البداية. وكأنَّه أراد الانتقام مِن الحياة، ويقول لها: جعلتيني أخرسَ، تظنينَ أنِّي لن أتحدث؟! هاهاها... سأرسم كل شيءٍ إِذَنْ. "أعتقدُ أنه كان يتصوَّرُ قماشه باعتبارِهِ شيئًا شخصيًّا أكثر ممَّا ينبغي، كيوميَّاتٍ حميميَّةٍ، أو سيرة ذاتية مصوَّرة. رُبَّما كان سالباتييرَّا بسبب خرسه- في حاجةٍ لأن يروي ذاتَهُ لذاتِهِ. أن يحكي لنفْسِهِ عن تجربته في جداريةٍ متواصلةٍ. كان سعيدًا برسم حياته، لم يكنْ في حاجةٍ لأن يظهرها. كان عيش الحياة عنده يعني رسمها". "كان سالباتييرَّا يرسمُ بلا أُطُرٍ جانبيةٍ، ويستطيع خلق استمرارية بين المشاهد. كان ذلك هو الهاجس المسيطر عليه". يستمرُّ سالباتييرَّا في الرسم يوميًّا مِن السادسة صباحًا إلي العاشرة، ثُمَّ يذهب إلي عمله في البريد، ثُمَّ يُعاود الرسم في الخامسة مساءً في مخزنٍ صغيرٍ. وتتوالي لفافات القماش بين يديه، حتي يستكمل ستين لُفافةً، ما يقرب مِن أربعة كيلومترات. وقبل موته يذهب إليه ابناهُ لويس وميجيل في مستشفي بارَّانكاليس، ويسأله لويس: أبي، ماذا نفعل بالقماش؟ فيبتسم مُحرِّكًا ذراعَهُ مطمئنة، كمَنْ يُلقي بشيءٍ وراء ظهره نحو الماضي، وكأنه يقول: "لا يهم، فقد قضيتُ وقتًا طيِّبًا". ثم يضع سبَّابَتَهُ أسفل عينه، ويشير إلي أمهما. وكأنَّ الرسم نفْسه كان هو ما يهمُّ سالباتييرَّا. مات سالباتييرَّا بعد هذا اللقاء بيومٍ، يحكي لنا ميجيل ابن سالباتييرَّا الأحداث التي تبعتْ هذه الوفاة. وميجيل هو صوت الرواي في الرواية، يعتمد علي تقنية التداعي، وكذلك خلط الأحداث القديمة بالحديثة. يأخذنا بلغةٍ سلسلةٍ، وبوصفٍ فيما لزم الوصف، وسرعةٍ إذا لزم الأمر، ورشاقةٍ في العبارة، وخفةٍ في أداء الأحداث. تبدأ الرواية بوصف اللوحة التي تستغرق مشاهدتها كاملةً -بعدما عُرضت نسخةٌ مصورة منها في متحف رويل- يومًا كاملًا. ثُمَّ يسردُ علينا ما حدث بتقاطعاتٍ بين الحاضر والماضي. بعد وفاة سالباتييرَّا قرَّر ابناه الاهتمام باللوحة. فقاما بالتواصل مع صديق سالباتييرَّا دكتور دابيلا. لكنهم يفشلون في الحصول علي دعمٍ لعمل متحف يضم هذه اللوحة. لم يحدث شيءٌ سوي أوراقٍ وأختامٍ لا تُقدِّمُ ولا تُؤخِّرُ. كلُّ ما هناك أنَّ صاحب سوبر ماركيت يعرض عليهم أن يشتري الأرض التي كان يتَّخذُها سالباتييرَّا مرسمًا له. لكن الأم تقابل هذا العرض بالرفض. بعد وفاة الأم، يُقرِّر ميجيل ولويس الدخول إلي المرسم ليريا هذه اللوحة. وحين يدخلان يفاجئهما ألدو وهو مساعد سالباتييرَّا في آخر أيامه، بعدما سافر ابناه إلي بوينوس آيرس. يسافران ليدبرا أمورهما، ثم يعودان للتفرغ للوحة. يكتشفان أنَّ لفافة مفقودة، وهي تحمل عامًا كاملًا 1961 ، لم يتوقف سالباتييرَّا يومًا عن الرسم، إذنْ فمِن المستحيل أن يتوقَّف عامًا. هل سُرقت؟ لو سُرقت لتركت فراغًا ملحوظًا. هل غيَّر أحدٌ الترتيب؟ لا؛ فالترتيب لم يتغيَّرْ منذ زمنٍ بعيدٍ. إذنْ ماذا حدث في هذا العام؟ يحاولان التذكُّر. لا شيء. يعودانِ إلي بوينوس آيرس، ويحاولان محاولات فاشلة لجذب أي دعم، وفي نهاية الشتاء عادا بعدما نجحا في الحصول علي دعم مؤسسة أدريان رويل بأمستردام. يذهب ميجيل ليبحث عن اللفافة المفقودة "مقارنةً بمجموع العمل، كان الجزء المفقود يُشكِّلُ نسبةً لا تُذكر، إلَّا أنني كنتُ أرغبُ في العثور عليها؛ لأن تلك الفجوة كانت تُشعرني بالضيق، تلك القفزة التي تتخلل عملًا بهذا القدر مِن الاستمرارية. لو كانت هناك أربع أو خمس لفائف مفقودة لما اهتممتُ بالبحث عنها. ولكن لأنها لفافة واحدة، فقد كانت اللوحة أقرب إلي بلوغ تلك الانسيابية المطلقة، التي سعي إليها سالباتييرَّا". وتبدأ رحلة البحث عن اللوحة المفقودة، يذهب ميجيل إلي بنات عم سالباتييرَّا، وحين سألهنَّ، قُلن: ابحث في المخزن. وحين يذهب إلي زوجة دابيلا، تؤكِّدُ له بغلظةٍ أنه لم يحتفظ بأيِّ مِن لوحات سالباتييرَّا. يصل اثنان من مؤسسة أدريان رويل للعمل علي رقمنة اللوحة كاملةً، يشرعان في العمل، ويواصل ميجيل البحث عن اللفافة الناقصة. يذهب للبريد. ولا يصل إلي أي شيءٍ، فلم يكن أحدٌ في البريد يعرف أن ساباتييرَّا يرسم أصلًا. بعدها يلتقي ماريو خوردان صديق سالباتييرَّا. وبعد حوادث يظهر فيها خوردان مجنونًا، يرشدُهُ إلي أنها قد تكون عند فيرمين إيبانيس الأسود، فقد كان سرقها في ليلة سكرٍ ونزقٍ، ثم هرب إلي باراجواي. وفي هذا الوقت يتعرضان لمضايقاتٍ كثيرةٍ مِن مالك السوبر ماركت الذي يُصرُّ بكل الطرق علي شراء المخزن. كانوا قد انتهوا مِن تصوير نصف اللفافات، وأرسلوها للمتحف، وجاءت البشائر بأنَّ المتحف وافق علي شراء العمل. يعبر ميجيل ولويس إلي الناحية الأخري، إلي باراجواي، وهناك يلتقيان بشخصٍ هو ابن أخت فيرمين إيبانيس. ويدلهما علي المكان الذي بوسعهما أن يجدا فيه اللوحة. وهناك يجدان اللوحة فعلًا، لكن بعد عدة أحداثٍ غريبةٍ. يكتشفان فيها بعض الحقائق الصادمة. الرواية شيِّقةٌ ومثيرةٌ، وأخَّاذةٌ، ما إن تبدأ فيها، حتي تلتهم الصفحات، حتي تنتهي، فتفيقُ وأنتَ تُعيدُ قراءتها مرةً أُخري. لعلَّ هذا هو سبب حصولها علي عدة جوائز هامة. كل هذا في ترجمة ممتعة، لا تشعرنا بغرابة وفجوات ومآزق الترجمة.