وزير الصحة: الدولة ملتزمة بالاستثمار في رأس المال البشري وتعزيز البحث العلمي    مصروفات المدارس الخاصة صداع في رأس أولياء الأمور.. والتعليم تحذر وتحدد نسبة الزيادة    محافظ شمال سيناء يتفقد أعمال تطوير بوابة العريش وبفتتح مقراة الصالحين لتحفيظ القران الكريم (صور)    ارتفاع أسعار العملات الأجنبية في بداية تعاملات اليوم 18سبتمبر 2025    اسعار الفاكهة اليوم الخميس 18 سبتمبر فى سوق العبور للجملة    الرئيس السيسي يُوافق على بروتوكول اتفاق لتجنب الازدواج الضريبي مع الإمارات    المشاط: اتفاقية الشراكة من أجل التنمية تضع أساسًا للتعاون المستدام بين مصر وإسبانيا    ارتفاع تأخيرات القطارات على الوجهين البحري والقبلي    الإقليمي للأغذية والأعلاف يختتم البرنامج التدريبي الصيفي لطلاب الجامعات المصرية    صادرات الصين من المعادن النادرة تسجل أعلى مستوى منذ 2012    لليوم الثاني على التوالي.. انقطاع الإنترنت والاتصالات عن مدينة غزة    وزير الخارجية بالرياض للتشاور والتنسيق حول ملفات التعاون المشترك    بعد قليل.. بدء منتدى رجال الأعمال المصرى الإسبانى بحضور الملك ورئيس الوزراء    ملف إنساني يتجاوز خطوط النار.. تقرير أمريكي يتهم روسيا بتجنيد الأطفال    القناة 12 العبرية: لقاء ويتكوف وديرمر في لندن محاولة أخيرة لإحياء مفاوضات غزة    مودرن سبورت "الجريح" يصطدم بصحوة إنبي في الدوري    نيوكاسل يستضيف برشلونة في دوري أبطال أوروبا    تفاصيل مواد الصف الثالث الثانوي العام 2025 وفق القرار الوزاري الجديد    مواعيد القطارات المكيفة والروسية بين القاهرة والإسكندرية وطرق الحجز    الحالة المرورية اليوم، تباطؤ في حركة سير السيارات بمحاور القاهرة والجيزة    بعد ساعات من هربه.. القبض على قاتل زوجته بمساكن الأمل في ضواحي بورسعيد    مستشفى قنا تستقبل ضحايا مشاجرة دامية داخل قرية الحجيرات    نشرة مرور "الفجر ".. زحام بميادين القاهرة والجيزة    28 سبتمبر محاكمة عاطلين في حيازة أسلحة نارية ومخدرات بعين شمس    بالفيديو.. ناقد فني يكشف عن 6 أفلام مصرية تتألق بمهرجان الجونة 2025    وفاة الإعلامية اللبنانية يمنى شري عن 55 عامًا بعد صراع مع المرض    خواكين فينيكس وخافير بارديم وإيليش يدعمون الحفل الخيرى لدعم فلسطين    تبدأ ب 5500 جنيه.. ليلة موسيقية ساحرة لعمر خيرت في قصر عابدين    الضيقة وبداية الطريق    القائمة الكاملة لأفلام مهرجان الجونة السينمائي 2025 (صور)    حكم تعديل صور المتوفين باستخدام الذكاء الاصطناعي.. دار الإفتاء توضح    «متحدث الصحة»: نقص الكوادر الطبية مشكلة عالمية    قبل بدايته| استشاري مناعة توضح أهم المشروبات الساخنة في الشتاء    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 18سبتمبر2025 في المنيا    شديد الحرارة.. حالة الطقس في الكويت اليوم الخميس 18 سبتمبر 2025    الرئيس السيسي يصدر 3 قرارات جمهورية جديدة.. تعرف عليها    موعد إجازة 6 أكتوبر 2025 للموظفين حسب أجندة العطلات الرسمية للرئاسة    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الخميس 18 سبتمبر 2025    موقف نسائي محرج خلال زيارة دونالد ترامب وزوجته ميلانيا إلى بريطانيا    حظك اليوم وتوقعات الأبراج الخميس 18/9/2025 على الصعيد المهني والعاطفي والصحي    سيميوني: تمت إهانتي طيلة 90 دقيقة.. لكن عليّ أن أتحلى بالهدوء    محمود وفا حكما لمباراة الأهلي وسيراميكا.. وطارق مجدي للفيديو    هنيئًا لقلوب سجدت لربها فجرًا    غزل المحلة يحتج على حكم مباراته أمام المصري: لن نخوض مواجهة حكمها محمود بسيوني    التاريخ يكرر نفسه.. تورام يعيد ما فعله كريسبو منذ 23 عاما ويقود إنتر للتفوق على أياكس    بعد تعرضه لوعكة صحية.. محافظ الإسماعيلية يزور رئيس مركز ومدينة القصاصين الجديدة    جمال شعبان ل إمام عاشور: الأعراض صعبة والاستجابة سريعة.. و«بطل أكل الشارع»    مسلسل حلم أشرف الموسم الثاني.. موعد عرض الحلقة الثانية والقنوات الناقلة    فائدة 100% للمرة الأولى.. أفضل شهادة إدخار بأعلى عائد تراكمي في البنوك اليوم بعد قرار المركزي    صراع شرس لحسم المرشحين والتحالفات| الأحزاب على خط النار استعدادًا ل«سباق البرلمان»    "سندي وأمان أولادي".. أول تعليق من زوجة إمام عاشور بعد إصابته بفيروس A    ب 3 طرق مش هتسود منك.. اكتشفي سر تخزين البامية ل عام كامل    مواقف وطرائف ل"جلال علام" على نايل لايف في رمضان المقبل    الشرع: السلام والتطبيع مع إسرائيل ليسا على الطاولة في الوقت الراهن    حكم مباراة الأهلي وسيراميكا كليوباترا في الدوري المصري    "أصحاحات متخصصة" (1).. "المحبة" سلسلة جديدة في اجتماع الأربعاء    «يورتشيتش» يعلن قائمة بيراميدز لمواجهة زد في دوري نايل    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 17سبتمبر2025 في المنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اللص والكلاب.. رواية الرواية!
نشر في صوت البلد يوم 02 - 09 - 2016

كانت مصر في تلك الفترة تبني «السد العالي». تساءل الناقد رشدي صالح، ماذا لو أن محفوظ كتب ثلاثية جديدة عن هذه التجربة الهائلة؟ إلا أن الروائي، كان مشغولا بحكاية «السفاح» الذي ألقي القبض عليه أثناء سرقة فيلا أم كلثوم في نهاية عام 1959، واعترف في التحقيقات أنه على علاقة حب مع إحدى خادمات أم كلثوم، وأنه دخل الفيلا لرؤيتها لا أكثر، وتمكن من الهرب من سجنه.. لتأتي رواية «اللص والكلاب» لا لتمجيد الثورة، بل للإشارة إلى اللصوص الذين كانوا يستولون على كل شيء.
11 آب/أغسطس 1961: كانت مصر تبني «السدّ العالي». الثورة المصرية تدخل عهدا جديدا بإعلان ما عرف ب «القرارات الاشتراكية». محمد حسنين هيكل أنهى سلسلة مقالاته «أزمة المثقفين»، التي بدأها لطفي الخولي من «معتقله».. دعا هيكل إلى حشد المثقفين في ركاب الثورة، لا شيء معلنا يعكر صفاء «الوحدة المصرية – السورية» (التي ستنهار بعد شهر واحد من هذا التاريخ). بعثة ألمانية تزور مصر لبحث إقامة «محطة ذرية» في وادي حوف، وبشرى للمواطنين بتخصيص 3 ملايين جنيه لتحويل مدينة القناطر الخيرية إلى مدينة سياحية متكاملة، تضم أول مدينة عائمة للملاهي في الشرق. أغنية «بالأحضان» التى غناها عبد الحليم حافظ في عيد الثورة ستتحول إلى فيلم سينمائي قصير، وكذلك أغنيات «ثوار» لأم كلثوم، وأوبريت «الجيل الصاعد» لعبد الوهاب. يوسف شاهين يبدأ الإعداد لفيلمه الجديد «الأرض» عن رواية عبد الرحمن الشرقاوي. «الأهرام» تعلن في صفحتها الأولى بدء نشر «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ. «قصة جديدة طويلة مسلسلة» تنشرها أسبوعيا في ملحقها الأدبي، وبرسومات الفنان عبد المنعم القصاص.
-2-
قبل شهور قليلة، سأل أحد الصحافيين نجيب محفوظ: متى تكتب قصتك المقبلة؟
فأجاب: عندما أُحال على المعاش بإذن الله!
لم يكن محفوظ قد أكمل الخمسين بعد، لكن إجابته الساخرة كانت أشبه بالتقية، حيث فقد وظيفته كرئيس لجهاز الرقابة، بعد أن نشر روايته «أولاد حارتنا» في الأهرام، إثر تعرضه لحملة هجوم شديدة، اضطرته إلى أن يترك منصبه، وينتقل إلى عمل جديد في جهاز السينما التابع لمؤسسة الفنون. ربما اراحه العمل الجديد. خفّف عنه أعباء كثيرة، وتناقضات بين رؤيته للفن «الصادم» الهادف إلى التغيير وعمله في جهاز الرقابة. فضلا عن إحساسه أنه يخضع للمراقبة من قبل السلطة بعد «أولاد حارتنا»، وهي الرواية التي لم تغضب فقط الأزهر، وإنما أغضبت أطرافا عديدين داخل السلطة نفسها!
في تلك الأيام، لم يتوقف محفوظ عن التفكير في «الحل» أو «الخلاص».. كيف يمكن أن يتحقق «مصرع الطغيان.. ومشرق النور والعجائب» كما تمنى في «أولاد حارتنا». في تلك الأيام سأله يحيى حقي: ماذا تقرأ هذه الأيام وما يشغلك؟ فأجأبه: لا شغل ولا تفكير إلا في محمود أمين سليمان.
-3-
كانت مصر تبني السدّ العالي. في تلك الأيام كتب الناقد رشدي صالح في مجلة «الإذاعة» عن «القصة والرواية في زمن الاشتراكية». تساءل في مقالته: «ماذا لو أن كاتبا موهوبا مثل نجيب محفوظ عاش تجربة بناء السد العالي، وعاد إلى القاهرة ليكتب ثلاثية أو رباعية عن هذه التجربة الهائلة التي تتحول فيها الجبال ذات الأعناق الطويلة، إلى كثبان هشة أو مسطحات يغمرها الماء، والتي يبدو من خلالها نهر النيل، وحشا هائلا جامحا، ثم يكون بعد إنشاء السد كائنا ذلولا مستأنسا.. والتي تشتبك أثناءها عواطف آلاف وآلاف من الفلاحين والعمال والمهندسين والمقاولين، والأطفال والنساء الخ.. في ما يشبه عملية نسج خيوط المستقبل، لنتصور أن هذا قد حدث فعلا، ونرى أي شيء تكون النتيجة؟ أغلب الظن أن تكون روايات نجيب محفوظ هذه، في مستوى الآداب الاشتراكية العالمية». الأدب الذي كان يقصده رشدي صالح ويقدم نموذجه، ليسير على هديه نجيب محفوظ هو روايات الكاتب الأميركي هوارد فاست صاحب روايتي «حرب تحرير الزنوج»، «المواطن توم بين»!
-4-
لم يكتب محفوظ ثلاثية جديدة عن السد العالي، كان مشغولا بحكاية «السفاح».. الذي ألقي القبض عليه أثناء سرقة فيلا أم كلثوم في نهاية عام 1959، واعترف في التحقيقات أنه على علاقة حب مع إحدى خادمات أم كلثوم، وأنه دخل الفيلا لرؤيتها لا أكثر، وتمكن من الهرب من سجنه. في مارس عام 1960 نشرت جريدة «الأخبار» في صفحتها الأولى خبرا بعنوان: «سارق فيلا أم كلثوم تحول فجأة الى سفاح!». وكان ذلك الخبر بداية لقصة أكثر اثارة، توالت فصولها خلال الشهور التالية، وأصبح الموضوع المفضل للصحافة المصرية. كانت الصحف تتتبع خطوات اللص محمود أمين سليمان، تفتش في تفاصيل حياته وعلاقاته، وتاريخه، وعائلته.. وزواجه الفاشل.. أصبح لقبه الذي اشتهر به هو «السفاح».. لم يعد لصا يسرق بيوت المشاهير وإنما قاتل أيضا.. قاتل بحثا عن العدالة كما قال. تحول اللص حسب جريدة المساء: «في خيال بعض الناس إلى أسطورة شعبية.. إلى نوع من أبو زيد الهلالي وعنتر بن شداد.. ولكن ذلك لم يكن اعجابا «بمضمون جرائمه وإنما بشكلها»، بذكائه الخارق وجرأته المذهلة وقدرته العجيبة على التصرف في أدق المواقف وأكثرها صعوبة وحرصا».
الشاعر أحمد فؤاد نجم خصص فصلا في مذكراته «الفاجومي» عن سليمان، حيث التقيا في السجن، وبعد هروبه: «كنّا نتابع أخباره بإعجاب وحماس وكأننا في ملعب كوره، حتى السجان ما كانوش بيقدروا يخفوا اعجابهم وتعاطفهم مع محمود في غيبة الضباط.. مرة سألت الشاويش عبد الغفار (أقسى سجان قابلته في مصلحة السجون): انت صحيح يا عم عبد الغفار كنت بتدعي للسفاح إمبارح في صلاة العصر؟ قال لي: إنت يا واد بتهددني.. أيوه كنت بادعي له وحافضل ادعي له .. ماله محمود؟ دا واد حنين وجدع.. وربنا بحق جاه النبي يخبيه من ولاد الكلب الظلمه دول.. وينصره عليهم. وضحك أحمد فوزي حرامي القطط اللي في الشنط الحريمي وقال لعبد الغفار: يعني لو ربنا نصر محمود عليهم.. الحرامية حيحكموا مصر يا عم عبد الغفار؟ ولأول مرة أشوف عبد الغفار بيضحك وهو بيقول: (ما هم حاكمينها يا حمار)!.
قصص صحافية مثيرة يوميا بعضها حقيقي والكثير منها مجرد شائعات، أو للدعاية الإعلامية لأصحابها، كرسائل تهديد لمريم فخر الدين أو تحية كاريوكا، وكانت أغرب الشائعات أنه عرض على جمال عبد الناصر في مكالمة تلفونية إحضار رقبة الرئيس العراقي «عبد الكريم قاسم»، الذي كان وقتها على خلاف كبير ومحتدم مع ناصر.
في 6 نيسان/إبريل 1960 انتهت أسطورة السفاح، أوقف سيارة، شك فيه السائق ومع أقرب كمين مروري تظاهر السائق أنه سيعطي الضابط رخصة القيادة وأخبر عسكري أن السفاح معه في السيارة، لكن سليمان أسرع بالهرب بالسيارة بعد أن أطلق النار على العسكري وقتله.. بعد ساعات وجدت الشرطة السيارة وفيها ملابسه التي شمتها الكلاب التي قادت قوات الشرطة إلى مغارة بحلوان حيث اختبأ بداخلها. لتبدأ الشرطة في محاصرته، طلب في البداية أن يسلم نفسه بشرط أن يأتي له البوليس بزوجته سبب مآساته.. ثم طلب بعد ذلك أن يأتوا له بالكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل، طلب أيضا أن يأتوا له بورق أبيض لأنه يريد أن يكتب مذكراته... أكثر من ساعة ونصف في حوار مع رجال الشرطة، لكن الحوار لم يستمر، فقد بدأت الشرطة مهاجمة المغارة التي كان يختبئ فيها.. ويموت الذي شغل مصر لشهور.
الغريب أن الشرطة فتشت آخر شقة أقام فيها اللص في شارع محمد علي، لتجد رسالة موجهة إلى هيكل، ونشر نصها في الصفحة الأولى من الأهرام، طلب اللص منه أن تنشر له «الأهرام» سيرته الذاتية، في حلقات، بل كتب اللص عناوين الحلقات: «محمود أمين يتكلم بعد صمت ويخص الأهرام بهذه الرسالة»، وشرح لهيكل بإسلوب روائي دوافعه للسرقة، وغضبه من المجتمع الظالم.. والغريب أن عبارات «الحكمة» تسربت إلى مذكرات اللص. كتب: «إذا أظلمت الحياة أمامك اسخط على المجتمع لأنه المسؤول، ودع الرحمة جانبا»، أو «الرحمة فوق العدل والقوة فوق العدل».
في يوم مقتل سليمان، كان جمال عبد الناصر في باكستان، وصدرت جريدة «الأخبار» بعنوان عريض «مقتل السفاح»، وتحت هذا العنوان عنوان آخر: «عبد الناصر في باكستان» بدون وجود تمييز بين الخبرين وظهرا وكأنهما مانشيت واحد. وقيل إن هذا العنوان كان سببا مباشرا لتأميم الصحافة بعد أيام قليلة. انتهت قصة السفاح صحافيا، وعلى البعد كان هناك «عقل» يتتبع، ويربط الحوادث والدوافع.. ويتابع الرسائل.. وينشغل بها.. نجيب محفوظ الذي بدأ على الفور في كتابة حكاية الكلاب.. لا حكاية «اللص»، لأن «أكثرية شعبنا لا تخاف اللصوص ولا تكرههم.. ولكنهم بالفطرة يكرهون الكلاب».. كما قال سعيد مهران لنور في رواية محفوظ!
-5-
في سن العاشرة أغرم نجيب محفوظ بالروايات البوليسية، وكثير منها كان مترجما إلى العربية. في طفولته وصباه انشغل بالأسئلة عن هذا العالم حولنا: ما الذي يحدث فيه؟ ما الدور الذي يمكن أن يلعبه فيه؟. وجد الإجابة: «لم تهدني غريزتي أيامها إلا الى الروايات البوليسية. شيء غريب لماذا نميل إلى الضحك على هذه الفترة من حياتنا؟ حيث يتخيل الإنسان نفسه في أحد وضعين: إما متحديا للقانون وإما مدافعا عنه، ولا وسط بين الموقفين؟ إن البطل هو حلم الصغار.. لا يحس أحد بروعة البطولة وقدسيتها مثل الصغار. وأنا صغير كنت أتمنى أن أكون بطلا.. أما الآن فأمنيتي أن أكتب بطلا على الورق.. وهذه هي بطولتي المتواضعة». كانت «اللص والكلاب» هي روايته البوليسية التي يبحث فيها عن البطولة. كما كان نموذجا معبرا عنه: «أنا سعيد مهران».. هكذا يعترف نجيب محفوظ في حواره مع مجلة «باريس ريفيو» ترجمة أحمد شافعي. أوضح محفوظ أن القصة مأخوذة من شخصية لص روَّع القاهرة لفترة. كان اسمه محمود سليمان، وأضاف: «كنت في ذلك الوقت أعاني من إحساس ضاغط ومستمر بأنني مطارد، وكنت على قناعة بأن حياتنا في ظلّ النظام البوليسي في تلك المرحلة كانت بلا معنى. وهكذا حينما كتبت القصة، كتبت معها قصتي أنا. وإذا بقصة جريمة بسيطة تصبح تأملا فلسفيا! فقد حمَّلت شخصية الرواية الرئيسية «سعيد مهران» كل حيرتي، وهواجسي. جعلته يمر بتجربة البحث عن إجابات لدى الشيخ، ولدى «الساقطة»، ولدى المثالي الذي خان أفكاره من أجل المال والشهرة. وهكذا ترى أن الكاتب ليس مجرد صحافي. فهو يضفر مع القصة شكوكه، وأسئلته، وقيمه. هذا هو الفن».
-6-
كانت «اللص والكلاب» هي أول روايات نجيب محفوظ أو «رصاصاته» ضد أخطاء ثورة تموز/يوليو، كتبها مباشرة بلا رمز أو تورية كما فعل في «أولاد حارتنا» التي أراد أن يوجهها كرسالة لضباط يوليو: أمامكم طريقان: اما أن تكونوا «فتوات» أو «أنبياء».. في «اللص والكلاب» كان واضحا أنهم اختاروا طريق الفتوات.. ومن هنا كان بحثه عن الخلاص الفردي. في الرواية وسع محفوظ من أفق الشخصيات لتعبر عن الشوق والتوق الإنساني للعدالة. لم يعد سعيد مهران هو ذلك اللص او السفاح.. وإنما شخص آخر على يد نجيب محفوظ.. رمز ربما، تماما كما أصبح رؤوف علوان رمزا للانتهازية داخل الرواية، الباحث فقط عن مصلحته الشخصية. عندما صدرت الرواية، أثارت جدلا نقديا كبيرا، وتحير النقاد والمراقبون في تصنيفها، اعتبرها لويس عوض «قصة كلاسيكية القالب رومانسية المضمون»، فيما نسبها آخرون إلى الاتجاه الوجودي، فأزمة سعيد مهران وجودية من وجهة نظر أنور المعداوي، وغالي شكري وإبراهيم فتحي. ولكن الجميع اعتبروا الرواية غير منفصلة عن «أولاد حارتنا»، بل هي قصة واحد من أبناء الحارة باحثا عن العدالة، أو الفتونة الفردية.. ولكن بدون بديل آخر... فيفشل. أي أعمال محفوظ التي تلت «أولاد حارتنا» لم تكن سوى حكايات أخرى عن الحارة وأولادها!
كانت مصر في تلك الفترة تبني «السد العالي». تساءل الناقد رشدي صالح، ماذا لو أن محفوظ كتب ثلاثية جديدة عن هذه التجربة الهائلة؟ إلا أن الروائي، كان مشغولا بحكاية «السفاح» الذي ألقي القبض عليه أثناء سرقة فيلا أم كلثوم في نهاية عام 1959، واعترف في التحقيقات أنه على علاقة حب مع إحدى خادمات أم كلثوم، وأنه دخل الفيلا لرؤيتها لا أكثر، وتمكن من الهرب من سجنه.. لتأتي رواية «اللص والكلاب» لا لتمجيد الثورة، بل للإشارة إلى اللصوص الذين كانوا يستولون على كل شيء.
11 آب/أغسطس 1961: كانت مصر تبني «السدّ العالي». الثورة المصرية تدخل عهدا جديدا بإعلان ما عرف ب «القرارات الاشتراكية». محمد حسنين هيكل أنهى سلسلة مقالاته «أزمة المثقفين»، التي بدأها لطفي الخولي من «معتقله».. دعا هيكل إلى حشد المثقفين في ركاب الثورة، لا شيء معلنا يعكر صفاء «الوحدة المصرية – السورية» (التي ستنهار بعد شهر واحد من هذا التاريخ). بعثة ألمانية تزور مصر لبحث إقامة «محطة ذرية» في وادي حوف، وبشرى للمواطنين بتخصيص 3 ملايين جنيه لتحويل مدينة القناطر الخيرية إلى مدينة سياحية متكاملة، تضم أول مدينة عائمة للملاهي في الشرق. أغنية «بالأحضان» التى غناها عبد الحليم حافظ في عيد الثورة ستتحول إلى فيلم سينمائي قصير، وكذلك أغنيات «ثوار» لأم كلثوم، وأوبريت «الجيل الصاعد» لعبد الوهاب. يوسف شاهين يبدأ الإعداد لفيلمه الجديد «الأرض» عن رواية عبد الرحمن الشرقاوي. «الأهرام» تعلن في صفحتها الأولى بدء نشر «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ. «قصة جديدة طويلة مسلسلة» تنشرها أسبوعيا في ملحقها الأدبي، وبرسومات الفنان عبد المنعم القصاص.
-2-
قبل شهور قليلة، سأل أحد الصحافيين نجيب محفوظ: متى تكتب قصتك المقبلة؟
فأجاب: عندما أُحال على المعاش بإذن الله!
لم يكن محفوظ قد أكمل الخمسين بعد، لكن إجابته الساخرة كانت أشبه بالتقية، حيث فقد وظيفته كرئيس لجهاز الرقابة، بعد أن نشر روايته «أولاد حارتنا» في الأهرام، إثر تعرضه لحملة هجوم شديدة، اضطرته إلى أن يترك منصبه، وينتقل إلى عمل جديد في جهاز السينما التابع لمؤسسة الفنون. ربما اراحه العمل الجديد. خفّف عنه أعباء كثيرة، وتناقضات بين رؤيته للفن «الصادم» الهادف إلى التغيير وعمله في جهاز الرقابة. فضلا عن إحساسه أنه يخضع للمراقبة من قبل السلطة بعد «أولاد حارتنا»، وهي الرواية التي لم تغضب فقط الأزهر، وإنما أغضبت أطرافا عديدين داخل السلطة نفسها!
في تلك الأيام، لم يتوقف محفوظ عن التفكير في «الحل» أو «الخلاص».. كيف يمكن أن يتحقق «مصرع الطغيان.. ومشرق النور والعجائب» كما تمنى في «أولاد حارتنا». في تلك الأيام سأله يحيى حقي: ماذا تقرأ هذه الأيام وما يشغلك؟ فأجأبه: لا شغل ولا تفكير إلا في محمود أمين سليمان.
-3-
كانت مصر تبني السدّ العالي. في تلك الأيام كتب الناقد رشدي صالح في مجلة «الإذاعة» عن «القصة والرواية في زمن الاشتراكية». تساءل في مقالته: «ماذا لو أن كاتبا موهوبا مثل نجيب محفوظ عاش تجربة بناء السد العالي، وعاد إلى القاهرة ليكتب ثلاثية أو رباعية عن هذه التجربة الهائلة التي تتحول فيها الجبال ذات الأعناق الطويلة، إلى كثبان هشة أو مسطحات يغمرها الماء، والتي يبدو من خلالها نهر النيل، وحشا هائلا جامحا، ثم يكون بعد إنشاء السد كائنا ذلولا مستأنسا.. والتي تشتبك أثناءها عواطف آلاف وآلاف من الفلاحين والعمال والمهندسين والمقاولين، والأطفال والنساء الخ.. في ما يشبه عملية نسج خيوط المستقبل، لنتصور أن هذا قد حدث فعلا، ونرى أي شيء تكون النتيجة؟ أغلب الظن أن تكون روايات نجيب محفوظ هذه، في مستوى الآداب الاشتراكية العالمية». الأدب الذي كان يقصده رشدي صالح ويقدم نموذجه، ليسير على هديه نجيب محفوظ هو روايات الكاتب الأميركي هوارد فاست صاحب روايتي «حرب تحرير الزنوج»، «المواطن توم بين»!
-4-
لم يكتب محفوظ ثلاثية جديدة عن السد العالي، كان مشغولا بحكاية «السفاح».. الذي ألقي القبض عليه أثناء سرقة فيلا أم كلثوم في نهاية عام 1959، واعترف في التحقيقات أنه على علاقة حب مع إحدى خادمات أم كلثوم، وأنه دخل الفيلا لرؤيتها لا أكثر، وتمكن من الهرب من سجنه. في مارس عام 1960 نشرت جريدة «الأخبار» في صفحتها الأولى خبرا بعنوان: «سارق فيلا أم كلثوم تحول فجأة الى سفاح!». وكان ذلك الخبر بداية لقصة أكثر اثارة، توالت فصولها خلال الشهور التالية، وأصبح الموضوع المفضل للصحافة المصرية. كانت الصحف تتتبع خطوات اللص محمود أمين سليمان، تفتش في تفاصيل حياته وعلاقاته، وتاريخه، وعائلته.. وزواجه الفاشل.. أصبح لقبه الذي اشتهر به هو «السفاح».. لم يعد لصا يسرق بيوت المشاهير وإنما قاتل أيضا.. قاتل بحثا عن العدالة كما قال. تحول اللص حسب جريدة المساء: «في خيال بعض الناس إلى أسطورة شعبية.. إلى نوع من أبو زيد الهلالي وعنتر بن شداد.. ولكن ذلك لم يكن اعجابا «بمضمون جرائمه وإنما بشكلها»، بذكائه الخارق وجرأته المذهلة وقدرته العجيبة على التصرف في أدق المواقف وأكثرها صعوبة وحرصا».
الشاعر أحمد فؤاد نجم خصص فصلا في مذكراته «الفاجومي» عن سليمان، حيث التقيا في السجن، وبعد هروبه: «كنّا نتابع أخباره بإعجاب وحماس وكأننا في ملعب كوره، حتى السجان ما كانوش بيقدروا يخفوا اعجابهم وتعاطفهم مع محمود في غيبة الضباط.. مرة سألت الشاويش عبد الغفار (أقسى سجان قابلته في مصلحة السجون): انت صحيح يا عم عبد الغفار كنت بتدعي للسفاح إمبارح في صلاة العصر؟ قال لي: إنت يا واد بتهددني.. أيوه كنت بادعي له وحافضل ادعي له .. ماله محمود؟ دا واد حنين وجدع.. وربنا بحق جاه النبي يخبيه من ولاد الكلب الظلمه دول.. وينصره عليهم. وضحك أحمد فوزي حرامي القطط اللي في الشنط الحريمي وقال لعبد الغفار: يعني لو ربنا نصر محمود عليهم.. الحرامية حيحكموا مصر يا عم عبد الغفار؟ ولأول مرة أشوف عبد الغفار بيضحك وهو بيقول: (ما هم حاكمينها يا حمار)!.
قصص صحافية مثيرة يوميا بعضها حقيقي والكثير منها مجرد شائعات، أو للدعاية الإعلامية لأصحابها، كرسائل تهديد لمريم فخر الدين أو تحية كاريوكا، وكانت أغرب الشائعات أنه عرض على جمال عبد الناصر في مكالمة تلفونية إحضار رقبة الرئيس العراقي «عبد الكريم قاسم»، الذي كان وقتها على خلاف كبير ومحتدم مع ناصر.
في 6 نيسان/إبريل 1960 انتهت أسطورة السفاح، أوقف سيارة، شك فيه السائق ومع أقرب كمين مروري تظاهر السائق أنه سيعطي الضابط رخصة القيادة وأخبر عسكري أن السفاح معه في السيارة، لكن سليمان أسرع بالهرب بالسيارة بعد أن أطلق النار على العسكري وقتله.. بعد ساعات وجدت الشرطة السيارة وفيها ملابسه التي شمتها الكلاب التي قادت قوات الشرطة إلى مغارة بحلوان حيث اختبأ بداخلها. لتبدأ الشرطة في محاصرته، طلب في البداية أن يسلم نفسه بشرط أن يأتي له البوليس بزوجته سبب مآساته.. ثم طلب بعد ذلك أن يأتوا له بالكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل، طلب أيضا أن يأتوا له بورق أبيض لأنه يريد أن يكتب مذكراته... أكثر من ساعة ونصف في حوار مع رجال الشرطة، لكن الحوار لم يستمر، فقد بدأت الشرطة مهاجمة المغارة التي كان يختبئ فيها.. ويموت الذي شغل مصر لشهور.
الغريب أن الشرطة فتشت آخر شقة أقام فيها اللص في شارع محمد علي، لتجد رسالة موجهة إلى هيكل، ونشر نصها في الصفحة الأولى من الأهرام، طلب اللص منه أن تنشر له «الأهرام» سيرته الذاتية، في حلقات، بل كتب اللص عناوين الحلقات: «محمود أمين يتكلم بعد صمت ويخص الأهرام بهذه الرسالة»، وشرح لهيكل بإسلوب روائي دوافعه للسرقة، وغضبه من المجتمع الظالم.. والغريب أن عبارات «الحكمة» تسربت إلى مذكرات اللص. كتب: «إذا أظلمت الحياة أمامك اسخط على المجتمع لأنه المسؤول، ودع الرحمة جانبا»، أو «الرحمة فوق العدل والقوة فوق العدل».
في يوم مقتل سليمان، كان جمال عبد الناصر في باكستان، وصدرت جريدة «الأخبار» بعنوان عريض «مقتل السفاح»، وتحت هذا العنوان عنوان آخر: «عبد الناصر في باكستان» بدون وجود تمييز بين الخبرين وظهرا وكأنهما مانشيت واحد. وقيل إن هذا العنوان كان سببا مباشرا لتأميم الصحافة بعد أيام قليلة. انتهت قصة السفاح صحافيا، وعلى البعد كان هناك «عقل» يتتبع، ويربط الحوادث والدوافع.. ويتابع الرسائل.. وينشغل بها.. نجيب محفوظ الذي بدأ على الفور في كتابة حكاية الكلاب.. لا حكاية «اللص»، لأن «أكثرية شعبنا لا تخاف اللصوص ولا تكرههم.. ولكنهم بالفطرة يكرهون الكلاب».. كما قال سعيد مهران لنور في رواية محفوظ!
-5-
في سن العاشرة أغرم نجيب محفوظ بالروايات البوليسية، وكثير منها كان مترجما إلى العربية. في طفولته وصباه انشغل بالأسئلة عن هذا العالم حولنا: ما الذي يحدث فيه؟ ما الدور الذي يمكن أن يلعبه فيه؟. وجد الإجابة: «لم تهدني غريزتي أيامها إلا الى الروايات البوليسية. شيء غريب لماذا نميل إلى الضحك على هذه الفترة من حياتنا؟ حيث يتخيل الإنسان نفسه في أحد وضعين: إما متحديا للقانون وإما مدافعا عنه، ولا وسط بين الموقفين؟ إن البطل هو حلم الصغار.. لا يحس أحد بروعة البطولة وقدسيتها مثل الصغار. وأنا صغير كنت أتمنى أن أكون بطلا.. أما الآن فأمنيتي أن أكتب بطلا على الورق.. وهذه هي بطولتي المتواضعة». كانت «اللص والكلاب» هي روايته البوليسية التي يبحث فيها عن البطولة. كما كان نموذجا معبرا عنه: «أنا سعيد مهران».. هكذا يعترف نجيب محفوظ في حواره مع مجلة «باريس ريفيو» ترجمة أحمد شافعي. أوضح محفوظ أن القصة مأخوذة من شخصية لص روَّع القاهرة لفترة. كان اسمه محمود سليمان، وأضاف: «كنت في ذلك الوقت أعاني من إحساس ضاغط ومستمر بأنني مطارد، وكنت على قناعة بأن حياتنا في ظلّ النظام البوليسي في تلك المرحلة كانت بلا معنى. وهكذا حينما كتبت القصة، كتبت معها قصتي أنا. وإذا بقصة جريمة بسيطة تصبح تأملا فلسفيا! فقد حمَّلت شخصية الرواية الرئيسية «سعيد مهران» كل حيرتي، وهواجسي. جعلته يمر بتجربة البحث عن إجابات لدى الشيخ، ولدى «الساقطة»، ولدى المثالي الذي خان أفكاره من أجل المال والشهرة. وهكذا ترى أن الكاتب ليس مجرد صحافي. فهو يضفر مع القصة شكوكه، وأسئلته، وقيمه. هذا هو الفن».
-6-
كانت «اللص والكلاب» هي أول روايات نجيب محفوظ أو «رصاصاته» ضد أخطاء ثورة تموز/يوليو، كتبها مباشرة بلا رمز أو تورية كما فعل في «أولاد حارتنا» التي أراد أن يوجهها كرسالة لضباط يوليو: أمامكم طريقان: اما أن تكونوا «فتوات» أو «أنبياء».. في «اللص والكلاب» كان واضحا أنهم اختاروا طريق الفتوات.. ومن هنا كان بحثه عن الخلاص الفردي. في الرواية وسع محفوظ من أفق الشخصيات لتعبر عن الشوق والتوق الإنساني للعدالة. لم يعد سعيد مهران هو ذلك اللص او السفاح.. وإنما شخص آخر على يد نجيب محفوظ.. رمز ربما، تماما كما أصبح رؤوف علوان رمزا للانتهازية داخل الرواية، الباحث فقط عن مصلحته الشخصية. عندما صدرت الرواية، أثارت جدلا نقديا كبيرا، وتحير النقاد والمراقبون في تصنيفها، اعتبرها لويس عوض «قصة كلاسيكية القالب رومانسية المضمون»، فيما نسبها آخرون إلى الاتجاه الوجودي، فأزمة سعيد مهران وجودية من وجهة نظر أنور المعداوي، وغالي شكري وإبراهيم فتحي. ولكن الجميع اعتبروا الرواية غير منفصلة عن «أولاد حارتنا»، بل هي قصة واحد من أبناء الحارة باحثا عن العدالة، أو الفتونة الفردية.. ولكن بدون بديل آخر... فيفشل. أي أعمال محفوظ التي تلت «أولاد حارتنا» لم تكن سوى حكايات أخرى عن الحارة وأولادها!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.