الديهى يكشف تفاصيل عن "خلية هولندا "الإرهابية ويؤكد: شباب مصر الوطني تصدى بكل شجاعة لمظاهرة الإخوان    محافظ الوادي الجديد يعتمد نتيجة الدور الثاني للشهادة الإعدادية    وزير السياحة والآثار يكشف خطط الترويج للوصول إلى الفئات المستهدفة من السائحين    هل يكمل حسن عبد الله عامه الرابع محافظا للبنك المركزي؟.. محطات في حياة رجل المواقف الصعبة    وزير الإنتاج الحربي يشهد حفل تخرج دفعة جديدة من الأكاديمية المصرية للهندسة والتكنولوجيا    مصدر من لجنة الحكام ل في الجول: تقرير الحكم يذهب للرابطة مباشرة.. وهذا موقفنا من شكوى الأهلي    مدرب نانت: مصطفى محمد يستحق اللعب بجدارة    من هو الدكتور صابر عبد الدايم يونس الذي رحل اليوم؟    عاجل - تحديثات سعر الدولار اليوم الاثنين 18-8-2025 أمام الجنيه المصري في البنوك    ارتفاع أسعار الذهب 20 جنيها مع بداية تعاملات اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025    عيار 21 الآن بعد تراجع 40 جنيهًا.. سعر الذهب اليوم الاثنين 18-8-2025 (آخر تحديث رسمي)    موعد انتهاء الأوكازيون الصيفي 2025 في مصر.. آخر فرصة للتخفيضات قبل عودة الأسعار    عاجل.. وصول وزيري الخارجية والتضامن ورئيس الوزراء الفلسطيني إلى معبر رفح    4 شهداء بينهم طفلة بقصف إسرائيلى على غزة والنصيرات    إعلام عبري: تقديرات الجيش أن احتلال مدينة غزة سوف يستغرق 4 أشهر    إسرائيل تقر خطة احتلال مدينة غزة وتعرضها على وزير الدفاع غدا    انطلاق امتحانات الدور الثاني للشهادة الثانوية الأزهرية بشمال سيناء (صور)    محافظة بورسعيد.. مواقيت الصلوات الخمس اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025    مؤتمر بنزيمة: المواجهة بين اتحاد جدة والنصر وليست أنا ضد رونالدو    «الداخلية»: ضبط 97 ألف مخالفة مرورية و186 سائقًا تحت تأثير المخدرات في 24 ساعة    هل ستسقط أمطار في الصيف؟ بيان حالة الطقس اليوم الاثنين على أنحاء البلاد ودرجات الحرارة    جنايات دمنهور تواصل جلسات الاستئناف في قضية الطفل ياسين بالبحيرة    المصابتان في حادث مطاردة الفتيات بطريق الواحات يحضران أولى جلسات محاكمة المتهمين    التعليم تحسم الجدل : الالتحاق بالبكالوريا اختياريا ولا يجوز التحويل منها أو إليها    إصابة 14 شخصا فى تصادم سيارتى ميكروباص وربع نقل على طريق أسوان الصحراوى    جدول مواعيد قطارات «الإسكندرية - القاهرة» اليوم الاثنين 18 أغسطس 2025    سعر الفراخ البيضاء بعد آخر زيادة.. أسعار الدواجن اليوم الاثنين 18-8-2025 للمستهلك صباحًا    تعرف على مواعيد حفلات مهرجان القلعة للموسيقى والغناء وأسعار التذاكر    دار الإفتاء توضح حكم شراء حلوى المولد النبوي والتهادي بها    محافظ المنوفية يعتمد نتيجة الشهادة الإعدادية الدور الثانى بنسبة نجاح 87.75%    قوات الاحتلال تعتقل 12 فلسطينيا من محافظة بيت لحم    الخارجية الفلسطينية ترحب بقرار أستراليا منع عضو بالكنيست من دخول أراضيها 3 سنوات    نشأت الديهي: شباب مصر الوطني تصدى بكل شجاعة لمظاهرة الإخوان فى هولندا    نشأت الديهى: أنس حبيب طلب اللجوء لهولندا ب"الشذوذ الجنسي" وإلإخوان رخصوا قضية غزة    رابط نتيجة وظائف البريد المصري لعام 2025    مجرد أساطير بلا أساس علمي.. متحدث الصحة عن خطف الأطفال وسرقة أعضائهم (فيديو)    طب قصر العيني تبحث استراتيجية زراعة الأعضاء وتضع توصيات شاملة    نصائح لحمايتك من ارتفاع درجات الحرارة داخل السيارة    حكيم يشعل أجواء الساحل الشمالي الجمعة المقبلة بأجمل أغانيه    تحرك الدفعة ال 17من شاحنات المساعدات إلي معبر كرم أبو سالم    "2 إخوات أحدهما لاعب كرة".. 15 صورة وأبرز المعلومات عن عائلة إمام عاشور نجم الأهلي    دعه ينفذ دعه يمر فالمنصب لحظة سوف تمر    أسفار الحج 13.. من أضاء المسجد النبوى "مصرى"    قد يكون مؤشر على مشكلة صحية.. أبرز أسباب تورم القدمين    الرئيس اللبناني: واشنطن طرحت تعاونًا اقتصاديًا بين لبنان وسوريا    "لا يصلح"... رضا عبدالعال يوجه انتقادات قوية ليانيك فيريرا    سامح حسين يعلن وفاة نجل شقيقه عن عمر 4 سنوات    أوسيم تضيء بذكراه، الكنيسة تحيي ذكرى نياحة القديس مويسيس الأسقف الزاهد    حدث بالفن | عزاء تيمور تيمور وفنان ينجو من الغرق وتطورات خطيرة في حالة أنغام الصحية    بدء اختبارات كشف الهيئة لطلاب مدارس التمريض بالإسكندرية    رضا عبد العال: خوان ألفينا "هينَسي" الزملكاوية زيزو    حضريها في المنزل بمكونات اقتصادية، الوافل حلوى لذيذة تباع بأسعار عالية    وزير الثقافة ومحافظ الإسماعيلية يفتتحان الملتقى القومي الثالث للسمسمية    أشرف صبحي يجتمع باللجنة الأولمبية لبحث الاستعدادات لأولمبياد لوس أنجلوس    مواجهة مع شخص متعالي.. حظ برج القوس اليوم 18 أغسطس    رضا عبد العال: فيريرا لا يصلح للزمالك.. وعلامة استفهام حول استبعاد شيكو بانزا    تنسيق الثانوية العامة 2025 المرحلة الثالثة.. كليات التربية ب أنواعها المتاحة علمي علوم ورياضة وأدبي    مرصد الأزهر: تعليم المرأة فريضة شرعية.. والجماعات المتطرفة تحرمه بتأويلات باطلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"أبطال" مازن معروف قساة بالفطرة
نشر في صوت البلد يوم 01 - 02 - 2017

في غمرة انشغالنا بالتفاصيل المزرية اليومية، أفقنا ذات يوم لندرك أن واقعنا الأساسي هو الحرب. ليس مهمّاً من ضد من، ولا من هو المنتصر ومن المهزوم، لا يهم إن كنا نتقدم أم نتقهقر، المهم أن تبقى الحرب مشتعلة، وهي بالفعل كذلك. الخطأ الأكبر الذي نقترفه الآن- نحن سكّان هذا الجزء من العالم- هو أننا ننتظر انتهاء الحرب. لن تنتهي، لأن من يشنّون الحروب ويديرونها لن يجدوا شيئاً أكثر منها متعة لتمضية الوقت في هذه الحياة. الحرب واقع وكل ما عداها فانتازيا وخيالات وتمنيات قلبية سعيدة، كل ما عدا القتل والدمار والصواريخ ومضادات الطائرات والقنابل والأقبية والتعذيب والخطف مجرّد هامش يسعى الإعلام إلى إيهامنا بوجوده وبحقيقته. كيف يُمكن التعامل مع هذا الواقع بحرفيته؟ بقسوته؟ بوحشيته؟ بدمائه؟ بعدد قتلاه؟ بلغة أسلحته؟ لا يكفي أن تسرد ما يقع، فهذا السرد لا ينجح في إيصال شعور القسوة عارياً، وإن كان ينجح في نقل الصورة، كأدب السجون وأدب المخيمات وأدب الحصار.
للقسوة تاريخ اجتماعي في الفكر والنقد، وهو تاريخ محكوم بظروف كل عصر وتوقعاته الجمالية. يتم مثلاً التأريخ دائماً بمسرحية «انظر خلفك بغضب» لجو أوزبورن (1958) كعمل أثار غضب المجتمع الإنكليزي، وعندما تقرأه الآن قد تتعجب من سبب غضب الجمهور آنذاك. ومن قبله، قام الكاتب الفرنسي أنطونين أرتو بوضع مانيفستو ل «مسرح القسوة» في كتابه الشهير «المسرح وقرينه» (1938)، مؤكداً فيه أن القسوة تهدف إلى تحرير كل أشكال الاستجابة لدى الممثل والمتفرج معاً، وذلك سعياً إلى إسقاط الخيالات والأوهام والابتعاد عن الزيف والنمطية. وفي العقد الأخير من القرن العشرين ظهرت في إنكلترا حركة مسرحية بعنوان «في وجهك»، كانت تقدم على المسرح كل أشكال القسوة الروحية والنفسية والجسدية، وذلك من أجل التمرد على المنظومة القيمية التي رسخها عهد مارغريت ثاتشر. ومن أهم أسماء هذه الحركة الكاتبة سارة كين التي ماتت منتحرة وهي في السابعة والعشرين. تختلف التوجهات في تقديم القسوة لكنها تتفق على أن ما يُعرض ليس إلا جزءاً كامناً في الروح الإنسانية، كلنا هذا الشخص عندما تتاح لنا الظروف. وقد أُتيحت لنا بالفعل، وما علينا سوى التنزه بين نشرات الأخبار- ولمدة عشر دقائق يومياً- كي نرى قدرتنا المدهشة في ممارسة أفعال توصف بأنها «لا إنسانية»، مع أنّ الإنسان قادر على ذلك وأكثر.
في هذا السياق، يؤكد الكاتب مازن معروف في مجموعته القصصية الثانية «الجرذان التي لحست بطل الكاراتيه» (دار براءات المتوسط) أن الإنسان قادر على إبداء هذه القسوة بسلاسة وطبيعية وهدوء، كأنها فِطرته، أو ربما هي كذلك.
تضم المجموعة عشر قصص، كلها في زمن حرب. المكان غير محدد، بل يتخذ شكل أحياء يقوم عليها مسلحون. تارة يسميها الحرب وطوراً الحصار. لكنها في الأساس حرب تجعل من الموت مجرد فعل طبيعي، وتحول التعذيب إلى هدية عيد ميلاد لطفل، وتجعل من شنق الأرنب عرضاً يصفق له الجمهور، ويتحول خرم أذن الكلب بالخرامة إلى متنفّس للحزن، والمسلح مهووس بفأر هامستر، ومسلح آخر مُحب عاشق تنفصل أظافره عن أصابعه.
وفي حين تبدو كل قصة مستقلة عن الأخرى، تُعاود الشخصيات الظهور في أشكال مختلفة، حتى أننا نعرف من إحدى القصص أن الأطفال الثلاثة في قصة «سكند هاند رابيت» كانوا مصابين بمتلازمة «داون». تُغلف الفانتازيا الكثير من القصص، لكنها تقدم نفسها بوصفها الواقع المعيش ولا تسعى إلى حمل عبء الرمزية. هي مشاهد فانتازية لا تقدم أي محمول دلالي، فالفانتازيا هي الواقع عينه، لا شيء سواه. فانتازيا تقدم الواقع عارياً تماماً، لا شيء يستر قسوته، حتى أن رد الفعل الطبيعي الوحيد جاء من الكلب الذي كان يتألم عندما يخرم الطفل أذنه بخرامة الورق. وهو الطفل نفسه الذي كان يتسلى بتعذيب الأطفال في السجن يوم عيد ميلاده. لا يقتصر دور فانتازيا القسوة على العلاقة بين الكاتب والقارئ، أي العلاقة القائمة على توصيل المغزى من رسم هذا العالم، بل تنسحب على العلاقة بين الشخصيات أيضاً.
الشخصيات تصدق الفانتازيا إما رغبةً في الهروب أو دفاعاً عن النفس أو لمجرد تمضية الوقت. فالشخصيات كلها معطوبة بشكل أو بآخر (ألسنا جميعاً كذلك؟). الأطفال غالباً مصابون بمتلازمة «داون» أو معتقلون في السجن حيث يتم ابتداع طرق لتعذيبهم، والرجال إما يبصقون بلغماً أو هم مسلحون يمارسون «هواية» القتل أو يكونون بصحبة هامستر. النساء أيضاً، إما يساعدن في التعذيب كتلك التي تعود من عملها في السجن وهي ترتدي مريولاً ملطخاً بالدم والمخاط، أو المعلمة التي تطلب من التلاميذ تخيل أكثر المواقف فزعاً وهلعاً.
هكذا جمع مازن معروف مفردات حياتنا اليومية وقام بوضعها في قالب سردي يقوم على مفارقة زكريا تامر، حيث تحدث الكوارث وتتحول إلى مألوف وطبيعي. إنها حروبنا في اليوم العاشر، فمثلما قبل النمر الترويض الكامل في «النمور في اليوم العاشر» لزكريا تامر، نقبل الموت والقتل والبتر وكل تداعيات الحرب في اليوم العاشر. كنا نحتاج إلى التذكر أنّ الحياة ليست هادئة مستقرة كما نحب أن نصدق، بل هي فوضى عارمة نسير فيها ونتنفس بمنتهي السهولة، كم نحن أبطال.
إنه الدمار الذي يقذفه الشاعر السوري وفائي ليلاً في ديوانه «رصاصة فارغة، قبر مزدحم» (2015)، الصادر عن «براءات- المتوسط» أيضاً. تتحول الحرب إلى «روتين» حيث «كل صباح/ توزع المدن قتلاها/ الطاغية يعد نياشينه/ المراهق يعد حبيباته اللاتي سقطن في حبائله/ الولد يعد الفوارغ من الرصاص الذي سيلهو به إلى آخر المساء/ الرجل العجوز المتقاعد يعد القبور التي سيحفرها هذا المساء». روتين يومي تسجله القصيدة كمألوف وطبيعي ومستمر، لكنه فوق الاحتمال، إلا أنه لا خيار إلا هذا الروتين. روتين القسوة، واحتراف القتل. ينخفض سقف الأمنيات حتى يصبح المطلوب بسيطاً: «حين ستغطون وجهي بقميص عتمتكم/ اخفضوا أصواتكم/ لا أريد أن أعرف أن قاتلي له اللغة نفسها». تستعصي قصائد الديوان وقصص مازن معروف على التحليل، لأنها أعمال تقدم نفسها بنفسها، تفهم العالم عبر النظر إليه والدخول في ثناياه، لا تلجأ إلى أية وسائل مساعدة خارجية أو تقنية سوى من العالم ذاته. الحقيقة أنها أعمال تستعصي على التحليل لأنها تقدم تحليلاً للعالم وبالتالي لا يمكن أن نعيد التحليل في اتجاه معكوس. لقد انفرط العالم الذي نعرفه وحلّ مكانه عالم جديد كل ما يسعنا عمله هو أن نناشد الجنون قائلين: «أيها الجنون كلّه/ هبنا كلّ احتمالات المستحيل كي لا ندرك/ كي لا نرى/ كي لا نسمع». ربما يكون هذا هو سبب ظهور أطفال كثر في قصص مازن معروف مصابين بمتلازمة داون أو أشخاص بالغين لديهم أمراض تأخر عقلي، كأنها محاولة أخيرة من الكاتب ليجد عذراً لهذا الجنون والقتل.
حين كتب أوزبورن «انظر خلفك في غضب» كان يهدف إلى مواجهة الطبقة البورجوازية بزيف قيمها، وحين كتبت سارة كين مسرحيتها الأولى (التي غضب منها الجمهور وغادر المسرح) وعنوانها «لعين» أرادت أن تسبب صدمة للجمهور الذي يعيش متنعماً في أفكار نمطية تعمي بصره عن قسوة الواقع. أما القسوة التي نقرأها في الأدب العربي فهي ليست مقصودة بقدر ما هي مفروضة باعتبارها المفردة الأساسية في حياتنا اليومية. كل ما في الأمر أننا اعتدنا عليها ك «النمور في اليوم العاشر».
في غمرة انشغالنا بالتفاصيل المزرية اليومية، أفقنا ذات يوم لندرك أن واقعنا الأساسي هو الحرب. ليس مهمّاً من ضد من، ولا من هو المنتصر ومن المهزوم، لا يهم إن كنا نتقدم أم نتقهقر، المهم أن تبقى الحرب مشتعلة، وهي بالفعل كذلك. الخطأ الأكبر الذي نقترفه الآن- نحن سكّان هذا الجزء من العالم- هو أننا ننتظر انتهاء الحرب. لن تنتهي، لأن من يشنّون الحروب ويديرونها لن يجدوا شيئاً أكثر منها متعة لتمضية الوقت في هذه الحياة. الحرب واقع وكل ما عداها فانتازيا وخيالات وتمنيات قلبية سعيدة، كل ما عدا القتل والدمار والصواريخ ومضادات الطائرات والقنابل والأقبية والتعذيب والخطف مجرّد هامش يسعى الإعلام إلى إيهامنا بوجوده وبحقيقته. كيف يُمكن التعامل مع هذا الواقع بحرفيته؟ بقسوته؟ بوحشيته؟ بدمائه؟ بعدد قتلاه؟ بلغة أسلحته؟ لا يكفي أن تسرد ما يقع، فهذا السرد لا ينجح في إيصال شعور القسوة عارياً، وإن كان ينجح في نقل الصورة، كأدب السجون وأدب المخيمات وأدب الحصار.
للقسوة تاريخ اجتماعي في الفكر والنقد، وهو تاريخ محكوم بظروف كل عصر وتوقعاته الجمالية. يتم مثلاً التأريخ دائماً بمسرحية «انظر خلفك بغضب» لجو أوزبورن (1958) كعمل أثار غضب المجتمع الإنكليزي، وعندما تقرأه الآن قد تتعجب من سبب غضب الجمهور آنذاك. ومن قبله، قام الكاتب الفرنسي أنطونين أرتو بوضع مانيفستو ل «مسرح القسوة» في كتابه الشهير «المسرح وقرينه» (1938)، مؤكداً فيه أن القسوة تهدف إلى تحرير كل أشكال الاستجابة لدى الممثل والمتفرج معاً، وذلك سعياً إلى إسقاط الخيالات والأوهام والابتعاد عن الزيف والنمطية. وفي العقد الأخير من القرن العشرين ظهرت في إنكلترا حركة مسرحية بعنوان «في وجهك»، كانت تقدم على المسرح كل أشكال القسوة الروحية والنفسية والجسدية، وذلك من أجل التمرد على المنظومة القيمية التي رسخها عهد مارغريت ثاتشر. ومن أهم أسماء هذه الحركة الكاتبة سارة كين التي ماتت منتحرة وهي في السابعة والعشرين. تختلف التوجهات في تقديم القسوة لكنها تتفق على أن ما يُعرض ليس إلا جزءاً كامناً في الروح الإنسانية، كلنا هذا الشخص عندما تتاح لنا الظروف. وقد أُتيحت لنا بالفعل، وما علينا سوى التنزه بين نشرات الأخبار- ولمدة عشر دقائق يومياً- كي نرى قدرتنا المدهشة في ممارسة أفعال توصف بأنها «لا إنسانية»، مع أنّ الإنسان قادر على ذلك وأكثر.
في هذا السياق، يؤكد الكاتب مازن معروف في مجموعته القصصية الثانية «الجرذان التي لحست بطل الكاراتيه» (دار براءات المتوسط) أن الإنسان قادر على إبداء هذه القسوة بسلاسة وطبيعية وهدوء، كأنها فِطرته، أو ربما هي كذلك.
تضم المجموعة عشر قصص، كلها في زمن حرب. المكان غير محدد، بل يتخذ شكل أحياء يقوم عليها مسلحون. تارة يسميها الحرب وطوراً الحصار. لكنها في الأساس حرب تجعل من الموت مجرد فعل طبيعي، وتحول التعذيب إلى هدية عيد ميلاد لطفل، وتجعل من شنق الأرنب عرضاً يصفق له الجمهور، ويتحول خرم أذن الكلب بالخرامة إلى متنفّس للحزن، والمسلح مهووس بفأر هامستر، ومسلح آخر مُحب عاشق تنفصل أظافره عن أصابعه.
وفي حين تبدو كل قصة مستقلة عن الأخرى، تُعاود الشخصيات الظهور في أشكال مختلفة، حتى أننا نعرف من إحدى القصص أن الأطفال الثلاثة في قصة «سكند هاند رابيت» كانوا مصابين بمتلازمة «داون». تُغلف الفانتازيا الكثير من القصص، لكنها تقدم نفسها بوصفها الواقع المعيش ولا تسعى إلى حمل عبء الرمزية. هي مشاهد فانتازية لا تقدم أي محمول دلالي، فالفانتازيا هي الواقع عينه، لا شيء سواه. فانتازيا تقدم الواقع عارياً تماماً، لا شيء يستر قسوته، حتى أن رد الفعل الطبيعي الوحيد جاء من الكلب الذي كان يتألم عندما يخرم الطفل أذنه بخرامة الورق. وهو الطفل نفسه الذي كان يتسلى بتعذيب الأطفال في السجن يوم عيد ميلاده. لا يقتصر دور فانتازيا القسوة على العلاقة بين الكاتب والقارئ، أي العلاقة القائمة على توصيل المغزى من رسم هذا العالم، بل تنسحب على العلاقة بين الشخصيات أيضاً.
الشخصيات تصدق الفانتازيا إما رغبةً في الهروب أو دفاعاً عن النفس أو لمجرد تمضية الوقت. فالشخصيات كلها معطوبة بشكل أو بآخر (ألسنا جميعاً كذلك؟). الأطفال غالباً مصابون بمتلازمة «داون» أو معتقلون في السجن حيث يتم ابتداع طرق لتعذيبهم، والرجال إما يبصقون بلغماً أو هم مسلحون يمارسون «هواية» القتل أو يكونون بصحبة هامستر. النساء أيضاً، إما يساعدن في التعذيب كتلك التي تعود من عملها في السجن وهي ترتدي مريولاً ملطخاً بالدم والمخاط، أو المعلمة التي تطلب من التلاميذ تخيل أكثر المواقف فزعاً وهلعاً.
هكذا جمع مازن معروف مفردات حياتنا اليومية وقام بوضعها في قالب سردي يقوم على مفارقة زكريا تامر، حيث تحدث الكوارث وتتحول إلى مألوف وطبيعي. إنها حروبنا في اليوم العاشر، فمثلما قبل النمر الترويض الكامل في «النمور في اليوم العاشر» لزكريا تامر، نقبل الموت والقتل والبتر وكل تداعيات الحرب في اليوم العاشر. كنا نحتاج إلى التذكر أنّ الحياة ليست هادئة مستقرة كما نحب أن نصدق، بل هي فوضى عارمة نسير فيها ونتنفس بمنتهي السهولة، كم نحن أبطال.
إنه الدمار الذي يقذفه الشاعر السوري وفائي ليلاً في ديوانه «رصاصة فارغة، قبر مزدحم» (2015)، الصادر عن «براءات- المتوسط» أيضاً. تتحول الحرب إلى «روتين» حيث «كل صباح/ توزع المدن قتلاها/ الطاغية يعد نياشينه/ المراهق يعد حبيباته اللاتي سقطن في حبائله/ الولد يعد الفوارغ من الرصاص الذي سيلهو به إلى آخر المساء/ الرجل العجوز المتقاعد يعد القبور التي سيحفرها هذا المساء». روتين يومي تسجله القصيدة كمألوف وطبيعي ومستمر، لكنه فوق الاحتمال، إلا أنه لا خيار إلا هذا الروتين. روتين القسوة، واحتراف القتل. ينخفض سقف الأمنيات حتى يصبح المطلوب بسيطاً: «حين ستغطون وجهي بقميص عتمتكم/ اخفضوا أصواتكم/ لا أريد أن أعرف أن قاتلي له اللغة نفسها». تستعصي قصائد الديوان وقصص مازن معروف على التحليل، لأنها أعمال تقدم نفسها بنفسها، تفهم العالم عبر النظر إليه والدخول في ثناياه، لا تلجأ إلى أية وسائل مساعدة خارجية أو تقنية سوى من العالم ذاته. الحقيقة أنها أعمال تستعصي على التحليل لأنها تقدم تحليلاً للعالم وبالتالي لا يمكن أن نعيد التحليل في اتجاه معكوس. لقد انفرط العالم الذي نعرفه وحلّ مكانه عالم جديد كل ما يسعنا عمله هو أن نناشد الجنون قائلين: «أيها الجنون كلّه/ هبنا كلّ احتمالات المستحيل كي لا ندرك/ كي لا نرى/ كي لا نسمع». ربما يكون هذا هو سبب ظهور أطفال كثر في قصص مازن معروف مصابين بمتلازمة داون أو أشخاص بالغين لديهم أمراض تأخر عقلي، كأنها محاولة أخيرة من الكاتب ليجد عذراً لهذا الجنون والقتل.
حين كتب أوزبورن «انظر خلفك في غضب» كان يهدف إلى مواجهة الطبقة البورجوازية بزيف قيمها، وحين كتبت سارة كين مسرحيتها الأولى (التي غضب منها الجمهور وغادر المسرح) وعنوانها «لعين» أرادت أن تسبب صدمة للجمهور الذي يعيش متنعماً في أفكار نمطية تعمي بصره عن قسوة الواقع. أما القسوة التي نقرأها في الأدب العربي فهي ليست مقصودة بقدر ما هي مفروضة باعتبارها المفردة الأساسية في حياتنا اليومية. كل ما في الأمر أننا اعتدنا عليها ك «النمور في اليوم العاشر».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.