تنسيق الجامعات 2025.. موقع التنسيق يفتح باب التقديم بالمرحلة الأولى    لجنة للمرور على اللجان الانتخابية بالدقهلية لبحث جاهزيتها لانتخابات الشيوخ    «طنطاوي» مديرًا و «مروة» وكيلاً ل «صحة المنيا»    سوبر ماركت التعليم    مفتي الجمهورية السابق يوجه رسائل عاجلة لأهالي البحيرة قبل إنتخابات مجلس الشيوخ    في عامها الدراسي الأول.. جامعة الفيوم الأهلية تعلن المصروفات الدراسية للعام الجامعي 2025/2026    أسعار الفاكهة والموز والمانجو بالأسواق اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025    سعر الذهب اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025 بالصاغة.. وعيار 21 الآن بعد الانخفاض الكبير    مصدر بالكهرباء: انقطاع التيار بالجيزة مستمر لحين تركيب الدوائر الجديدة    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية قبل بداية تعاملات الثلاثاء 29 يوليو 2025    محمد معيط: العام المقبل سيشهد صرف شريحتين متبقيتين بقيمة تقارب 1.2 مليار دولار لكل شريحة    تغيير في قيادة «إجيماك».. أكرم إبراهيم رئيسًا لمجلس الإدارة خلفًا لأسامة عبد الله    أخبار 24 ساعة.. انطلاق القطار الثانى لتيسير العودة الطوعية للأشقاء السودانيين    خروج محطة محولات جزيرة الذهب بالكامل مرة أخرى وانقطاع الكهرباء عن الجيزة    إيران ترد على ادعاء ترامب حول تدخل طهران في مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة    تليجراف: ستارمر سيعلن عن خطته للاعتراف بدولة فلسطينية    الرئيس الفلسطيني يثمن نداء الرئيس السيسي للرئيس الأمريكي من أجل وقف الحرب في غزة    ارتفاع حصيلة الشهداء فى غزة إلى 59 ألفا و921 والإصابات إلى 145 ألفا و233 منذ بدء العدوان    وزير الخارجية السعودي: لا مصداقية لحديث التطبيع وسط معاناة غزة    أبو الغيط من مؤتمر نيويورك: لا سبيل إلى تحقيق السلام الإقليمي الدائم إلا بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية على حدود 67    عبور قافلة مساعدات إنسانية إلى السويداء جنوب سوريا    «مقترح أوروبي» بفرض قيود على تمويل الأبحاث الإسرائيلية    مجلس إدارة الزمالك يشكر الرئيس عبد الفتاح السيسى على موقفه الإنسانى تجاه حسن شحاتة    الأهلى يناقش تطورات عروض رحيل رضا سليم فى الميركاتو الصيفى    أحمد فتوح يتسبب بأزمة جديدة في الزمالك.. وفيريرا يرفض التعامل معه (تفاصيل)    الأهلي يضغط على نجمه من أجل الرحيل.. إبراهيم عبدالجواد يكشف    قرار مفاجئ من أحمد عبدالقادر بشأن مسيرته مع الأهلي.. إعلامي يكشف التفاصيل    تراجع طفيف في درجات الحرارة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025    تشييع جثمانى طبيبين من الشرقية لقيا مصرعهما فى حادث على الدائرى.. صور    السيطرة على حريق كابينة كهرباء بعزبة النخل.. وعودة التيار خلال دقائق    النجاح له ألف أب!    «قد تُستخدم ضدك في المحكمة».. 7 أشياء لا تُخبر بها الذكاء الاصطناعي بعد تحذير مؤسس «ChatGPT»    ضبط 400 علبة سجائر مجهولة المصدر بمركز المنشاة فى سوهاج    حفل العيد القومى لمحافظة الإسكندرية من داخل قلعة قايتباى.. فيديو    تحولات مهنية قادمة.. حظ برج العقرب اليوم 29 يوليو    نوسة وإحسان وجميلة    تعرف على برجك اليوم 2025/7/29.. «الحمل»: تبدو عمليًا وواقعيًا.. و«الثور»: تراجع معنوي وشعور بالملل    أحمد صيام: محبة الناس واحترامهم هي الرزق الحقيقي.. والمال آخر ما يُذكر    أهم الأخبار الفنية على مدار الساعة.. الرئيس اللبنانى يمنح زياد الرحبانى وسام الأرز الوطنى رتبة كومندور.. وفاة شقيق المخرج خالد جلال.. منح ذوى القدرات الخاصة المشاركة بمهرجان الإسكندرية مجانا    محافظ سوهاج يوجه بتوفير فرصة عمل لسيدة كفيفة بقرية الصلعا تحفظ القرآن بأحكامه    للحماية من التهاب المرارة.. تعرف على علامات حصوات المرارة المبكرة    من تنظيم مستويات السكر لتحسين الهضم.. تعرف على فوائد القرنفل الصحية    لها مفعول السحر.. رشة «سماق» على السلطة يوميًا تقضي على التهاب المفاصل وتخفض الكوليسترول.    حزب مستقبل وطن بالبحيرة يدعم المستشفيات بأجهزة طبية    جامعة الإسماعيلية الجديدة الأهلية تُقدم خدماتها الطبية ل 476 مواطناً    16 ميدالية، حصاد البعثة المصرية في اليوم الثاني من دورة الألعاب الأفريقية للمدارس    حرائق الكهرباء عرض مستمر، اشتعال النيران بعمود إنارة بالبدرشين (صور)    في لقاء نادر، ماذا قال عمرو دياب عن زياد الرحباني؟ (فيديو)    قرار من خوسيه ريبيرو بخصوص مباراة إنبي الودية اليوم    مي كساب بإطلالة جديدة باللون الأصفر.. تصميم جذاب يبرز قوامها    "شوية مطبلاتية".. تعليق قوي من أحمد عبد القادر على أنباء فسخ تعاقده مع الأهلي    ضبط مصنع غير مرخص يعيد تعبئة زيوت طعام مستعملة ببني سويف (صور)    ما الوقت المناسب بين الأذان والإقامة؟.. أمين الفتوى يجيب    بدء الدراسة بجامعة الأقصر الأهلية.. رئيس الجامعة والمحافظ يعلنان تفاصيل البرامج الدراسية بالكليات الأربع    هل "الماكياج" عذر يبيح التيمم للنساء؟.. أمينة الفتوى تُجيب    انتخابات الشيوخ بين الدعاية المفرطة.. والبرامج المجهولة!!    إلقاء بقايا الطعام في القمامة.. هل يجوز شرعًا؟ دار الإفتاء توضح    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فيلم «ذاكرة باللون الخاكي».. مرآة الزمن السوري
نشر في صوت البلد يوم 13 - 03 - 2017

يبدأ الفيلم لمخرجه السوري الفوز طنجور بطفل يرتدي الخاكي يلتقط بجسده المطر التي تتلون قطراته بالأحمر، ما أن تلامس البدلة العسكرية، ثم نسمع دوي رصاصة وتتوالى الأحداث وكأنها لوحة سينمائية ملونة بالخاكي والأحمر.
مع الخاكي نعود كسوريين إلى ذاكرتنا المدبوغة بالاستبداد العسكري، وإلى اللون الذي اختطف طفولتنا وجعلنا أبناء غير شرعيين للون الواحد والحزب الواحد.
أما الأحمر فهو نقيض الخاكي ورمز الانعتاق منه، ولطالما استحضره المخرج الفوز طنجور في أفلامه السابقة، فكان حاضراً في السيارة الحمراء في فيلم «شمس صغيرة»، وفي فيلم «نهاية بالون أحمر»، ليعاود الظهور مجدداً في فيلمه الحالي كرمز للثورة السورية مع البالون الأحمر والورود الحمراء التي حملها المتظاهرون السلميون، أو محاكياً الحرية في كنزة الطفل الذي يركض هارباً من السترة العسكرية المعلقة وكأنها «الذاكرة باللون الخاكي»، ذاكرة جيل القمع الأسدي. وكما يقول الراوي/المخرج طنجور في الفيلم: «في أوروبا بدأت الهروب إلى ذاكرتي، التي تركتها أمام البيت بصور هشة معطوبة بلون الخاكي». وفي مسار البحث عن ذاكرته تلك يجمع طنجور نتف الحكايات والآلام من ذاكرة الأصدقاء، وهم أربع شخصيات تظهر تباعاً في الفيلم وتتداخل حكاياتها، لنعثر كسوريين في نهاية الفيلم على ذاكرتنا أيضاً وهذه الشخصيات هي:
إبراهيم صموئيل (بين قسوة السجن وهوى الشام):
«أنا وإبراهيم والشام أصدقاء»… هكذا يعرف المخرج طنجور بصديقيه الكاتب «إبراهيم صموئيل» ومدينة «دمشق» المشتهاة والمكروهة في آن، حيث كان كتاب صموئيل «رائحة الخطو الثقيل» رفيق طنجور في رحلته لدراسة السينما في مولدافيا، وكأنه كان يحدس بأن سينماه ستتقاطع مع الكاتب ومدينته يوماً. يظهر إبراهيم في البداية في لقطة تعود إلى عام 2009 وهو يطل على دمشق، وحيث الحلم لم يكن يتعدى الماء والكهرباء بلا انقطاع، وعندما تعود الكاميرا إليه في عمان عام 2016 يبدو وقد هرم قليلاً بعد خمس سنوات على اندلاع الثورة وخروجه من دمشق، من غير أن تخرج المدينة من دمه المركب من حجارتها وياسمين بيوتها، بل حتى رائحة المازوت فيها، كما يقول. ومع ذلك لم تكن حكاية إبراهيم مع دمشق رومانسية دائماً، فإبراهيم أمضى جل عمره يحاول تلوين الحياة وتحريرها من سطوة الخاكي، ودفع بسبب ذلك سنوات من عمره في السجن، حيث لا تتجاوز المساحة المتاحة للمعتقل فيه مساحة البقرة في الحظيرة، كما يؤكد صموئيل في أحد مشاهد الفيلم. بعد الثورة انتهى إبراهيم منفياً، يحاول عبثاً تصفية دمه من روائح الياسمين والمازوت وتصفية روحه من عفونة السجن. تلتقطه الكاميرا وهو يحاول إزاحة الغشاوة عن النافذة التي يرى المدينة من خلالها، ولا سلاح في يديه إلا قلمه يشذبه وينظف فوهته ليكتب، كمن يقاوم ليعيش.
خالد الخاني (هل تمسح الألوان قهر حماة؟):
«خالد يرسم وكما العاصي يروي لحماة كي تنام»، هكذا يقدم طنجور التشكيلي خالد الخاني، الذي لم تتوقف عيناه عن رؤية المجزرة، منذ اقتلع النظام عينيّ والده الطبيب الحموي.. خالد هو الصرخة المكبوتة لمدينة حماة، التي كان مجرد التلفظ باسمها تهمة في ثمانينيات القرن الماضي. وخالد يرسم حتى يشفى من الألم، كما يتجسد في لقطة ذكية له وهو يغسل يديه بالماء، فيسيل الأحمر لا دماً بل ألواناً مائية، هي الألوان التي يحتاجها ليمحي زمن الخاكي، وكما يعترف في الفيلم: «الخاكي هو لون يغطي الأوساخ التي أصابتنا في زمنه، ونحتاج لكثير من الأبيض لنستطيع إزاحة كل هذا الاتساخ». في مشهد آخر نراه في الريف الفرنسي، وهو يتأمل الأخضر الواسع من خلف أسلاك شائكة، وكأنه مازال سجيناً في الماضي الخاكي، الذي كانت فيه الباصات تعود من دمشق إلى حماة محملة بالناجين من السجون، والأمهات ينتظرن على قارعة الطريق أسماء أولادهن، فالسجون السورية قادرة على تغيير الملامح والأصوات والروائح إلى الحد الذي تعجز فيه حتى الأمهات عن التعرف إلى أبنائهن.
«هو اللون الذي أبكى أمي وأبكى مدينة بكاملها»، بهذه الجملة يختصر خالد الخاكي، وزمنه الذي جعل أما محنية الظهر تركض من فرع أمن إلى آخر لتسأل عن ابنها.
وأمام جبروت الخاكي لا يمتلك خالد إلا الألوان والذاكرة، فالنسيان خيانة للضحية واستسلام للقتلة.
أماثل ياغي (الخالة وازدواج الهوية بين الهروب والتخفي):
«أماثل» هي خالة طنجور والجزء الذاتي من الفيلم، وهي أيضاً «ثناء» المعارضة السياسية التي اضطرت لتغيير اسمها، والتخفي هرباً من بطش النظام، هي حكاية امرأة عاشت أكثر من عشرين سنة بهوية مزدوجة، وهي حكاية طفل صغير يزور خالته ولا يعرف بأي أسمائها يخاطبها. وهو زمن ازدواج الهوية، حيث الجميع يعيشون بأقنعة خوفاً من بطش الخاكي، الذي يتسرب حتى إلى الدم، ويضيف إلى كرياته الحمراء والبيضاء كريات خاكية. اليوم تعيش «أماثل» في فنلندا ولا تتوقف عن النظر من نافذتها إلى الماضي وكأن سورية هناك على مرمى حجر من الذاكرة. تلتقطها الكاميرا وهي تفرط حبات الرمان الحمراء، الرمان تلك الفاكهة الأنثوية هي حصة أماثل من الأحمر ومن الحرية. أما الألم فلا ترجمة له، وكما تقول: «اللغة الصامتة تترسب في قاع النفس ألما».
شادي أبو فخر (ثلاثية السينما والثورة والمنفى):
بين شادي وطنجور سينما وثورة ومنفى.. شادي هو سينمائي شارك في المظاهرات السلمية منذ البداية واعتقل ثلاث مرات، وانتهى به المطاف في المنفى الفرنسي دون أن يمنعه هذا من التسلل سراً إلى سورية ومواصلة عمله في السينما. ورغم رفض شادي للسلاح والمآلات الأخيرة للثورة، لكنه مازال يؤمن بأحقيتها في محاربة الشمولية والديكتاتورية، ومازال يؤمن بأن التاريخ لن يعود إلى الوراء أبداً، فزمن الخاكي ولى إلى غير رجعة. تلتقط الكاميرا شادي أمام نافذته الباريسية وكأن النافذة قدر المنفى، والحيز الذي يسمح بالتلصص على الشارع والجيران وعلى الأوطان البعيدة أيضاً. وفي مشهد آخر نراه مستلقياً على الكنبة وهو يردد بضع كلمات فرنسية أثيرة لقلبه وكأنه بها يختصر علاقته بالوطن والمنفى: شباك، مدينة، صديق، حرية، ثورة، أنا ابكي.
الطفل ذو الكنزة الحمراء:
سيرة المخرج وجيله يبوح بها طنجور بصوته في الفيلم، وترافقها غالباً مشاهد لطفل يرتدي كنزة حمراء حيناً أو بدلة خاكية حيناً آخر، فنراه مثلاً مرتدياً الأحمر وهو يركض هارباً من السترة الخاكية المعلقة على حبل الغسيل وكأنه يهرب من سطوة العسكر، وفي مشهد آخر نراه يرتدي بدلة الفتوة الإعدادية وينظر بقلق إلى صورته في المرآة، وكأنه يعي خطورة تحوله من طفل إلى عسكري يطيع الأوامر. وكبقية شخصيات الفيلم يطل الطفل أيضاً من وراء نافذة بقضبان حديدية هذه المرة، وفي يده مذياع محاولاً تغيير برنامج «حكم العدالة» إلى أغاني فيروز الرومانسية، وكأنه يحاول الهروب من سجن الخاكي إلى عالم أكثر جمالا. ثم تتعقبه الكاميرا إلى سينما الزهراء المهدمة في مدينة السلمية، وكأنه ينبش الذاكرة الشخصية للمخرج طنجور وعلاقته بالسينما، وفي الخلفية يأتي صوت طنجور متذكراً: «في السلمية كنت أهرب إلى السينما والقراءة عندما أختنق». وفي مشهد آخر نراه يكتب وظائفه المدرسية ومن خلفه يدور فيلم «نوستالجيا»، وليس صدفة أن يكون الفيلم عن علاقة الإنسان بالوطن والحنين، وأن يكون لتاركوفسكي أحد المخرجين المفضلين لطنجور، فالطفل هو وسيلة المخرج المشروعة للعودة إلى طفولته وأحلامه في مدينة السلمية. وليس صدفة أيضاً أن تكون الكلمات التي يتعلمها طنجور بالألمانية هي كلمات شادي أبو فخر نفسها بالفرنسية: شباك، مدينة، حرية، أنا أبكي… الخ. فللمنفى لغته الواحدة وإن نطقتها ألسنة ولغات مختلفة.
النهاية:
عن السينما يقول طنجور أنها رغبته في البحث عن الحقيقة، وهو في فيلمه هذا يبدو كمن يبحث عن الحقيقة في داخله وفي محيط الأصدقاء، ليصل إلى حقيقة ما جرى ويجري في سورية اليوم. ويأخذنا الفيلم في نهايته إلى البحر، حيث انتهى الكثير من السوريين العابرين في قوارب الموت، ثم إلى مقبرة في اليونان تبرع بها أحد السوريين لدفن أجساد من لم يلتهمهم البحر، قبور بأسماء وأخرى بأرقام لبشر، كان لهم يوماً أهل وأصدقاء ووطن. ثم تعود بنا الكاميرا من جديد إلى الشاطئ، وهناك نشاهد أسماكاً معلقة ومعروضة ووراءها يرفرف علم الاتحاد الأوروبي، تماماُ كالمقتلة السورية المعروضة على الملأ أمام عدم المبالاة الدولية.
ينتهي الفيلم كما بدأ بالطفل راكضاً، ثم نسمع صوت رصاصة من دون أن نرى موت الطفل أو نجاته، وكأنها طلقة تحذير لما هو آتٍ إذا استمرت الأمور على ما هي عليه، تماماً كما هو الفيلم مرآة وضعها المخرج أمام أعيننا، لنرى أنفسنا، علّنا نعثر على سبيل الخلاص من الخاكي.
...
٭ كاتبة سورية
يبدأ الفيلم لمخرجه السوري الفوز طنجور بطفل يرتدي الخاكي يلتقط بجسده المطر التي تتلون قطراته بالأحمر، ما أن تلامس البدلة العسكرية، ثم نسمع دوي رصاصة وتتوالى الأحداث وكأنها لوحة سينمائية ملونة بالخاكي والأحمر.
مع الخاكي نعود كسوريين إلى ذاكرتنا المدبوغة بالاستبداد العسكري، وإلى اللون الذي اختطف طفولتنا وجعلنا أبناء غير شرعيين للون الواحد والحزب الواحد.
أما الأحمر فهو نقيض الخاكي ورمز الانعتاق منه، ولطالما استحضره المخرج الفوز طنجور في أفلامه السابقة، فكان حاضراً في السيارة الحمراء في فيلم «شمس صغيرة»، وفي فيلم «نهاية بالون أحمر»، ليعاود الظهور مجدداً في فيلمه الحالي كرمز للثورة السورية مع البالون الأحمر والورود الحمراء التي حملها المتظاهرون السلميون، أو محاكياً الحرية في كنزة الطفل الذي يركض هارباً من السترة العسكرية المعلقة وكأنها «الذاكرة باللون الخاكي»، ذاكرة جيل القمع الأسدي. وكما يقول الراوي/المخرج طنجور في الفيلم: «في أوروبا بدأت الهروب إلى ذاكرتي، التي تركتها أمام البيت بصور هشة معطوبة بلون الخاكي». وفي مسار البحث عن ذاكرته تلك يجمع طنجور نتف الحكايات والآلام من ذاكرة الأصدقاء، وهم أربع شخصيات تظهر تباعاً في الفيلم وتتداخل حكاياتها، لنعثر كسوريين في نهاية الفيلم على ذاكرتنا أيضاً وهذه الشخصيات هي:
إبراهيم صموئيل (بين قسوة السجن وهوى الشام):
«أنا وإبراهيم والشام أصدقاء»… هكذا يعرف المخرج طنجور بصديقيه الكاتب «إبراهيم صموئيل» ومدينة «دمشق» المشتهاة والمكروهة في آن، حيث كان كتاب صموئيل «رائحة الخطو الثقيل» رفيق طنجور في رحلته لدراسة السينما في مولدافيا، وكأنه كان يحدس بأن سينماه ستتقاطع مع الكاتب ومدينته يوماً. يظهر إبراهيم في البداية في لقطة تعود إلى عام 2009 وهو يطل على دمشق، وحيث الحلم لم يكن يتعدى الماء والكهرباء بلا انقطاع، وعندما تعود الكاميرا إليه في عمان عام 2016 يبدو وقد هرم قليلاً بعد خمس سنوات على اندلاع الثورة وخروجه من دمشق، من غير أن تخرج المدينة من دمه المركب من حجارتها وياسمين بيوتها، بل حتى رائحة المازوت فيها، كما يقول. ومع ذلك لم تكن حكاية إبراهيم مع دمشق رومانسية دائماً، فإبراهيم أمضى جل عمره يحاول تلوين الحياة وتحريرها من سطوة الخاكي، ودفع بسبب ذلك سنوات من عمره في السجن، حيث لا تتجاوز المساحة المتاحة للمعتقل فيه مساحة البقرة في الحظيرة، كما يؤكد صموئيل في أحد مشاهد الفيلم. بعد الثورة انتهى إبراهيم منفياً، يحاول عبثاً تصفية دمه من روائح الياسمين والمازوت وتصفية روحه من عفونة السجن. تلتقطه الكاميرا وهو يحاول إزاحة الغشاوة عن النافذة التي يرى المدينة من خلالها، ولا سلاح في يديه إلا قلمه يشذبه وينظف فوهته ليكتب، كمن يقاوم ليعيش.
خالد الخاني (هل تمسح الألوان قهر حماة؟):
«خالد يرسم وكما العاصي يروي لحماة كي تنام»، هكذا يقدم طنجور التشكيلي خالد الخاني، الذي لم تتوقف عيناه عن رؤية المجزرة، منذ اقتلع النظام عينيّ والده الطبيب الحموي.. خالد هو الصرخة المكبوتة لمدينة حماة، التي كان مجرد التلفظ باسمها تهمة في ثمانينيات القرن الماضي. وخالد يرسم حتى يشفى من الألم، كما يتجسد في لقطة ذكية له وهو يغسل يديه بالماء، فيسيل الأحمر لا دماً بل ألواناً مائية، هي الألوان التي يحتاجها ليمحي زمن الخاكي، وكما يعترف في الفيلم: «الخاكي هو لون يغطي الأوساخ التي أصابتنا في زمنه، ونحتاج لكثير من الأبيض لنستطيع إزاحة كل هذا الاتساخ». في مشهد آخر نراه في الريف الفرنسي، وهو يتأمل الأخضر الواسع من خلف أسلاك شائكة، وكأنه مازال سجيناً في الماضي الخاكي، الذي كانت فيه الباصات تعود من دمشق إلى حماة محملة بالناجين من السجون، والأمهات ينتظرن على قارعة الطريق أسماء أولادهن، فالسجون السورية قادرة على تغيير الملامح والأصوات والروائح إلى الحد الذي تعجز فيه حتى الأمهات عن التعرف إلى أبنائهن.
«هو اللون الذي أبكى أمي وأبكى مدينة بكاملها»، بهذه الجملة يختصر خالد الخاكي، وزمنه الذي جعل أما محنية الظهر تركض من فرع أمن إلى آخر لتسأل عن ابنها.
وأمام جبروت الخاكي لا يمتلك خالد إلا الألوان والذاكرة، فالنسيان خيانة للضحية واستسلام للقتلة.
أماثل ياغي (الخالة وازدواج الهوية بين الهروب والتخفي):
«أماثل» هي خالة طنجور والجزء الذاتي من الفيلم، وهي أيضاً «ثناء» المعارضة السياسية التي اضطرت لتغيير اسمها، والتخفي هرباً من بطش النظام، هي حكاية امرأة عاشت أكثر من عشرين سنة بهوية مزدوجة، وهي حكاية طفل صغير يزور خالته ولا يعرف بأي أسمائها يخاطبها. وهو زمن ازدواج الهوية، حيث الجميع يعيشون بأقنعة خوفاً من بطش الخاكي، الذي يتسرب حتى إلى الدم، ويضيف إلى كرياته الحمراء والبيضاء كريات خاكية. اليوم تعيش «أماثل» في فنلندا ولا تتوقف عن النظر من نافذتها إلى الماضي وكأن سورية هناك على مرمى حجر من الذاكرة. تلتقطها الكاميرا وهي تفرط حبات الرمان الحمراء، الرمان تلك الفاكهة الأنثوية هي حصة أماثل من الأحمر ومن الحرية. أما الألم فلا ترجمة له، وكما تقول: «اللغة الصامتة تترسب في قاع النفس ألما».
شادي أبو فخر (ثلاثية السينما والثورة والمنفى):
بين شادي وطنجور سينما وثورة ومنفى.. شادي هو سينمائي شارك في المظاهرات السلمية منذ البداية واعتقل ثلاث مرات، وانتهى به المطاف في المنفى الفرنسي دون أن يمنعه هذا من التسلل سراً إلى سورية ومواصلة عمله في السينما. ورغم رفض شادي للسلاح والمآلات الأخيرة للثورة، لكنه مازال يؤمن بأحقيتها في محاربة الشمولية والديكتاتورية، ومازال يؤمن بأن التاريخ لن يعود إلى الوراء أبداً، فزمن الخاكي ولى إلى غير رجعة. تلتقط الكاميرا شادي أمام نافذته الباريسية وكأن النافذة قدر المنفى، والحيز الذي يسمح بالتلصص على الشارع والجيران وعلى الأوطان البعيدة أيضاً. وفي مشهد آخر نراه مستلقياً على الكنبة وهو يردد بضع كلمات فرنسية أثيرة لقلبه وكأنه بها يختصر علاقته بالوطن والمنفى: شباك، مدينة، صديق، حرية، ثورة، أنا ابكي.
الطفل ذو الكنزة الحمراء:
سيرة المخرج وجيله يبوح بها طنجور بصوته في الفيلم، وترافقها غالباً مشاهد لطفل يرتدي كنزة حمراء حيناً أو بدلة خاكية حيناً آخر، فنراه مثلاً مرتدياً الأحمر وهو يركض هارباً من السترة الخاكية المعلقة على حبل الغسيل وكأنه يهرب من سطوة العسكر، وفي مشهد آخر نراه يرتدي بدلة الفتوة الإعدادية وينظر بقلق إلى صورته في المرآة، وكأنه يعي خطورة تحوله من طفل إلى عسكري يطيع الأوامر. وكبقية شخصيات الفيلم يطل الطفل أيضاً من وراء نافذة بقضبان حديدية هذه المرة، وفي يده مذياع محاولاً تغيير برنامج «حكم العدالة» إلى أغاني فيروز الرومانسية، وكأنه يحاول الهروب من سجن الخاكي إلى عالم أكثر جمالا. ثم تتعقبه الكاميرا إلى سينما الزهراء المهدمة في مدينة السلمية، وكأنه ينبش الذاكرة الشخصية للمخرج طنجور وعلاقته بالسينما، وفي الخلفية يأتي صوت طنجور متذكراً: «في السلمية كنت أهرب إلى السينما والقراءة عندما أختنق». وفي مشهد آخر نراه يكتب وظائفه المدرسية ومن خلفه يدور فيلم «نوستالجيا»، وليس صدفة أن يكون الفيلم عن علاقة الإنسان بالوطن والحنين، وأن يكون لتاركوفسكي أحد المخرجين المفضلين لطنجور، فالطفل هو وسيلة المخرج المشروعة للعودة إلى طفولته وأحلامه في مدينة السلمية. وليس صدفة أيضاً أن تكون الكلمات التي يتعلمها طنجور بالألمانية هي كلمات شادي أبو فخر نفسها بالفرنسية: شباك، مدينة، حرية، أنا أبكي… الخ. فللمنفى لغته الواحدة وإن نطقتها ألسنة ولغات مختلفة.
النهاية:
عن السينما يقول طنجور أنها رغبته في البحث عن الحقيقة، وهو في فيلمه هذا يبدو كمن يبحث عن الحقيقة في داخله وفي محيط الأصدقاء، ليصل إلى حقيقة ما جرى ويجري في سورية اليوم. ويأخذنا الفيلم في نهايته إلى البحر، حيث انتهى الكثير من السوريين العابرين في قوارب الموت، ثم إلى مقبرة في اليونان تبرع بها أحد السوريين لدفن أجساد من لم يلتهمهم البحر، قبور بأسماء وأخرى بأرقام لبشر، كان لهم يوماً أهل وأصدقاء ووطن. ثم تعود بنا الكاميرا من جديد إلى الشاطئ، وهناك نشاهد أسماكاً معلقة ومعروضة ووراءها يرفرف علم الاتحاد الأوروبي، تماماُ كالمقتلة السورية المعروضة على الملأ أمام عدم المبالاة الدولية.
ينتهي الفيلم كما بدأ بالطفل راكضاً، ثم نسمع صوت رصاصة من دون أن نرى موت الطفل أو نجاته، وكأنها طلقة تحذير لما هو آتٍ إذا استمرت الأمور على ما هي عليه، تماماً كما هو الفيلم مرآة وضعها المخرج أمام أعيننا، لنرى أنفسنا، علّنا نعثر على سبيل الخلاص من الخاكي.
...
٭ كاتبة سورية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.