في بداية نشأته، لم يكن للمقهى أي حضور في الحياة السياسية أو الثقافية، بل مجرد مكان يلتقي فيه أبناء المدينة مع بعضهم البعض، أو للقاء مع من لا يرغبون في اصطحابه إلى منازلهم حتى لا يطلعوا على أسرار بيوتهم. كما ارتبط المقهى أيضا بمحبي تدخين الشيشة واحتساء القهوة. شخص واحد فقط أعطى للمقاهي أهمية وهو جمال الدين الأفغاني – المفكر والمصلح الاجتماعي - الذي كان يوزع النشوق بيمينه والمنشورات الثورية باليد اليسرى على الشيخ محمد عبده وسعد زغلول وعبدالله النديم وآخرين غيروا مجرى الحياة السياسية والثقافية في مصر. واستمر الأمر بعدها وارتبطت مقاهي محددة بأسماء ثقافية وأدبية معروفة.. أنور المعداوي في مقهى "شرف" في الجيزة ولنفس الأسباب السابقة. العديد من الأدباء اتفقوا على أن يخصوا مقهى معينا بجلوسهم عليه لقربه من منازلهم أو أماكن عملهم وأحياناً لمجرد إيجاد مكان خاص بهم. وقد يتصور أن للمقهى شخصية مميزة جذبت الأدباء والمثقفون إليه. ولكن المسألة كلها أنهم هم الذين صنعوا للمقهى كل هذه الجاذبية والخيال، وبدونهم يتحول إلى مجرد مقهى لا ميزة له إلا طبيعة المكان وتجهيزاته. أهم الأدباء الذين ارتبط اسمهم بالمقاهي هو نجيب محفوظ الذي لم يذكر أحد أنه زاره في منزله سواء من أصدقائه أو معارفه إلا في سنواته الأخيرة، حيث أقعده المرض وتحول الجلوس في المقهى ليس مجرد طقس يوحى بل "فسحة" ورحلة ترفيهية ليتذكر جلساته مع أصدقائه. محفوظ كتب عمر المقاهي بدقة.. حواديتها وطبيعة روادها وأصحابها، وكتب عدة روايات حملت أسماء مقاهٍ أحب الجلوس فيها مثل "قشتمر" و"الكرنك"، وكان للمقهى حضور في روايته "زقاق المدق"، وكان يسمى "عش البلبل". أما المقاهي التي ارتبطت باسمه فمنها مقهى "علي بابا" الذي يطل على ميدان التحرير، فقد اعتاد أن يرتاده في الصباح الباكر، ويجلس في طابقه العلوي متأملاً الميدان الفسيح من النافذة، وهو يرتشف قهوته، ويطالع صحف الصباح، ليزداد المقهى شهرة وحركة، بعد أن حصل محفوظ على نوبل، ليتسلل إليه (الفضوليون) في انتظار رؤية أديبهم الكبير، الذي كان يبادلهم التحية، وترتسم على وجهه ابتسامته المعهودة. كان محفوظ يرتاد قبل ذلك مقاهيَ عديدة مثل "الفيشاوي"، و"كازينو الأوبرا" و"ريش" و"كازينو قصر النيل"، أما في الإسكندرية كانت جلسته الأدبية في مقهى "بترو" أو "تريانون"، حيث تتحول الجلسة إلى ندوة ثقافية، وغالباً ما تضم أصدقاءه من جماعة "الحرافيش". يذكر الروائي إبراهيم عبدالمجيد، أن لقاءه الأول بمحفوظ كان بمقهى "بترو" في الإسكندرية، وأنه انجذب لحديث محفوظ وسائر الأدباء المتحلقين حوله، ثم دفعه النداء ليمضي وراء محفوظ في المقاهي القاهرية، ودائماً ما كان يجلس صامتاً، وهو يراقب الرجل في حديثه وصمته، دون أن يتكلم أو يشارك في الحوار. ويحضر المقهى كمكان لدراما حية ومتفجرة بالمأساة والكوميديا في آن واحد. وقد شهد العديد من المواقف، وكتب فيه الشعراء والأدباء إبداعاتهم، ومنهم الشاعر الراحل نجيب سرور الذي استوحى قصائد ديوانه "بروتوكولات حكماء ريش" من أجواء مقهى "ريش"، وطرح إحباطات عصر عاشه من خلال تمركز المثقفين وثرثرتهم الدائمة في أعقاب هزيمة يونيو/حزيران 1967. ومن مقهى "ريش" انطلقت فكرة مجلة "جاليري 68"، التي أسسها مجموعة من المثقفين بعد نكسة 1967، ليقدموا إبداعاً مغايراً من خلال نصوص جميل عطية إبراهيم، وسيد حجاب، وعبدالرحمن الأبنودي، وإبراهيم منصور، وإدوار الخراط، وإبراهيم فتحي وآخرين. ولو عدنا إلى الوراء لوجدنا العديد من الذكريات التي تجسدت على مسرح "المقهى"، وهو ما يقوله عبدالمنعم شميس في كتابه "شخصيات مصرية": "كانت فترة السهرة عند د. زكي مبارك تبدأ من منتصف الليل. وكان مكانها مقهى صغيراً في ميدان التوفيقية. صيفاً على الرصيف وشتاء داخل المقهى. منضدة محجوزة دائماً للدكاترة، ومعظم المقاعد لأصدقائه ومريديه من الأدباء والمتأدبين والهواة". ويضيف شميس: كان زكي مبارك يكتب مقالاته الشهيرة "الحديث ذو الشجون" على هذه المنضدة الرخامية ذات القاعدة الحديدية. يكتب على أوراق يجدها بين يديه. وعندما يكتب بقلم "الكوبيا" الشهير الذي كان يحتفظ به في جيبه الأعلى. كان الصمت يسود حتى يعود القلم إلى مكانه، وتندس الورقة في جيب الدكتور، ثم تبدأ الجلبة مرة أخرى". ورغم التحولات التي طرأت على شكل لقاءات الأدباء، فإن المقهى لا يزال بحضوره الخاص، قيمة وضرورة ليشعر المبدع بحريته الكاملة وسط الناس، دون "التقولب" داخل الصالونات الباردة. ويطالب الشاعر محمد أبو دومة، بضرورة توفير مقاهي ثقافية لهذا العدد الهائل من الأدباء الشباب، فقد كان المبدع الشاب في الأزمنة الماضية، يبحث عن أديب كبير يتعلم منه، والآن لا يحدث هذا، أما الآن فكل شاعر يضع نفسه فوق هامة المتنبي، وأصبح عادياً أن نسمع شاباً ينفي الشعرية عن شوقي أو نزار، وذلك لغياب التواصل الحميم بين الأجيال. وقد رأى القائمون على معرض القاهرة للكتاب، ابتداع شكل المخيمات الثقافية التي يتواصل فيها جمهور المعرض مع أشكال إبداعية عديدة، ومن بينها المقهى الثقافي الذي يلتقي فيه الرواد بتنويعات إبداعية وأدباء من رموز الحركة الثقافية، ويتواصل بينهم النقاش حول العديد من القضايا الفكرية والأدبية. والطريف أن إبراهيم عبدالمجيد كان يقوم بالإشراف على المقهى الثقافي ضمن فعاليات معرض القاهرة للكتاب. تقول الناقدة فريدة النقاش: لا تزال بعض المقاهي موجودة وتمارس دورها، ولكنه دور هامشي، لأن الدور الرئيسي انتقل للأماكن المخصّصة الأخرى، مثل المكتبات العامة والأحزاب السياسية التي تعقد منتديات ثقافية، وكان من الضروري أن تنزوي أهمية المقاهي. ويسأل البعض سؤالاً مشروعاً حول استمرار المقاهي في أداء دور الملتقى الذي يجمع من الأجيال الأدبية لمجرد أن هناك مقهى شهير معروف بوجود المثقفين الدائم واعتيادهم الجلوس عليه، والحقيقة الواقع الحالي يؤكد أن الأمر لم يتبدل بالشكل الذي يمكن أن يصوّره البعض بسبب آليات التحديث ووجود فضاء واسع خلفته شبكة الإنترنت، فقد ولدت في السنوات الأخيرة عدة مقاهي صنعت شهرة واسعة لمجرد تحولها إلى ملتقى لناشطي الشباب وبعض المدونين والنشطاء السياسيين. في بداية نشأته، لم يكن للمقهى أي حضور في الحياة السياسية أو الثقافية، بل مجرد مكان يلتقي فيه أبناء المدينة مع بعضهم البعض، أو للقاء مع من لا يرغبون في اصطحابه إلى منازلهم حتى لا يطلعوا على أسرار بيوتهم. كما ارتبط المقهى أيضا بمحبي تدخين الشيشة واحتساء القهوة. شخص واحد فقط أعطى للمقاهي أهمية وهو جمال الدين الأفغاني – المفكر والمصلح الاجتماعي - الذي كان يوزع النشوق بيمينه والمنشورات الثورية باليد اليسرى على الشيخ محمد عبده وسعد زغلول وعبدالله النديم وآخرين غيروا مجرى الحياة السياسية والثقافية في مصر. واستمر الأمر بعدها وارتبطت مقاهي محددة بأسماء ثقافية وأدبية معروفة.. أنور المعداوي في مقهى "شرف" في الجيزة ولنفس الأسباب السابقة. العديد من الأدباء اتفقوا على أن يخصوا مقهى معينا بجلوسهم عليه لقربه من منازلهم أو أماكن عملهم وأحياناً لمجرد إيجاد مكان خاص بهم. وقد يتصور أن للمقهى شخصية مميزة جذبت الأدباء والمثقفون إليه. ولكن المسألة كلها أنهم هم الذين صنعوا للمقهى كل هذه الجاذبية والخيال، وبدونهم يتحول إلى مجرد مقهى لا ميزة له إلا طبيعة المكان وتجهيزاته. أهم الأدباء الذين ارتبط اسمهم بالمقاهي هو نجيب محفوظ الذي لم يذكر أحد أنه زاره في منزله سواء من أصدقائه أو معارفه إلا في سنواته الأخيرة، حيث أقعده المرض وتحول الجلوس في المقهى ليس مجرد طقس يوحى بل "فسحة" ورحلة ترفيهية ليتذكر جلساته مع أصدقائه. محفوظ كتب عمر المقاهي بدقة.. حواديتها وطبيعة روادها وأصحابها، وكتب عدة روايات حملت أسماء مقاهٍ أحب الجلوس فيها مثل "قشتمر" و"الكرنك"، وكان للمقهى حضور في روايته "زقاق المدق"، وكان يسمى "عش البلبل". أما المقاهي التي ارتبطت باسمه فمنها مقهى "علي بابا" الذي يطل على ميدان التحرير، فقد اعتاد أن يرتاده في الصباح الباكر، ويجلس في طابقه العلوي متأملاً الميدان الفسيح من النافذة، وهو يرتشف قهوته، ويطالع صحف الصباح، ليزداد المقهى شهرة وحركة، بعد أن حصل محفوظ على نوبل، ليتسلل إليه (الفضوليون) في انتظار رؤية أديبهم الكبير، الذي كان يبادلهم التحية، وترتسم على وجهه ابتسامته المعهودة. كان محفوظ يرتاد قبل ذلك مقاهيَ عديدة مثل "الفيشاوي"، و"كازينو الأوبرا" و"ريش" و"كازينو قصر النيل"، أما في الإسكندرية كانت جلسته الأدبية في مقهى "بترو" أو "تريانون"، حيث تتحول الجلسة إلى ندوة ثقافية، وغالباً ما تضم أصدقاءه من جماعة "الحرافيش". يذكر الروائي إبراهيم عبدالمجيد، أن لقاءه الأول بمحفوظ كان بمقهى "بترو" في الإسكندرية، وأنه انجذب لحديث محفوظ وسائر الأدباء المتحلقين حوله، ثم دفعه النداء ليمضي وراء محفوظ في المقاهي القاهرية، ودائماً ما كان يجلس صامتاً، وهو يراقب الرجل في حديثه وصمته، دون أن يتكلم أو يشارك في الحوار. ويحضر المقهى كمكان لدراما حية ومتفجرة بالمأساة والكوميديا في آن واحد. وقد شهد العديد من المواقف، وكتب فيه الشعراء والأدباء إبداعاتهم، ومنهم الشاعر الراحل نجيب سرور الذي استوحى قصائد ديوانه "بروتوكولات حكماء ريش" من أجواء مقهى "ريش"، وطرح إحباطات عصر عاشه من خلال تمركز المثقفين وثرثرتهم الدائمة في أعقاب هزيمة يونيو/حزيران 1967. ومن مقهى "ريش" انطلقت فكرة مجلة "جاليري 68"، التي أسسها مجموعة من المثقفين بعد نكسة 1967، ليقدموا إبداعاً مغايراً من خلال نصوص جميل عطية إبراهيم، وسيد حجاب، وعبدالرحمن الأبنودي، وإبراهيم منصور، وإدوار الخراط، وإبراهيم فتحي وآخرين. ولو عدنا إلى الوراء لوجدنا العديد من الذكريات التي تجسدت على مسرح "المقهى"، وهو ما يقوله عبدالمنعم شميس في كتابه "شخصيات مصرية": "كانت فترة السهرة عند د. زكي مبارك تبدأ من منتصف الليل. وكان مكانها مقهى صغيراً في ميدان التوفيقية. صيفاً على الرصيف وشتاء داخل المقهى. منضدة محجوزة دائماً للدكاترة، ومعظم المقاعد لأصدقائه ومريديه من الأدباء والمتأدبين والهواة". ويضيف شميس: كان زكي مبارك يكتب مقالاته الشهيرة "الحديث ذو الشجون" على هذه المنضدة الرخامية ذات القاعدة الحديدية. يكتب على أوراق يجدها بين يديه. وعندما يكتب بقلم "الكوبيا" الشهير الذي كان يحتفظ به في جيبه الأعلى. كان الصمت يسود حتى يعود القلم إلى مكانه، وتندس الورقة في جيب الدكتور، ثم تبدأ الجلبة مرة أخرى". ورغم التحولات التي طرأت على شكل لقاءات الأدباء، فإن المقهى لا يزال بحضوره الخاص، قيمة وضرورة ليشعر المبدع بحريته الكاملة وسط الناس، دون "التقولب" داخل الصالونات الباردة. ويطالب الشاعر محمد أبو دومة، بضرورة توفير مقاهي ثقافية لهذا العدد الهائل من الأدباء الشباب، فقد كان المبدع الشاب في الأزمنة الماضية، يبحث عن أديب كبير يتعلم منه، والآن لا يحدث هذا، أما الآن فكل شاعر يضع نفسه فوق هامة المتنبي، وأصبح عادياً أن نسمع شاباً ينفي الشعرية عن شوقي أو نزار، وذلك لغياب التواصل الحميم بين الأجيال. وقد رأى القائمون على معرض القاهرة للكتاب، ابتداع شكل المخيمات الثقافية التي يتواصل فيها جمهور المعرض مع أشكال إبداعية عديدة، ومن بينها المقهى الثقافي الذي يلتقي فيه الرواد بتنويعات إبداعية وأدباء من رموز الحركة الثقافية، ويتواصل بينهم النقاش حول العديد من القضايا الفكرية والأدبية. والطريف أن إبراهيم عبدالمجيد كان يقوم بالإشراف على المقهى الثقافي ضمن فعاليات معرض القاهرة للكتاب. تقول الناقدة فريدة النقاش: لا تزال بعض المقاهي موجودة وتمارس دورها، ولكنه دور هامشي، لأن الدور الرئيسي انتقل للأماكن المخصّصة الأخرى، مثل المكتبات العامة والأحزاب السياسية التي تعقد منتديات ثقافية، وكان من الضروري أن تنزوي أهمية المقاهي. ويسأل البعض سؤالاً مشروعاً حول استمرار المقاهي في أداء دور الملتقى الذي يجمع من الأجيال الأدبية لمجرد أن هناك مقهى شهير معروف بوجود المثقفين الدائم واعتيادهم الجلوس عليه، والحقيقة الواقع الحالي يؤكد أن الأمر لم يتبدل بالشكل الذي يمكن أن يصوّره البعض بسبب آليات التحديث ووجود فضاء واسع خلفته شبكة الإنترنت، فقد ولدت في السنوات الأخيرة عدة مقاهي صنعت شهرة واسعة لمجرد تحولها إلى ملتقى لناشطي الشباب وبعض المدونين والنشطاء السياسيين.