تصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قائمة الشخصيات الأكثر تأثيرا في العالم، وهذا ليس غريبا، لكن الغريب هو أن الاستفتاء أجرته مجلة "فوربس" الأمريكية، في قرار لا يخلو من توجهات وأبعاد سياسية. يحدد المحلل السياسي الروسي، غليب بافلوفسكي، ملامح الصورة التي مثلت جواز سفر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى السلطة بعد فترة الانهيار التي أعقبت فترة يلتسين على الشكل التالي: شاهدنا بروز الشخصية المحببة من الشعب، الرجل الشاب والرياضي المتمتع بصحة جيدة وصاحب التاريخ العسكري، والذي كان جزءا من الجيش ومن وكالة الاستخبارات السوفيتية، باختصار هو الجاسوس الاستثنائي "البطل". ارتضى الرئيس الروسي بوتين الإقامة في هذا التوصيف ولم يغادره قط، فهو يضم البعدين اللذين يجمع المراقبون على اتصافه بهما وهما الغموض المستقى من عمله المخابراتي السابق والنموذج المثالي للرجل القوي والمثير والصياد عاري الصدر وصاحب العضلات البارزة. هذا الجاسوس البطل سعى إلى بناء روسيا تحيا في ظلال صورة البطولة المرتبطة بالجاسوسية. ونجح في استعمال السحر الغامض لها في تكوين نخبة سياسية فاعلة من أعضاء ال"كي جي بي" السابقين وصلت نسبتهم إلى 25 بالمئة في فترة ولايته الأولى لترتفع إلى 42 بالمئة في فترة ولايته الثانية كما تؤكد الباحثة أولغا كريشتا نوفسكا. يصر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أن يعلن دوما أنه (ليس لدى أمريكا أي شيء تعلمنا إياه ) جل البروباغندا الدعائية التي استخدمها بوتين منذ وصوله إلى سدة الحكم تقوم على فكرة واحدة هي مهاجمة الولاياتالمتحدةالأمريكية. وتبدو اللغة التي يستعملها في هذا السياق ذات دلالات لافتة، فهي قطعية ونهائية وليست نقاشية أو جدلية. أمريكا في التصور البوتيني هي المسبب الأساسي لكل الويلات والشرور في العالم، فهو يعلن إثر مشاركته في المؤتمر الأمني الدولي في ميونيخ "سر البلاء هو أحادية القطبية والتفرد الأميركي بقرار العالم وهذه الأحادية هي مزعزعة للاستقرار في العالم". ويضيف "عالم السيد الأوحد مدمر ليس فقط لأولئك الذين يوجدون في إطار هذا النظام بل وللسيد نفسه، لأنه يقوضه. هذا الأمر غير مقبول للعالم المعاصر، بل وغير ممكن أبدا وغير قابل للعمل لعدم وجود أساس أخلاقي أدبي له في الحضارة المعاصرة، ولاستحالة وجوده". يرفض بوتين عالم السيد الأوحد ويعتبر أنه يدمر نفسه ومن معه، ثم يعبّر في انعطافة نفسية حادة وغير مضبوطة الإيقاع عن رغبته في إلغاء الموضوع المزعج بشكل تام حين يعلن عن استحالة وجوده. أمريكا غير موجودة إذا وهي إن وجدت حقا فهي تحيا حالة وجود خيالي وغير فعلي. أمريكا ليست سوى كذبة واختلاق وأوهام وخرافات. وأحادية سيطرتها على العالم لا يمكن أن تعني غير ذلك. أمريكا تحيا حالة انتحار دائمة وهي تأخذ في سيرورة انتحارها العالم معها. إنها التكثيف النهائي والتام للشر والخراب. لم يجد بوتين نفسه معنيا بالإجابة عن سؤال أساسي يفتحه كلامه حول أمريكا ويتعلق بمحاولة تفسير هذا الإغواء الكوني الذي تمارسه أمريكا على العالم بأسره والذي يحيا زمنا أميركيا بامتياز في المجالات الأكثر شيوعا وعالمية، تتعلق بفن صناعة وتوجيه المزاج العالمي ليس في السياسة فقط ولكن في الموضة واللباس والطعام وطريقة الحياة. أمريكا هي غواية العالم والصانعة لمنطق العيش المعاصر ولكنها مستحيلة الوجود. نفي أمريكا في الخيال البوتيني يعني نفيا للعالم المشكّل أميركيا. ما الذي يبقى إذا ما دام العالم كله أميركيا؟ هذا الإعدام الذي يمارسه بوتين في خياله ضد أمريكا إنما يخفي غراما شديدا بها يصل إلى حد الافتتان، لأن البنية التي يرسم من خلالها بوتين صورته تتبع في كل تفاصيلها سياقاً مفاهيمياً أميركيا. وسينظر العديد من الزعماء بعين الحسد إلى مستوى شعبية بوتين لكنها كانت الأدنى بالنسبة إليه في المسح الشهري لليفادا منذ يونيو – حزيران 2000 بعد شهر من بدء أولى فتراته الرئاسية الثلاث. ويحاول بوتين موازاة تلك السيطرة الأمريكية غير المرئية على العالم عبر شبكة الإنترنت بصورة الإله الخفي الغامض الذي يعرف كل شيء، والتي تجد تكثيفها في التصاق الصورة الصانعة لشعبيته بالتكوين المخابراتي الجاسوسي. الجاسوس يحاول منافسة غوغل إذا. ليس هذا الربط بين صورة الإله الخفي وبين غوغل غريبا، فغوغل تتعامل الآن بوصفها نوعا من إله خفي وشامل وكوني، ويكمن سر قوته في انتشاره العام والذي صار بمثابة الخبز اليومي للعالم وواحدا من أكثر عناصره ألفة ووضوحا على مستوى الاستعمال، ولكنه بقي خفيا على مستوى الأصل والمصدر والسيرورة. بوتين الجاسوس يحاول أن يكون غوغلا حيا منتشرا محبوبا ورياضيا ومثيرا وغامضا. غوغل يعرف كل شيء والجاسوس البطل كذلك، ولكنه يبتسم بغموض ولا يلقي بمعرفته بشكل مجاني كما يفعل غوغل الأحمق. يصر بوتين على أن يعلن دوما أنه "ليس لدى أمريكا أي شيء تعلمنا إياه". ربما يكون هذا الكلام صحيحا إلى حد كبير، لأن أمريكا صانعة منطق العالم المعاصر ولا يمكن استقبال حضورها الشامل عبر منطق التماثل والتثاقف والتبادل بل بالتبني والتقمص. لا يعني ذلك أننا نقول إن أمريكا هي صانعة كل الأفكار في العالم بالطبع، ولكنها المسيطرة على آليات التفكير، وتاليا فإن بوتين يكون صادقا في حديثه. لا تستطيع أمريكا أن تعلمه شيئا لأنه لابد أن يتقمصها لكي يكون في قلب العالم المعاصر وفي تكويناته وعقله ومنطقه. بوتين في هذا السياق لا يستطيع النجاة من فعل الأمركة. عوقب باراك أوباما بإزاحته إلى المركز الثاني على قائمة فوربس لأقوى رجال العالم، ليس لأن السياسة الروسية قد تفوقت على السياسة الأمريكية بل لأنه لم يكن أميركيا كما يجب .. مجلة فوربس الأمريكية توجت بوتين بوصفه الرجل الأقوى في العالم مؤخرا؟ هل هذا يعني أنه قد نجح في تدمير إحكام الأحادية الأمريكية المسيطرة على العالم، وزحزحتها عن موقعها بشهادة واحدة من أبرز المجلات الأمريكية، بحيث يبدو هذا التتويج كوثيقة استسلام وإعلان هزيمة موقعة من العدو نفسه... هل يمكن تخيل أن مجلة فوربس قد اتبعت معايير أخرى غير المعايير الأمريكية. كيف بدا بوتين الرجل الأقوى في العالم "فوربسيا"؟ بدا ناجحا وجذابا ومثيرا وصاحب سلطة وثريا بشكل فاحش. هذه المواصفات مستلة من أي كتاب وتعكس أية منظومة ثقافية؟ إنها صورة الحلم الأميركي في أقصى تجلياته، وقد عوقب الرئيس الأميركي باراك أوباما بإزاحته إلى المركز الثاني، ليس لأن السياسة الروسية قد تفوقت على السياسة الأمريكية بل لأنه لم يكن أميركيا كما يجب. لا ينفك بوتين يكرر أن" الأميركيين يكذبون في كل شيء" ولكن مشكلته معهم لا تكمن هنا على الإطلاق، بل في أن كذبهم يغوي العالم لا بل يشكله، في حين أنه لم يجِد صناعة كذبة كونية مثل الكذبة الأمريكية التي تسمى الديمقراطية على سبيل المثال، بل إن أثقل كذباته لا تعدو تصوير بشار الأسد كرئيس شرعي لسوريا.