بين القرنين الثامن الميلادي والخامس عشر، كان العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، وكانت الفترة نفسها هي مدة الظلام في أوروبا. وفي تلك الحقبة المزدهرة ما انفك علماء المسلمين يضيفون الكثير إلى العلم والمعرفة، وباتت المدن الكبرى في العالم الإسلامي على امتداده من الصين إلى إسبانيا، مثل بغداد والقاهرة ودمشق وقرطبة مركزاً للحضارة الإنسانية. وترجم العلماء المسلمون والعرب المراجع الإغريقية والفارسية والهندية ومخطوطات مدينة الإسكندرية ومشاهداتهم وتجاربهم في الفلسفة والعلوم الاجتماعية والفلك والهندسة والكيمياء والرياضيات، وهو ما كان أساساً بني عليه الطب الحديث. في كتابه «الطب وعلماؤه في عصر الحضارة الإسلامية»، والصادر عن مركز الأهرام للنشر، يؤكد د.محمد رضا محمد عوض أن الطب، بفضل الأطباء المسلمين في القرن العاشر، أخذ شكلاً جيداً لم يكن معروفاً من قبل، لا عند مشاهير أطباء الإغريق مثل أبقراط وجالينوس، ولا عند غيرهما من أطباء الإغريق والفرس والرومان، فقد وضع الأطباء المسلمون والعرب نظاماً كاملاً لتعليم الأطباء وتأهيلهم، فهم أول من أقاموا أكاديميات تعليم الطب، سابقين أوروبا في هذا المضمار بخمسة قرون، وحين ظهرت كليات الطب في أوروبا كانت مماثلة لما هي عليه في العالم الإسلامي. يقول المؤلف: إن المسلمين أنشأوا المستشفيات ووضعوا نظاماً لإدارتها، وبينما ظهر أول مستشفى إسلامي في القرن الثامن الميلادي كان أمام أوروبا خمسة قرون، لتعرف أول مستشفى، وذلك في القرن الثالث عشر في عصر لويس التاسع بعد عودته من الحروب الصليبية في بلاد الشرق. وفي هذه الحقبة، ظهر عمالقة الطب المسلمون والعرب مثل الرازي وابن سينا وابن النفيس وثابت بن قرة، وأبو القاسم الزهراوي وابن البيطار والكندي، وغيرهم ممن أرسوا قواعد الطب الحديث. ووفق المؤلف، كانت ممارسة الطب ودراسته في العصر الإسلامي يتمان بأسلوب علمي سليم، لا يزال متبعاً في جميع كليات الطب العربية والأوروبية، وبذلك كان للطب الإسلامي أثر كبير في تطور الطب الحديث، فقد ساعد على وجود المعايير الطبية الحالية. أما عن انتقال هذه الحضارة إلى أوروبا فكانت، كما يوضح المؤلف، عن طريق مراكز الاتصال بين العالم الإسلامي وأوروبا التي تتمثل في إسبانيا وجزيرة صقلية، كما نهل الغربيون خلال حملاتهم الصليبية على الشام ومصر وشمال إفريقيا كثيراً من منجزات الحضارة الإسلامية في كل المجالات وعادوا بها إلى بلادهم. وكانت الترجمة المنظمة لآلاف المؤلفات العربية إلى اللاتينية بواسطة المترجمين الأوروبيين، وأشهرهم قسطنطين الإفريقي وجيرار دي كريمونة، عاملاً مهماً لانتقال الحضارة الإسلامية إلى إيطاليا وفرنسا، ثم إلى باقي دول أوروبا، كما كانت قرطبة مركزاً مهماً لطالبي العلم في جميع أنحاء أوروبا. ويستشهد المؤلف بقول خوسيه لويس بارسلو عن تأثير العصر الإسلامي على الطب الحديث: «إن الأطباء العرب لم يكتفوا بترجمة المؤلفات الطبية اليونانية والهندية والفارسية القديمة، لكنهم أعطوا العالم أطباء بمعنى الكلمة، وأعطوا الطب شكلاً لم يكن معروفاً من قبل، وكانت مدارسهم مثلاً اقتدى به الغرب، فأسس جامعاته على نفس النحو، وعلم فيها نفس المناهج التعليمية بالمدارس الإسلامية، وخير مثل مدارس الطب في ساليرون بإيطاليا ومونبلييه وباريس بفرنسا». وفي هذا الكتاب يلقي المؤلف الضوء على بعض معالم ذلك المجد والجانب الطبي في الحضارة الإسلامية، كما يقدم نماذج مبهرة للأطباء العرب والمسلمين العظام، في ذلك الوقت الذي كانت فيه الكنيسة الغربية تحرم صناعة الطب، بدعوى أن المرض عقاب من الله لا ينبغي للإنسان أن يبعده عمن يستحقه، وهو الاعتقاد الذي ظل سائداً في الغرب حتى القرن الثاني عشر.