صدر حديثًا للشاعرة هزاز طباخ ديوان بعنوان "يجتاز هاوية الحضور" يضم تسع عشرة قصيدة، تفعيلية، غنائية، تحتفي بالعوالم الرومانتيكية، وتتصل بالتراث العربي تعبيرًا ولغة وحضوًا، وتنتمي للصوفية وتستشرف الكتابة الإشراقية التي تنبعث الأنوار من حروفها . وقد اتخذت الشاعرة من الحزن مادة للغناء، كما في قصيدتها، "صامت صوت البكاء"، وانطبع حزنها الرومانتيكي في قصيدتها "أماه كلماتي حزينة" على رؤيتها للعالم من حولها، بل تكررت فيها مقولة أبي العلاء المعري "خفف الوطء" والتي تقول في نهايتها: "كل ما حولي حزين - كيف لا يتفجر الحزن حزينا؟ - كيف لا ينكسر العيد حزينا؟!". وقد شغفت الشاعرة بثنائية الحلم والواقع، وجاءت قصيدتها "كالحرير شبه لها" لتسرد قصة بها سبعة أحلام، لكن صاحبة الأحلام تصطدم بالواقع، حيث تنهي الشاعرة قصيدتها بقولها: "في البدء كانت - والحلم صوت باهت اللفتات - غنته وأسمته - وزمت غصة الخطوات - صعدت إلي ألوانه - هبطت مكللة بصهد ينصت المنفى لأصوات الشظايا في محياه - ويرحل صوته "سكن الرحيل- وجفت الأقلام"!!. ولم تكن الرؤية الرومانتيكية سالبة حزينة في قصيدة "وصلة إيقاع للماء".. فقد تم التوفيق بين الحلم والواقع، بالتسليم بالواقع، في نهاية القصيدة، حيث تقول: "قلني صورًا - آيلة للحلم بكل جوامعها - فرغها من أصداء الصرخة في أول مولدها - وألفظها عارية - لا شيء يلونها إلا الريح الصافي - لابد من الريح إذا وجل العمر - ولابد من الورق الأصفر - كي نكمل دورته - لابد من الماء الرابض فوق الصدر - كي نخرج من صدأ العمر". وقد استوقفت الشاعرة معضلة الزمن والبدايات المتأخرة عن مواسم العمر، ففي قصيدتها متأخرًا دومًا تجيء تختنق الشاعرة بالبدايات والنهايات، لكن تعثر على الحل في ذاتها، حيث ترى أنها مركز الدائرة، ففي نهايتها تقول الشاعرة: "متأخرًا دومًا تعال - فأنا النهايات التي من عصرها لملمت أسماء الحكاية - وأنا البداية - حين كل العمر.. يبحث عن بداية". وتعبيرًا عن الموقف الملتبس في سورية، جاءت قصيدة الشاعرة هزاز طباخ "دمشق ترفو طيفها" لتعبر عن ذلك الالتباس بهذه التعويذة التي تلقيها على دمشق: "إني أعيذك يا دمشق من الغياب - من خطوة ليست أمامًا أو وراءً - إني أعيذك بالندي بالياسمين - ألا تؤدي ركعة دمها مضاء - آه دمشق الجامع الأموي ترفو طيفها - ترويه من بردي المسيح - وقاسيون يعجل الترتيل - يجعله سحاب - آه دمشق إذا دنا منك الإياب فلملميه وبلغيه حضوره - أو علميه بكوثر الأحياء كيف يجدد المسري ويرتحل الغناء - حتى إذا ما العمر غاب - هبت مواسمه بموال التراب - وغدت بسمع الشمس بسملة تخط النور - تحترف النداء - إني أعيذك يا دمشق من ال"سوي" - فتشكلي قمرًا ونجمًا ما هوى -كوني لنا - كوني لنا حتى نكون". وهذه هي القصيدة مليئة بالكلمات الدينية، حيث تؤدي ركعة، المسيح، الترتيل، كوثر، المسري، بسملة تخط النور، نجما ما هوى "وهي اقتباس من قوله تعالي: "والنجم إذا هوى"، وكثير من هذه المفردات والتراكيب يملأ قصائد الديوان، بحيث يشكل سمة أساسية تضاف إلى المعجم الشعري الرومانتيكي المرهف، واللغة الصافية المقطرة. وتؤمن الشاعرة بفاعلية الشعر ودوره في العالم، هذا ما يبدو من قصيدة لها بعنوان "وحده جمر التعب" حيث تقول: "وحده الشاعر العاشق - ينبت الماء على وجه الأبد - دون أن يلمس النهر - أو يغري الغيمة بالمدد - يهذي فيطوف الحرف بحنجرة الناي - وتلتهب الأرصفة - وحده ليل وغناء- والطارق يفتح عري القلب - يخيط الدمعة بالدمع - يضيع مع اللحظة النازفة - وحده يلج السم ببسمة طفل - ويغيب.. - يغيب بلا أحد!!". وإذا كان الحضور المقصود في هذا الديوان هو الحضور القلبي، أو الحضور الصوفي، فإن قصيدة "جسد بلا حواف" تمثل هذا النزوع الصوفي، حيث تقول في نهايتها: "أسماؤها - كانت مسافة جلوة - نطقت بسر الروح - فاترق المريد - كانت تنفس خطوة مدت مدى واستسلمت لشهيقها - راقت بكأس الروح- حتى شف من أنساغها زهر الجسد - طافت وطفتطينها - دارت ليمو شطؤها - وروت أبد - ندهت له: "قولي لمن يا كاسه دوارة - واسمي التجلي والوتد - قولي لمن صفي جموع نبيذه - هل كان معطفه يصلي يوم أن كانت هنا - طيفا حنون - قولي وردي ذا الأبد!!". كما تتجلي اللغة الصوفية في قصيدة بعنوان "بين الحرق وبين النهدة"، تقول فيها: قالت: "العارف خلف حجاب الأنس - يغيب مسافة تنهيد - يتحير من إشراق يعصف بالجبة - يتهيأ للفتح الآتي - والجنة مفتاح الغيبة". فهذه تجربة صوفية واضحة المعالم، قد تكون كل كلمة فيها من القاموس الصوفي تنطبق على بعض العارفين، ولا تنطبق على كبارهم، فهم في حضور دائم لا يغيبن أصلًا، وقد فتح لهم كل ما ينتظره الآخرون وما لم يخطر على قلب بشر، أما القصيدة التي اتخذ الديوان عنوانها "يجتاز هاوية الحضور فإنها تستشرف الكتاب الإشراقية الصوفية النوراية، حيث تقول: "ورأيتني حرفًا نبيًا - قد تضاءل حبره - مدا يغادره النهار!- هل يصطفيني بعدها لتمسد الألوان حنجرة القصيدة؟- ما غلتي؟- قدماي أبعاد اللظي - ويداي ما عادت تطاوع ظلها - والروح نخلة مريم - بيست فلا رطاب يرتقب نزفها ويعيد المنفي - ولا تمرا يشيد موطنا للروح في مدن الغبار- تحكي تفقاصيل الغبار لجذعها- فيصدع النايات إمحال الهواء". وتشبع الألفاظ القرآنية في تلك القصيدة، وتنتهي نهاية إيمانية، حيث تقول الشاعر: "دع للمشيئة نايها - وصلاتها- الآن قد آمنت أن تهجد المعنى يصلي عبده- ويمد سلمه عروجًا للندى- كي يستوي - ويزمل الأيام- في صيرورة الحرف الممضخ بالبياض!!".