نواب ينتقدون الحكومة بسبب عدم الاستفادة من القروض بشكل أمثل: 400 مليون يورو "والحسابة بتحسب"    أسعار الذهب منتصف تعاملات اليوم الأربعاء.. الجنيه يسجل 24.8 ألف جنيه    رئيس مركز ومدينة سمالوط يتابع توريد القمح بالشونة المركزية    عشرات الشهداء والجرحى في قصف الاحتلال الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة في يومه ال215    منتخب مصر الأولمبي يفاضل بين عدة عروض ودية استعداداً لمعسكر يونيو    مرشح جديد لتدريب مانشستر يونايتد خلفاً لتين هاج    الزمالك يكشف مفاجآت في قضية خالد بوطيب وإيقاف القيد    وكيل تعليم شمال سيناء يتابع سير امتحانات النقل    حجز مجدي شطة على ذمة قضايا أخرى بعد إخلاء سبيله بقضية المخدرات    تحمل اسم عايدة عبد العزيز.. مهرجان «إيزيس للمسرح» يُعلن تفاصيل دورته الثانية غدا    وزير النقل يترأس الجمعية العامة العادية للشركة المصرية لإدارة وتشغيل مترو الأنفاق    إسرائيل تعيد إغلاق معبر كرم أبو سالم بعد إدخال شاحنة وقود واحدة لوكالة أونروا إلى غزة    أوكرانيا: ارتفاع قتلى الجيش الروسي إلى 477 ألفا و430 جنديا منذ بدء العملية العسكرية    وزير الخارجية الإيراني: طهران والقاهرة تتجهان نحو إعادة علاقاتهما الدبلوماسية إلي طبيعتها    زعماء العالم يهنئون فلاديمير بوتين بعد تنصيبه رئيسا لولاية خامسة    وزيرة الهجرة تستقبل أحد رموز الجالية المصرية بالكويت    محافظ كفر الشيخ: نقل جميع المرافق المتعارضة مع مسار إنشاء كوبري سخا العلوي    30 جنيهًا للعبوة 800 جرام.. «التموين» تطرح زيت طعام مدعمًا على البطاقات من أول مايو    صالح جمعة معلقا على عقوبة إيقافه بالدوري العراقي: «تعرضت لظلم كبير»    وزيرة البيئة: مشروعات الهيدروجين الأخضر تحقق استثمارات ب770 مليار دولار سنويا    تعرف على حد الاستخدام اليومي والشهري للمحافظ الإلكترونية للأفراد والشركات    ارتفاع تدريجي في درجات الحرارة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس حتى يوم الجمعة 10 مايو 2024    مصرع سيدة صدمها قطار خلال محاولة عبورها السكة الحديد بأبو النمرس    بسبب إدمانه .. الأب والأم قتلا نجلهما    المشاط تبحث مع سفير أذربيجان استعدادات انعقاد الدورة من اللجنة المشتركة بالقاهرة    ياسمين عبدالعزيز وأبناؤها بمداخلة على الهواء في «صاحبة السعادة».. والجمهور يُعلق    لمواليد 8 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    ذكرى رحيل أحمد مظهر.. نهاية حزينة لفارس السينما المصرية ومريم فخر الدين تكشف الأسباب    قصور الثقافة تصدر كتاب "السينما وحضارة مصر القديمة"    أصالة تحذف صورها مع زوجها فائق حسن.. وتثير شكوك الانفصال    الإفتاء تكشف محظورات الإحرام في مناسك الحج.. منها حلق الشعر ولبس المخيط    الأمين العام المساعد للبحوث الإسلامية يوضح للشباب مقومات الشخصية المصرية    الكشف على 10 آلاف مواطن بالمنيا في 8 قوافل طبية خلال شهر    النواب يستكمل مناقشه تقرير لجنة الخطة والموازنة    بدء تنفيذ أعمال مبادرة "شجرها" بسكن مصر في العبور الجديدة    "المدرج نضف".. ميدو يكشف كواليس عودة الجماهير ويوجه رسالة نارية    طلاب الصف الأول الإعدادي بالجيزة: امتحان اللغة العربية سهل (فيديو)    اليوم، الحركة المدنية تناقش مخاوف تدشين اتحاد القبائل العربية    مصادر: شركة أمريكية خاصة ستتولى إدارة معبر كرم أبوسالم لحين تولي السلطة الفلسطينية المهمة من الجانب الفلسطيني    فولكس فاجن ID.3 موديل 2024 الكهربائية تنطلق رسميًا    علي جمعة: الرضا والتسليم يدخل القلب على 3 مراحل    سحر فوزي رئيسا.. البرلمان يوافق على تشكيل المجلس القومي للطفولة والأمومة.. يتألف من 13 عضوا.. وهذه تفاصيل المواد المنظمة    ضبط قضايا اتجار في العملة ب12 مليون جنيه    الصحة: فحص 13 مليون مواطن ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض المزمنة    «قلت لها متفقناش على كده».. حسن الرداد يكشف الارتباط بين مشهد وفاة «أم محارب» ووالدته (فيديو)    لبلبة و سلمي الشماع أبرز الحضور في ختام مهرجان بردية للسينما    إعلام فلسطيني: شهيدتان جراء قصف إسرائيلي على خان يونس    سيد معوض: الأهلي حقق مكاسب كثيرة من مباراة الاتحاد.. والعشري فاجئ كولر    «الإفتاء» توضح الأعمال المستحبة في «ذي القعدة».. وفضل الأشهر الأحرم (فيديو)    إخماد حريق في شقة وسط الإسكندرية دون إصابات| صور    نتائج التحقيقات الأولية فى مقتل رجل أعمال كندى بالإسكندرية، وقرارات عاجلة من النيابة    بايدن: لا مكان لمعاداة السامية في الجامعات الأمريكية    «النقل»: تصنيع وتوريد 55 قطارا للخط الأول للمترو بالتعاون مع شركة فرنسية    الصحة: تقديم الخدمات الطبية لأكثر من 900 ألف مواطن بمستشفيات الأمراض الصدرية    حكم حج للحامل والمرضع.. الإفتاء تجيب    "كفارة اليمين الغموس".. بين الكبيرة والتوبة الصادقة    «إنت مبقتش حاجة كبيرة».. رسالة نارية من مجدي طلبة ل محمد عبد المنعم    رئيس إنبي: نحن الأحق بالمشاركة في الكونفدرالية من المصري البورسعيدي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آداب تدريب الحواس
نشر في صوت البلد يوم 10 - 07 - 2017

ليست بالفكرة الجديدة فكرة «آداب لغة الحواس» التي تحدث عنها توفيق الحكيم ذات يوم، فلكل حاسة لدينا لغة وكل لغة تحتاج لتأسيس وترويض وتهذيب، حتى تكون إضافة لنا وليست علينا.
الذي لا نعرفه ربما أو تعرفه قلّة جدا منا، هو أن الحواس كانت أكثر تبجيلا وتقديرا من طرف الشعوب القديمة، لدرجة التقديس أحيانا. لأنها تربط الإنسان بأمه الأرض. اليوم نحن منفصلون عن الطبيعة وهذا ما يتعبنا، نحن لا نستحضر هذه الأم حتى في عطور مصنعة وحدائق اصطناعية ومتاحف تروي تاريخنا العريق على الأرض.
لن أعود بكم لعصور غابرة حين كان البشر جزءا من سمفونية طبيعية، لا اختلال فيها، ولكنني سأذكركم فقط أن البشر اخترعوا العطور منذ زمن طويل، وأنها أبدا لم توضع في أجران أو زجاجات عادية، بل كانت تحظى باحترام كبير، فكانت تحضنها زجاجات وعلب مصنوعة بإتقان وجماليات تميزها عن غيرها. كان العطر ليس بحاجة لوعاء يحفظه بقدر ما كان قطعة من الطبيعة تهدى للمحبوب وترش بها أماكن الحب والعشق والتزاوج.
في شرقنا الساحر رغم غرائبه الكثيرة عرفت بلقيس بسيدة العطور، كما كانت كليوباترا تُعرف أنها عائدة من سفراتها بامتلاء الجو بعبق عطرها، فقد كانت تملأ سفينتها بعطورها، وتعيش حيثما كانت في هالة من الروائح الجميلة.
غلاء العطر يعود إلى أننا لا يمكن أن نقبض عليه بحواسنا، فنحن نشمه في لحظة وينتهي ليبقى لصيقا بالذاكرة، وكأنّه كنز كان بين أيدينا ثم فقدناه، لذلك يبدو استرجاعه عملية مكلفة، إذ لا يمكن أن نحصل على عطر نحبه إلا حين ندفع ثمنه غاليا. أليس أول ما نفعله حين نعود للوطن أننا نشم رائحة هوائه ونمتلئ بها؟ أليس أول شيء نفعله حين نعانق أمهاتنا هو أن نشم رائحتهن ونحاول أن نختزنها في ثنايا أجسادنا؟
منذ الثمانينيات وأنا أحتفظ برائحة «العطور الخالدة» كما أسميها في ذاكرتي، لأنها ارتبطت بأمي وأفراد من عائلتي وسفراتي الأولى وأماكن عنت لي الكثير.
« إستيلودر، أودوسوار من سيسلي، عطور كوكوشانيل» كلها حفرت لنفسها أماكن ثابتة في أعماقي، خاصة أنني لا أكتفي بشم العطر بالبحث عن قصته، فكما نحن نرتبط بكل عطر لأن له قصة معنا، فأيضا لكل ولادة عطر قصّة. «شانيل فايف» أو«شانيل 5» له علاقة وطيدة بالعنبر رقم خمسة في دار الأيتام، التي عاشت فيها كوكوشانيل، أذكر هذا التفصيل لأن مجتمعنا يعتبر «كوكوشانيل» عنوانا للفخامة والطبقة المخملية التي لم تذق الفقر، أما هي فقدّمت معجزاتها بكدها وعرقها لتثبت للعالم أن الفقر ليس قدرا أبديا، ولكنه تربة خصبة تنمو فيها حدائق الفرح والجمال إن شئنا. كيف هذبت السيدة الفقيرة حواسّها؟ لا أدري. أعرف فقط أنها سيدة موهوبة ورفضت بكل قوتها أن تُعَلِّب مواهبها وتنتظر الفرج من السماء دون أن تفعل شيئا.
وكما بإمكاننا أن نُعوّد حاسّة الشم على الروائح الجميلة فنهذب صاحبها، ونجعله يعمل على جعل محيطه يعبق برائحة الزهور، فإن العين أيضا بإمكاننا أن نجعلها تدمن الجمال.
الله يرحمك يا توفيق الحكيم كم كنت حكيما.
أذكر كيف سحرني قصر محمد علي حين زرته وأنا طلبة جامعية، وكيف ذهلت حين رأيت قصر فرساي وتجوّلت بين غرفه، وكيف انخطف قلبي وأنا أقف أمام غرفة ماري أنطوانيت، وقاعة المرايا، ومتحف بيكاسو في مالقا، ووقفت كطفلة أمام متحف أديب الأطفال العالمي هانز كريستن أندرسن في أودنسة في الدانمارك عندما قرأت شعرا فيها. متحف لا تختصره الكلمات، إنه مذهل وكفى. لكني كنت في حضرة كاتب رائعة «بائعة الكبريت» التي ترجمت ل 150 لغة. الإحساس نفسه انتابني حين دخلت غرفة جبران خليل جبران ورأيت سريرة الصغير الذي كان يحضن قامته القصيرة.
كنت أقول لنفسي أي مارد عظيم خرج من تلك القصيرة؟ وبسببه أحببت منطقة بشرّي كلها، بجبالها وهوائها البارد وطبيعتها الجميلة القاسية. طبيعة أعالي الجبال والقمم.
إحساس مشابه انتابني وأنا في امستردام في حضرة «فان غوغ» وجنونه بمتحفه، أما أحلى أثر في نظري فهو قصر الدولمباش في اسطنبول، جمدت تماما أمام الساعة التي توقفت عند وفاة كمال أتاتورك في غرفته. ثم لعلّه أصبح عشقا شخصيا لكل ما له سيرة ذاتية للعظماء، ثم امتد لعشق الأماكن وتميزها، ما زلت أذكر سحر كوتومبا في استراليا، وتحديدا الصخور الثلاث التي تحمل اسم «ثري سيسترز» أي الأخوات الثلاث ، ورحلة الدودة المضيئة في بريسبن، أذكرها ليلا عندما مشينا وسط الغابات والأشجار حتى نصل في النهاية إلى كهوف مليئة بشرانق الدود المضيئة وسط العتمة، وقفنا مذهولين تماما، أضعت أمام ذلك المنظر لغتي وقدرة لساني على التعبير. أي نعمة تلك التي حباني بها الله لترى عيناي كل ذلك الجمال الذي خلقه؟
إنها نعمة وإن كنت أحمد الله عليها وأشكره كثيرا فإني أيضا أعمل جاهدة لأمنح لنفسي متعة رؤية المزيد. وأظن أن العين كلما امتلأت بالجمال دفعت بالعقل ليعمل أكثر، وبالمشاعر لتبث الفرح الداخلي لدى الإنسان.
تربية العين مهمة، أقولها وصور جميلة تتوالى أمام ذاكرتي، عمّان ومهرجانات جرش، لندن بانكليش بير، طوكيو ب»إن لوف»، قصر الحمراء في اسبانيا، خلال مئوية لوركا، لوحات الفلامنكو رقصا وموسيقى من أزقة الغجر إلى المسارح الحديثة، حكاية عشتها كاملة في تلك الذكرى المهمة.
والآن وأنا أكتب هذه المقالة أجدني مستيقظة الحواس كلها، وكل شيء عشته متميزا يتدافع بصور مختلفة لينال مساحة هنا أتقاسمها معكم.
حاسة الذوق
تعلّمت أن أكون كريمة على حواسي كلها، بما في ذلك حاسة ذوقي. في كل بلد أحط فيه أتذوق أطيب أطايبه، أحفظ الأكلات اللذيذة وأسأل عن مكوناتها وأسجلها في ذاكرتي، وأبدا لم أكن من ذلك الصنف المتعالي الذي يعتقد أن الوفاء لمطبخ بلاده واجب يمنعه من تذوق أكل الآخرين. كنت دوما طليقة وحرة أعيش دون حواجز داخلية تحرمني من متعة الاكتشاف. عرفت المطبخ التايلندي والياباني والفيتنامي وعشت رحلة خيالية مع «أطعمة» خارقة أساسها خلطات وبهارات ومكونات استثنائية من كل بلد.
لست أبدا من ذلك النوع الذي يزور بلدا ويحمل معه عاداته الشخصية، ويبحث عما ألفه، فقد كنت دوما محبة لاكتشاف الجديد لأملأ حقائب ذاكرتي بذخيرة جديدة ومتميزة..
أنا هكذا.
أعشق الجمال بكل أنواعه، وأغرف منه ما استطعت، أزياء، حلي، لوحات، موسيقى، فنونا بكل أنواعها. لا شيء يقف في طريقي، بل إن شغفي بالمعرفة يزداد كلما لامست الأشياء الجميلة والمختلفة في مكان ما.
لدي مشكلة كبيرة مثلا حين أدخل بيتا فخما لكن لا حياة فيه، لأن لا لوحات حقيقية تغطي جدرانه، ولا تحف فيها روح تزين زواياه، ولا روائح تهب في جنباته. البعض يحرص على أن يجعل بيته مثل تابوت لا حياة فيه، لا رائحة طبخ، ولا أزهار، ولا موسيقى ولا ستائر بألوان متناغمة مع الفرش. أشعر بصعوبة الحياة في بيوت خالية من لمسات مبدعين لم يحركوا مشاعر من يسكنونها. وربما كان ذلك أحد الأسباب التي دفعتني دون قصد مسبق لتحويل بيتي إلى متحف صغير، تملؤه توقيعات أحبة وأصدقاء وفنانين ومبدعين من الطراز الذي يسرق لهفة قلبي. لكل تحفة في بيتي قصة، ولا أمل من سرد كل قصة لزائري، ذلك أنني أبدا لا أتعامل معها كاكسسوارات بقدر ما أعتبرها كائنات حية جميلة تشاركني الحياة في مكاننا المشترك. سوريا، العراق، تونس، المغرب، البحرين. جدران بيتي قارة بأكملها تنبض بالحب والألوان ولكل لوحة حكاية.
لكل ضيف استقبله أيضا حكاية، قصائد وأغانيات.. أغنية «وحدن» سكنت وجداني لأسبوعين قبل ان استقبل الشاعر طلال حيدر. جاهدة وهي تصدح بصوتها الخارق في أعماق قلبي قبل أن التقيها، كأنها ترتب عرشا لها في داخلي. لمستغانمي أيضا حكاية حين قرأت روايتها «ذاكرة الجسد» وكيف حضرت لبرومو حلقتها حين استضفتها.. هذه كلها نعمة الحواس التي أبقيها حية تنبض، وتتنفس، تأخذ وتعطي وتثمر.. وهكذا يجب أن نتعاطى مع حواسنا وإلا ما معنى أن نملك خمس حواس كاملة، وكون ساحر يحيط بنا ونصنع لأنفسنا سجونا نعيش فيها حتى نموت، وتنطفئ حواسنا قهرا لأننا عطّلناها طيلة مدة حياتنا.
لدي الكثير بعد لأقوله، لكنني سأكتفي بهذا القدر، ولمن لم يطلق سراح حواسه بعد، فليطلقها في الفضاءات الجميلة ما استطاع، لأن الحياة حلوة ولكنها للأسف قصيرة.
ليست بالفكرة الجديدة فكرة «آداب لغة الحواس» التي تحدث عنها توفيق الحكيم ذات يوم، فلكل حاسة لدينا لغة وكل لغة تحتاج لتأسيس وترويض وتهذيب، حتى تكون إضافة لنا وليست علينا.
الذي لا نعرفه ربما أو تعرفه قلّة جدا منا، هو أن الحواس كانت أكثر تبجيلا وتقديرا من طرف الشعوب القديمة، لدرجة التقديس أحيانا. لأنها تربط الإنسان بأمه الأرض. اليوم نحن منفصلون عن الطبيعة وهذا ما يتعبنا، نحن لا نستحضر هذه الأم حتى في عطور مصنعة وحدائق اصطناعية ومتاحف تروي تاريخنا العريق على الأرض.
لن أعود بكم لعصور غابرة حين كان البشر جزءا من سمفونية طبيعية، لا اختلال فيها، ولكنني سأذكركم فقط أن البشر اخترعوا العطور منذ زمن طويل، وأنها أبدا لم توضع في أجران أو زجاجات عادية، بل كانت تحظى باحترام كبير، فكانت تحضنها زجاجات وعلب مصنوعة بإتقان وجماليات تميزها عن غيرها. كان العطر ليس بحاجة لوعاء يحفظه بقدر ما كان قطعة من الطبيعة تهدى للمحبوب وترش بها أماكن الحب والعشق والتزاوج.
في شرقنا الساحر رغم غرائبه الكثيرة عرفت بلقيس بسيدة العطور، كما كانت كليوباترا تُعرف أنها عائدة من سفراتها بامتلاء الجو بعبق عطرها، فقد كانت تملأ سفينتها بعطورها، وتعيش حيثما كانت في هالة من الروائح الجميلة.
غلاء العطر يعود إلى أننا لا يمكن أن نقبض عليه بحواسنا، فنحن نشمه في لحظة وينتهي ليبقى لصيقا بالذاكرة، وكأنّه كنز كان بين أيدينا ثم فقدناه، لذلك يبدو استرجاعه عملية مكلفة، إذ لا يمكن أن نحصل على عطر نحبه إلا حين ندفع ثمنه غاليا. أليس أول ما نفعله حين نعود للوطن أننا نشم رائحة هوائه ونمتلئ بها؟ أليس أول شيء نفعله حين نعانق أمهاتنا هو أن نشم رائحتهن ونحاول أن نختزنها في ثنايا أجسادنا؟
منذ الثمانينيات وأنا أحتفظ برائحة «العطور الخالدة» كما أسميها في ذاكرتي، لأنها ارتبطت بأمي وأفراد من عائلتي وسفراتي الأولى وأماكن عنت لي الكثير.
« إستيلودر، أودوسوار من سيسلي، عطور كوكوشانيل» كلها حفرت لنفسها أماكن ثابتة في أعماقي، خاصة أنني لا أكتفي بشم العطر بالبحث عن قصته، فكما نحن نرتبط بكل عطر لأن له قصة معنا، فأيضا لكل ولادة عطر قصّة. «شانيل فايف» أو«شانيل 5» له علاقة وطيدة بالعنبر رقم خمسة في دار الأيتام، التي عاشت فيها كوكوشانيل، أذكر هذا التفصيل لأن مجتمعنا يعتبر «كوكوشانيل» عنوانا للفخامة والطبقة المخملية التي لم تذق الفقر، أما هي فقدّمت معجزاتها بكدها وعرقها لتثبت للعالم أن الفقر ليس قدرا أبديا، ولكنه تربة خصبة تنمو فيها حدائق الفرح والجمال إن شئنا. كيف هذبت السيدة الفقيرة حواسّها؟ لا أدري. أعرف فقط أنها سيدة موهوبة ورفضت بكل قوتها أن تُعَلِّب مواهبها وتنتظر الفرج من السماء دون أن تفعل شيئا.
وكما بإمكاننا أن نُعوّد حاسّة الشم على الروائح الجميلة فنهذب صاحبها، ونجعله يعمل على جعل محيطه يعبق برائحة الزهور، فإن العين أيضا بإمكاننا أن نجعلها تدمن الجمال.
الله يرحمك يا توفيق الحكيم كم كنت حكيما.
أذكر كيف سحرني قصر محمد علي حين زرته وأنا طلبة جامعية، وكيف ذهلت حين رأيت قصر فرساي وتجوّلت بين غرفه، وكيف انخطف قلبي وأنا أقف أمام غرفة ماري أنطوانيت، وقاعة المرايا، ومتحف بيكاسو في مالقا، ووقفت كطفلة أمام متحف أديب الأطفال العالمي هانز كريستن أندرسن في أودنسة في الدانمارك عندما قرأت شعرا فيها. متحف لا تختصره الكلمات، إنه مذهل وكفى. لكني كنت في حضرة كاتب رائعة «بائعة الكبريت» التي ترجمت ل 150 لغة. الإحساس نفسه انتابني حين دخلت غرفة جبران خليل جبران ورأيت سريرة الصغير الذي كان يحضن قامته القصيرة.
كنت أقول لنفسي أي مارد عظيم خرج من تلك القصيرة؟ وبسببه أحببت منطقة بشرّي كلها، بجبالها وهوائها البارد وطبيعتها الجميلة القاسية. طبيعة أعالي الجبال والقمم.
إحساس مشابه انتابني وأنا في امستردام في حضرة «فان غوغ» وجنونه بمتحفه، أما أحلى أثر في نظري فهو قصر الدولمباش في اسطنبول، جمدت تماما أمام الساعة التي توقفت عند وفاة كمال أتاتورك في غرفته. ثم لعلّه أصبح عشقا شخصيا لكل ما له سيرة ذاتية للعظماء، ثم امتد لعشق الأماكن وتميزها، ما زلت أذكر سحر كوتومبا في استراليا، وتحديدا الصخور الثلاث التي تحمل اسم «ثري سيسترز» أي الأخوات الثلاث ، ورحلة الدودة المضيئة في بريسبن، أذكرها ليلا عندما مشينا وسط الغابات والأشجار حتى نصل في النهاية إلى كهوف مليئة بشرانق الدود المضيئة وسط العتمة، وقفنا مذهولين تماما، أضعت أمام ذلك المنظر لغتي وقدرة لساني على التعبير. أي نعمة تلك التي حباني بها الله لترى عيناي كل ذلك الجمال الذي خلقه؟
إنها نعمة وإن كنت أحمد الله عليها وأشكره كثيرا فإني أيضا أعمل جاهدة لأمنح لنفسي متعة رؤية المزيد. وأظن أن العين كلما امتلأت بالجمال دفعت بالعقل ليعمل أكثر، وبالمشاعر لتبث الفرح الداخلي لدى الإنسان.
تربية العين مهمة، أقولها وصور جميلة تتوالى أمام ذاكرتي، عمّان ومهرجانات جرش، لندن بانكليش بير، طوكيو ب»إن لوف»، قصر الحمراء في اسبانيا، خلال مئوية لوركا، لوحات الفلامنكو رقصا وموسيقى من أزقة الغجر إلى المسارح الحديثة، حكاية عشتها كاملة في تلك الذكرى المهمة.
والآن وأنا أكتب هذه المقالة أجدني مستيقظة الحواس كلها، وكل شيء عشته متميزا يتدافع بصور مختلفة لينال مساحة هنا أتقاسمها معكم.
حاسة الذوق
تعلّمت أن أكون كريمة على حواسي كلها، بما في ذلك حاسة ذوقي. في كل بلد أحط فيه أتذوق أطيب أطايبه، أحفظ الأكلات اللذيذة وأسأل عن مكوناتها وأسجلها في ذاكرتي، وأبدا لم أكن من ذلك الصنف المتعالي الذي يعتقد أن الوفاء لمطبخ بلاده واجب يمنعه من تذوق أكل الآخرين. كنت دوما طليقة وحرة أعيش دون حواجز داخلية تحرمني من متعة الاكتشاف. عرفت المطبخ التايلندي والياباني والفيتنامي وعشت رحلة خيالية مع «أطعمة» خارقة أساسها خلطات وبهارات ومكونات استثنائية من كل بلد.
لست أبدا من ذلك النوع الذي يزور بلدا ويحمل معه عاداته الشخصية، ويبحث عما ألفه، فقد كنت دوما محبة لاكتشاف الجديد لأملأ حقائب ذاكرتي بذخيرة جديدة ومتميزة..
أنا هكذا.
أعشق الجمال بكل أنواعه، وأغرف منه ما استطعت، أزياء، حلي، لوحات، موسيقى، فنونا بكل أنواعها. لا شيء يقف في طريقي، بل إن شغفي بالمعرفة يزداد كلما لامست الأشياء الجميلة والمختلفة في مكان ما.
لدي مشكلة كبيرة مثلا حين أدخل بيتا فخما لكن لا حياة فيه، لأن لا لوحات حقيقية تغطي جدرانه، ولا تحف فيها روح تزين زواياه، ولا روائح تهب في جنباته. البعض يحرص على أن يجعل بيته مثل تابوت لا حياة فيه، لا رائحة طبخ، ولا أزهار، ولا موسيقى ولا ستائر بألوان متناغمة مع الفرش. أشعر بصعوبة الحياة في بيوت خالية من لمسات مبدعين لم يحركوا مشاعر من يسكنونها. وربما كان ذلك أحد الأسباب التي دفعتني دون قصد مسبق لتحويل بيتي إلى متحف صغير، تملؤه توقيعات أحبة وأصدقاء وفنانين ومبدعين من الطراز الذي يسرق لهفة قلبي. لكل تحفة في بيتي قصة، ولا أمل من سرد كل قصة لزائري، ذلك أنني أبدا لا أتعامل معها كاكسسوارات بقدر ما أعتبرها كائنات حية جميلة تشاركني الحياة في مكاننا المشترك. سوريا، العراق، تونس، المغرب، البحرين. جدران بيتي قارة بأكملها تنبض بالحب والألوان ولكل لوحة حكاية.
لكل ضيف استقبله أيضا حكاية، قصائد وأغانيات.. أغنية «وحدن» سكنت وجداني لأسبوعين قبل ان استقبل الشاعر طلال حيدر. جاهدة وهي تصدح بصوتها الخارق في أعماق قلبي قبل أن التقيها، كأنها ترتب عرشا لها في داخلي. لمستغانمي أيضا حكاية حين قرأت روايتها «ذاكرة الجسد» وكيف حضرت لبرومو حلقتها حين استضفتها.. هذه كلها نعمة الحواس التي أبقيها حية تنبض، وتتنفس، تأخذ وتعطي وتثمر.. وهكذا يجب أن نتعاطى مع حواسنا وإلا ما معنى أن نملك خمس حواس كاملة، وكون ساحر يحيط بنا ونصنع لأنفسنا سجونا نعيش فيها حتى نموت، وتنطفئ حواسنا قهرا لأننا عطّلناها طيلة مدة حياتنا.
لدي الكثير بعد لأقوله، لكنني سأكتفي بهذا القدر، ولمن لم يطلق سراح حواسه بعد، فليطلقها في الفضاءات الجميلة ما استطاع، لأن الحياة حلوة ولكنها للأسف قصيرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.