الشئون النيابية تنشر ضوابط التصويت الصحيح في انتخابات مجلس النواب    بدء التصويت بالداخل في المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب 2025    لليوم العاشر.. التموين تواصل صرف مقررات نوفمبر حتى 8 مساء    ننشر الجديد في أسعار الذهب اليوم في مصر| عيار 21 وصل لكام؟؟    الإحصاء: ارتفاع أسعار قسم الرعاية الصحية بنسبة 27.7% خلال عام    125 مليون دولار صادرات الصناعات الغذائية إلى السوق الكويتي    31 قتيلا وإصابة العشرات فى أعمال عنف داخل سجن بالإكوادور    إعلام عبري: ويتكوف وكوشنر يجتمعان مع نتنياهو اليوم لبحث المرحلة الثانية من اتفاق غزة    وزير الخارجية يطالب نظيره المالي ببذل أقصى الجهود للعمل على إطلاق سراح المصريين الثلاثة المختطفين    سان جيرمان يتصدر ترتيب الدوري الفرنسي بعد الجولة ال 12    بعد تتويج الأهلي بالسوبر.. توروب يسافر إلى الدنمارك لقضاء إجازة    حركة المرور اليوم، سيولة بالدائرى ومحور 26 يوليو وزحام بشارعى الهرم وفيصل    «الأرصاد»: طقس اليوم خريفي مائل للبرودة.. والعظمى بالقاهرة 28 درجة    مازن المتجول: أجزاء فيلم «ولاد رزق» مثل أبنائي.. ولا يوجد تأكيد لجزء رابع    اللجان الانتخابية بدائرة الهرم والعمرانية تستعد لاستقبال الناخبين في انتخابات مجلس النواب 2025    مواعيد مباريات اليوم الاثنين 10 نوفمبر 2025 والقنوات الناقلة    أسعار البيض اليوم الإثنين 10 نوفمبر 2025    بعد 40 يوما .. مجلس الشيوخ الأمريكي يقر مشروع قانون تمويل الحكومة لإنهاء الإغلاق الحكومى    التعليم تحدد مواعيد امتحان شهر نوفمبر لصفوف النقل والدرجات المخصصة .. اعرف التفاصيل    «العمل» تواصل اختبارات المتقدمين للفرص في مجال البناء بالبوسنة والهرسك    6 ملايين مشاهدة لأغنية "سيبتلي قلبي" ل أنغام على يوتيوب (فيديو)    أمريكا: اختبارات تكشف الجرثومة المسببة لتسمم حليب باي هارت    واشنطن تضغط على إسرائيل لبدء المرحلة الثانية من خطة ترامب    وزير المالية: بعثة صندوق النقد تصل قريبًا ومؤشراتنا مطمئنة    نقل محمد صبحي للعناية المركزة بعد إغماء مفاجئ.. والفنان يستعيد وعيه تدريجيًا    هاني رمزي: تجاهل زيزو لمصافحة نائب رئيس نادي الزمالك «لقطة ملهاش لازمة»    «لاعب مهمل».. حازم إمام يشن هجومًا ناريًا على نجم الزمالك    «محدش كان يعرفك وعملنالك سعر».. قناة الزمالك تفتح النار على زيزو بعد تصرفه مع هشام نصر    السوبرانو فاطمة سعيد: حفل افتتاح المتحف الكبير حدث تاريخي لن يتكرر.. وردود الفعل كانت إيجابية جدًا    الزراعة: تحصينات الحمي القلاعية تحقق نجاحًا بنسبة 100%    الأهلى بطلا لكأس السوبر المصرى للمرة ال16.. فى كاريكاتير اليوم السابع    عدسة نانوية ثورية ابتكار روسي بديل للأشعة السينية في الطب    السقا والرداد وأيتن عامر.. نجوم الفن في عزاء والد محمد رمضان | صور    تقرير - هل يتراجع المد اليميني المتطرف المعادي للمهاجرين في هولندا بخسائر فيلدرز؟    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الاثنين 10 نوفمبر    مواجهات بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلى شمال القدس المحتلة    مساعد وزير الصحة: نستهدف توفير 3 أسرة لكل 1000 نسمة وفق المعايير العالمية    طوابير بالتنقيط وصور بالذكاء الاصطناعي.. المشهد الأبرز في تصويت المصريين بالخارج يكشف هزلية "انتخابات" النواب    ترامب يتهم "بي بي سي" بالتلاعب بخطابه ومحاولة التأثير على الانتخابات الأمريكية    رئيس لجنة كورونا يوضح أعراض الفيروس الجديد ويحذر الفئات الأكثر عرضة    «مش بيلعب وبينضم».. شيكابالا ينتقد تواجد مصطفى شوبير مع منتخب مصر    الطالبان المتهمان في حادث دهس الشيخ زايد: «والدنا خبط الضحايا بالعربية وجرى»    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 10 نوفمبر 2025 في القاهرة والمحافظات    باريس سان جيرمان يسترجع صدارة الدوري بفوز على ليون في ال +90    «لا تقاوم».. طريقة عمل الملوخية خطوة بخطوة    أداة «غير مضمونة» للتخلص من الشيب.. موضة حقن الشعر الرمادي تثير جدلا    3 أبراج «مستحيل يقولوا بحبك في الأول».. يخافون من الرفض ولا يعترفون بمشاعرهم بسهولة    ميشيل مساك لصاحبة السعادة: أغنية الحلوة تصدرت الترند مرتين    محافظ قنا يشارك في احتفالات موسم الشهيد مارجرجس بدير المحروسة    نشأت أبو الخير يكتب: القديس مارمرقس كاروز الديار المصرية    3 سيارات إطفاء تسيطر على حريق مخبز بالبدرشين    تطورات الحالة الصحية للمطرب إسماعيل الليثى بعد تعرضه لحادث أليم    كشف ملابسات فيديو صفع سيدة بالشرقية بسبب خلافات على تهوية الخبز    هل يجوز الحلف ب«وحياتك» أو «ورحمة أمك»؟.. أمين الفتوى يُجيب    هل يجوز أن تكتب الأم ذهبها كله لابنتها؟.. عضو مركز الأزهر تجيب    هل يذهب من مسه السحر للمعالجين بالقرآن؟.. أمين الفتوى يجيب    خالد الجندي: الاستخارة ليست منامًا ولا 3 أيام فقط بل تيسير أو صرف من الله    تعرف على مواقيت الصلاة بمطروح اليوم وأذكار الصباح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بكين.. بكين : تعري العالم السفلي للعاصمة الصينية
نشر في صوت البلد يوم 03 - 01 - 2017

دائمًا ما يميل الأدب الصيني المنشور في الولايات المتحدة الأميركية إلى التركيز على السياسة – والتفكير في الثورة الثقافية وفكرة الانشقاق – ولكن هناك عالما مختلفا تمامًا من الكتابة: أدب المهمشين، الذي يتعامل مع واقع صعب يعيشه الملايين من سكان المدينة الذين يصارعون من أجل الخروج من الحالة الاقتصادية الكئيبة التي يعيشونها.
تدور "بكين.. بكين" للروائي الصيني شيو تسي تشين (المولود عام 1978 ويعتبر من الكتاب الشباب البارزيين في الصين) في العاصمة بكين حول "دون هوانج"، الذي خرج من السجن لتوه بعد أن دخله بتهمة بيع بطاقات هوية مزورة، لا يملك في جيبه سوى القليل من المال الذي يكفيه لكي يأكل وجبتي طعام فقط. ليس لديه مكان ليسكن فيه وليس لديه أية فكرة عن الطريقة التي سوف يجني من ورائها المال. وعندما يصادف امرأة جميلة تبيع أسطوانات الأفلام المقلَّدة، يجد نفسه في حالة رومانسية غير متوقعة، وفي تجارة جديدة لم يجربها من قبل. ولكن عندما يظهر في الأفق صديق لتلك المرأة، يُجْبَر "دون هوانج" على اتخاذ قرارات صعبة.
"بكين.. بكين" صدرت في طبعتها الأصلية عام 2006 وحصلت على جوائز وتم ترجمتها إلى أكثر من لغة منها الإنكليزية والفرنسية والآن صدرت بالعربية عن دار العربي للنشر بترجمة يحيي مختار، وهي رواية تكتشف العالم السفلي للمدينة الحديثة: العالم الملئ بالسرقة، الاحتيال، الجنس، الرشوة، الخمور، ورجال الشرطة "الحقيقيين والمزيفين". وتجتاحها عواصف الرمال الجافة التي تغطي أكبر مدن العالم.
تلك الرواية تتبع بطلًا على "عجلة" دائمًا، فقط ليكون متقدمًا بخطوة واحدة عن الجميع. رواية مرسومة بحرفية، وشخصياتها حقيقية.
شيو تسي تشين يترأس تحرير مجلة "الأدب الصيني" التي تصدر بعدة لغات. وقد كتب العديد من الروايات، من أهمها: "ماذا لو أغلق الجليد الباب" الحائزة على جائزة "لو شون" للقصة القصيرة في دورتها السادسة. و"باب منتصف الليل" التي فازت بجائزة نشر الأدب الصيني، بالإضافة إلى روايتي: "قطار الليل"، و"جنة على الأرض"، ومجموعة من القصص القصيرة تحت عنوان "كيف يطير الإوز إلى السماء". أما أحدث رواياته فهي "القدس" التي نشرتها دار "بكين أكتوبر للفنون والآداب"، وحصلت على جائزة أدب الربيع في دورتها الرابعة.
من أجواء الرواية:
حدث ذلك قبل ثلاثة أشهر. الجو كان بارداً، والجميع يستعد لاستقبال عيد رأس السنة الصينية. واليوم، هو خرج من السجن ولا يزال "باو دينج" محبوساً. لا يعرف ما إذا كان الجرح الذي أصاب الذراع الأيسر ل "باو دينج" أثناء المطاردة قد التأم أم لا.
حَوَّلَ "دون هوانج" وجهته نحو شارع آخر، ومنه إلى شارع ثالث، كانت العاصفة الرملية مُحَمَّلة بالتراب، احتمى منها أسفل أحد المباني، بينما انتشر الظلام. نَفَضَ الغبار عن ملابسه. فجأةً شاهد فتاة تحمل على ظهرها حقيبة كالتي يحملها، وتتجه نحوه قائلة:
- هل تريد شراء أسطوانات الأفلام يا سيدي؟
ثم أخرجت من حقيبتها أسطوانة مدمجة وتابعت قائلة:
- لدي جميع أنواع الأفلام؛ أفلام هوليوود، أفلام يابانية، أفلام كورية، أفلام محلية شهيرة، وأيضاً أفلام كلاسيكية قديمة، وأخرى حاصلة على جوائز الأوسكار.
ثم أخرجت إحدى الأسطوانات من غلافها الملوَّن ووضعتها أمام عينيه. شَعَرَ "دون هوانج" بدفءٍ غريب وهو ينظر إلى ألوان تلك الأسطوانات تحت ضوء الشارع الخافت. لكنه يعرف أن هذه الأسطوانات تحوي أفلاماً بريئة تماماً مثل وجه تلك الفتاة الذي صار جافاً من شدة الرياح. بدت الفتاة كأنها تشعر بالبرد؛ لأن نبرات صوتها كانت مُتَقَطِّعة كشخصٍ يكتم بكاءه. بدت له فتاة طيبة. لم يستطع أن يُخَمِّن عمرها، ربما كانت في الرابعة والعشرين أو الخامسة والعشرين، السابعة والعشرين أو الثامنة والعشرين. ولكن المؤكد أنها لم تتجاوز الثلاثين. فاللاتي تجاوزن الثلاثين غالباً ما يحملن طفلاً صغيراً ويعترضن المارة قائلين: "هل تريد أسطوانات؟ يوجد أفلام إباحية عالية الجودة"، ثم يُخْرِجن الأسطوانات من جيوب خفية داخل ملابسهن. أجابها "دون هوانج":
ليس عندي مكان أشاهد فيه هذه الأفلام.
ثم مَالَ بجسده للخلف مُلتصقاً بالجدار. قالت الفتاة:
- يمكن تشغيل هذه الأقراص على مُشَغِّل الأسطوانات والكمبيوتر أيضاً. سأبيعها لك بسعر رخيص؛ فقط ستة يوانات للأسطوانة الواحدة.
ألقى "دون هوانج" حقيبته على الأرض، وهَمَّ بالجلوس ليستريح قليلاً. اعتقدت الفتاة أنه يريد انتقاء بعض الأسطوانات لكي يشتريها؛ لذلك جلست هي الأخرى، وأخرجت كومةً من الأسطوانات من حقيبتها ووضعتها أمامه بحركاتٍ سريعةٍ، قائلةً:
- كُلّها بحالةٍ جيدة، جودة لا مثيل لها.
شَعَرَ بالخجل أمام إصرار الفتاة؛ فقال:
وهو كذلك، أعطني واحدة.
شكرته الفتاة؛ وأردفت:
أي واحدة تريد؟
أجابها:
كما تشائين، المهم ألا يكون فيلماً مُمِلاً.
نظرت إليه الفتاة قائلة:
إذا كنت لا تريد أن تشتري.. فليس هناك مشكلة.
أجابها:
ومن قال إني لا أريد أن أشتري؟ اعطني اثنتين؛ لا بل اعطني ثلاثا.
وحتى لا تشعر الفتاه بالريبة، قام "دون هوانج" بانتقاء ثلاث أسطوانات؛ "سارق الدراجة"، و"سينما باراديسو الجديدة"، و"عنوان مجهول". قالت الفتاة بصوتٍ يُخَالِطه التعجب:
- لم أتخيل أنك من هواة الأفلام؛ فهذه الثلاثة من الكلاسيكيات الرائعة.
أجابها:
لستُ من هواة الأفلام؛ بل أشاهدها أحياناً لكسر الملل.
حقيقة الأمر أنه بالفعل ليس من هواة الأفلام. لقد شاهد قبل ذلك فيلم "سارق الدراجة". أمَّا "سينما باراديسو الجديدة"؛ فإنه سمع بعض الطلبة الجامعيين يتحدثون عنه داخل الأتوبيس. واختار فيلم "عنوان مجهول" بسبب غموض الاسم.
بعد أن اشترى الأسطوانات، جلس على الرصيف وتطلع عبر الشارع إلى لافتة بأضواء النيون على أحد المباني؛ مكتوب عليها "أكاديمية هاي ديان للشطرنج". شاهد الاسم من قبل مرات عديدة. أخرج سيجارة من جيبه ثم أشعلها ونفث الدخان تجاه لافتة النيون المضيئة.
جمعت الفتاة أسطواناتها داخل الحقيبة وهَمَّتْ بالمغادرة ثم نظرت إليه قائلة:
ألن تغادر؟
أجابها قائلًا:
اذهبي أنتِ، سأجلس هنا لأستريح قليلاً.
شَعَرَ "دون هوانج" أنه لا داعي لأن يُخبر شخصاً لا يعرفه بأنه ليس لديه مأوى يذهب إليه.
سارت الفتاة بضع خطوات مُغَادِرة المكان ثم ما لبثت أن رجعت مرةً أخرى، وجلست على الرصيف بجانبه. تزحزح "دون هوانج" بجسده قليلاً مُفْسِحاً لها المكان. سألته الفتاة:
هل معك المزيد من السجائر؟
نظر إليها "دون هوانج" مُتعجباً ثم أعطاها علبة السجائر والولاعة. قالت الفتاة:
سجائر "تشونج نان هاي" ذات مذاق جيد.
هَزَّ "دون هوانج" رأسه مُوَافقاً على كلامها.
لدى"دون هوانج" الكثير من الخبرات في التعامل مع الغرباء، ولكنها كلها معاملات تجارية من أجل المال فحسب، لذا شَعَرَ بالغموض حيال تلك الفتاة. استغرق في الصمت لبرهة، لكنه يعرف أنه لا يوجد ما يثير القلق، وليس لديه ما يخسره، فقد خرج حالاً من السجن. شَعَرَ بالاسترخاء ثم سأل الفتاة:
كيف حال تجارتِك؟
أجابته:
ليست على ما يرام؛ الجو عاصف، وأولئك المتسكعون جميعهم مختبئون في بيوتهم، ولا أحد يشترى الأسطوانات سوى المتسكعين.
قال لها:
يبدو أنك على دراية بأحوال هذه المهنة.
هو يعرف جيداً أن أمثالها من الباعة الجائلين يعتمدون في تجارتهم بالدرجة الأولى على الطقس؛ ففي حال هبوب العواصف أو سقوط الأمطار لا يوجد أحد يهتم بشراء مثل تلك الأشياء.
بدا من طريقة تدخينها أنها معتادة على التدخين. استمرا جالسين بينما الليل يحل ويختفي المارة من الشوارع شيئاً فشيئاً. سَمِعَ صوت أحدهم داخل محل البقالة المجاور يقول:
- هيا نغلق المحل، لن يخرج أحد للشراء في هذا الجو العاصف.
تبعه صوت إغلاق الباب الحديدي المنزلق مُرتطماً بالأرض الإسمنتية. قال "دون هوانج".
جو عاصف، يا لها من مبالغة.
كان حريصاً على أن يتجنب النظر إلى الفتاة، ولم يكن يعرف ماذا يقول لها. لم يكن مُعْتَاداً على الحديث مع فتاة لا يعرفها. كان أمراً مُحْرجاً بالنسبة له، ولذلك فَكَّرَ في المغادرة. قاطع صوت الفتاة تفكيره:
ماذا تعمل؟
أجابها:
في اعتقادك ما هو عملي؟
سألته:
هل أنت طالب؟ ربما ..
أجابها:
أنا بدون عمل، فقط شخص متشرد بلا مأوى.
شَعَرَ "دون هوانج" حينها أن الصدق سهل كالكذب تماماً.
قالت الفتاة:
أنت تمزح.
ثم استطردت قائلة:
على أي حال، متشرد بلا مأوى ليس بالأمر السيء، ما رأيك أن نذهب للشراب، على حسابي؟
ابتسم "دون هوانج" قائلاً في نفسه، "ها أنتِ أفصحتِ عن هُويتك الحقيقية، يا لكِ من قَوَّادَة".
في الحقيقة لم يكن "دون هوانج" ممن يترددون على أماكن البغاء، ولكن "باو دينج" و"سان وان" الأعرج كانا دائما التردد على تلك الأماكن. وكان قد سمع منهما الكثير من القصص حول خدع الفتيات للإيقاع بالزبائن. ولكن كيف لفتاة كهذه أن تُمَارِس مثل هذا العمل؟ شَعَرَ "دون هوانج" بالحيرة حيال هذا الأمر، ولكنه فَكَّرَ قليلاً "قرأتُ في الجرائد أن معظم من يقمن بهذه الأعمال طالبات بالجامعة". طالبات بالجامعة! يا له من شرف أن يكون الشخص طالباً جامعياً. ولكنهم يخونون هذا الشرف. تَذَكَّرَ السيدات اللاتي يحملن أطفالاً صغاراً، ثم فَكَّرَ في قرارة نفسه "أنا كالعجل المذبوح.. فلماذا أخاف من السلخ؟"، استجمع شجاعته ثم قال:
- وهو كذلك.. هيا بنا ولكن على حسابي أنا، وعليكِ أن تختاري المكان فأنا غريب عن هنا.
دائمًا ما يميل الأدب الصيني المنشور في الولايات المتحدة الأميركية إلى التركيز على السياسة – والتفكير في الثورة الثقافية وفكرة الانشقاق – ولكن هناك عالما مختلفا تمامًا من الكتابة: أدب المهمشين، الذي يتعامل مع واقع صعب يعيشه الملايين من سكان المدينة الذين يصارعون من أجل الخروج من الحالة الاقتصادية الكئيبة التي يعيشونها.
تدور "بكين.. بكين" للروائي الصيني شيو تسي تشين (المولود عام 1978 ويعتبر من الكتاب الشباب البارزيين في الصين) في العاصمة بكين حول "دون هوانج"، الذي خرج من السجن لتوه بعد أن دخله بتهمة بيع بطاقات هوية مزورة، لا يملك في جيبه سوى القليل من المال الذي يكفيه لكي يأكل وجبتي طعام فقط. ليس لديه مكان ليسكن فيه وليس لديه أية فكرة عن الطريقة التي سوف يجني من ورائها المال. وعندما يصادف امرأة جميلة تبيع أسطوانات الأفلام المقلَّدة، يجد نفسه في حالة رومانسية غير متوقعة، وفي تجارة جديدة لم يجربها من قبل. ولكن عندما يظهر في الأفق صديق لتلك المرأة، يُجْبَر "دون هوانج" على اتخاذ قرارات صعبة.
"بكين.. بكين" صدرت في طبعتها الأصلية عام 2006 وحصلت على جوائز وتم ترجمتها إلى أكثر من لغة منها الإنكليزية والفرنسية والآن صدرت بالعربية عن دار العربي للنشر بترجمة يحيي مختار، وهي رواية تكتشف العالم السفلي للمدينة الحديثة: العالم الملئ بالسرقة، الاحتيال، الجنس، الرشوة، الخمور، ورجال الشرطة "الحقيقيين والمزيفين". وتجتاحها عواصف الرمال الجافة التي تغطي أكبر مدن العالم.
تلك الرواية تتبع بطلًا على "عجلة" دائمًا، فقط ليكون متقدمًا بخطوة واحدة عن الجميع. رواية مرسومة بحرفية، وشخصياتها حقيقية.
شيو تسي تشين يترأس تحرير مجلة "الأدب الصيني" التي تصدر بعدة لغات. وقد كتب العديد من الروايات، من أهمها: "ماذا لو أغلق الجليد الباب" الحائزة على جائزة "لو شون" للقصة القصيرة في دورتها السادسة. و"باب منتصف الليل" التي فازت بجائزة نشر الأدب الصيني، بالإضافة إلى روايتي: "قطار الليل"، و"جنة على الأرض"، ومجموعة من القصص القصيرة تحت عنوان "كيف يطير الإوز إلى السماء". أما أحدث رواياته فهي "القدس" التي نشرتها دار "بكين أكتوبر للفنون والآداب"، وحصلت على جائزة أدب الربيع في دورتها الرابعة.
من أجواء الرواية:
حدث ذلك قبل ثلاثة أشهر. الجو كان بارداً، والجميع يستعد لاستقبال عيد رأس السنة الصينية. واليوم، هو خرج من السجن ولا يزال "باو دينج" محبوساً. لا يعرف ما إذا كان الجرح الذي أصاب الذراع الأيسر ل "باو دينج" أثناء المطاردة قد التأم أم لا.
حَوَّلَ "دون هوانج" وجهته نحو شارع آخر، ومنه إلى شارع ثالث، كانت العاصفة الرملية مُحَمَّلة بالتراب، احتمى منها أسفل أحد المباني، بينما انتشر الظلام. نَفَضَ الغبار عن ملابسه. فجأةً شاهد فتاة تحمل على ظهرها حقيبة كالتي يحملها، وتتجه نحوه قائلة:
- هل تريد شراء أسطوانات الأفلام يا سيدي؟
ثم أخرجت من حقيبتها أسطوانة مدمجة وتابعت قائلة:
- لدي جميع أنواع الأفلام؛ أفلام هوليوود، أفلام يابانية، أفلام كورية، أفلام محلية شهيرة، وأيضاً أفلام كلاسيكية قديمة، وأخرى حاصلة على جوائز الأوسكار.
ثم أخرجت إحدى الأسطوانات من غلافها الملوَّن ووضعتها أمام عينيه. شَعَرَ "دون هوانج" بدفءٍ غريب وهو ينظر إلى ألوان تلك الأسطوانات تحت ضوء الشارع الخافت. لكنه يعرف أن هذه الأسطوانات تحوي أفلاماً بريئة تماماً مثل وجه تلك الفتاة الذي صار جافاً من شدة الرياح. بدت الفتاة كأنها تشعر بالبرد؛ لأن نبرات صوتها كانت مُتَقَطِّعة كشخصٍ يكتم بكاءه. بدت له فتاة طيبة. لم يستطع أن يُخَمِّن عمرها، ربما كانت في الرابعة والعشرين أو الخامسة والعشرين، السابعة والعشرين أو الثامنة والعشرين. ولكن المؤكد أنها لم تتجاوز الثلاثين. فاللاتي تجاوزن الثلاثين غالباً ما يحملن طفلاً صغيراً ويعترضن المارة قائلين: "هل تريد أسطوانات؟ يوجد أفلام إباحية عالية الجودة"، ثم يُخْرِجن الأسطوانات من جيوب خفية داخل ملابسهن. أجابها "دون هوانج":
ليس عندي مكان أشاهد فيه هذه الأفلام.
ثم مَالَ بجسده للخلف مُلتصقاً بالجدار. قالت الفتاة:
- يمكن تشغيل هذه الأقراص على مُشَغِّل الأسطوانات والكمبيوتر أيضاً. سأبيعها لك بسعر رخيص؛ فقط ستة يوانات للأسطوانة الواحدة.
ألقى "دون هوانج" حقيبته على الأرض، وهَمَّ بالجلوس ليستريح قليلاً. اعتقدت الفتاة أنه يريد انتقاء بعض الأسطوانات لكي يشتريها؛ لذلك جلست هي الأخرى، وأخرجت كومةً من الأسطوانات من حقيبتها ووضعتها أمامه بحركاتٍ سريعةٍ، قائلةً:
- كُلّها بحالةٍ جيدة، جودة لا مثيل لها.
شَعَرَ بالخجل أمام إصرار الفتاة؛ فقال:
وهو كذلك، أعطني واحدة.
شكرته الفتاة؛ وأردفت:
أي واحدة تريد؟
أجابها:
كما تشائين، المهم ألا يكون فيلماً مُمِلاً.
نظرت إليه الفتاة قائلة:
إذا كنت لا تريد أن تشتري.. فليس هناك مشكلة.
أجابها:
ومن قال إني لا أريد أن أشتري؟ اعطني اثنتين؛ لا بل اعطني ثلاثا.
وحتى لا تشعر الفتاه بالريبة، قام "دون هوانج" بانتقاء ثلاث أسطوانات؛ "سارق الدراجة"، و"سينما باراديسو الجديدة"، و"عنوان مجهول". قالت الفتاة بصوتٍ يُخَالِطه التعجب:
- لم أتخيل أنك من هواة الأفلام؛ فهذه الثلاثة من الكلاسيكيات الرائعة.
أجابها:
لستُ من هواة الأفلام؛ بل أشاهدها أحياناً لكسر الملل.
حقيقة الأمر أنه بالفعل ليس من هواة الأفلام. لقد شاهد قبل ذلك فيلم "سارق الدراجة". أمَّا "سينما باراديسو الجديدة"؛ فإنه سمع بعض الطلبة الجامعيين يتحدثون عنه داخل الأتوبيس. واختار فيلم "عنوان مجهول" بسبب غموض الاسم.
بعد أن اشترى الأسطوانات، جلس على الرصيف وتطلع عبر الشارع إلى لافتة بأضواء النيون على أحد المباني؛ مكتوب عليها "أكاديمية هاي ديان للشطرنج". شاهد الاسم من قبل مرات عديدة. أخرج سيجارة من جيبه ثم أشعلها ونفث الدخان تجاه لافتة النيون المضيئة.
جمعت الفتاة أسطواناتها داخل الحقيبة وهَمَّتْ بالمغادرة ثم نظرت إليه قائلة:
ألن تغادر؟
أجابها قائلًا:
اذهبي أنتِ، سأجلس هنا لأستريح قليلاً.
شَعَرَ "دون هوانج" أنه لا داعي لأن يُخبر شخصاً لا يعرفه بأنه ليس لديه مأوى يذهب إليه.
سارت الفتاة بضع خطوات مُغَادِرة المكان ثم ما لبثت أن رجعت مرةً أخرى، وجلست على الرصيف بجانبه. تزحزح "دون هوانج" بجسده قليلاً مُفْسِحاً لها المكان. سألته الفتاة:
هل معك المزيد من السجائر؟
نظر إليها "دون هوانج" مُتعجباً ثم أعطاها علبة السجائر والولاعة. قالت الفتاة:
سجائر "تشونج نان هاي" ذات مذاق جيد.
هَزَّ "دون هوانج" رأسه مُوَافقاً على كلامها.
لدى"دون هوانج" الكثير من الخبرات في التعامل مع الغرباء، ولكنها كلها معاملات تجارية من أجل المال فحسب، لذا شَعَرَ بالغموض حيال تلك الفتاة. استغرق في الصمت لبرهة، لكنه يعرف أنه لا يوجد ما يثير القلق، وليس لديه ما يخسره، فقد خرج حالاً من السجن. شَعَرَ بالاسترخاء ثم سأل الفتاة:
كيف حال تجارتِك؟
أجابته:
ليست على ما يرام؛ الجو عاصف، وأولئك المتسكعون جميعهم مختبئون في بيوتهم، ولا أحد يشترى الأسطوانات سوى المتسكعين.
قال لها:
يبدو أنك على دراية بأحوال هذه المهنة.
هو يعرف جيداً أن أمثالها من الباعة الجائلين يعتمدون في تجارتهم بالدرجة الأولى على الطقس؛ ففي حال هبوب العواصف أو سقوط الأمطار لا يوجد أحد يهتم بشراء مثل تلك الأشياء.
بدا من طريقة تدخينها أنها معتادة على التدخين. استمرا جالسين بينما الليل يحل ويختفي المارة من الشوارع شيئاً فشيئاً. سَمِعَ صوت أحدهم داخل محل البقالة المجاور يقول:
- هيا نغلق المحل، لن يخرج أحد للشراء في هذا الجو العاصف.
تبعه صوت إغلاق الباب الحديدي المنزلق مُرتطماً بالأرض الإسمنتية. قال "دون هوانج".
جو عاصف، يا لها من مبالغة.
كان حريصاً على أن يتجنب النظر إلى الفتاة، ولم يكن يعرف ماذا يقول لها. لم يكن مُعْتَاداً على الحديث مع فتاة لا يعرفها. كان أمراً مُحْرجاً بالنسبة له، ولذلك فَكَّرَ في المغادرة. قاطع صوت الفتاة تفكيره:
ماذا تعمل؟
أجابها:
في اعتقادك ما هو عملي؟
سألته:
هل أنت طالب؟ ربما ..
أجابها:
أنا بدون عمل، فقط شخص متشرد بلا مأوى.
شَعَرَ "دون هوانج" حينها أن الصدق سهل كالكذب تماماً.
قالت الفتاة:
أنت تمزح.
ثم استطردت قائلة:
على أي حال، متشرد بلا مأوى ليس بالأمر السيء، ما رأيك أن نذهب للشراب، على حسابي؟
ابتسم "دون هوانج" قائلاً في نفسه، "ها أنتِ أفصحتِ عن هُويتك الحقيقية، يا لكِ من قَوَّادَة".
في الحقيقة لم يكن "دون هوانج" ممن يترددون على أماكن البغاء، ولكن "باو دينج" و"سان وان" الأعرج كانا دائما التردد على تلك الأماكن. وكان قد سمع منهما الكثير من القصص حول خدع الفتيات للإيقاع بالزبائن. ولكن كيف لفتاة كهذه أن تُمَارِس مثل هذا العمل؟ شَعَرَ "دون هوانج" بالحيرة حيال هذا الأمر، ولكنه فَكَّرَ قليلاً "قرأتُ في الجرائد أن معظم من يقمن بهذه الأعمال طالبات بالجامعة". طالبات بالجامعة! يا له من شرف أن يكون الشخص طالباً جامعياً. ولكنهم يخونون هذا الشرف. تَذَكَّرَ السيدات اللاتي يحملن أطفالاً صغاراً، ثم فَكَّرَ في قرارة نفسه "أنا كالعجل المذبوح.. فلماذا أخاف من السلخ؟"، استجمع شجاعته ثم قال:
- وهو كذلك.. هيا بنا ولكن على حسابي أنا، وعليكِ أن تختاري المكان فأنا غريب عن هنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.