الروائي المصري جمال الغيطاني الذي توفي الأحد الماضي في إحدى مستشفيات العاصمة المصرية القاهرة عن عمر ناهز السبعين عاما يعد من الكتاب الذين أثروا في الحياة الثقافية بعد هزيمة 1967 وكتبوا أعمالهم بلغة سردية جديدة نهلت من التراث العربي واجترحت لغة الأسلاف وركبت موجة التغيير الذي طال المجتمع العربي بعد الهزيمة التي أثرت في الحياة الثقافية وتوجهات السرد والمحتوى. ولجمال الغيطاني روايات وأعمال قصصية كثيرة ربما كان من أشهرها رواية"الزيني بركات" التي تحولت إلى عمل تلفزيوني وترجمت إلى أكثر من لغة وحققت صدى كبيرا في الوسط الروائي والثقافي العربي. تعتبر رواية البصائر والمصائر التي ترجمت أيضا إلى أكثر من لغة ونشرت في طبعات وإصدارات كثيرة، واحدة من أهم أعماله الأدبية التي كتبها الغيطاني ونشرها عام 1988، فهي رواية عميقة أبرزت التحولات والإبدالات الاجتماعية التي طرأت على المجتمع المصري منذ منتصف الستينيات حتى نهاية الثمانينيات نتيجة الانفتاح الاقتصادي الذي دفع بالمصريين للخروج من مصر للعمل في الدول العربية وخاصة منطقة الخليج العربي. وقد بنى الغيطاني روايته هذه على شكل مجموعة من القصص المتصلة والمنفصلة في نفس الوقت، بحيث رصدت كل قصة منفصلة التغيرات الواقعية لكل شخصية ضمن رؤية واحدة تربط الشخصية بالأحداث الأخرى لتكتمل الرؤية في آخر العمل الروائي وتكون صورة واحدة لما أراد أن الغيطاني أن يقدمه للقاريء. يعتبر هذا الشكل الذي قدم فيه الغيطاني عمله الروائي من الأشكال السردية الجديدة التي ظهرت في الثمانينيات، وقد ذكر الغيطاني في حوار صحفي معه لجريدة أخبار الأدب أن هذا الشكل الروائي الذي اعتمد في بنائه على أحداث سردية منفصلة وقصص متداخلة "أتت هذه الرواية في إطار جهودي من أجل تأصيل الفن القصصي العربي، وعلى أية حال فأنا دائب الجهد في البحث عن أشكال فريدة للقص مستندا الى التراث العربي والى التراث الانساني عامة". أهمية هذه الرواية تشكلت من جانبين هو موضوعها الذي اتخذ من قصص الشخصيات الكثيرة التي هاجرت للعمل خارج مصر نتيجة الفقر والانفتاح في سوق العمل في الخارج في فترة الثمانينيات وما لاقت تلك الشخصيات من غربة واغتراب وتفاصيل يومية مأساوية وما انتهت إليه كل شخصية، والجانب الآخر هو جانب أسلوبي حيث التحديث والتغيير الذي حبك فيه الغيطاني مجموعة من الشخصيات وأحداثها الكثيرة في قصص منفصلة ومتصلة بنفس الوقت. وقد حقق الغيطاني في هذه الرواية وفي غيرها أيضا خروجا عن مألوف السرد في الكتابة الروائية في الستينيات التي كانت تتخذ الشكل النمطي ذا الخط الأسلوبي الواحد الذي تسير فيه الأحداث جنبا إلى جنب مع الشخصية وحول السرد في أعماله إلى تمازج وتداخل بين الأحداث وبين الشخصيات التي يخيل للقاريء أنها تنتمي إلى التاريخ القديم. لكنها في الواقع شخصيات هذا العصر، وربما كانت اللغة التي كتب فيها الغيطاني أعماله الروائية والتي اجترحت اللغة الصوفية ولغة السلف ما يجعل القاريء يدخل إلى الواقع بمفردة التاريخ ويقرأ الشخصية الواقعية برؤية تاريخية. لقد تجلت في هذه الرواية الصدمات الحضارية والإنسانية التي أنتجها الانفتاح الاقتصادي المشوه على الشعب المصري وظهرت آثاره النفسية على الشخوص وفصلها الغيطاني في كل صدمة تلقتها كل شخصية بحيث أظهر لنا الحاجة المادية حين تكون وحشا يستنفر ليحقق أكثر ما يستطيع من الضحية، يستنفر إلى الحد الذي ينهك فيه النفس ويرديها ضائعة وبلا ملامح.