لم يكن قرار خفض مصر التمثيل الدبلوماسي مع تركيا مفاجئاً، ولكنه كان قراراً متوقعاً خاصة بعد أن شهدت العلاقات بين البلدين تصعيداً حاداً من التوترات التي بدأت منذ إطاحة الجيش المصري بالرئيس محمد مرسي الصيف الماضي إبان ثورة شعبية خرجت في شواع القاهرة والمحافظات يوم 30 يونيو تطالب برحيله من المنصب الرئاسي، ومؤخراً قالت وزارة الخارجية المصرية إن المبعوث التركي أصبح شخصاً غير مرغوب فيه، وعليه مغادرة البلاد بسبب ما وصف بتدخل أنقرة في شؤون القاهرة بطريقة مستمرة وسافرة، وفي أول رد فعل على القرار، قال الرئيس التركي عبد الله جول إنه يأمل بعودة العلاقات مع مصر قريباً، وكان الحزب الحاكم ذو الجذور الإسلامية في تركيا يدعم بقوة جماعة الإخوان المسلمين في السطلة، وانتقدت بشدة عزل القوات المصرية بالرئيس مرسي يوم 3 يوليو، ووقتها استدعت تركيا ومصر سفيريهما في شهر أغسطس بعد أن انتقد رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان بحدة القادة الجدد في مصر، وعاد السفير التركي في وقت لاحق بعد أسابيع، لكن مصر قد رفضت عودة مبعوثها إلى أنقرة مجدداً.. ويأتي القرار المصري أيضاً بعد قيام أردوغان بانتقاد قادة مصر، بعد مثول مرسي أمام القضاء بتهمة التحريض على قتل معارضيه أثناء وجوده في منصبه، واصفاً الوضع في مصر بأنه "الدراما الإنسانية"، ومع ذلك تقبلت القاهرة على مضض جميع المحاولات التركية ومواقفها غير المقبولة وغير المبررة من خلال محاولة تحويل المجتمع الدولي ضد المصالح المصرية، ودعم اجتماعات لمجموعات تسعى لزعزعة الاستقرار في البلاد، في المقابل اتهم مسئولون مصريون تركيا بالتخطيط لإشعال الفوضى في القاهرة ودعم جماعة الإخوان المسلمين لتقويض الحكومة الجديدة في مصر. أبو العز الحريري وكيل مؤسسي حزب التحالف الشعبي الاشتراكي قال: إن طرد السفير التركي من القاهرة، علامة على تصاعد التوتر الدبلوماسي بين اثنين من أهم قوى الشرق الأوسط، وهذا يعني أن مصر ليست راضية عن مبادرات الأخيرة أو أسلوب التهدئة التي قامت بها لإصلاح العلاقات الثنائية، وسط انتقادات أنقرة المستمرة على الحكومة المدعومة من الجيش المصري المؤقتة - على حد وصفها- حيث انتقدت تركيا استخدام مصر القوة ضد أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي، في حين أدانت مصر الحكومة التركية للتدخل في شؤونها الداخلية وكانت الدولتان مؤخراً على خلاف دائم مع بعضهم البعض منذ عزل مرسي عن الحكم، لافتاً إلى أن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين توترت منذ ذلك الحين، حيث سحب كلا البلدين سفيريهما للتشاور، حيث أرسلت تركيا سفيرها إلى القاهرة كمؤشر لتحسين العلاقات وعدم التصعيد، في حين أن القاهرة رفضت عودة سفيرها لدى تركيا، كدليل على رغبتها في إعادة أنقرة النظر في موقفها نحو الحكومة المؤقتة المصرية، ومع ذلك قبل يوم واحد فقط من محاكمة مرسي المتهم بالتحريض على قتل المتظاهرين خلال مسيرات خارج القصر الرئاسي في ديسمبر 2012، أشار رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان علناً بعلامة رابعة (أربعة أصابع) بعد أن أصبح رمزاً يعتز به المتظاهرون والمناهضون للجيش والنظام السياسي المؤقت في مصر، وكان هذا بمثابة تحدٍ تركيّ جديد ضد الحكومة المؤقتة، وعلى ذلك ظل عامل الصبر المصري في انتظار تركيا لتعديل سياستها والحد من تصريحاتها العدائية، لكنها لم تفهم الرسائل المصرية المتعددة حتى قامت القاهرة بطرد السفير التركي احتجاجاً على سياسات بلاده. ومن جانبه أوضح محمد أبو حامد رئيس حزب حياة المصريين، أن الرؤية الحزبية الضيقة من أردوغان دفع بالعلاقات التي كانت مع مصر إلى مهب الريح، خاصة وأن الأخيرة ظلت حريصة على تجنب التوتر بهدف الحفاظ على العلاقات التاريخية بين البلدين، لكن للأسف أردوغان وحكومته أصبحوا قريبين فكرياً إلى جماعة الإخوان المسلمين وتجاهلوا تماماً الشعب المصري، وبالتالي كان على القاهرة إعادة تقييم العلاقات مع أنقرة، ورغم أن البلدين دولتان هامتان بشكل كبير في الشرق الأوسط، فإن تدهور العلاقات سيكون له صدى خارج المنطقة، ولذلك على تركيا التراجع عن مواقفها العدائية أولاً ومحاولة إيجاد مخرج سياسي لتطبيع العلاقات مع مصر مجدداً، مؤكداً أن مصر لم تقطع تماماً العلاقات بين البلدين، ولكن تم خفض مستوى العلاقات الدبلوماسية إلى مستوى القائم بالأعمال، وهو أمر يدل على علامة أخرى وهي أن مصر تغير سياستها الخارجية، بعد أن انتقدت حليفتها الأقرب أمريكا على مواقفها المتباينة بعد عزل مرسي من الحكم، حيث أدت العلاقات الفاترة مع القاهرة لإحياء صداقة قديمة مع روسيا، وبالنسبة لتركيا كان الانقلاب الدبلوماسي دليلاً على تزايد النفوذ المصري الإقليمي، ويبدو أن المسؤولين الأتراك ليسوا على وعي لهذه النقطة جيداً، وعليهم أن يكونا أكثر واقعية على مصالح بلادهم الاقتصادية، وأكثر انسجاماً مع سياسة الحكومة المصرية المؤقتة بدلاً من خلق المشاكل مع جيرانها. في حين أكد د.رفعت السعيد القيادي بحزب التجمع اليساري ، أن الخلاف بين اثنين من أهم حلفاء الولاياتالمتحدةالأمريكية يفقدها قدرتها على مد نفوذها على المنطقة، ولذلك تأمل واشنطن في حل الخلافات السياسية وتجاوز أزمات الماضي، لكن على أنقرة أولاً أن تترفع عن دعم الإخوان المسلمين وتنظر بعيداً عند تقييم العلاقات بين البلدين في سياق الحفاظ على المصالح المتبادلة الكبيرة، وتجنب الجدل مع الحكم العسكري أو النظام السياسي المؤقت الجديد، فكلما تزايدت حدة التصريحات التركية بأن ماحدث في مصر انقلاب عسكري، تزداد الأمور سخطاً من الشعب المصري والإدارة الجديدة التي تعارض جماعة الإخوان المسلمين، وفي نهاية المطاف ستظهر الكثير من الأزمات في العلاقات الثنائية، وربما تتعدى طرد سفير هنا أو هناك، لافتاً إلى أنه وفقاً للأرقام التي قدمها الدبلوماسيون الأتراك، ازدهرت حجم التبادل التجاري بين مصر وتركيا بنسبة تجاوزت 900 ٪ على مدى السنوات الخمس والنصف الماضية، وهناك استثمارات لأكثر من 480 شركة تركية في مصر بينها شركات سياحية وعقارية وغيرها، وهذه الأرقام وحدها تكفي للدلالة على أهمية العلاقات الثنائية، ولا جدال أن هذه العلاقات لا يمكن أن تستمر في حال استمر دعم حزب العدالة والتنمية التركي لنقطة اعتراضية تتبلور في الإطاحة بالإخوان المسلمين من السلطة، ولذلك المصريون في الشارع لديهم صورة سلبية عن تركيا، وهناك الآن دعوات شعبية لمقاطعة المنتجات التركية. أما د.مصطفى النجار عضو الهيئة العليا لحزب العدل فأشار إلى أن تركيا أثناء ثورة يناير التي أطاحت بالرئيس الأسبق حسني مبارك كانت من بين البلدان الأولى التي انحازت للثورة المصرية في ذلك الوقت، وطالب أردوغان مبارك بالرحيل.. والجيش المصري بالانحياز إلى الثورة، ومع ذلك لم تناقش ما إذا كان ما حدث انقلاباً أم لا، ووقتها زار أردوغان مصر في سبتمبر 2011، وحيا الجيش على دوره وانحيازه للشعب في ثورته ، لكن في ثورة 30 يونيو على الإخوان أصبح ساخطاً على النظام السياسي المؤقت، ومنحاز بدرجة متطرفة لجماعة الإخوان المسلمين، رغم أنه الجيش لعب نفس الدور في عام 2011 وضد الرئيس المنتخب في 2013، موضحاً أن التقارب بين مصر وتركيا أصبح حقيقة واقعة منذ تولي حزب العدالة والتنمية السلطة عام 2002، ومنذ ذلك أصبحت السياسة الخارجية التركية تسمى "إعادة دولة العثمانية"، ومع صعود الإخوان في مصر رأت أنقرة أن الحلم بات قريباً، خاصةً وأن الإخوان يمتلكون حلماً آخر وهو الخلافة، ويكاد يكون المشروعان متشابهان، فإحياء الخلافة أو العثمانية كان مشروعاً مشتركاً بين مرسي وأردوغان، والاثنان كانا يستغلان إمكانات بعضهما للمضي قدماً نحو تحقيق الشروع، وبالتالي فإن سقوط مرسي أجهز على خيالات أردوغان نحو القاهرة، وهذا هو سبب العداء التركي على النظام السياسي المؤقت، مؤكداً أن تركيا خسرت كثيراً بسبب إصرارها على عدم تجاوز الخلافات الضيقة على مصر وانحيازها المطلق للإخوان، وبالطبع سيؤثر قرار طرد السفير التركي على كثير من الأنشطة الاقتصادية، وعلى رأسها منطقة التجارة الحرة التي تضم البلدين بجانب الأردن وسوريا ولبنان، كما ستؤثر على اتفاقية ثنائية في مجال النقل والتي من شأنها تحويل مصر إلى مركز للبضائع التركية المتجهة إلى أفريقيا ودول الخليج عبر قناة السويس، ولذلك على أنقرة إعادة تصحيح المسار مع القاهرة حفاظاً على استمرار التعاون في كافة المجالات بين البلدين. ومن وجهة نظر أخرى وصف د. عمرو دراج رئيس لجنة العلاقات الخارجية بحزب الحرية والعدالة المنبثق عن جماعة الإخوان المسلمين، الأزمة الناتجة في العلاقات الثنائية وردود الفعل من مصر تجاه مواقف أردوغان ضد الانقلاب العسكري مروراً بطرد السفير التركي بالقاهرة بالخطوة غير المبررة، وتابع: أياً كان الوضع السياسي في كلا البلدين فإن العلاقات يجب أن تكون جيدة لأنها مهمة من أجل استقرار المنطقة بأكملها، إن الإخوان وأردوغان ليسوا سعداء بما حدث في مصر مع الرئيس مرسي، ولكن تدهور العلاقات بين البلدين بسبب مواقف وتصريحات شخصية لأردوغان جعلت القاهرة في موقف محرج أمام العالم، متسائلاً: ما الذي يضير النظام المصري المؤقت من تصريحات أردوغان، فالرجل الذي فاز بتقدير كبير في الشارع المصري مع سياساته المناهضة لإسرائيل أثناء هجومها على أسطول الحرية التركي الذي كان متجهاً إلى غزة، يحمل له معظم أبناء الشارع مشاعر معادية كونه يؤيد الشرعية الانتخابية والدستورية للرئيس مرسي، ويرى أن التغيير كان لابد أن يتم بصندوق الانتخابات تماماً كما ينادي الإخوان، مؤكداً أن سياسية الحكومة المؤقتة تجاه كل من يعارض الانقلاب العسكري - على حد قوله- - خاطئة تماماً، وستجعل مصر تخسر كل أصدقاءها وحلفاءها في المنطقة، ولو سارت على خطى طرد السفراء سنتوقع قريباً طرد السفير القطري من القاهرة، وقطع العلاقات مع كل دولة ترفض عزل الرئيس مرسي.