استعانت بذاكرة الشعب المصري وموروثه، وأطلقت عبارتها العبقرية: «ولاد راشيل ينطبق عليهم المثل الشعبي: عويل ولسانه طويل». لم يكن الأمر مجرد حوار سياسي، بل تجسيد لعبقرية مصرية أصيلة تعرف كيف تختزل الموقف في جملة شعبية تنفذ مباشرة إلى القلب والعقل معًا. اعترف أننى لم أكن أظن أن لقاءً تليفزيونيًا عابرًا يمكن أن يترك أثرًا بهذا العمق فى وجداني. لكنني، حين شاهدتها لأول مرة، أدركت أننى أمام موجة متدفقة من الحضور الطاغي، وصوت استثنائى نابض بالحقيقة، لا يشبه ما اعتدنا عليه من وجوه باهتة وكلمات جوفاء. وجدت نفسى مأخوذة بذلك السحر المنبثق من أفكارها، وكأن حضورها نفسه فعل مقاومة. كلماتها القوية، المنبثقة من معرفة عميقة ووعى وطنى صادق، كانت سيفًا يطعن زيف الخصوم، حتى شعرت أن مصر كلها تتحدث بلسانها. ◄ فوق رقعة الشطرنج في كل مواجهة تخوضها «هند الضاوي»، تشعر أنها تحمل على كتفيها ميراث سبعة آلاف عام من الكبرياء والكرامة. فهى ليست مجرد كاتبة أو صحافية، بل روح مصرية أصيلة، تمتلك من الثقافة واللباقة ما يجعلها منبرًا متحركًا، ومن سرعة البديهة ما يحوّل الحوار معها إلى معركة لا تُحسم إلا بانتصارها. تتحرك كما لو كانت على رقعة شطرنج سياسية، تتحكم بها بثقة واقتدار. فى كل كلمة تنطقها يتجلى وعيها التاريخي، وكرهها العميق للاستعمار وأدواته. إنها تجربة حية تجعلنى أعيد النظر فى معنى المرأة المصرية القوية حتى النخاع. ما زلت أذكر تلك المواجهة التى جمعتها مع «إيلى كوهين»، حين حاول أن يسخر بسطحية من النساء، مستهينًا بقدراتهن. فبادرته بجملة خالدة: «النسوان اللى ربتك مش إحنا، إحنا سبعة آلاف سنة حضارة، الست عندنا كانت ملكة.» لم تكن كلماتها ردًا عابرًا، بل بيانًا حضاريًا مكتمل الأركان، أخرسه وجعله يتراجع إلى صمته. بدا واضحًا حينها أن من تقف أمامه ليست امرأة عادية، بل ذاكرة أمة بأسرها، وابنة وطنٍ يعرف كيف يحاور العالم، وكيف يضع الخصوم فى حجمهم الحقيقي. ◄ «عويل ولسانه طويل» وحين تابعتها لاحقًا فى حوارها مع «نائل الزغبي»، أحد أبواق الليكود، وجدتنى أصفق أمام الشاشة دون أن أشعر. ظل الرجل يحاول جرّها إلى عداء مفتعل مع إيران، لكنها، بهدوء الواثق، قطعت عليه الطريق قائلة: «ليس لك علاقة بمشكلتنا مع إيران، نحلها أو نعقدها، هذا شأننا نحن.» وحين أرادت أن تحسم النقاش، استعانت بذاكرة الشعب المصرى وموروثه، وأطلقت عبارتها العبقرية: «ولاد راشيل ينطبق عليهم المثل الشعبي: عويل ولسانه طويل»، عبارة لخصت تاريخ كيانٍ مصطنع، يعيش على الضجيج والادعاء، هنا لم يكن الأمر مجرد حوار سياسي، بل تجسيد لعبقرية مصرية أصيلة تعرف كيف تختزل الموقف فى جملة شعبية تنفذ مباشرة إلى القلب والعقل معًا. إننى لا أكتب مجرد انطباع ناقد عن شخصية عامة، بل أكتب شهادة إعجاب بامرأة رأيتها تمثل بلدى فى أبهى صوره. وابنة وطنٍ يعرف كيف يحاور العالم، وكيف يضع الخصوم فى حجمهم الحقيقي، وفى زمن يزدحم بالأصوات المرتعشة والوجوه المكررة، تظهر «هند الضاوي» لتذكرنا أن مصر لم تفقد قدرتها على إنجاب نساء يرفعن الرأس عاليًا. إنها لا تبحث عن مجد شخصي، ولا تسعى وراء ضوء زائف، بل تجعل من الكلمة رسالة، ومن الحضور الإعلامى واجبًا وطنيًا. مثقفة صارت ضمير وطن لذلك، فإن غياب برنامج خاص بها عن شاشاتنا ليس مجرد تقصير إعلامي، بل تفريط فى كنز بشرى حقيقي. إنها نموذج نادر للكاتبة التى تحولت إلى أيقونة، والمثقفة التى صارت ضمير وطن، والمرأة التى أثبتت أن الكلمة الصادقة تهزم كل آلة دعائية مهما ارتفعت أصواتها. هند الضاوى ليست مجرد قلم يكتب، ولا صوت يعلو، بل هى تجسيد لروح مصرية حرة، تصمت أمامها الأبواق، ويخرس فى حضرتها ضجيج الباطل. ولا أجد ما أختم به أبلغ من: لا فُضّ فوك، ولا جفّ لك قلم. ◄ حين سرق المازني شكسبير قد تظن أن اللصوص لا يسرقون إلا الذهب والمجوهرات، وأن أيديهم لا تمتد إلا إلى الجيوب والخزائن، لكن ماذا لو قلت لك إن أديبًا كبيرًا بدأ رحلته بجريمة سرقة؟ لا من متجر ولا من بيت، بل من مكتبة! سرق كتابًا صغيرًا فى جيب معطفه، ليخفيه فى قلبه وعقله. تلك «السرقة» لم تودِ به إلى قسم الشرطة، بل قادته إلى صدارة الأدب العربي. منذ سنوات، وقعت عينى بالمصادفة على مقال قديم، لا أعرف كيف نجا من مقصلة النسيان، لكنه تسلل إلى قلبى قبل أن يستقر بين أوراقي، احتفظت به كما يحتفظ أحدهم برسالة حب، أو بفاتورة قديمة ليتذكر أنه دُفع ثمن ما لا يستحق. واليوم، وأنا أفتحه من جديد، شعرت كأن الزمن يدور فى حلقة مفرغة: نفس الحكاية، الأقنعة، والكذب الفجّ، لكن الإخراج صار أكثر ابتذالاً، والجمهور أكثر مللاً، والممثلون أسوأ مما كانوا عليه، أما الكارثة الحقيقية أننا ما زلنا نضحك على العرض نفسه! إنها المفارقة التي يسخر منها إبراهيم عبد القادر المازني، فى مقاله «سرقتُ لأصبح أديبًا» المنشور بجريدة أخبار اليوم عام 1948، يقر فيه بأن الطريق إلى الأدب ليس مفروشًا بالورد، بل مرصوفا بالكتب، حتى لو اضطررت إلى خطفها من على الرف، ويعلق فيه على زعم بعض الأدباء الشبان بأن «الشيوخ» يضيقون عليهم الخناق، ساخرًا: «شياطيننا مردة، وشياطينهم صبية يلعبون فى الحارة». ◄ العزف على وتر الفضول أنفق المازنى نصف دخله على الكتب، ولم يشبع. موظفو مكتبة «ديمر» يعرفونه بالاسم، يأتمنونه، لكن جوعه كان أقوى من أمانته، فمد يده خلسة إلى نسخة «جيب» من شكسبير، بينما فى مكتبته نسخة كاملة بشروحها! سرقة كانت خطوة على طريق طويل من السهر، والجوع، والحرمان، والاصرار على المعرفة. إنها جريمة مضحكة أكثر مما هى مدانة: طالب معرفة يسرق ليقرأ. ولو كانت المحاكم تقيم العدل على نوايا السرقة، لصدر الحكم بالبراءة مع وسام تقدير. يذكّرنا أن الأدب لا يُصنع بالوجاهة، وليس صالة انتظار أو مقعدًا وثيرًا يُوزع على الجالسين، بل بالعزف المستمر على وتر الفضول، حتى لو كانت الأوتار مجروحة، طريق شائك، لكنها متعة لا تضاهيها متعة. إنه درس مبطن فى السخرية لأولئك الذين يظنون أن الشهرة تأتى بسهولة، وأن الإبداع حق مكتسب بالفطرة، ولا يدركون أن كل كلمة ناضلت لتولد، وكل فكرة عانت حتى خرجت للنور. المازنى أحد أعمدة النهضة الأدبية، طبع «صندوق الدنيا» دون أن ينال مليمًا، وباع أعظم كتبه بثلاثين جنيهًا، بل قد يبتلع الناشر «الإيصال» إذا سُئل عن حصيلة المبيعات! لكنه ظل يردد المثل الشعبي: «يكفينى نعيرها»، أى صوت الساقية ولو بلا ماء، حين وصل إليه أول «شيك» بخمسة جنيهات مقابل مقال فى الهلال، احمر وجهه خجلًا كأنه ارتكب خيانة، لأنه كان قد أقنع نفسه أن الأدب لا يُباع. ◄ الخلود المسروق مع السهر على القراءة كان الصباح يجيء ثقيلًا على جفونه، فيتغيب عن مدرسته. ناظر المدرسة لم يوبخه، بل قال له: «خذ 15 يومًا، واقرأ ما شئت»، وكأن القدر يتواطأ مع شغفه، أما أستاذه فى الأدب الإنجليزى فظن أنه انصرف عن القراءة بعد الوظيفة، لكنه رآه فى مقهى، غارقًا فى كتاب، فربت على كتفه قائلًا: «أضف عقولًا إلى عقلك»، عبارة لابد أن تُنقش وتُعلّق فوق رأس كل أديب ناشئ يظن أن الشهرة أسرع طريق للخلود. بدأ المازني حياته «لص كتب»، وانتهى إلى أن يصبح «شيخًا» للأدباء، بفضيلة أن يظل تلميذًا أبد الدهر، ذلك هو الدرس الذى تركه لنا: إن كنت تطمح أن تكون أديبًا، فتهيأ لأن تدفع الثمن: سهرًا، وعرقًا، وربما «سرقة نبيلة» تُكتب فى ميزان الفضائل لا الرذائل. دفع المازني وغيره العمر ثمنًا لحفنة أوراق مطبوعة.. والحقيقة أن أولئك لم يسرقوا كتابًا فحسب، بل سرقوا الدهر كله، انتزعوا منه الخلود، وتركوا لنا ما لا يندثر ولا يزول.