عميد تجارة القاهرة الأسبق: الجامعات الحكومية ما زالت الأفضل    ممنوع حيازة أو تخزين الذهب.. قرارات نارية من لجنة الطوارئ الاقتصادية بالسودان والشعبة ترد    ترامب: قد أدعو بوتين لحضور كأس العالم 2026 في الولايات المتحدة    ليس بطلًا.. بل «مجرم حرب»    كندا تتراجع عن الرسوم الجمركية العقابية على السلع الأمريكية    ترامب: الوضع الراهن في غزة يجب أن ينتهي    بوين يقود هجوم وست هام ضد تشيلسي في الدوري الإنجليزي الممتاز    مسرح UArena يستعد لاستقبال حفل ويجز بعد قليل فى مهرجان العلمين    إسلام عفيفى يكتب: الصفقات المرفوضة وتحالفات الضرورة    سِباق مع الزمن    ثورة جديدة بتطوير المناهج «2»    تفاصيل مران الزمالك استعدادًا لمواجهة فاركو.. تدريبات استشفائية للأساسين    مدرب توتنهام: لا مكان لمن لا يريد ارتداء شعارنا    التعادل السلبي يحسم مباراة السكة الحديد مع الترسانة في دوري المحترفين    خسارة سيدات الطائرة أمام صاحب الأرض ببطولة العالم بتايلاند    كرة طائرة - منتخب مصر يخسر أمام تايلاند في افتتاح بطولة العالم سيدات    غلق 3 منشآت غذائية في حملة للطب الوقائي بكفر الشيخ (صور)    خسائر فادحة.. حريق هائل يلتهم مخازن أخشاب بالإسماعيلية والحماية المدنية تحاول السيطرة    رواية مختلقة.. وزارة الداخلية تكشف حقيقة تعدي شخص على جارته    موقف بطولي على قضبان السكة الحديد.. إنقاذ شاب من الموت تحت عجلات القطار بمزلقان الغمراوي ببني سويف    الإيجار القديم والبكالوريا والأحزاب.. وزير الشؤون النيابية يوضح مواقف الحكومة    افتتاح كلية البنات فرع جامعة الأزهر فى مطروح    حسام حبيب ينفي عودته ل شيرين عبد الوهاب: "شائعات هقاضي اللي طلعها"    الوادي الجديد تطلق منصة إلكترونية للترويج السياحي والحرف اليدوية    صراع الخير والشر في عرض مدينة الأحلام بالمهرجان الختامي لشرائح ونوادي مسرح الطفل    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    الماتشا تخفض الكوليسترول الضار - حقيقة أم خرافة؟    لغة لا تساوى وزنها علفًا    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    «حماة الوطن» ينظم حلقة نقاشية حول تعديل قانون الرياضة    بعد مداهمة وكر التسول.. حملات مكثفة لغلق فتحات الكباري بالجيزة| صور    محمود فوزي: الحكومة جادة في تطبيق قانون الإيجار القديم وحماية الفئات الضعيفة    المجاعة تهدد نصف مليون في غزة.. كيف يضغط المجتمع الدولي على إسرائيل؟    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    «التنظيم والإدارة» يعلن توقف الامتحانات بمركز تقييم القدرات.. لهذا السبب    نجاح عملية دقيقة لاستئصال ورم بالمخ وقاع الجمجمة بمستشفى العامرية العام بالإسكندرية    عميد طب القصر العيني يتابع جاهزية البنية التحتية استعدادًا لانطلاق العام الدراسي    لمرضى السكري - اعتاد على تناول زبدة الفول السوداني في هذا التوقيت    محافظ مطروح ورئيس جامعة الأزهر يفتتحان كلية البنات الأزهرية بالمحافظة    "درويش" يحقق قفزة كبيرة ويتخطى 20 مليون جنيه في 9 أيام    الكشف الطبى على 276 مريضا من أهالى قرى البنجر فى قافلة مجانية بالإسكندرية    رئيس جهاز القرى السياحية يلتقي البابا تواضروس الثاني بالعلمين (صور)    المقاومة العراقية تطالب بالانسحاب الحقيقي للقوات الأمريكية من العراق    بالأرقام.. الأمن الاقتصادي يضبط آلاف القضايا خلال 24 ساعة    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    بنسبة تخفيض تصل 30%.. افتتاح سوق اليوم الواحد فى مدينة دهب    مصلحة الضرائب تنفي وجود خلاف بين الحكومة وشركات البترول حول ضريبة القيمة المضافة    وزير الثقافة يستقبل وفد الموهوبين ببرنامج «اكتشاف الأبطال» من قرى «حياة كريمة»    وزارة التخطيط ووكالة جايكا تطلقان تقريرا مشتركا حول 70 عاما من الصداقة والثقة المصرية اليابانية    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    الاقتصاد المصرى يتعافى    الداخلية تكشف تفاصيل اقتحام منزل والتعدي على أسرة بالغربية    محافظ أسيوط يسلم جهاز عروسة لابنة إحدى المستفيدات من مشروعات تمكين المرأة    سعر طن الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 22 أغسطس 2025    أزمة وتعدى.. صابر الرباعى يوجه رسالة لأنغام عبر تليفزيون اليوم السابع    نجم الأهلي السابق: أفضل تواجد عبد الله السعيد على مقاعد البدلاء ومشاركته في آخر نصف ساعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد خان.. صانع سينما المنسيين
نشر في صوت البلد يوم 01 - 08 - 2016

يعتبر محمد خان (26 أكتوبر/تشرين الأول 1942 26 يوليو/تموز 2016) أحد أهم فناني موجة الواقعية الجديدة في السينما المصرية، التي رسمت ملامح مختلفة للفن السينمائي المصري منذ ثمانينيات القرن الفائت.
خان ومعه عاطف الطيب وخيري بشارة وداود عبد السيد، تناول كل منهم حسب وعيه الفكري والفني حالات وتحولات المجتمع المصري، سواء من خلال الموضوعات أو الشخصيات التي تمثل القطاع الأكبر منه. السينما بذلك لم تكن بعيدة عن حياة الناس، بل تنتقي شخصياتها من الشارع والأزقة والميادين. وبدلاً من حالات التأسي لرحيل الرجل، وتكرار كلمات استهلاكية سنحاول انتقاء أحد أعماله المهمة والحديث عنها، ذلك مع الوضع في الاعتبار أن أفلام محمد خان لم تكن كلها على المستوى الفني والتقني نفسه. وليس مُطالب المخرج أو الروائي أن تكون أعماله بالكامل في مستوى متميز، اللهم إلا الحالات الفنية الاستثنائية. هذا التباين نلحظه عند المقارنة بأعمال محمد خان التي أضافت الكثير للسينما المصرية، نذكر منها على سبيل المثال .. «موعد على العشاء»، «الحريف»، «خرج ولم يعد»، «عودة مواطن»، «زوجة رجل مهم»، «أحلام هند وكاميليا»، «سوبرماركت». وتجربته الرائدة في سينما الديجيتال، التي تمثلت في فيلم «كليفتي». هذه الأعمال تتباين تماماً ومستوى أعماله الأخيرة، بداية من «بنات وسط البلد»، ثم «في شقة مصر الجديدة»، مرواً ب«فتاة المصنع»، وأخيراً فيلم «قبل زحمة الصيف» (راجع مقالنا عن هذا الفيلم في «القدس العربي» بتاريخ 23 نيسان/أبريل 2016). وسنحاول اختيار أحد أهم أعمال محمد خان «أحلام هند وكاميليا»، الذي حاول ونجح إلى حدٍ كبير في أن يضع على شاشة السينما مخلوقات منسية تماماً من الجميع، أو يفضل المجتمع تناسيها، ولا يرى في هؤلاء سوى كتلة ضالة مشوّهة، يجيد تجنبها، ويتعامل معها بالضرورة كظل خفي يود الفرار منه دائماً.
الفيلم إنتاج عام 1988، قصة وسيناريو وإخراج محمد خان، حوار مصطفى جمعة، تصوير محسن نصر، مونتاج نادية شكري، موسيقى عمار الشريعي، ديكور أنسي أبو سيف، صوت مجدي كامل. أداء .. أحمد زكي، نجلاء فتحي، عايدة رياض، حسن العدل، عثمان عبد المنعم، محمد كامل.
الحكاية
من خلال الصداقة بين خادمتين كاميليا المُطلقة (نجلاء فتحي)، وهند التي تصغرها بعدة أعوام (عايدة رياض)، وتحب لصا (أحمد زكي) يتم استعراض عالم السلالم الخلفية للقاهرة في الثمانينيات. عالم الخادمات، هذه الفئة التي رغم كل مشاكلها ومعاناتها، تحاول العيش، من دون أن تريد من أحد أن يتأسى لها. فعيد يحاول القيام بالعديد من الأعمال، لكنه يفشل، فيعود للأعمال غير المشروعة رغم زواجه من هند وإنجابه طفلة. يعمل كصبي ضمن صبيان أحد تجار العملة، بينما كاميليا تتنقل من بيت لآخر، تتزوج وتفشل مرة أخرى، يقوم عيد بالاستحواذ على النقود التي يتاجر بها والتي يراها حقاً، فيدخل السجن. بينما تقوم هند وكاميليا بتربية الطفلة (أحلام)، من خلال عملهما البسيط.. بيع الشاي عند محطالت الأتوبيسات وسينمات الدرجة الثالثة، أو الخضروات في الأسواق. مهن مؤقتة تكفي بالكاد تكلفة يومهم الطويل. حتى أن الفرصة التي دخل عيد السجن من أجلها، ضاعت عندما تكتشف طفلته النقود المخبأة، وتتم سرقتها في النهاية من هند وكاميليا، لتبدأ كل منهما من جديد، وبينهما أحلام.
كاميليا
امرأة مُطلقة تعمل خادمة لدى أسرة موسرة، تختلس بعض الأشياء من بيت مخدوميها وترى في ذلك حقاً طبيعياً، لأنهم في الأساس لصوص. وترى أن عملها هذا ليس وصمة، فهي في الأصل إنسان له كامل حقوقه في هذه الحياة، ولابد أن يحصل عليها بنفسه. تمتلك بعضا من الجرأة والسلوك الذكوري، إضافة لكونها لم تنجب، فهي عاقر وهذا سبب طلاقها. إلا أن هذه الأمومة تمارسها مع صديقتها (هند) التي تحتاج دائماً إلى حمايتها، هذه الحماية والرعاية التي ستمتد إلى (أحلام) ابنة هند.
هند
فتاة تنتمي للريف من الأصل، وتعمل خادمة لأسرة قاهرية، حيث يتسلم أحد أقاربها راتبها الشهري، ولا يترك لها إلا القليل. على النقيض من (كاميليا) التي تتحمل مسؤولية جميع أفعالها. فهند تتسم ببعض السذاجة والخوف الملازم لها، مما يجعلها تصدّق (عيد) وحبه لها ووعوده المستمرة بالزواج منها، هذا الزواج الذي لن يتم إلا بعد تدخل كاميليا والتهديد لعيد بالحبس والفضيحة.
عيد
شاب لا يجد مهنة يستطيع أن يجد معها أي شكل من الاستقرار المادي كحال الكثيرين فلا مفر أمامه إلا السرقة، فكل مَن يحيطه يعمل بها، رغم اختلاف المهن والمراكز. وهو في موقفه هذا ورغم محاولاته لن يستطيع إلا أن يصبح لصاً. من ناحية أخرى يصبح (عيد) وهو الوجه الآخر ل (كاميليا)، حيث كل منهما ينظر للمجتمع نظرة صاحب الحق المسروق، ويتنازعان حب القروية الساذجة (هند)، كل بطريقته. إلا أنه لا يتأسى لموقفه، بل يأخذ حقه بأي طريقة، حتى لو كلفه هذا الحق دخول السجن. فهو لا يختلف عن الآخرين. وفي مشهد لافت عند زيارة (هند) له في السجن .. تجد مخدومتها بدورها تزور زوجها المسجون، وبينما لا تستطيع (هند) نسيان دورها كخادمة، تنبهها (كاميليا) أنه لا فارق بينها وبين مخدومتها، فزوجها أيضاً دخل السجن، وأن الرؤوس قد تساوت في هذا المكان، وهي عبارة قديمة لها دلالتها منذ زمن الأحلام الضائعة.
التقنيات
اعتمد التصوير في الأساس على مصادر الإضاءة الطبيعية، نظراً لطبيعة الموضوع، فأغلب المشاهد كانت في الطرق ووسائل المواصلات أو الحدائق العامة، بخلاف غرفة كاميليا/المقهى/شقة هند التي تعمل بها. ثم تنوع هذه المصادر لتصوير هذا الشحوب والبرودة البادية في عالم الخادمات، ويتضح ذلك في مشاهد السلالم الخلفية للأبنية سلالم الخدَم هذا الذي كان على النقيض من مصادر الإضاءة الصناعية، لخلق جو مُبهر ينعكس في عيون الخادمتين، عند زيارتهما للملاهي. ويأتي الديكور ليؤكد هذا التناقض، فرغم أن أماكن التصوير في معظمها كانت حقيقية.. وسائل مواصلات (الترام)/حدائق عامة/شوارع/عمارات مهجورة، إلا أن ديكور غرف الشخصيات كان مناقضاً لديكور منازل المخدومين.. غرفة كاميليا فوق السطح/غرفة عيد وصديقه التي تشبه الحَجز، غرفة الطلبة العرب الذين تعمل لديهم هند. شريط الصوت أيضاً تنوّع ما بين الهدوء النسبي في الشقق الفاخرة، وما يقابله من صخب الشارع (لقاء عيد وهند)، (لقاءات هند وكاميليا)، حتى أن الهدوء المتوتر في اللقاء الجنسي بين عيد وهند في إحدى العمارات التي لم تكتمل بعد، كانت الأصوات المصاحبة تعكس حالة هند الخائفة والمتوترة في هذه اللحظة. من ناحية أخرى نجد الصوت المضخم المغاير لحقيقته عن طريق «الصدى» في حديث الخدم عبر السلالم. وهو ما يماثله صخب الألعاب والزحام في الملاهي. إضافة إلى الأغاني الشعبية المعبّرة عن تلك الفترة، التي تمثل الذوق العام المنهار، كما في العلاقات الاجتماعية المنهارة في الثمانينيات.
وبتحليل أحد المشاهد الدالة على فساد أكبر في المجتمع، يتحكم تماماً بمصائر شخصياته، نحاول رصد إيقاع التصاعد الدرامي من خلال أحجام اللقطات والمونتاج.
(يقوم عيد وصديقه بزيارة هند في إحدى الشقق التي تخدم فيها، بهدف سرقة الشقة. فلا يجدا إلا حقيبة سامسونيت لصاحب الشقة هذه الحقيبة التي كانت بمثابة أيقونة لرموز الانفتاح في تلك الفترة ويوضح عيد الأمر لهند بأنه حاول أن يستقيم ولكن لا فائدة، كما أن صاحب هذا المكان أيضاً لص، لذا يستحق السرقة).
تنوعت اللقطات من لقطات متوسطة بين عيد وهند عند بداية دخوله المكان، وهو يحاول تهدئتها، ومحاولاته تقبيلها ليشغلها عما انتواه. حيث الإيقاع الهادئ نسبياً، ثم الإيقاع السريع واللقطات الكبيرة.. وجه صديق عيد، يده تمسك الحقيبة، وجه هند المفزوع، وجه عيد، لقطة قريبة متوسطة لصديق عيد يُشهر مطواته في وجه هند، لقطة متوسطة لعيد يصفع صديقه في تصنع، لقطة قريبة جداً لعيد الذي يشرح لهند بأنه لا مفر من السرقة، لقطة قريبة لعيد وصديقه يهربان، لقطة متوسطة لهند المنهارة في المطبخ، تتحول إلى لقطة طويلة وهند تهرب بدورها تاركة باب الشقة مفتوحا.
التصاعد الدرامي في هذا المشهد اعتمد في الأساس على إيقاع المونتاج، والتدرج من اللقطات المتوسطة إلى اللقطات القريبة. بجانب صرخات هند المكتومة، وهي تضرب وجهها بيدها، وتحول لهجة عيد من التصنع في بادئ الأمر إلى الصدق والجدية،عندما يقول لها إنه لا مفر، وهذا طريقه رغماً عنه، بل حقه، ورضوخ هند له في النهاية.
عالم المنسيين
يتناول الفيلم مجتمع القاهرة في الثمانينيات، من خلال شخصيات «حيّة». ومن خلال سينما المنسيين هذه يتم عرض العالم الخفي للقاهرة، من شخصيات تعكس في صدق فني وضعاً اجتماعياً عصيباً، يؤثر عليهم ويوجّه مصائرهم، ولكن إرادة الحياة والعيش تجعلهم يتحايلون عليه بكافة الطرق، من دون استدرار دموع الآخرين، ولكن في قوة وقسوة أحياناً لا مفر منها. لا يتم سرد الأحداث وفق البناء التقليدي من بداية ووسط ونهاية، فالمنطقية في سرد الأحداث تعود للأحداث نفسها، فالشخصيات تدور في دائرة مفرغة، تبدأ ثم تعود كما كانت في صعود وهبوط مستمر. هذا البناء المتوافق والنابع من طبيعة الشخصيات والأحداث كان الشكل الأوفق في عملية السرد. فالنقود التي دخل من أجلها عيد السجن، والتي انوجدت بين يدي هند وكاميليا فجأة، تضيع منهما أيضاً فجأة، ولا بد لهما من البداية مرّة أخرى. ويكفي وجود طفلة صغيرة بنت أيضاً فالرجل كعائل لا وجود له من البداية، وقد أصبح ظلاً، لا يستطيع حماية نفسه، فكان لابد أن يختفي، وأن تستمر الحياة بدونه.
والفيلم بذلك لا يدين أبطاله لحساب فئة أو سلطة ما، ولا يسعى لتطهير الجماهير من انفعالاتها، حتى أن دخول الرجل السجن (عيد) ليس رد فعل أخلاقي حتمي، بأن الشرير لابد أن ينال العقاب، فلا يوجد أشرار، ودخول السجن كان إرادياً واختيارياً، فلا مفر ولا بديل عن ذلك، في ظل قوى اجتماعية واقتصادية أكبر من الجميع.
يعتبر محمد خان (26 أكتوبر/تشرين الأول 1942 26 يوليو/تموز 2016) أحد أهم فناني موجة الواقعية الجديدة في السينما المصرية، التي رسمت ملامح مختلفة للفن السينمائي المصري منذ ثمانينيات القرن الفائت.
خان ومعه عاطف الطيب وخيري بشارة وداود عبد السيد، تناول كل منهم حسب وعيه الفكري والفني حالات وتحولات المجتمع المصري، سواء من خلال الموضوعات أو الشخصيات التي تمثل القطاع الأكبر منه. السينما بذلك لم تكن بعيدة عن حياة الناس، بل تنتقي شخصياتها من الشارع والأزقة والميادين. وبدلاً من حالات التأسي لرحيل الرجل، وتكرار كلمات استهلاكية سنحاول انتقاء أحد أعماله المهمة والحديث عنها، ذلك مع الوضع في الاعتبار أن أفلام محمد خان لم تكن كلها على المستوى الفني والتقني نفسه. وليس مُطالب المخرج أو الروائي أن تكون أعماله بالكامل في مستوى متميز، اللهم إلا الحالات الفنية الاستثنائية. هذا التباين نلحظه عند المقارنة بأعمال محمد خان التي أضافت الكثير للسينما المصرية، نذكر منها على سبيل المثال .. «موعد على العشاء»، «الحريف»، «خرج ولم يعد»، «عودة مواطن»، «زوجة رجل مهم»، «أحلام هند وكاميليا»، «سوبرماركت». وتجربته الرائدة في سينما الديجيتال، التي تمثلت في فيلم «كليفتي». هذه الأعمال تتباين تماماً ومستوى أعماله الأخيرة، بداية من «بنات وسط البلد»، ثم «في شقة مصر الجديدة»، مرواً ب«فتاة المصنع»، وأخيراً فيلم «قبل زحمة الصيف» (راجع مقالنا عن هذا الفيلم في «القدس العربي» بتاريخ 23 نيسان/أبريل 2016). وسنحاول اختيار أحد أهم أعمال محمد خان «أحلام هند وكاميليا»، الذي حاول ونجح إلى حدٍ كبير في أن يضع على شاشة السينما مخلوقات منسية تماماً من الجميع، أو يفضل المجتمع تناسيها، ولا يرى في هؤلاء سوى كتلة ضالة مشوّهة، يجيد تجنبها، ويتعامل معها بالضرورة كظل خفي يود الفرار منه دائماً.
الفيلم إنتاج عام 1988، قصة وسيناريو وإخراج محمد خان، حوار مصطفى جمعة، تصوير محسن نصر، مونتاج نادية شكري، موسيقى عمار الشريعي، ديكور أنسي أبو سيف، صوت مجدي كامل. أداء .. أحمد زكي، نجلاء فتحي، عايدة رياض، حسن العدل، عثمان عبد المنعم، محمد كامل.
الحكاية
من خلال الصداقة بين خادمتين كاميليا المُطلقة (نجلاء فتحي)، وهند التي تصغرها بعدة أعوام (عايدة رياض)، وتحب لصا (أحمد زكي) يتم استعراض عالم السلالم الخلفية للقاهرة في الثمانينيات. عالم الخادمات، هذه الفئة التي رغم كل مشاكلها ومعاناتها، تحاول العيش، من دون أن تريد من أحد أن يتأسى لها. فعيد يحاول القيام بالعديد من الأعمال، لكنه يفشل، فيعود للأعمال غير المشروعة رغم زواجه من هند وإنجابه طفلة. يعمل كصبي ضمن صبيان أحد تجار العملة، بينما كاميليا تتنقل من بيت لآخر، تتزوج وتفشل مرة أخرى، يقوم عيد بالاستحواذ على النقود التي يتاجر بها والتي يراها حقاً، فيدخل السجن. بينما تقوم هند وكاميليا بتربية الطفلة (أحلام)، من خلال عملهما البسيط.. بيع الشاي عند محطالت الأتوبيسات وسينمات الدرجة الثالثة، أو الخضروات في الأسواق. مهن مؤقتة تكفي بالكاد تكلفة يومهم الطويل. حتى أن الفرصة التي دخل عيد السجن من أجلها، ضاعت عندما تكتشف طفلته النقود المخبأة، وتتم سرقتها في النهاية من هند وكاميليا، لتبدأ كل منهما من جديد، وبينهما أحلام.
كاميليا
امرأة مُطلقة تعمل خادمة لدى أسرة موسرة، تختلس بعض الأشياء من بيت مخدوميها وترى في ذلك حقاً طبيعياً، لأنهم في الأساس لصوص. وترى أن عملها هذا ليس وصمة، فهي في الأصل إنسان له كامل حقوقه في هذه الحياة، ولابد أن يحصل عليها بنفسه. تمتلك بعضا من الجرأة والسلوك الذكوري، إضافة لكونها لم تنجب، فهي عاقر وهذا سبب طلاقها. إلا أن هذه الأمومة تمارسها مع صديقتها (هند) التي تحتاج دائماً إلى حمايتها، هذه الحماية والرعاية التي ستمتد إلى (أحلام) ابنة هند.
هند
فتاة تنتمي للريف من الأصل، وتعمل خادمة لأسرة قاهرية، حيث يتسلم أحد أقاربها راتبها الشهري، ولا يترك لها إلا القليل. على النقيض من (كاميليا) التي تتحمل مسؤولية جميع أفعالها. فهند تتسم ببعض السذاجة والخوف الملازم لها، مما يجعلها تصدّق (عيد) وحبه لها ووعوده المستمرة بالزواج منها، هذا الزواج الذي لن يتم إلا بعد تدخل كاميليا والتهديد لعيد بالحبس والفضيحة.
عيد
شاب لا يجد مهنة يستطيع أن يجد معها أي شكل من الاستقرار المادي كحال الكثيرين فلا مفر أمامه إلا السرقة، فكل مَن يحيطه يعمل بها، رغم اختلاف المهن والمراكز. وهو في موقفه هذا ورغم محاولاته لن يستطيع إلا أن يصبح لصاً. من ناحية أخرى يصبح (عيد) وهو الوجه الآخر ل (كاميليا)، حيث كل منهما ينظر للمجتمع نظرة صاحب الحق المسروق، ويتنازعان حب القروية الساذجة (هند)، كل بطريقته. إلا أنه لا يتأسى لموقفه، بل يأخذ حقه بأي طريقة، حتى لو كلفه هذا الحق دخول السجن. فهو لا يختلف عن الآخرين. وفي مشهد لافت عند زيارة (هند) له في السجن .. تجد مخدومتها بدورها تزور زوجها المسجون، وبينما لا تستطيع (هند) نسيان دورها كخادمة، تنبهها (كاميليا) أنه لا فارق بينها وبين مخدومتها، فزوجها أيضاً دخل السجن، وأن الرؤوس قد تساوت في هذا المكان، وهي عبارة قديمة لها دلالتها منذ زمن الأحلام الضائعة.
التقنيات
اعتمد التصوير في الأساس على مصادر الإضاءة الطبيعية، نظراً لطبيعة الموضوع، فأغلب المشاهد كانت في الطرق ووسائل المواصلات أو الحدائق العامة، بخلاف غرفة كاميليا/المقهى/شقة هند التي تعمل بها. ثم تنوع هذه المصادر لتصوير هذا الشحوب والبرودة البادية في عالم الخادمات، ويتضح ذلك في مشاهد السلالم الخلفية للأبنية سلالم الخدَم هذا الذي كان على النقيض من مصادر الإضاءة الصناعية، لخلق جو مُبهر ينعكس في عيون الخادمتين، عند زيارتهما للملاهي. ويأتي الديكور ليؤكد هذا التناقض، فرغم أن أماكن التصوير في معظمها كانت حقيقية.. وسائل مواصلات (الترام)/حدائق عامة/شوارع/عمارات مهجورة، إلا أن ديكور غرف الشخصيات كان مناقضاً لديكور منازل المخدومين.. غرفة كاميليا فوق السطح/غرفة عيد وصديقه التي تشبه الحَجز، غرفة الطلبة العرب الذين تعمل لديهم هند. شريط الصوت أيضاً تنوّع ما بين الهدوء النسبي في الشقق الفاخرة، وما يقابله من صخب الشارع (لقاء عيد وهند)، (لقاءات هند وكاميليا)، حتى أن الهدوء المتوتر في اللقاء الجنسي بين عيد وهند في إحدى العمارات التي لم تكتمل بعد، كانت الأصوات المصاحبة تعكس حالة هند الخائفة والمتوترة في هذه اللحظة. من ناحية أخرى نجد الصوت المضخم المغاير لحقيقته عن طريق «الصدى» في حديث الخدم عبر السلالم. وهو ما يماثله صخب الألعاب والزحام في الملاهي. إضافة إلى الأغاني الشعبية المعبّرة عن تلك الفترة، التي تمثل الذوق العام المنهار، كما في العلاقات الاجتماعية المنهارة في الثمانينيات.
وبتحليل أحد المشاهد الدالة على فساد أكبر في المجتمع، يتحكم تماماً بمصائر شخصياته، نحاول رصد إيقاع التصاعد الدرامي من خلال أحجام اللقطات والمونتاج.
(يقوم عيد وصديقه بزيارة هند في إحدى الشقق التي تخدم فيها، بهدف سرقة الشقة. فلا يجدا إلا حقيبة سامسونيت لصاحب الشقة هذه الحقيبة التي كانت بمثابة أيقونة لرموز الانفتاح في تلك الفترة ويوضح عيد الأمر لهند بأنه حاول أن يستقيم ولكن لا فائدة، كما أن صاحب هذا المكان أيضاً لص، لذا يستحق السرقة).
تنوعت اللقطات من لقطات متوسطة بين عيد وهند عند بداية دخوله المكان، وهو يحاول تهدئتها، ومحاولاته تقبيلها ليشغلها عما انتواه. حيث الإيقاع الهادئ نسبياً، ثم الإيقاع السريع واللقطات الكبيرة.. وجه صديق عيد، يده تمسك الحقيبة، وجه هند المفزوع، وجه عيد، لقطة قريبة متوسطة لصديق عيد يُشهر مطواته في وجه هند، لقطة متوسطة لعيد يصفع صديقه في تصنع، لقطة قريبة جداً لعيد الذي يشرح لهند بأنه لا مفر من السرقة، لقطة قريبة لعيد وصديقه يهربان، لقطة متوسطة لهند المنهارة في المطبخ، تتحول إلى لقطة طويلة وهند تهرب بدورها تاركة باب الشقة مفتوحا.
التصاعد الدرامي في هذا المشهد اعتمد في الأساس على إيقاع المونتاج، والتدرج من اللقطات المتوسطة إلى اللقطات القريبة. بجانب صرخات هند المكتومة، وهي تضرب وجهها بيدها، وتحول لهجة عيد من التصنع في بادئ الأمر إلى الصدق والجدية،عندما يقول لها إنه لا مفر، وهذا طريقه رغماً عنه، بل حقه، ورضوخ هند له في النهاية.
عالم المنسيين
يتناول الفيلم مجتمع القاهرة في الثمانينيات، من خلال شخصيات «حيّة». ومن خلال سينما المنسيين هذه يتم عرض العالم الخفي للقاهرة، من شخصيات تعكس في صدق فني وضعاً اجتماعياً عصيباً، يؤثر عليهم ويوجّه مصائرهم، ولكن إرادة الحياة والعيش تجعلهم يتحايلون عليه بكافة الطرق، من دون استدرار دموع الآخرين، ولكن في قوة وقسوة أحياناً لا مفر منها. لا يتم سرد الأحداث وفق البناء التقليدي من بداية ووسط ونهاية، فالمنطقية في سرد الأحداث تعود للأحداث نفسها، فالشخصيات تدور في دائرة مفرغة، تبدأ ثم تعود كما كانت في صعود وهبوط مستمر. هذا البناء المتوافق والنابع من طبيعة الشخصيات والأحداث كان الشكل الأوفق في عملية السرد. فالنقود التي دخل من أجلها عيد السجن، والتي انوجدت بين يدي هند وكاميليا فجأة، تضيع منهما أيضاً فجأة، ولا بد لهما من البداية مرّة أخرى. ويكفي وجود طفلة صغيرة بنت أيضاً فالرجل كعائل لا وجود له من البداية، وقد أصبح ظلاً، لا يستطيع حماية نفسه، فكان لابد أن يختفي، وأن تستمر الحياة بدونه.
والفيلم بذلك لا يدين أبطاله لحساب فئة أو سلطة ما، ولا يسعى لتطهير الجماهير من انفعالاتها، حتى أن دخول الرجل السجن (عيد) ليس رد فعل أخلاقي حتمي، بأن الشرير لابد أن ينال العقاب، فلا يوجد أشرار، ودخول السجن كان إرادياً واختيارياً، فلا مفر ولا بديل عن ذلك، في ظل قوى اجتماعية واقتصادية أكبر من الجميع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.