«جبران» و«هونجبو» يستعرضان جهود مصر لتعزيز معايير العمل الدولية    الإصلاح والنهضة: 30 يونيو أسقط مشروع الإخوان لتفكيك الدولة ورسّخ الوعي الوطني في مواجهة قوى الظلام    الأتوبيس الترددى والسلوكيات السلبية    بعد مدها.. آخر موعد لحجز شقق «سكن لكل المصريين 7» والأوراق المطلوبة والشروط    أرامكو السعودية تنهي إصدار سندات دولية ب 5 مليارات دولار    الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي: القضية الفلسطينية تظل في صدارة اهتمام دول المجلس    "مطروح للنقاش" يسلط الضوء على قرارات ترامب بزيادة الرسوم الجمركية على واردات الصلب والألومنيوم    جوعى غزة في بئر ويتكوف    الزمالك: طالبنا بتقليل الأجانب لمصلحة المنتخبات.. وإلغاء الهبوط ليس الحل الأمثل    يامال: لا أفكر في الكرة الذهبية.. ومن المستحيل أن ألعب ل ريال مدريد    الفيسبوك والعورات النفسية    الحل فى الحوكمة    طرح البرومو الرسمي لفيلم "في عز الضهر".. وهذا موعد عرضه في السينمات    إيساف: «أبويا علّمني الرجولة والكرامة لو ماعييش جنيه»    اغتنم أجرها.. أدعية إفطار الصائم في العشر الأوائل من ذي الحجة    خالد الجندي: الحج المرفّه والاستمتاع بنعم الله ليس فيه عيب أو خطأ    ضربات الشمس في الحج.. الأسباب والأعراض والإسعاف السريع    تعرف على محطات الأتوبيس الترددي وأسعار التذاكر وطريقة الحجز    مياه الفيوم تطلق حملات توعية للجزارين والمواطنين بمناسبة عيد الأضحى المبارك    شرح توضيحي للتسجيل والتقديم في رياض الأطفال عبر تعليم القاهرة للعام الدراسي الجديد.. فيديو    رئيس جهاز العاشر من رمضان يتدخل لنقل سائق مصاب في حريق بمحطة وقود إلى مستشفي أهل مصر للحروق    واشنطن بوست: فوز ناوروكي برئاسة بولندا تعزز مكاسب اليمين في أوروبا    رئيس الوزراء الفلسطيني يدعو لوكسمبورج للاعتراف بدولة فلسطين قبيل مؤتمر السلام في نيويورك    رئيس جامعة المنوفية يترأس اجتماع اللجنة العليا لتكنولوجيا المعلومات والتحول الرقمي المؤسسي    أهم أخبار الإمارات اليوم.. محمد بن زايد يهنئ نافروتسكي بفوزه بالانتخابات الرئاسية البولندية    الثلاثي الذهبي للكاراتيه ينتزع جائزة «جراند وينر» من الاتحاد الدولي    هل يجوز للمرأة ذبح أضحيتها بنفسها؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    في رحاب الحرم.. أركان ومناسك الحج من الإحرام إلى الوداع    موعد أذان مغرب الاثنين 6 من ذي الحجة 2025.. وبعض الآداب الواردة في عشر ذي الحجة    ديلي ميل: إلغاء مقابلة بين لينيكر ومحمد صلاح خوفا من الحديث عن غزة    مدينة الأبحاث العلمية تطلق سلسلة توعوية بعنوان العلم والمجتمع لتعزيز الوعي    بريطانيا: الوضع في غزة يزداد سوءًا.. ونعمل على ضمان وصول المساعدات    «أجد نفسي مضطرًا لاتخاذ قرار نهائى لا رجعة فيه».. نص استقالة محمد مصيلحى من رئاسة الاتحاد السكندري    عبد الرازق يهنىء القيادة السياسية والشعب المصري بعيد الأضحى    رئيس جامعة بنها: توفير استراحات تراعي كافة فئات الطلاب    أشرف سنجر ل"الساعة 6": مصر تتحمل الكثير من أجل الأمن القومى العربى وفلسطين    البحوث الفلكية ل"الساعة 6": نشاط الزلازل داخل مصر ضعيف جدا    «صحة الاسكندرية» تعلن خطة التأمين الطبي لاحتفالات عيد الأضحى    يديعوت أحرونوت: وفد إسرائيل لن يذهب إلى الدوحة للتفاوض    وزير الثقافة ينفي إغلاق قصور ثقافية: ما أُغلق شقق مستأجرة ولا ضرر على الموظفين    تسرب 27 ألف متر غاز.. لجنة فنية: مقاول الواحات لم ينسق مع الجهات المختصة (خاص)    تخفي الحقيقة خلف قناع.. 3 أبراج تكذب بشأن مشاعرها    الهيئة العامة للأوقاف بالسعودية تطلق حملتها التوعوية لموسم حج 1446    السجن 3 سنوات لصيدلى بتهمة الاتجار فى الأقراص المخدرة بالإسكندرية.. فيديو    السيسي: ضرورة إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط    بوستيكوجلو يطالب توتنهام بعدم الاكتفاء بلقب الدوري الأوروبي    للمشاركة في المونديال.. الوداد المغربي يطلب التعاقد مع لاعب الزمالك رسميا    تخريج 100 شركة ناشئة من برنامج «أورانج كورنرز» في دلتا مصر    حزب السادات: فكر الإخوان ظلامي.. و30 يونيو ملحمة شعب وجيش أنقذت مصر    «تعليم الجيزة» : حرمان 4 طلاب من استكمال امتحانات الشهادة الاعدادية    مدير المساحة: افتتاح مشروع حدائق تلال الفسطاط قريبا    «التضامن»: انطلاق معسكرات «أنا وبابا» للشيوخ والكهنة لتعزيز دور رجال الدين في بناء الأسرة المصرية    توريد 169 ألفا و864 طنا من محصول القمح لصوامع وشون سوهاج    تحكي تاريخ المحافظة.. «القليوبية والجامعة» تبحثان إنشاء أول حديقة متحفية وجدارية على نهر النيل ببنها    آن ناصف تكتب: "ريستارت" تجربة كوميدية لتصحيح وعي هوس التريند    رئيس الوزراء يُتابع جهود اللجنة الطبية العليا والاستغاثات خلال شهر مايو الماضي    هيئة الشراء الموحد: إطلاق منظومة ذكية لتتبع الدواء من الإنتاج للاستهلاك    لطيفة توجه رسالة مؤثرة لعلي معلول بعد رحيله عن الأهلي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأدب في مواجهة التابوهات
نشر في صوت البلد يوم 28 - 04 - 2016

اختلف المفكرون واللغويون في تسميتها، فقالوا عنها «تابوهات» و«طابوهات» و«تابوات» و«محظورات» و«محرمات» و«مسكوت عنه» وما شابه ذلك. وعادة ما تُقرَن في مجتمعاتنا العربية بثلاثة مواضيع وهي الدين والجنس والحاكم، وتُعرف باسم «الثالوث المحرّم».
وما هي في واقع الأمر وقفا على هذا الثالوث، فهي أكبر وأوسع وتتعدّى هذه العتبات والخطوط الحمراء والحدود لتمتدّ إلى فضاءات أخرى ليست أقلّ شأنا. فالتابوهات تشمل كل ما يحرّم مسّه أو ما لا يحلّ انتهاكه في المجتمع، ومن شأنه أن يثير حساسيةً وجدلاً وفتنةً.
فمن التابوهات الأخرى التي لا تقل أهمية تابوهات قبلية وطائفية ومذهبية، ومن جملة ذلك على سبيل المثال حساسية كتابة الكردي عن العربي، أو العربي عن الأمازيغي، أو السني عن الشيعي، أو المسيحي عن المسلم، أو المسلم عن اليهودي، أو المسيحي الكاثوليكي عن المسيحي البروتستانتي، وغير ذلك. ولعلّ أبسط مثال على هذه الحساسيات عندنا هو ما أثير من جدلٍ في الوطن العربي آنفا في موضوع احتمال ترجمة رواية «ذاكرة الجسد» للروائية أحلام مستغانمي إلى اللغة العبرية.
وتمتدّ التابوهات لتشمل حتى الدعوة لتطبيع العلاقات والتعايش مع أمم أخرى نقاطعها سياسيا أو نختلف معها أيديولوجيا. ومن أخطار التابوهات على البشرية جمعاء أنها تستطيع أن تقف حاجزا مانعا لمساعي إحلال السلام بين الشعوب ومد جسور الصداقة والتعاون بينها. ومن شأنها أن تكون عدوا لدودا لمبادئ الإنسانية والمحبة، فتقف حجر عثرة تعيق سيرها وانتشارها. وإن كانت المعتقدات والطقوس والأيديولوجيات والقوانين أحاطت الإنسان منذ الأزل بخطوط حمراء لا يجوز له تجاوزها، فهل أفلحت العقوبات في ردعه عنها؟
الإنسان حيوان متمرّد بطبيعته، راضخ لميوله، مستكين لأهوائه. وكلّ ما هو ممنوع في الكون من حوله مرغوب فيه، يشدّ نظره إليه، ويستهويه. والتمرّد والخروج عن المألوف سلوك يلازم الإنسان الضعيف بطبعه ولا تسلم منه حتى الملائكة. فها هو إبليس – وهو من الملائكة – يعصي أوامر خالقه ويرفض السجود لآدم في قوله تعالى: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ» (البقرة: 34). وها هما أوّل البشر، آدم وحواء، يعصيان أمر الله ويتجهان إلى شجرة التفاح الممنوعة، فيعاقبان بالخروج من الجنة في قوله تعالى «وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ «35» فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ «36» (البقرة)»
وها هو قابيل ابن آدم يرتكب هو أيضاً المحرمات فيقتل شقيقه هابيل. والتاريخ حافل بمثل هذه الأحداث التي تؤكد طبيعة الإنسان المتمردة ونزعته إلى ارتكاب المحرمات شرعا أو قانونا.
وليست التابوهات وقفا على ثقافة من الثقافات ولا ديانة من الديانات. فالتمرّد على الأحكام معروف منذ قديم الزمان في كل الحضارات. فها هو أفلاطون ينتهك التابو السياسي بنقده النظام الديمقراطي. وها هو سقراط يخترق التابو الديني بمخالفة قومه في وثنيتهم، فيُعاقَب بالإعدام. وانتهاك التابوهات في الأدب العالمي معروف منذ قديم الزمان، وهو انعكاس طبيعي لطبع الإنسان وسلوكه.
ففي تابو الدين، نجد مثلا رواية «الأمير» للكاتب نيكولو مكيافيلي، فقد صدرت سنة 1513 وهي اليوم تُعدُّ من أشهر الروايات التي حظرتها الكنيسة الكاثوليكية، بحجّة أنها تعبث بالعقيدة المسيحية وتضلل من يقرأها. ففي هذه الرواية ينتقد مكيافيلي الدين المسيحي انتقادا شديداً ويحمّل الكنيسة مسؤولية تأخّر قيام الوحدة الوطنية الإيطالية عدة قرون. ورواية «عزازيل» للروائي العربي يوسف زيدان هي أيضاً أثارت جدلا واسعا لأنها تناولت الخلافات اللاهوتية المسيحية القديمة حول طبيعة المسيح ووضع السيدة العذراء، وقيام المسيحيين باضطهاد الوثنيين المصريين في الفترات التي أضحت فيها المسيحية ديانة الأغلبية المصرية. وقد أصدر «الأنبا بيشوي» سكرتير المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية بيانًا اتهم فيه مؤلّف الرواية بالإساءة إلى المسيحية.
وفي تابو الجنس، رواية «مدار السرطان» للكاتب الأمريكي الشهير هنري ميلر تعدّ من أشهر الروايات التي تم حظرها عالميًا لمحتواها الجنسي الصريح. ولم يرفع عنها الحظر إلاَّ في عام 1961، وهي اليوم مصنّفة ضمن الروايات الرومانسية الكلاسيكية. ورواية «عشيق الليدي تشاترلي» للكاتب البريطاني ديفيد هربرت لورانس طبعت أول مرة في فلورنسا عام 1928 وبيع منها أكثر من مليونين نسخة في السنة الأولى من النشر، ومن ثم تم حظرها في المملكة المتحدة وإيرلندا والولايات المتحدة وكندا وأستراليا والصين واليابان، لما فيها من تعبيرات مكشوفة ووصف صريح للجنس بكلمات جنسية جريئة، فمُنِعت من النشر في بادئ الأمر. وفي تابو العرق، رواية «أمير الذباب» للكاتب وليم جولدنج الحائز جائزة نوبل، وهي قصة أثارت جدلا واسعا بمجرد نشرها عام 1945، فتمّ حظرها في البداية واتهامها بالعنصرية، لأنها تلمّح إلى أن الشر مرتبط بالبشرة السوداء.
وقد تتعدد التابوهات في رواية واحدة فتتعدد بذلك أسباب الحظر. فرواية «قلب الظلام» للروائي البولندي البريطاني جوزيف كونراد عام1902، تم حضرها في مناطق من الولايات المتحدة الأمريكية لاستخدامها كلمة «زنجي». وتم حظرها أيضا في الاتحاد السوفيتي وألمانيا وبولندا لأسباب سياسية.
والتمرد على التابوهات في الأدب العربي ليس حديث النشأة. فنحن إن نظرنا إلى الماضي أدركنا أنه يضرب بجذوره في أعماق التاريخ، ووجدنا له آثارا تمتدّ إلى العصر الجاهلي وصدر الإسلام. فها هم الشعراء الصعاليك من أمثال الشنفرى وقيس بن الحدادية وعروة بن الورد يثورون على أوضاع مجتمعاتهم، فتتجلّى في أشعارهم بذور النقد السياسي. وها هو الشعر الإباحي ينضج في العصر الأموي على أيدي أدباء من أمثال سحيم عبد بني الحسحاس وعمر ابن أبي ربيعة الذي يعدّ زعيم الغزل الإباحي. وها هو الأدب العربي في العصر العباسي يخطو خطوة كبيرة في طريق التهتك والإباحية وبألفاظ فاحشة على أيدي أدباء من أمثال أبي نواس ومطيع بن أياس وحماد عجرد.
ويتواصل الأدب الإباحي في العصر الحديث من خلال أعمال نجيب محفوظ، وهو القائل: «عندما أكتب لا أعبأ بشيء على الإطلاق». ونجده في مؤلفات الكاتبة عالية ممدوح وإلهام منصور وليلى عثمان وعدد متزايد من الأدباء. وإن كنا في بعض المؤلفات الحديثة نرى مشاهد جنسية عفوية طبيعية تتشابك مع خيوط القصّة ضمن نسيج روائي منسجم ومتكامل، فإننا في أعمال أخرى نشعر بتكلّف وإسراف. ونشعر بأنّ الجنس صار غاية ينشدها الكاتب وليس وسيلة يصور من خلالها بعض أحداث روايته، وطبعا إذا زاد الشيء عن حدّه انقلب ضدّه.
الإبداع يعتمد على الخيال، والخيال لا يقبل أن يقيّد بقيود، والإبداع يحبّ كلّ ما هو طبيعي تلقائي، ولا يحبّ التكلّف والمبالغة بغير حدود. والإبداع مثل الشجرة. فإن كانت الشجرة تحتاج إلى فضاء لتُغصن وتُبرعم، فإنّ الإبداع أيضا يحتاج إلى فضاء لينمو ويتبلور. وإن كانت الشجرة تحتاج إلى ماء لكي تبقى على قيد الحياة، فإنّ الإبداع أيضا يحتاج إلى ماء. وماء الإبداع ينبع من أفكارنا وخيالنا. والإبداع مثل الشجرة، إن كان يحيا بالماء فإنه قد يموت من كثرة الماء. ومن يسعى لتقييد إبداعنا فهو كمَن يسعى لتقييد الهواء في السماء، أو كمَن يسعى للسباحة ضد تيارٍ مائي متدفّق، وذلك أبعد ما يكون عن المنطق. فإن قال لي قائل: لماذا تجرّأت وكتبتَ ما كتبت؟ قلتُ: إنِّي أكتبُ كما أردتُ أنا وليس كما أردتَ. فهذا أنا وليس أنتَ. فإن مانعتَ، خذ قلمي واكتب به أنتَ ما شئتَ.
......
*روائي جزائري مقيم في بريطانيا
اختلف المفكرون واللغويون في تسميتها، فقالوا عنها «تابوهات» و«طابوهات» و«تابوات» و«محظورات» و«محرمات» و«مسكوت عنه» وما شابه ذلك. وعادة ما تُقرَن في مجتمعاتنا العربية بثلاثة مواضيع وهي الدين والجنس والحاكم، وتُعرف باسم «الثالوث المحرّم».
وما هي في واقع الأمر وقفا على هذا الثالوث، فهي أكبر وأوسع وتتعدّى هذه العتبات والخطوط الحمراء والحدود لتمتدّ إلى فضاءات أخرى ليست أقلّ شأنا. فالتابوهات تشمل كل ما يحرّم مسّه أو ما لا يحلّ انتهاكه في المجتمع، ومن شأنه أن يثير حساسيةً وجدلاً وفتنةً.
فمن التابوهات الأخرى التي لا تقل أهمية تابوهات قبلية وطائفية ومذهبية، ومن جملة ذلك على سبيل المثال حساسية كتابة الكردي عن العربي، أو العربي عن الأمازيغي، أو السني عن الشيعي، أو المسيحي عن المسلم، أو المسلم عن اليهودي، أو المسيحي الكاثوليكي عن المسيحي البروتستانتي، وغير ذلك. ولعلّ أبسط مثال على هذه الحساسيات عندنا هو ما أثير من جدلٍ في الوطن العربي آنفا في موضوع احتمال ترجمة رواية «ذاكرة الجسد» للروائية أحلام مستغانمي إلى اللغة العبرية.
وتمتدّ التابوهات لتشمل حتى الدعوة لتطبيع العلاقات والتعايش مع أمم أخرى نقاطعها سياسيا أو نختلف معها أيديولوجيا. ومن أخطار التابوهات على البشرية جمعاء أنها تستطيع أن تقف حاجزا مانعا لمساعي إحلال السلام بين الشعوب ومد جسور الصداقة والتعاون بينها. ومن شأنها أن تكون عدوا لدودا لمبادئ الإنسانية والمحبة، فتقف حجر عثرة تعيق سيرها وانتشارها. وإن كانت المعتقدات والطقوس والأيديولوجيات والقوانين أحاطت الإنسان منذ الأزل بخطوط حمراء لا يجوز له تجاوزها، فهل أفلحت العقوبات في ردعه عنها؟
الإنسان حيوان متمرّد بطبيعته، راضخ لميوله، مستكين لأهوائه. وكلّ ما هو ممنوع في الكون من حوله مرغوب فيه، يشدّ نظره إليه، ويستهويه. والتمرّد والخروج عن المألوف سلوك يلازم الإنسان الضعيف بطبعه ولا تسلم منه حتى الملائكة. فها هو إبليس – وهو من الملائكة – يعصي أوامر خالقه ويرفض السجود لآدم في قوله تعالى: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ» (البقرة: 34). وها هما أوّل البشر، آدم وحواء، يعصيان أمر الله ويتجهان إلى شجرة التفاح الممنوعة، فيعاقبان بالخروج من الجنة في قوله تعالى «وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ «35» فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ «36» (البقرة)»
وها هو قابيل ابن آدم يرتكب هو أيضاً المحرمات فيقتل شقيقه هابيل. والتاريخ حافل بمثل هذه الأحداث التي تؤكد طبيعة الإنسان المتمردة ونزعته إلى ارتكاب المحرمات شرعا أو قانونا.
وليست التابوهات وقفا على ثقافة من الثقافات ولا ديانة من الديانات. فالتمرّد على الأحكام معروف منذ قديم الزمان في كل الحضارات. فها هو أفلاطون ينتهك التابو السياسي بنقده النظام الديمقراطي. وها هو سقراط يخترق التابو الديني بمخالفة قومه في وثنيتهم، فيُعاقَب بالإعدام. وانتهاك التابوهات في الأدب العالمي معروف منذ قديم الزمان، وهو انعكاس طبيعي لطبع الإنسان وسلوكه.
ففي تابو الدين، نجد مثلا رواية «الأمير» للكاتب نيكولو مكيافيلي، فقد صدرت سنة 1513 وهي اليوم تُعدُّ من أشهر الروايات التي حظرتها الكنيسة الكاثوليكية، بحجّة أنها تعبث بالعقيدة المسيحية وتضلل من يقرأها. ففي هذه الرواية ينتقد مكيافيلي الدين المسيحي انتقادا شديداً ويحمّل الكنيسة مسؤولية تأخّر قيام الوحدة الوطنية الإيطالية عدة قرون. ورواية «عزازيل» للروائي العربي يوسف زيدان هي أيضاً أثارت جدلا واسعا لأنها تناولت الخلافات اللاهوتية المسيحية القديمة حول طبيعة المسيح ووضع السيدة العذراء، وقيام المسيحيين باضطهاد الوثنيين المصريين في الفترات التي أضحت فيها المسيحية ديانة الأغلبية المصرية. وقد أصدر «الأنبا بيشوي» سكرتير المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية بيانًا اتهم فيه مؤلّف الرواية بالإساءة إلى المسيحية.
وفي تابو الجنس، رواية «مدار السرطان» للكاتب الأمريكي الشهير هنري ميلر تعدّ من أشهر الروايات التي تم حظرها عالميًا لمحتواها الجنسي الصريح. ولم يرفع عنها الحظر إلاَّ في عام 1961، وهي اليوم مصنّفة ضمن الروايات الرومانسية الكلاسيكية. ورواية «عشيق الليدي تشاترلي» للكاتب البريطاني ديفيد هربرت لورانس طبعت أول مرة في فلورنسا عام 1928 وبيع منها أكثر من مليونين نسخة في السنة الأولى من النشر، ومن ثم تم حظرها في المملكة المتحدة وإيرلندا والولايات المتحدة وكندا وأستراليا والصين واليابان، لما فيها من تعبيرات مكشوفة ووصف صريح للجنس بكلمات جنسية جريئة، فمُنِعت من النشر في بادئ الأمر. وفي تابو العرق، رواية «أمير الذباب» للكاتب وليم جولدنج الحائز جائزة نوبل، وهي قصة أثارت جدلا واسعا بمجرد نشرها عام 1945، فتمّ حظرها في البداية واتهامها بالعنصرية، لأنها تلمّح إلى أن الشر مرتبط بالبشرة السوداء.
وقد تتعدد التابوهات في رواية واحدة فتتعدد بذلك أسباب الحظر. فرواية «قلب الظلام» للروائي البولندي البريطاني جوزيف كونراد عام1902، تم حضرها في مناطق من الولايات المتحدة الأمريكية لاستخدامها كلمة «زنجي». وتم حظرها أيضا في الاتحاد السوفيتي وألمانيا وبولندا لأسباب سياسية.
والتمرد على التابوهات في الأدب العربي ليس حديث النشأة. فنحن إن نظرنا إلى الماضي أدركنا أنه يضرب بجذوره في أعماق التاريخ، ووجدنا له آثارا تمتدّ إلى العصر الجاهلي وصدر الإسلام. فها هم الشعراء الصعاليك من أمثال الشنفرى وقيس بن الحدادية وعروة بن الورد يثورون على أوضاع مجتمعاتهم، فتتجلّى في أشعارهم بذور النقد السياسي. وها هو الشعر الإباحي ينضج في العصر الأموي على أيدي أدباء من أمثال سحيم عبد بني الحسحاس وعمر ابن أبي ربيعة الذي يعدّ زعيم الغزل الإباحي. وها هو الأدب العربي في العصر العباسي يخطو خطوة كبيرة في طريق التهتك والإباحية وبألفاظ فاحشة على أيدي أدباء من أمثال أبي نواس ومطيع بن أياس وحماد عجرد.
ويتواصل الأدب الإباحي في العصر الحديث من خلال أعمال نجيب محفوظ، وهو القائل: «عندما أكتب لا أعبأ بشيء على الإطلاق». ونجده في مؤلفات الكاتبة عالية ممدوح وإلهام منصور وليلى عثمان وعدد متزايد من الأدباء. وإن كنا في بعض المؤلفات الحديثة نرى مشاهد جنسية عفوية طبيعية تتشابك مع خيوط القصّة ضمن نسيج روائي منسجم ومتكامل، فإننا في أعمال أخرى نشعر بتكلّف وإسراف. ونشعر بأنّ الجنس صار غاية ينشدها الكاتب وليس وسيلة يصور من خلالها بعض أحداث روايته، وطبعا إذا زاد الشيء عن حدّه انقلب ضدّه.
الإبداع يعتمد على الخيال، والخيال لا يقبل أن يقيّد بقيود، والإبداع يحبّ كلّ ما هو طبيعي تلقائي، ولا يحبّ التكلّف والمبالغة بغير حدود. والإبداع مثل الشجرة. فإن كانت الشجرة تحتاج إلى فضاء لتُغصن وتُبرعم، فإنّ الإبداع أيضا يحتاج إلى فضاء لينمو ويتبلور. وإن كانت الشجرة تحتاج إلى ماء لكي تبقى على قيد الحياة، فإنّ الإبداع أيضا يحتاج إلى ماء. وماء الإبداع ينبع من أفكارنا وخيالنا. والإبداع مثل الشجرة، إن كان يحيا بالماء فإنه قد يموت من كثرة الماء. ومن يسعى لتقييد إبداعنا فهو كمَن يسعى لتقييد الهواء في السماء، أو كمَن يسعى للسباحة ضد تيارٍ مائي متدفّق، وذلك أبعد ما يكون عن المنطق. فإن قال لي قائل: لماذا تجرّأت وكتبتَ ما كتبت؟ قلتُ: إنِّي أكتبُ كما أردتُ أنا وليس كما أردتَ. فهذا أنا وليس أنتَ. فإن مانعتَ، خذ قلمي واكتب به أنتَ ما شئتَ.
......
*روائي جزائري مقيم في بريطانيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.