مصادر: غدا اجتماع تنسيقي بمستقبل وطن لإعلان القائمة الوطنية لانتخابات النواب المقبلة    البابا تواضروس يلقي وصايا داود النبي لابنه سليمان على كهنة 7 إيبارشيات بأسيوط (صور)    أخبار الاقتصاد اليوم: ارتفاع سعر الذهب.. خدمات مجانية لتطوير الأعمال الحرفية ضمن فعاليات معرض تراثنا.. أسهم الأسواق الناشئة تواصل ارتفاعها بدعم من التفاؤل بصفقات الذكاء الاصطناعي    وزير الزراعة يوضح الحقيقة الكاملة لأزمة غرق أراضي طرح النهر    ترامب ينشر رد حماس على خطته بمنصة تروث سوشيال    قيادي بحماس ل الشروق: رد الحركة على خطة ترامب لم يمس الثوابت المتمثلة في الدولة والسلاح وحق المقاومة    اليونيفيل: الجيش الإسرائيلي ألقى قنابل قرب عناصرنا في جنوب لبنان    حلمي طولان: المنتخب في ورطة قبل كأس العرب والأندية تبحث عن مصلحتها    درجات الحرارة غدا السبت في مصر    المنيا: سقوط توك توك في حفرة صرف صحي أمام وحدة صحية بأبو قرقاص دون إصابات    مصرع شاب وإصابة آخر في حادث تصادم بقنا    أنوسة كوتة تكشف تطورات الحالة الصحية ل ماس محمد رحيم    رياض الخولي في ندوة تكريمه بمهرجان الإسكندرية: «طيور الظلام» قفزة مهمة في حياتي الفنية    أوبرا دمنهور تحتفل بذكرى انتصارات أكتوبر (صور وتفاصيل)    بيحسوا بالملل.. 4 أبراج لا تحب الوحدة وتهرب من العزلة (هل أنت منهم؟)    4 عناصر يجب الانتباه إليها، النظام الغذائي المثالي للتعايش مع أمراض الكلى المزمنة    المنيا.. النيابة تنتدب الطب الشرعي لكشف ملابسات العثور على جثة شاب داخل مزرعة بسمالوط    وكيل جهاز المخابرات السابق: المصالحة الفلسطينية لم تعد أولوية في ظل الوضع الحالي    العقيد محمد عبدالقادر: إنجاز أكتوبر كان نصرًا عربيًا بامتياز    إرث أكتوبر العظيم    المحاسب الضريبى أشرف عبد الغنى: الإرادة السياسية للرئيس السيسى سر نجاح التيسيرات الضريبية    الاتحاد الأوروبي يطلق قواعد موحدة للشركات الناشئة في 2026 لتعزيز النمو    قوات جيش الاحتلال تقتحم بلدات في نابلس وتعتقل شابين فلسطينيين    لمدة 6 ساعات.. قطع المياه عن هذه المناطق بالجيزة خلال ساعات    الزمالك يدرس رحيل ثلاثة لاعبين في الشتاء.. عواد والجزيري على قائمة المغادرين    وزير الخارجية يثمن مساندة هايتي للدكتور خالد العناني في انتخابات منصب مدير عام اليونسكو    إيقاف عرض عدد من المسلسلات التركية.. والعبقري" من بينها    محمد كامل يُعلن أول قراراته: الحشد والتثقيف استعدادًا للإنتخابات    داء كرون واضطرابات النوم، كيفية التغلب على الأرق المصاحب للمرض    «لرفع العقوبات».. حاخام يهودي يعلن رغبته في الترشح ل مجلس الشعب السوري    غلق وتشميع 20 مقهى ومحل ورفع 650 حالة إشغال في الإسكندرية    افتتاح مسجد فانا في مطاي وإقامة 97 مقرأة للجمهور بالمنيا    «السكان» تشارك فى الاحتفال بيوم «عيش الكشافة» بمدينة العريش    «حاجة تليق بالطموحات».. الأهلي يكشف آخر مستجدات المدرب الجديد    وزير الرياضة يحضر تتويج مونديال اليد.. ويهنئ اللاعبين المصريين على أدائهم المميز    محمد صلاح يلتقط صورة تذكارية مع الكرة الرسمية لكأس العالم 2026    87 مليون جنيه لمشروعات الخطة الاستثمارية الجديدة بتلا والشهداء في المنوفية    حكم قراءة سورة الكهف يوم الجمعة... تعرف عليها    هل يجب الترتيب بين الصلوات الفائتة؟.. أمين الفتوى يجيب    تعرف علي موعد إضافة المواليد علي بطاقة التموين في المنيا    البلشي وعبدالرحيم يدعوان لعقد اجتماع مجلس نقابة الصحفيين داخل مقر جريدة الوفد    القهوة بالحليب.. هل هي خيار صحي لروتينك الصباحي؟ (دراسة توضح)    استشاري مناعة: أجهزة الجيم ملوثة أكثر من الحمامات ب74 مرة (فيديو)    الإسماعيلي يواصل التعثر بهزيمة جديدة أمام سموحة    نتائج الجولة الخامسة من الدوري الممتاز لكرة القدم النسائية    سبب غياب منة شلبي عن مؤتمر فيلم «هيبتا: المناظرة الأخيرة»    مواقيت الصلاه في المنيا اليوم الجمعه 3 أكتوبر 2025 اعرفها بدقه    مهرجان شرم الشيخ للمسرح يعلن لجنة تحكيم مسابقة "عصام السيد"    عاجل- سكك حديد مصر تُسيّر الرحلة ال22 لقطارات العودة الطوعية لنقل الأشقاء السودانيين إلى وطنهم    اسعار الحديد فى أسيوط اليوم الجمعة 3102025    باراجواي تعلن دعمها الرسمي للدكتور خالد العناني في انتخابات اليونسكو 2025    تعرف على آداب وسنن يوم الجمعة    "يونيسف": الحديث عن منطقة آمنة فى جنوب غزة "مهزلة"    ضبط متهمين بالتعدي على طلاب أمام مدرسة بالمطرية    المصري يواجه البنك الأهلي اليوم في الجولة العاشرة من دوري نايل    تكريم 700 حافظ لكتاب الله من بينهم 24 خاتم قاموا بتسميعه فى 12 ساعة بقرية شطورة    استشاري تغذية علاجية: الأضرار المحتملة من اللبن تنحصر في حالتين فقط    بالصور.. مصرع طفلة وإصابة سيدتين في انهيار سقف منزل بالإسكندرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"أبطال" مازن معروف قساة بالفطرة
نشر في صوت البلد يوم 01 - 02 - 2017

في غمرة انشغالنا بالتفاصيل المزرية اليومية، أفقنا ذات يوم لندرك أن واقعنا الأساسي هو الحرب. ليس مهمّاً من ضد من، ولا من هو المنتصر ومن المهزوم، لا يهم إن كنا نتقدم أم نتقهقر، المهم أن تبقى الحرب مشتعلة، وهي بالفعل كذلك. الخطأ الأكبر الذي نقترفه الآن- نحن سكّان هذا الجزء من العالم- هو أننا ننتظر انتهاء الحرب. لن تنتهي، لأن من يشنّون الحروب ويديرونها لن يجدوا شيئاً أكثر منها متعة لتمضية الوقت في هذه الحياة. الحرب واقع وكل ما عداها فانتازيا وخيالات وتمنيات قلبية سعيدة، كل ما عدا القتل والدمار والصواريخ ومضادات الطائرات والقنابل والأقبية والتعذيب والخطف مجرّد هامش يسعى الإعلام إلى إيهامنا بوجوده وبحقيقته. كيف يُمكن التعامل مع هذا الواقع بحرفيته؟ بقسوته؟ بوحشيته؟ بدمائه؟ بعدد قتلاه؟ بلغة أسلحته؟ لا يكفي أن تسرد ما يقع، فهذا السرد لا ينجح في إيصال شعور القسوة عارياً، وإن كان ينجح في نقل الصورة، كأدب السجون وأدب المخيمات وأدب الحصار.
للقسوة تاريخ اجتماعي في الفكر والنقد، وهو تاريخ محكوم بظروف كل عصر وتوقعاته الجمالية. يتم مثلاً التأريخ دائماً بمسرحية «انظر خلفك بغضب» لجو أوزبورن (1958) كعمل أثار غضب المجتمع الإنكليزي، وعندما تقرأه الآن قد تتعجب من سبب غضب الجمهور آنذاك. ومن قبله، قام الكاتب الفرنسي أنطونين أرتو بوضع مانيفستو ل «مسرح القسوة» في كتابه الشهير «المسرح وقرينه» (1938)، مؤكداً فيه أن القسوة تهدف إلى تحرير كل أشكال الاستجابة لدى الممثل والمتفرج معاً، وذلك سعياً إلى إسقاط الخيالات والأوهام والابتعاد عن الزيف والنمطية. وفي العقد الأخير من القرن العشرين ظهرت في إنكلترا حركة مسرحية بعنوان «في وجهك»، كانت تقدم على المسرح كل أشكال القسوة الروحية والنفسية والجسدية، وذلك من أجل التمرد على المنظومة القيمية التي رسخها عهد مارغريت ثاتشر. ومن أهم أسماء هذه الحركة الكاتبة سارة كين التي ماتت منتحرة وهي في السابعة والعشرين. تختلف التوجهات في تقديم القسوة لكنها تتفق على أن ما يُعرض ليس إلا جزءاً كامناً في الروح الإنسانية، كلنا هذا الشخص عندما تتاح لنا الظروف. وقد أُتيحت لنا بالفعل، وما علينا سوى التنزه بين نشرات الأخبار- ولمدة عشر دقائق يومياً- كي نرى قدرتنا المدهشة في ممارسة أفعال توصف بأنها «لا إنسانية»، مع أنّ الإنسان قادر على ذلك وأكثر.
في هذا السياق، يؤكد الكاتب مازن معروف في مجموعته القصصية الثانية «الجرذان التي لحست بطل الكاراتيه» (دار براءات المتوسط) أن الإنسان قادر على إبداء هذه القسوة بسلاسة وطبيعية وهدوء، كأنها فِطرته، أو ربما هي كذلك.
تضم المجموعة عشر قصص، كلها في زمن حرب. المكان غير محدد، بل يتخذ شكل أحياء يقوم عليها مسلحون. تارة يسميها الحرب وطوراً الحصار. لكنها في الأساس حرب تجعل من الموت مجرد فعل طبيعي، وتحول التعذيب إلى هدية عيد ميلاد لطفل، وتجعل من شنق الأرنب عرضاً يصفق له الجمهور، ويتحول خرم أذن الكلب بالخرامة إلى متنفّس للحزن، والمسلح مهووس بفأر هامستر، ومسلح آخر مُحب عاشق تنفصل أظافره عن أصابعه.
وفي حين تبدو كل قصة مستقلة عن الأخرى، تُعاود الشخصيات الظهور في أشكال مختلفة، حتى أننا نعرف من إحدى القصص أن الأطفال الثلاثة في قصة «سكند هاند رابيت» كانوا مصابين بمتلازمة «داون». تُغلف الفانتازيا الكثير من القصص، لكنها تقدم نفسها بوصفها الواقع المعيش ولا تسعى إلى حمل عبء الرمزية. هي مشاهد فانتازية لا تقدم أي محمول دلالي، فالفانتازيا هي الواقع عينه، لا شيء سواه. فانتازيا تقدم الواقع عارياً تماماً، لا شيء يستر قسوته، حتى أن رد الفعل الطبيعي الوحيد جاء من الكلب الذي كان يتألم عندما يخرم الطفل أذنه بخرامة الورق. وهو الطفل نفسه الذي كان يتسلى بتعذيب الأطفال في السجن يوم عيد ميلاده. لا يقتصر دور فانتازيا القسوة على العلاقة بين الكاتب والقارئ، أي العلاقة القائمة على توصيل المغزى من رسم هذا العالم، بل تنسحب على العلاقة بين الشخصيات أيضاً.
الشخصيات تصدق الفانتازيا إما رغبةً في الهروب أو دفاعاً عن النفس أو لمجرد تمضية الوقت. فالشخصيات كلها معطوبة بشكل أو بآخر (ألسنا جميعاً كذلك؟). الأطفال غالباً مصابون بمتلازمة «داون» أو معتقلون في السجن حيث يتم ابتداع طرق لتعذيبهم، والرجال إما يبصقون بلغماً أو هم مسلحون يمارسون «هواية» القتل أو يكونون بصحبة هامستر. النساء أيضاً، إما يساعدن في التعذيب كتلك التي تعود من عملها في السجن وهي ترتدي مريولاً ملطخاً بالدم والمخاط، أو المعلمة التي تطلب من التلاميذ تخيل أكثر المواقف فزعاً وهلعاً.
هكذا جمع مازن معروف مفردات حياتنا اليومية وقام بوضعها في قالب سردي يقوم على مفارقة زكريا تامر، حيث تحدث الكوارث وتتحول إلى مألوف وطبيعي. إنها حروبنا في اليوم العاشر، فمثلما قبل النمر الترويض الكامل في «النمور في اليوم العاشر» لزكريا تامر، نقبل الموت والقتل والبتر وكل تداعيات الحرب في اليوم العاشر. كنا نحتاج إلى التذكر أنّ الحياة ليست هادئة مستقرة كما نحب أن نصدق، بل هي فوضى عارمة نسير فيها ونتنفس بمنتهي السهولة، كم نحن أبطال.
إنه الدمار الذي يقذفه الشاعر السوري وفائي ليلاً في ديوانه «رصاصة فارغة، قبر مزدحم» (2015)، الصادر عن «براءات- المتوسط» أيضاً. تتحول الحرب إلى «روتين» حيث «كل صباح/ توزع المدن قتلاها/ الطاغية يعد نياشينه/ المراهق يعد حبيباته اللاتي سقطن في حبائله/ الولد يعد الفوارغ من الرصاص الذي سيلهو به إلى آخر المساء/ الرجل العجوز المتقاعد يعد القبور التي سيحفرها هذا المساء». روتين يومي تسجله القصيدة كمألوف وطبيعي ومستمر، لكنه فوق الاحتمال، إلا أنه لا خيار إلا هذا الروتين. روتين القسوة، واحتراف القتل. ينخفض سقف الأمنيات حتى يصبح المطلوب بسيطاً: «حين ستغطون وجهي بقميص عتمتكم/ اخفضوا أصواتكم/ لا أريد أن أعرف أن قاتلي له اللغة نفسها». تستعصي قصائد الديوان وقصص مازن معروف على التحليل، لأنها أعمال تقدم نفسها بنفسها، تفهم العالم عبر النظر إليه والدخول في ثناياه، لا تلجأ إلى أية وسائل مساعدة خارجية أو تقنية سوى من العالم ذاته. الحقيقة أنها أعمال تستعصي على التحليل لأنها تقدم تحليلاً للعالم وبالتالي لا يمكن أن نعيد التحليل في اتجاه معكوس. لقد انفرط العالم الذي نعرفه وحلّ مكانه عالم جديد كل ما يسعنا عمله هو أن نناشد الجنون قائلين: «أيها الجنون كلّه/ هبنا كلّ احتمالات المستحيل كي لا ندرك/ كي لا نرى/ كي لا نسمع». ربما يكون هذا هو سبب ظهور أطفال كثر في قصص مازن معروف مصابين بمتلازمة داون أو أشخاص بالغين لديهم أمراض تأخر عقلي، كأنها محاولة أخيرة من الكاتب ليجد عذراً لهذا الجنون والقتل.
حين كتب أوزبورن «انظر خلفك في غضب» كان يهدف إلى مواجهة الطبقة البورجوازية بزيف قيمها، وحين كتبت سارة كين مسرحيتها الأولى (التي غضب منها الجمهور وغادر المسرح) وعنوانها «لعين» أرادت أن تسبب صدمة للجمهور الذي يعيش متنعماً في أفكار نمطية تعمي بصره عن قسوة الواقع. أما القسوة التي نقرأها في الأدب العربي فهي ليست مقصودة بقدر ما هي مفروضة باعتبارها المفردة الأساسية في حياتنا اليومية. كل ما في الأمر أننا اعتدنا عليها ك «النمور في اليوم العاشر».
في غمرة انشغالنا بالتفاصيل المزرية اليومية، أفقنا ذات يوم لندرك أن واقعنا الأساسي هو الحرب. ليس مهمّاً من ضد من، ولا من هو المنتصر ومن المهزوم، لا يهم إن كنا نتقدم أم نتقهقر، المهم أن تبقى الحرب مشتعلة، وهي بالفعل كذلك. الخطأ الأكبر الذي نقترفه الآن- نحن سكّان هذا الجزء من العالم- هو أننا ننتظر انتهاء الحرب. لن تنتهي، لأن من يشنّون الحروب ويديرونها لن يجدوا شيئاً أكثر منها متعة لتمضية الوقت في هذه الحياة. الحرب واقع وكل ما عداها فانتازيا وخيالات وتمنيات قلبية سعيدة، كل ما عدا القتل والدمار والصواريخ ومضادات الطائرات والقنابل والأقبية والتعذيب والخطف مجرّد هامش يسعى الإعلام إلى إيهامنا بوجوده وبحقيقته. كيف يُمكن التعامل مع هذا الواقع بحرفيته؟ بقسوته؟ بوحشيته؟ بدمائه؟ بعدد قتلاه؟ بلغة أسلحته؟ لا يكفي أن تسرد ما يقع، فهذا السرد لا ينجح في إيصال شعور القسوة عارياً، وإن كان ينجح في نقل الصورة، كأدب السجون وأدب المخيمات وأدب الحصار.
للقسوة تاريخ اجتماعي في الفكر والنقد، وهو تاريخ محكوم بظروف كل عصر وتوقعاته الجمالية. يتم مثلاً التأريخ دائماً بمسرحية «انظر خلفك بغضب» لجو أوزبورن (1958) كعمل أثار غضب المجتمع الإنكليزي، وعندما تقرأه الآن قد تتعجب من سبب غضب الجمهور آنذاك. ومن قبله، قام الكاتب الفرنسي أنطونين أرتو بوضع مانيفستو ل «مسرح القسوة» في كتابه الشهير «المسرح وقرينه» (1938)، مؤكداً فيه أن القسوة تهدف إلى تحرير كل أشكال الاستجابة لدى الممثل والمتفرج معاً، وذلك سعياً إلى إسقاط الخيالات والأوهام والابتعاد عن الزيف والنمطية. وفي العقد الأخير من القرن العشرين ظهرت في إنكلترا حركة مسرحية بعنوان «في وجهك»، كانت تقدم على المسرح كل أشكال القسوة الروحية والنفسية والجسدية، وذلك من أجل التمرد على المنظومة القيمية التي رسخها عهد مارغريت ثاتشر. ومن أهم أسماء هذه الحركة الكاتبة سارة كين التي ماتت منتحرة وهي في السابعة والعشرين. تختلف التوجهات في تقديم القسوة لكنها تتفق على أن ما يُعرض ليس إلا جزءاً كامناً في الروح الإنسانية، كلنا هذا الشخص عندما تتاح لنا الظروف. وقد أُتيحت لنا بالفعل، وما علينا سوى التنزه بين نشرات الأخبار- ولمدة عشر دقائق يومياً- كي نرى قدرتنا المدهشة في ممارسة أفعال توصف بأنها «لا إنسانية»، مع أنّ الإنسان قادر على ذلك وأكثر.
في هذا السياق، يؤكد الكاتب مازن معروف في مجموعته القصصية الثانية «الجرذان التي لحست بطل الكاراتيه» (دار براءات المتوسط) أن الإنسان قادر على إبداء هذه القسوة بسلاسة وطبيعية وهدوء، كأنها فِطرته، أو ربما هي كذلك.
تضم المجموعة عشر قصص، كلها في زمن حرب. المكان غير محدد، بل يتخذ شكل أحياء يقوم عليها مسلحون. تارة يسميها الحرب وطوراً الحصار. لكنها في الأساس حرب تجعل من الموت مجرد فعل طبيعي، وتحول التعذيب إلى هدية عيد ميلاد لطفل، وتجعل من شنق الأرنب عرضاً يصفق له الجمهور، ويتحول خرم أذن الكلب بالخرامة إلى متنفّس للحزن، والمسلح مهووس بفأر هامستر، ومسلح آخر مُحب عاشق تنفصل أظافره عن أصابعه.
وفي حين تبدو كل قصة مستقلة عن الأخرى، تُعاود الشخصيات الظهور في أشكال مختلفة، حتى أننا نعرف من إحدى القصص أن الأطفال الثلاثة في قصة «سكند هاند رابيت» كانوا مصابين بمتلازمة «داون». تُغلف الفانتازيا الكثير من القصص، لكنها تقدم نفسها بوصفها الواقع المعيش ولا تسعى إلى حمل عبء الرمزية. هي مشاهد فانتازية لا تقدم أي محمول دلالي، فالفانتازيا هي الواقع عينه، لا شيء سواه. فانتازيا تقدم الواقع عارياً تماماً، لا شيء يستر قسوته، حتى أن رد الفعل الطبيعي الوحيد جاء من الكلب الذي كان يتألم عندما يخرم الطفل أذنه بخرامة الورق. وهو الطفل نفسه الذي كان يتسلى بتعذيب الأطفال في السجن يوم عيد ميلاده. لا يقتصر دور فانتازيا القسوة على العلاقة بين الكاتب والقارئ، أي العلاقة القائمة على توصيل المغزى من رسم هذا العالم، بل تنسحب على العلاقة بين الشخصيات أيضاً.
الشخصيات تصدق الفانتازيا إما رغبةً في الهروب أو دفاعاً عن النفس أو لمجرد تمضية الوقت. فالشخصيات كلها معطوبة بشكل أو بآخر (ألسنا جميعاً كذلك؟). الأطفال غالباً مصابون بمتلازمة «داون» أو معتقلون في السجن حيث يتم ابتداع طرق لتعذيبهم، والرجال إما يبصقون بلغماً أو هم مسلحون يمارسون «هواية» القتل أو يكونون بصحبة هامستر. النساء أيضاً، إما يساعدن في التعذيب كتلك التي تعود من عملها في السجن وهي ترتدي مريولاً ملطخاً بالدم والمخاط، أو المعلمة التي تطلب من التلاميذ تخيل أكثر المواقف فزعاً وهلعاً.
هكذا جمع مازن معروف مفردات حياتنا اليومية وقام بوضعها في قالب سردي يقوم على مفارقة زكريا تامر، حيث تحدث الكوارث وتتحول إلى مألوف وطبيعي. إنها حروبنا في اليوم العاشر، فمثلما قبل النمر الترويض الكامل في «النمور في اليوم العاشر» لزكريا تامر، نقبل الموت والقتل والبتر وكل تداعيات الحرب في اليوم العاشر. كنا نحتاج إلى التذكر أنّ الحياة ليست هادئة مستقرة كما نحب أن نصدق، بل هي فوضى عارمة نسير فيها ونتنفس بمنتهي السهولة، كم نحن أبطال.
إنه الدمار الذي يقذفه الشاعر السوري وفائي ليلاً في ديوانه «رصاصة فارغة، قبر مزدحم» (2015)، الصادر عن «براءات- المتوسط» أيضاً. تتحول الحرب إلى «روتين» حيث «كل صباح/ توزع المدن قتلاها/ الطاغية يعد نياشينه/ المراهق يعد حبيباته اللاتي سقطن في حبائله/ الولد يعد الفوارغ من الرصاص الذي سيلهو به إلى آخر المساء/ الرجل العجوز المتقاعد يعد القبور التي سيحفرها هذا المساء». روتين يومي تسجله القصيدة كمألوف وطبيعي ومستمر، لكنه فوق الاحتمال، إلا أنه لا خيار إلا هذا الروتين. روتين القسوة، واحتراف القتل. ينخفض سقف الأمنيات حتى يصبح المطلوب بسيطاً: «حين ستغطون وجهي بقميص عتمتكم/ اخفضوا أصواتكم/ لا أريد أن أعرف أن قاتلي له اللغة نفسها». تستعصي قصائد الديوان وقصص مازن معروف على التحليل، لأنها أعمال تقدم نفسها بنفسها، تفهم العالم عبر النظر إليه والدخول في ثناياه، لا تلجأ إلى أية وسائل مساعدة خارجية أو تقنية سوى من العالم ذاته. الحقيقة أنها أعمال تستعصي على التحليل لأنها تقدم تحليلاً للعالم وبالتالي لا يمكن أن نعيد التحليل في اتجاه معكوس. لقد انفرط العالم الذي نعرفه وحلّ مكانه عالم جديد كل ما يسعنا عمله هو أن نناشد الجنون قائلين: «أيها الجنون كلّه/ هبنا كلّ احتمالات المستحيل كي لا ندرك/ كي لا نرى/ كي لا نسمع». ربما يكون هذا هو سبب ظهور أطفال كثر في قصص مازن معروف مصابين بمتلازمة داون أو أشخاص بالغين لديهم أمراض تأخر عقلي، كأنها محاولة أخيرة من الكاتب ليجد عذراً لهذا الجنون والقتل.
حين كتب أوزبورن «انظر خلفك في غضب» كان يهدف إلى مواجهة الطبقة البورجوازية بزيف قيمها، وحين كتبت سارة كين مسرحيتها الأولى (التي غضب منها الجمهور وغادر المسرح) وعنوانها «لعين» أرادت أن تسبب صدمة للجمهور الذي يعيش متنعماً في أفكار نمطية تعمي بصره عن قسوة الواقع. أما القسوة التي نقرأها في الأدب العربي فهي ليست مقصودة بقدر ما هي مفروضة باعتبارها المفردة الأساسية في حياتنا اليومية. كل ما في الأمر أننا اعتدنا عليها ك «النمور في اليوم العاشر».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.