عميد تجارة القاهرة الأسبق: الجامعات الحكومية ما زالت الأفضل    ممنوع حيازة أو تخزين الذهب.. قرارات نارية من لجنة الطوارئ الاقتصادية بالسودان والشعبة ترد    ترامب: قد أدعو بوتين لحضور كأس العالم 2026 في الولايات المتحدة    ليس بطلًا.. بل «مجرم حرب»    كندا تتراجع عن الرسوم الجمركية العقابية على السلع الأمريكية    ترامب: الوضع الراهن في غزة يجب أن ينتهي    بوين يقود هجوم وست هام ضد تشيلسي في الدوري الإنجليزي الممتاز    مسرح UArena يستعد لاستقبال حفل ويجز بعد قليل فى مهرجان العلمين    إسلام عفيفى يكتب: الصفقات المرفوضة وتحالفات الضرورة    سِباق مع الزمن    ثورة جديدة بتطوير المناهج «2»    تفاصيل مران الزمالك استعدادًا لمواجهة فاركو.. تدريبات استشفائية للأساسين    مدرب توتنهام: لا مكان لمن لا يريد ارتداء شعارنا    التعادل السلبي يحسم مباراة السكة الحديد مع الترسانة في دوري المحترفين    خسارة سيدات الطائرة أمام صاحب الأرض ببطولة العالم بتايلاند    كرة طائرة - منتخب مصر يخسر أمام تايلاند في افتتاح بطولة العالم سيدات    غلق 3 منشآت غذائية في حملة للطب الوقائي بكفر الشيخ (صور)    خسائر فادحة.. حريق هائل يلتهم مخازن أخشاب بالإسماعيلية والحماية المدنية تحاول السيطرة    رواية مختلقة.. وزارة الداخلية تكشف حقيقة تعدي شخص على جارته    موقف بطولي على قضبان السكة الحديد.. إنقاذ شاب من الموت تحت عجلات القطار بمزلقان الغمراوي ببني سويف    الإيجار القديم والبكالوريا والأحزاب.. وزير الشؤون النيابية يوضح مواقف الحكومة    افتتاح كلية البنات فرع جامعة الأزهر فى مطروح    حسام حبيب ينفي عودته ل شيرين عبد الوهاب: "شائعات هقاضي اللي طلعها"    الوادي الجديد تطلق منصة إلكترونية للترويج السياحي والحرف اليدوية    صراع الخير والشر في عرض مدينة الأحلام بالمهرجان الختامي لشرائح ونوادي مسرح الطفل    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    الماتشا تخفض الكوليسترول الضار - حقيقة أم خرافة؟    لغة لا تساوى وزنها علفًا    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    «حماة الوطن» ينظم حلقة نقاشية حول تعديل قانون الرياضة    بعد مداهمة وكر التسول.. حملات مكثفة لغلق فتحات الكباري بالجيزة| صور    محمود فوزي: الحكومة جادة في تطبيق قانون الإيجار القديم وحماية الفئات الضعيفة    المجاعة تهدد نصف مليون في غزة.. كيف يضغط المجتمع الدولي على إسرائيل؟    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    «التنظيم والإدارة» يعلن توقف الامتحانات بمركز تقييم القدرات.. لهذا السبب    نجاح عملية دقيقة لاستئصال ورم بالمخ وقاع الجمجمة بمستشفى العامرية العام بالإسكندرية    عميد طب القصر العيني يتابع جاهزية البنية التحتية استعدادًا لانطلاق العام الدراسي    لمرضى السكري - اعتاد على تناول زبدة الفول السوداني في هذا التوقيت    محافظ مطروح ورئيس جامعة الأزهر يفتتحان كلية البنات الأزهرية بالمحافظة    "درويش" يحقق قفزة كبيرة ويتخطى 20 مليون جنيه في 9 أيام    الكشف الطبى على 276 مريضا من أهالى قرى البنجر فى قافلة مجانية بالإسكندرية    رئيس جهاز القرى السياحية يلتقي البابا تواضروس الثاني بالعلمين (صور)    المقاومة العراقية تطالب بالانسحاب الحقيقي للقوات الأمريكية من العراق    بالأرقام.. الأمن الاقتصادي يضبط آلاف القضايا خلال 24 ساعة    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    بنسبة تخفيض تصل 30%.. افتتاح سوق اليوم الواحد فى مدينة دهب    مصلحة الضرائب تنفي وجود خلاف بين الحكومة وشركات البترول حول ضريبة القيمة المضافة    وزير الثقافة يستقبل وفد الموهوبين ببرنامج «اكتشاف الأبطال» من قرى «حياة كريمة»    وزارة التخطيط ووكالة جايكا تطلقان تقريرا مشتركا حول 70 عاما من الصداقة والثقة المصرية اليابانية    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    الاقتصاد المصرى يتعافى    الداخلية تكشف تفاصيل اقتحام منزل والتعدي على أسرة بالغربية    محافظ أسيوط يسلم جهاز عروسة لابنة إحدى المستفيدات من مشروعات تمكين المرأة    سعر طن الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 22 أغسطس 2025    أزمة وتعدى.. صابر الرباعى يوجه رسالة لأنغام عبر تليفزيون اليوم السابع    نجم الأهلي السابق: أفضل تواجد عبد الله السعيد على مقاعد البدلاء ومشاركته في آخر نصف ساعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ظلال الغربة كما يرسمها الشاعر محمد العامريّ
نشر في صوت البلد يوم 13 - 11 - 2016

الرحلة مع قصيدة محمّد العامري، رحيل بين الكلمة واللون والصوت والحركة. يبدو منذ «الإهداء» في ديوانه الجديد «ممحاة العِطْر» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2016)، الانحياز إلى الطبيعة، رائحة ولوناً وتكوينات. فالإهداء نصّ قصير، لكنّه يختزل الرؤية التي ينطوي عليها الديوان. وحين يكتب الشاعر «أفتح الوردة... فأرى رحيقك»، يكون الشاعر والفنان التشكيلي محمد العامري قد بدأ لعبته الشعرية/ التشكيلية، وهي لعبة قائمة ابتداء في تبادل للحواس، وتمتدّ إلى «أنسنة» لكائنات طبيعة، و «تطبيع» الإنسان ليكون على شاكلتها، من دون الغفلة عن صور الخراب الفاجع المحيطة بالمشهد كله. هنا إضاءات على عمل يتطلّب دراسة موسّعة له ولتجربة العامريّ كلّها.
ينهل العامري من بيئته الطبيعية، قريته (الريف عموماً)، وهو ريف يجمع الفِلاحة والبداوة معاً، ومن عوالمه الفنية التشكيلية ومناخاتها أيضاً، من ألوانه وتكويناته، فتتمازج عوالم الشعر بالفنّ وتتداخل معها، لتمنح النصّ شعريته متعدّدة الأبعاد، صوتاً ولوناً وحركة وملمساً ورائحة. هكذا نجد أنفسنا أمام «لوحة شاعرية التكوين»، أو قصيدة بمواصفات اللوحة حيناً، والجدارية «البانوراميّة» أحياناً. ففي القصيدة الأولى من الديوان، وهي تحمل اسمه «ممحاة العطر»، نقرأ في مطلعها «وأنا ورقٌ/ من سماء الظِّلال»، وفي هذا أبرز تمثيل للثنائية السائدة «شعر/ فنّ» الشائعة في الديوان.
من روح هذه الثنائية، ومن جذورها وفروعها، تتركّز «رؤية» العامري للإنسان وأسئلة حياته، وجوديّاً وهموماً معيشية، فتنطلق مشهدية الصورة اللغوية الناطقة، وتتشعّب هذه المشهدية وتتفرّع، لنقف على ثنائيات عدّة، أساسها ثنائية الوجود الكبرى، الحياة/ الموت، وفروعها تمتدّ إلى اليومي/ الواقعي، لكن بقدر من «التجريد» لا يلغي واقعيّته، نقرأ «كأنّي الرّحى وهي تطحن أحلامَنا/ لنقدّم قُربانَها المُشتهى/ ونعودَ إلى خضرة الأرض كسلى/ كمن يترنّح في غبطة الخمر.../ كيف سأمحو سفرجلةً سقطت في كتاب».
ثمّة في الديوان تكرار لمفردات بعينها، وصور بذاتها، تكرار يكرّس حالات ومناخات متشابهة، بعناوين مختلفة، ويكثر الشاعر من صور الحياة اليوميّة، في مقابل العبث الوجوديّ، بل في قلب هذا العيش العبثيّ، عبر استعارات تستدعي السرياليّ والمدهش الذي يتولّد من أبسط العناصر. فيبدو الإنسان، شخص القصيدة، في حالة تساؤل وتشكيك واستهجان «كأنّا خُلقنا على عجلٍ/ من نُعاس الطبيعة/ نايُنا حجرٌ/ ودروب رعاةٍ تنام على كتف الليل...»، وانتقال إلى العالم الواقعيّ و»جماليّاته» المألوفة، لكن عبر التخييل والهندسة الشعرية حيث يوغل الشاعر في تصوير محيطه وبيئته، في الإنسان والجماد «رُجُمٌ وأعالٍ مطرّزةٌ بالصّقور/.../ سُندسٌ ونمارقُ مكسوّةٌ بثُغاء البهائم.../ زرابيُّ مسنودةٌ كالذّبائح».
ويمتلك الشاعر القدرة على توظيف «الثقافة» في صورها، والموروث في أشكاله، وفي صيغ عدّة، حيث يستعير من لغة القرآن ومفرداته، ومن الثقافة البصرية التي تستحيل هنا صوراً ولوحات ومشاهد. وكذا هي الحال مع الموروث المتمثل في كلّ ما يقع البصر عليه، بل ما تتعرض الحواس كلّها له. هنا نقرأ في عبارات قصيرة ومكثفة الرائحة واللون والصوت والملمس والذائقة «ولي من روائح شالك شيحٌ/ ونعناعةٌ ذبُلت في السراج/ ولي حجر رقّشته الرياح بفضّتها»، أو «غائب في تراب الهشير/ كفزّاعة تركت حقلها في الغياب»، وهذه الصور من قاموس غنيّ بالتفاصيل والأسماء «وكنّا نربّي الظلالَ/ على حجرٍ في حديقة/ على درج البيت/ ونرمي بأحلامنا في فراغ النقط/ هشير الوداع/ الموت في العشب/ نعد البلاد غيمة غيمة/ نزرع الحلم في حجر الشعر/ رمّانة فرطت ضَوءها في الستائر/ ظلا تردّى بجُود الرُّعاة/ نهر يمشّط أحلامه بالهشير...».
ومثلما تحضر المفردة تعبيراً عن بيئة ومناخ بملامح محددة، يحضر الكثير من «العلامات والرموز» التي تحيل على «هوية» الشخص وكينونته، إنها خطوط في اليدين «خطوط يديها ترانيمُ وَجْدٍ»، فهي هنا قراءة «في كتاب يديكِ» كما يصوّرها العامريّ، لكنّها تذكّرنا بأطلال خولة في معلقة طرفة الشهيرة «لخَولة َ أطْلالٌ بِبُرقَة ِ ثَهمَدِ، تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ»، من دون أن تكون استعارة أو استعادة لها.
وفي نصوص العامريّ، تحضر «القبيلة» بوصفها إطاراً لاندماج الشخص حيناً، أو لتمرّده حيناً آخر. لكننا في كل الأحيان، أمام «واحد من سيوف القبائل»، غير أنه «ظلٌّ تكسّر في النهر»، ضمن سلسلة علاقات اندماج/ تمرّد/ غربة/ واغتراب، وكيف «نركض كالبدو خلف سرابٍ»، أو «نسجّلُ أسماءنا في مداد الظلام»، و»نكتب ظلّنا على جُدُر الوهم»، حيث البوّابة مشرعة «لرحيل الفراشات»، ليضعنا في أجواء «قهوة مرّة في ظلال شرفة باهتة». وكذلك الأمر في ما يتعلّق بالزخارف والتطريز، فهي تأخذنا إلى عالم من العوالم الحميمة للشاعر، الذي يرى نفسه ابن بيئة محددة، له فيها «ضَوءُ هذا المكان/ وأعنابُه وتفاصيلُ غائرة بالزّخارف/ هواجس طين نؤثث فيه البيوت/ الملاءات مرشوقة بالزّخارف/ عائداً كمعادنَ أتخمها الطرْقُ/ ظلال تيبّس فيها الغياب/ سماء مطرّزة بالدُّخان/ سيوف مطرّزة في الجدار».
أو هو يأخذنا إلى معالم حضارية معروفة، كأن يتناول صورة من صور مدينة البتراء وساكنيها، لكن من خلال عودة إلى عوالم الطفولة واللعب «نسوق الظلالَ كخيلٍ خرافية/ ونسوق إناثَ النجومِ إلى قصبٍ وهلالْ»، ثمّ يأخذنا إلى عالم الأنباط، ومعه «نؤوب بصحرائنا/ نرتدي رملها/ أنت مكانٌ بلا ساكن أو نصالْ/ ظلُّ بيت قديمٍ/ جرّة الدمعِ/ نُزهرُ في حجر نبطيّ...». وعلى رغم هذه الجذور التي تشكّل الهويّة، ثمة حضور طاغٍ لثيمة الغربة والغياب والذبول، وهو ما يخلق جماليّة «التضادّ» في المجموعة، وهو التضادّ الماثل في العنوان - عطر وممحاة - كما يمكن أن تقول القراءة المتأنية للكتاب.
الرحلة مع قصيدة محمّد العامري، رحيل بين الكلمة واللون والصوت والحركة. يبدو منذ «الإهداء» في ديوانه الجديد «ممحاة العِطْر» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2016)، الانحياز إلى الطبيعة، رائحة ولوناً وتكوينات. فالإهداء نصّ قصير، لكنّه يختزل الرؤية التي ينطوي عليها الديوان. وحين يكتب الشاعر «أفتح الوردة... فأرى رحيقك»، يكون الشاعر والفنان التشكيلي محمد العامري قد بدأ لعبته الشعرية/ التشكيلية، وهي لعبة قائمة ابتداء في تبادل للحواس، وتمتدّ إلى «أنسنة» لكائنات طبيعة، و «تطبيع» الإنسان ليكون على شاكلتها، من دون الغفلة عن صور الخراب الفاجع المحيطة بالمشهد كله. هنا إضاءات على عمل يتطلّب دراسة موسّعة له ولتجربة العامريّ كلّها.
ينهل العامري من بيئته الطبيعية، قريته (الريف عموماً)، وهو ريف يجمع الفِلاحة والبداوة معاً، ومن عوالمه الفنية التشكيلية ومناخاتها أيضاً، من ألوانه وتكويناته، فتتمازج عوالم الشعر بالفنّ وتتداخل معها، لتمنح النصّ شعريته متعدّدة الأبعاد، صوتاً ولوناً وحركة وملمساً ورائحة. هكذا نجد أنفسنا أمام «لوحة شاعرية التكوين»، أو قصيدة بمواصفات اللوحة حيناً، والجدارية «البانوراميّة» أحياناً. ففي القصيدة الأولى من الديوان، وهي تحمل اسمه «ممحاة العطر»، نقرأ في مطلعها «وأنا ورقٌ/ من سماء الظِّلال»، وفي هذا أبرز تمثيل للثنائية السائدة «شعر/ فنّ» الشائعة في الديوان.
من روح هذه الثنائية، ومن جذورها وفروعها، تتركّز «رؤية» العامري للإنسان وأسئلة حياته، وجوديّاً وهموماً معيشية، فتنطلق مشهدية الصورة اللغوية الناطقة، وتتشعّب هذه المشهدية وتتفرّع، لنقف على ثنائيات عدّة، أساسها ثنائية الوجود الكبرى، الحياة/ الموت، وفروعها تمتدّ إلى اليومي/ الواقعي، لكن بقدر من «التجريد» لا يلغي واقعيّته، نقرأ «كأنّي الرّحى وهي تطحن أحلامَنا/ لنقدّم قُربانَها المُشتهى/ ونعودَ إلى خضرة الأرض كسلى/ كمن يترنّح في غبطة الخمر.../ كيف سأمحو سفرجلةً سقطت في كتاب».
ثمّة في الديوان تكرار لمفردات بعينها، وصور بذاتها، تكرار يكرّس حالات ومناخات متشابهة، بعناوين مختلفة، ويكثر الشاعر من صور الحياة اليوميّة، في مقابل العبث الوجوديّ، بل في قلب هذا العيش العبثيّ، عبر استعارات تستدعي السرياليّ والمدهش الذي يتولّد من أبسط العناصر. فيبدو الإنسان، شخص القصيدة، في حالة تساؤل وتشكيك واستهجان «كأنّا خُلقنا على عجلٍ/ من نُعاس الطبيعة/ نايُنا حجرٌ/ ودروب رعاةٍ تنام على كتف الليل...»، وانتقال إلى العالم الواقعيّ و»جماليّاته» المألوفة، لكن عبر التخييل والهندسة الشعرية حيث يوغل الشاعر في تصوير محيطه وبيئته، في الإنسان والجماد «رُجُمٌ وأعالٍ مطرّزةٌ بالصّقور/.../ سُندسٌ ونمارقُ مكسوّةٌ بثُغاء البهائم.../ زرابيُّ مسنودةٌ كالذّبائح».
ويمتلك الشاعر القدرة على توظيف «الثقافة» في صورها، والموروث في أشكاله، وفي صيغ عدّة، حيث يستعير من لغة القرآن ومفرداته، ومن الثقافة البصرية التي تستحيل هنا صوراً ولوحات ومشاهد. وكذا هي الحال مع الموروث المتمثل في كلّ ما يقع البصر عليه، بل ما تتعرض الحواس كلّها له. هنا نقرأ في عبارات قصيرة ومكثفة الرائحة واللون والصوت والملمس والذائقة «ولي من روائح شالك شيحٌ/ ونعناعةٌ ذبُلت في السراج/ ولي حجر رقّشته الرياح بفضّتها»، أو «غائب في تراب الهشير/ كفزّاعة تركت حقلها في الغياب»، وهذه الصور من قاموس غنيّ بالتفاصيل والأسماء «وكنّا نربّي الظلالَ/ على حجرٍ في حديقة/ على درج البيت/ ونرمي بأحلامنا في فراغ النقط/ هشير الوداع/ الموت في العشب/ نعد البلاد غيمة غيمة/ نزرع الحلم في حجر الشعر/ رمّانة فرطت ضَوءها في الستائر/ ظلا تردّى بجُود الرُّعاة/ نهر يمشّط أحلامه بالهشير...».
ومثلما تحضر المفردة تعبيراً عن بيئة ومناخ بملامح محددة، يحضر الكثير من «العلامات والرموز» التي تحيل على «هوية» الشخص وكينونته، إنها خطوط في اليدين «خطوط يديها ترانيمُ وَجْدٍ»، فهي هنا قراءة «في كتاب يديكِ» كما يصوّرها العامريّ، لكنّها تذكّرنا بأطلال خولة في معلقة طرفة الشهيرة «لخَولة َ أطْلالٌ بِبُرقَة ِ ثَهمَدِ، تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ»، من دون أن تكون استعارة أو استعادة لها.
وفي نصوص العامريّ، تحضر «القبيلة» بوصفها إطاراً لاندماج الشخص حيناً، أو لتمرّده حيناً آخر. لكننا في كل الأحيان، أمام «واحد من سيوف القبائل»، غير أنه «ظلٌّ تكسّر في النهر»، ضمن سلسلة علاقات اندماج/ تمرّد/ غربة/ واغتراب، وكيف «نركض كالبدو خلف سرابٍ»، أو «نسجّلُ أسماءنا في مداد الظلام»، و»نكتب ظلّنا على جُدُر الوهم»، حيث البوّابة مشرعة «لرحيل الفراشات»، ليضعنا في أجواء «قهوة مرّة في ظلال شرفة باهتة». وكذلك الأمر في ما يتعلّق بالزخارف والتطريز، فهي تأخذنا إلى عالم من العوالم الحميمة للشاعر، الذي يرى نفسه ابن بيئة محددة، له فيها «ضَوءُ هذا المكان/ وأعنابُه وتفاصيلُ غائرة بالزّخارف/ هواجس طين نؤثث فيه البيوت/ الملاءات مرشوقة بالزّخارف/ عائداً كمعادنَ أتخمها الطرْقُ/ ظلال تيبّس فيها الغياب/ سماء مطرّزة بالدُّخان/ سيوف مطرّزة في الجدار».
أو هو يأخذنا إلى معالم حضارية معروفة، كأن يتناول صورة من صور مدينة البتراء وساكنيها، لكن من خلال عودة إلى عوالم الطفولة واللعب «نسوق الظلالَ كخيلٍ خرافية/ ونسوق إناثَ النجومِ إلى قصبٍ وهلالْ»، ثمّ يأخذنا إلى عالم الأنباط، ومعه «نؤوب بصحرائنا/ نرتدي رملها/ أنت مكانٌ بلا ساكن أو نصالْ/ ظلُّ بيت قديمٍ/ جرّة الدمعِ/ نُزهرُ في حجر نبطيّ...». وعلى رغم هذه الجذور التي تشكّل الهويّة، ثمة حضور طاغٍ لثيمة الغربة والغياب والذبول، وهو ما يخلق جماليّة «التضادّ» في المجموعة، وهو التضادّ الماثل في العنوان - عطر وممحاة - كما يمكن أن تقول القراءة المتأنية للكتاب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.