تجليس أساقفة جدد في إيبارشيات وسط وجنوب مصر لدعم التنمية الروحية    كيف تحدد الإجازات الاستثنائية لأصحاب الأمراض المزمنة؟    التعليم تحبط محاولات اختراق إلكتروني لصفحتها الرسمية على «فيسبوك»    من 0.09% إلى 2.3%.. رحلة صعود الطاقة الشمسية في مصر    5 وزراء يجتمعون لمتابعة الموقف الحالي لمنظومة «الرقم القومي العقاري»    البولنديون يدلون بأصواتهم في انتخابات رئاسية حاسمة    اتحاد الكرة يطبيق معايير "مكافحة المنشطات" في المسابقات    ضبط المتهم بقتل وإصابة 3 أشقاء في نجع حمادي    سقوط أعمدة وعقارات.. الحكومة توضح خسائر عاصفة الإسكندرية    تنظم زيارة لوفد البنك الدولي للمنشآت والمشروعات الصحية في الإسكندرية    متحدث الصحة: رفع درجة الاستعداد القصوى في المستشفيات استعدادا لاستقبال عيد الأضحى    "مواجهة حاسمة".. ماسكيرانو يتحدث عن أهمية مباراة الأهلي في كأس العالم    بعد تداول امتحان دراسات الإعدادية بالقاهرة.. اسم اللجنة يفضح مصور البوكليت    62 عامًا من الوحدة    الصين تتهم وزير الدفاع الأمريكي بتجاهل دعوات السلام من دول المنطقة    حريق في غابات السفكون بريف االلاذقية    محافظ أسيوط يشهد الحفل الختامي لأنشطة مدارس المستقبل    قوات حرس الحدود توجه ضربة لمهربى المخدرات    بيراميدز يتحدى صن داونز لتحقيق حلم حصد لقب دوري أبطال إفريقيا    محمد شكرى يبدأ إجراءات استخراج تأشيرة أمريكا للسفر مع الأهلى للمشاركة في كأس العالم للأندية    التاريخ لن يقف أمام الصراعات.. بل سيذكر اسم البطل الكورة بتتكلم أهلى    حدث منذ قليل .. وزارة التعليم تتصدى لاختراق الصفحة الرسمية لها على فيس بوك    بدء تشغيل الأتوبيس الترددي على الطريق الدائري    متوسط التأخيرات المتوقعة لبعض القطارات على خطوط السكة الحديد    إنفوجراف| «الأرصاد» تعلن حالة الطقس غدًا الإثنين 2 يونيو 2025    إجراءات مشددة لتأمين ضيوف الرحمن تيسير الحج    "روز اليوسف" تحقق: مفاجأة.. بيوت ثقافة موصى بغلقها تم تجديدها فى 2024 ورطة الوزير فى ثقافة الجماهير!    مصر أولا.. الثقافة.. ملف أمن قومى وليست أزمة إدارة الاستثمار الثقافى وتجريف الوعى المصرى!    أبرزها جبل الطير وحارة زويلة الكنيسة القبطية تحتفل برحلة العائلة المقدسة فى مصر    مصطفى حجاج يغني مع إسلام كابونجا "على وضع الطيران"    شريف مدكور: «نفسي أقدم برنامج ديني بدون مقابل»    ريهام عبدالغفور: تكريم جديد يكلل مسيرتي بدور استثنائي عن «ظلم المصطبة»    دعاء اليوم الخامس من شهر ذي الحجة 1446 والأعمال المستحبة في العشر الأوائل    «الإفتاء»: الأضحية من أعظم القربات إلى الله ويجب أن تكون مستوفية للشروط    دون تخوين أو تكفير.. قضايا الميراث تريد حلا    أحلف بسماها .. رموز مصرية فى المحافل الدولية    غدًا.. وزير العمل يترأس وفد مصر الثلاثي المشارك في فعاليات الدورة ال 113 لمؤتمر العمل الدولي بجنيف    وزارة الصحة: التدخين يتسبب في وفاة أكثر من 8 ملايين شخص كل عام    2700 مستفيد من قافلة جامعة عين شمس التنموية الشاملة لمحافظة سوهاج    «مكافحة العدوى» تحتفل باليوم العالمي لغسيل الأيدي بمستشفيات «سوهاج»    رحلة العائلة المقدسة.. أكثر من ثلاثين دولة تخلدها على طوابع بريد    إصابة 13 شخصا إثر حادث انقلاب سيارة ربع نقل على طريق العلاقي بأسوان    روسيا: الجسر المنهار لحظة مرور قطار الركاب تعرض لتفجير    لهذا السبب.. خالد النبوي يتصدر تريند "جوجل"    هل يجوز الدعاء بشيء وأنا أعلم أنه شر لي؟.. الإفتاء تجيب    "استمر 3 ساعات".. السيطرة على حريق سوق السيراميك بالمرج- صور    ثالث المتأهلين.. باريس سان جيرمان يحجز مقعدًا في إنتركونتيننتال 2025    حماس: وافقنا على مقترح ويتكوف كأساس للتفاوض.. ورد إسرائيل لم يلبِ الحد الأدنى لمطالبنا    لحق بأبنائه.. استشهاد حمدى النجار والد الأطفال ال9 ضحايا قصف خان يونس    حسام باولو: عيب على مهاجمي الدوري تتويج إمام عاشور بلقب الهداف لهذا السبب    الإفتاء تحسم الجدل.. هل تسقط صلاة الجمعة إذا وافقت يوم العيد؟    موقف حرج يتطلب منك الحزم.. حظ برج الدلو اليوم 1 يونيو    بسبب قطعة أرض، مقتل وإصابة 4 أشخاص والقبض على 13 في مشاجرة بسوهاج    قرار وزاري.. الدكتور السيد تاج الدين قائمًا بأعمال مدينة زويل    «شاغل نفسه ب الأهلي».. سيد عبد الحفيظ يهاجم بيراميدز لعدم الرد على الزمالك    الاحتلال ينسف منازل سكنية في القرارة شمال شرق خان يونس    رسميًا الآن.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأحد 1 يونيو 2025 بعد الانخفاض    عيار 21 الآن يسجل رقمًا جديدًا.. سعر الذهب اليوم الأحد 1 يونيو بعد الانخفاض بالصاغة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصطفى سويف وعلم النفس الإبداعي
نشر في صوت البلد يوم 16 - 07 - 2016

ربما لو كان عالِمُ النفسِ مصطفى سويف، الذي غيَّبه الموت عن 92 عاماً، قد ركن إلى النداء الذي ألحَّ عليه في ميعة الصبا ليصنع منه أديباً، لكنا خسرنا واحداً من أكبر علماء الإنسانيات العرب، تمكن على مدار أكثر من ستين عاماً من أن يشق مساراً معرفياً مهماً يتمثل في «علم النفس الإبداعي»، سواء من خلال أبحاثه ودراساته الرائدة، أو الجهد الذي بذله مع تلاميذه، حين وجَّههم لإعداد أطروحات جامعية في هذا المجال، حتى صار له حضور في قاعات الدرس، وورش الإبداع والندوات، وحديث أهل الفن والأدب، وكل الباحثين المؤمنين بتكامل العلوم الاجتماعية، والمدركين أن لعلم النفس، على وجه الخصوص، دوراً مهماً في المناهج العلمية عابرة الأنواع.
في طفولته؛ كان سويف يستمتع بحفظ الشعر العربي القديم وإلقائه، ويحب دروس المطالعة، وقراءة القرآن الكريم، فامتلك حساً لغوياً قوياً. وفي صباه كتب الشعر والقصة القصيرة وشرع في كتابة أول رواية، لكن حين أتيح له التعيين معيداً في كلية الآداب، التي تخرج فيها، قرر أن يقطع كل صلته بإبداع الأدب، بل درَّب نفسه على قتل أي حنين للعودة إليه. ويعبر هو عن هذا الموقف قائلاً: «جمعتُ أشعاري وقصصي وأحرقتها، وبعدها كان مخي مشغولاً بسؤال أساسي، وهو كيف كتبت هذا الإنتاج، ولذا كان لا بد أن أبحث عن الجوانب النفسية للإبداع».
لكن العقل الباطن لسويف لم يستجب تماماً لهذا القرار، ودفعه إلى اختيار النهج الذي يجعل للعلم دوره في دراسة الفن، وهنا يقول: «اخترت علم النفس الإبداعي من بين 37 فرعاً من فروع علم النفس، تعويضاً عن تركي الفن». ومع هذا الاختيار، أدرك سويف منذ وقت مبكر حدود العلاقة بين العلم والفن، فالفن عنده يُجسد الشخصية الفردية، أما العلم فهو نشاط مجموعة.
ولعل ما كتبه الأديب يوسف الشاروني يكشف جوانب من هذه المرحلة من حياة سويف: «كان لقاؤنا الأول في خريف 1941، وكانت تجمعنا جمعية الغرامافون التي أنشأها لويس عوض، حيث كنا نلتقي في إحدى غرف قسم اللغة الإنكليزية في كلية الآداب لسماع الموسيقى الكلاسيكية. وعقب هذا انضممنا إلى أصدقاء لهم تخصصات مختلفة لتكوين مجموعة تلتقي أسبوعياً لمناقشة كتاب أو رواية فيستفيد الأدباء من العلماء، والعلماء من الأدباء».
وبانت هذه المزاوجة جلية لدى سويف في مذكراته التي صدرت تحت عنوان «عوالم متداخلة... يوميات في الشأن العام والشأن الخاص»، حيث تمتزج فيها المشاعر والأفكار والشجون والخواطر الخاصة بالظواهر العامة، وهنا يقول: «هذه اليوميات مرَّت بتحولات في بِنيتها وفي دلالتها، استغرقت 46 عاماً حتى استقرت على صورتها الحالية»، بل قد لا أكون مبالغاً إن قلتُ إن هذه المزاوجة بانت في أولاده، إذ صارت أهدافاً أديبة، وصارت ليلى أستاذة للرياضيات، وابنه مهندساً.
بعد طول تجريب وتأمل، وجد سويف نفسه يقر بأن «الإبداع عملية إرادية» وأن كل ما يقال عن تهاويم الفن وخيالاته المجنَّحة وجنونه وتمرده وخروجه على المألوف لا يعني أن الفنان هو شخص عشوائي بالضرورة، وأن موهبته عصيَّة على الخضوع للتدريب وصقل المهارة واستعمال أدوات العلم وطرائقه في تعزيزها.
لهذا كان سويف يصرخ في وجه من قرنوا الإبداع بالفوضى والتخبط والهذيان: «أرفض الربط بين الإبداع والجنون لأنهما متناقضان». وكان لا يعترف بأن الإبداع يعني في الأحوال كافة ضرب عرض الحائط كل ما تعارف عليه الناس وتآلفوا، حيث يقول: «ليس شرطاً أن يكون كسر المألوف إبداعاً! لأنه قد يأخذ أشكالاً مشروعة وأحياناً غير مشروعة». وفي السياق نفسه؛ كان يقرن التفرد بالقدرة على النفع، فالعبقري في نظره؛ «هو الشخص الذي يحسن تقديم إبداعه حتى يتنباه المجتمع».
ولعل إيمان سويف بالتفكير العلمي، وميله إلى الضبط المنهجي لتأملاته وتصوراته وكتاباته، من أهم العوامل التي جعلته يرى الإبداع على هذا النحو، وهذا ليس بمستغرب على رجل تخصص في فلسفة علم الجمال، وكان يقول: «كانت الفلسفة طريقي إلى أن أُوجه عقلي. علَّمتني أن أكون عقلاً فعالاً لا منفعلاً». والفلسفة بالنسبة إليه يجب أن تجري بين الناس، وتعينهم على فهم أنفسهم وأحوالهم.
وقادت المزاوجة بين العلم والفن، سويف إلى تأسيس «أكاديمية الفنون المصرية» وكان أول رئيس لها بين عامي 1968 و1971، وهي المعهد الذي يجعل العلم في خدمة الفن. ومن أجل هذا أيضاً كان أول كتاب لسويف قد رأى النور سنة 1959 هو «الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة»، ليعود سنة 2000 إلى المجال نفسه في كتاب مهم أعطاه عنوان: «دراسات نفسية في الإبداع والتلقي»، علاوة على العديد من الدراسات العميقة والمستفيضة حول الإبداع والتذوق الفني والتفضيل الجمالي.
ورفقة الإرادة للإبداع، لم تكن حصيلة دراسات تجريبية مستفيضة قام بها سويف وتلاميذه، ولا لتأملات الرجل لسابق عهده في الكتابة الشعرية والقصصية، إنما كان المنظور الذي رأى سويف منه كل أحد، وكل شيء، لدرجة أنه تحدث عما أسماه «الحب العقلاني»، حين قارن بين الذي كابَدَه في حبه الأول خلال سن المراهقة وبين ما كان يلقاه مع زوجته فاطمة موسى؛ أستاذة الأدب الإنكليزي، التي كانت شغوفة بالعلم مثله، مؤمنة بأن الصبر والدأب سمة أساسية من سمات الباحث الجاد. وهنا يقول: «الفتاة التي أحببتها في مراهقتي لم يكن باستطاعتها أن تصبر على رجل يقضي أغلب وقته بين الكتب، وعليها ينفق أغلب ماله، ولا يفضل عليها شيئاً في الحياة الدنيا».
بدأ سويف حياته موظفاً بسيطاً بوزارة التجارة والصناعة، براتب شهري لا يزيد على عشرين جنيهاً، ورغم أن وظيفته كانت مغتربة عن تخصصه العلمي وميوله النفسية، إلا أن بصيرته قادته إلى قبول أي عمل يبقيه في القاهرة إلى جانب حلمه، إذ لو قبل العمل بالتدريس، مثلما فعل زملاؤه، فكان سيتم توزيعه على مدارس الصعيد، وفي هذا مقتله، كما وصف هو ذات يوم. ولم تشغل الوظيفة سويف عن مواصلة البحث والدرس حتى أنه نشر تسعة بحوث نفسية في مجلة «علم النفس» التي كان يتعاون في إصدارها عالما النفس الكبيران مصطفى زيور ويوسف مراد، عزَّزت من فرصه بالالتحاق بالجامعة حين أعلنت كلية الآداب عن وظيفة معيد بقسم علم النفس، لاسيما أنه كتب في الخطاب المرفق بدراساته: «إذا وافقتم على تعييني ستساعدونني على الاستمرار في بحوثي العلمية التي وهبت نفسي لها».
وبدأ سويف بعدها حياة أكاديمية حافلة بالإنجازات حيث حصل على درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة، ثم على دبلوم علم النفس الإكلينيكي من جامعة لندن، وشغل منصب أستاذ بقسم علم النفس بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وقد دعُي باحثاً زائراً بمعهد الطب النفسي بجامعة لندن سنة 1963، ودعي أيضاً أستاذاً زائراً بجامعة لند بالسويد سنة 1972، وبعدها بعام صار رئيس قسم الدراسات الفلسفية والنفسية بآداب القاهرة لعامين متتاليين، ثم أسَّس قسم علم النفس بالكلية وكان أول رئيس له بين عامي 1974 و1984.
كان سويف يؤمن بأن كل شعوب الأرض تملك مواهب مخبوءة، تحتاج إلى فهم ومساعدة الحكام كي تنطق. وكان يرى أن «الشعب أذكى دوماً من حكامه، وأنه حتى لو انخدع فلديه بصيرة تمكنه من اكتشاف الحقيقة في لحظة ما»، وكان يدعو إلى إحباط الإحباط بالتحمس للحياة، لكنه كان يتخوف دوماً من أن يخذله جسده عن مواصلة إضافة لبنات جديدة إلى معمار الحياة، وهو ما حصل له حين أغمض عينيه أخيراً بعد عمر زاخر بالعطاء.
ربما لو كان عالِمُ النفسِ مصطفى سويف، الذي غيَّبه الموت عن 92 عاماً، قد ركن إلى النداء الذي ألحَّ عليه في ميعة الصبا ليصنع منه أديباً، لكنا خسرنا واحداً من أكبر علماء الإنسانيات العرب، تمكن على مدار أكثر من ستين عاماً من أن يشق مساراً معرفياً مهماً يتمثل في «علم النفس الإبداعي»، سواء من خلال أبحاثه ودراساته الرائدة، أو الجهد الذي بذله مع تلاميذه، حين وجَّههم لإعداد أطروحات جامعية في هذا المجال، حتى صار له حضور في قاعات الدرس، وورش الإبداع والندوات، وحديث أهل الفن والأدب، وكل الباحثين المؤمنين بتكامل العلوم الاجتماعية، والمدركين أن لعلم النفس، على وجه الخصوص، دوراً مهماً في المناهج العلمية عابرة الأنواع.
في طفولته؛ كان سويف يستمتع بحفظ الشعر العربي القديم وإلقائه، ويحب دروس المطالعة، وقراءة القرآن الكريم، فامتلك حساً لغوياً قوياً. وفي صباه كتب الشعر والقصة القصيرة وشرع في كتابة أول رواية، لكن حين أتيح له التعيين معيداً في كلية الآداب، التي تخرج فيها، قرر أن يقطع كل صلته بإبداع الأدب، بل درَّب نفسه على قتل أي حنين للعودة إليه. ويعبر هو عن هذا الموقف قائلاً: «جمعتُ أشعاري وقصصي وأحرقتها، وبعدها كان مخي مشغولاً بسؤال أساسي، وهو كيف كتبت هذا الإنتاج، ولذا كان لا بد أن أبحث عن الجوانب النفسية للإبداع».
لكن العقل الباطن لسويف لم يستجب تماماً لهذا القرار، ودفعه إلى اختيار النهج الذي يجعل للعلم دوره في دراسة الفن، وهنا يقول: «اخترت علم النفس الإبداعي من بين 37 فرعاً من فروع علم النفس، تعويضاً عن تركي الفن». ومع هذا الاختيار، أدرك سويف منذ وقت مبكر حدود العلاقة بين العلم والفن، فالفن عنده يُجسد الشخصية الفردية، أما العلم فهو نشاط مجموعة.
ولعل ما كتبه الأديب يوسف الشاروني يكشف جوانب من هذه المرحلة من حياة سويف: «كان لقاؤنا الأول في خريف 1941، وكانت تجمعنا جمعية الغرامافون التي أنشأها لويس عوض، حيث كنا نلتقي في إحدى غرف قسم اللغة الإنكليزية في كلية الآداب لسماع الموسيقى الكلاسيكية. وعقب هذا انضممنا إلى أصدقاء لهم تخصصات مختلفة لتكوين مجموعة تلتقي أسبوعياً لمناقشة كتاب أو رواية فيستفيد الأدباء من العلماء، والعلماء من الأدباء».
وبانت هذه المزاوجة جلية لدى سويف في مذكراته التي صدرت تحت عنوان «عوالم متداخلة... يوميات في الشأن العام والشأن الخاص»، حيث تمتزج فيها المشاعر والأفكار والشجون والخواطر الخاصة بالظواهر العامة، وهنا يقول: «هذه اليوميات مرَّت بتحولات في بِنيتها وفي دلالتها، استغرقت 46 عاماً حتى استقرت على صورتها الحالية»، بل قد لا أكون مبالغاً إن قلتُ إن هذه المزاوجة بانت في أولاده، إذ صارت أهدافاً أديبة، وصارت ليلى أستاذة للرياضيات، وابنه مهندساً.
بعد طول تجريب وتأمل، وجد سويف نفسه يقر بأن «الإبداع عملية إرادية» وأن كل ما يقال عن تهاويم الفن وخيالاته المجنَّحة وجنونه وتمرده وخروجه على المألوف لا يعني أن الفنان هو شخص عشوائي بالضرورة، وأن موهبته عصيَّة على الخضوع للتدريب وصقل المهارة واستعمال أدوات العلم وطرائقه في تعزيزها.
لهذا كان سويف يصرخ في وجه من قرنوا الإبداع بالفوضى والتخبط والهذيان: «أرفض الربط بين الإبداع والجنون لأنهما متناقضان». وكان لا يعترف بأن الإبداع يعني في الأحوال كافة ضرب عرض الحائط كل ما تعارف عليه الناس وتآلفوا، حيث يقول: «ليس شرطاً أن يكون كسر المألوف إبداعاً! لأنه قد يأخذ أشكالاً مشروعة وأحياناً غير مشروعة». وفي السياق نفسه؛ كان يقرن التفرد بالقدرة على النفع، فالعبقري في نظره؛ «هو الشخص الذي يحسن تقديم إبداعه حتى يتنباه المجتمع».
ولعل إيمان سويف بالتفكير العلمي، وميله إلى الضبط المنهجي لتأملاته وتصوراته وكتاباته، من أهم العوامل التي جعلته يرى الإبداع على هذا النحو، وهذا ليس بمستغرب على رجل تخصص في فلسفة علم الجمال، وكان يقول: «كانت الفلسفة طريقي إلى أن أُوجه عقلي. علَّمتني أن أكون عقلاً فعالاً لا منفعلاً». والفلسفة بالنسبة إليه يجب أن تجري بين الناس، وتعينهم على فهم أنفسهم وأحوالهم.
وقادت المزاوجة بين العلم والفن، سويف إلى تأسيس «أكاديمية الفنون المصرية» وكان أول رئيس لها بين عامي 1968 و1971، وهي المعهد الذي يجعل العلم في خدمة الفن. ومن أجل هذا أيضاً كان أول كتاب لسويف قد رأى النور سنة 1959 هو «الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة»، ليعود سنة 2000 إلى المجال نفسه في كتاب مهم أعطاه عنوان: «دراسات نفسية في الإبداع والتلقي»، علاوة على العديد من الدراسات العميقة والمستفيضة حول الإبداع والتذوق الفني والتفضيل الجمالي.
ورفقة الإرادة للإبداع، لم تكن حصيلة دراسات تجريبية مستفيضة قام بها سويف وتلاميذه، ولا لتأملات الرجل لسابق عهده في الكتابة الشعرية والقصصية، إنما كان المنظور الذي رأى سويف منه كل أحد، وكل شيء، لدرجة أنه تحدث عما أسماه «الحب العقلاني»، حين قارن بين الذي كابَدَه في حبه الأول خلال سن المراهقة وبين ما كان يلقاه مع زوجته فاطمة موسى؛ أستاذة الأدب الإنكليزي، التي كانت شغوفة بالعلم مثله، مؤمنة بأن الصبر والدأب سمة أساسية من سمات الباحث الجاد. وهنا يقول: «الفتاة التي أحببتها في مراهقتي لم يكن باستطاعتها أن تصبر على رجل يقضي أغلب وقته بين الكتب، وعليها ينفق أغلب ماله، ولا يفضل عليها شيئاً في الحياة الدنيا».
بدأ سويف حياته موظفاً بسيطاً بوزارة التجارة والصناعة، براتب شهري لا يزيد على عشرين جنيهاً، ورغم أن وظيفته كانت مغتربة عن تخصصه العلمي وميوله النفسية، إلا أن بصيرته قادته إلى قبول أي عمل يبقيه في القاهرة إلى جانب حلمه، إذ لو قبل العمل بالتدريس، مثلما فعل زملاؤه، فكان سيتم توزيعه على مدارس الصعيد، وفي هذا مقتله، كما وصف هو ذات يوم. ولم تشغل الوظيفة سويف عن مواصلة البحث والدرس حتى أنه نشر تسعة بحوث نفسية في مجلة «علم النفس» التي كان يتعاون في إصدارها عالما النفس الكبيران مصطفى زيور ويوسف مراد، عزَّزت من فرصه بالالتحاق بالجامعة حين أعلنت كلية الآداب عن وظيفة معيد بقسم علم النفس، لاسيما أنه كتب في الخطاب المرفق بدراساته: «إذا وافقتم على تعييني ستساعدونني على الاستمرار في بحوثي العلمية التي وهبت نفسي لها».
وبدأ سويف بعدها حياة أكاديمية حافلة بالإنجازات حيث حصل على درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة، ثم على دبلوم علم النفس الإكلينيكي من جامعة لندن، وشغل منصب أستاذ بقسم علم النفس بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وقد دعُي باحثاً زائراً بمعهد الطب النفسي بجامعة لندن سنة 1963، ودعي أيضاً أستاذاً زائراً بجامعة لند بالسويد سنة 1972، وبعدها بعام صار رئيس قسم الدراسات الفلسفية والنفسية بآداب القاهرة لعامين متتاليين، ثم أسَّس قسم علم النفس بالكلية وكان أول رئيس له بين عامي 1974 و1984.
كان سويف يؤمن بأن كل شعوب الأرض تملك مواهب مخبوءة، تحتاج إلى فهم ومساعدة الحكام كي تنطق. وكان يرى أن «الشعب أذكى دوماً من حكامه، وأنه حتى لو انخدع فلديه بصيرة تمكنه من اكتشاف الحقيقة في لحظة ما»، وكان يدعو إلى إحباط الإحباط بالتحمس للحياة، لكنه كان يتخوف دوماً من أن يخذله جسده عن مواصلة إضافة لبنات جديدة إلى معمار الحياة، وهو ما حصل له حين أغمض عينيه أخيراً بعد عمر زاخر بالعطاء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.