عبر شبكة الإنترنت تعقد الصفقات وتتداول المعلومات وتتم الاتصالات دون النظر إلى المواقع والمسافات، فالجالس بأقصى الشرق يمكنه تحقيق كل ذلك مع الجالس في أقصى الغرب، وذلك في لحظات عن طريق "الشبكة العنكبوتية" – الانترنيت - والتي لها من المزايا والفوائد الكثير، كما أن لها أيضاً مساوئها الخطيرة، والأمثلة على ذلك عديدة، فقد كانت سبباً في رواج تجارة الأطفال والنخاسة وانتعاش أسواق الشذوذ والإباحية، ومن مساوئها أيضاً أن أصحاب الأموال القذرة صاروا يمتطون صهوتها لغسيل أموالهم، وهذا سبب إشكالية خطيرة، تواجه الاقتصاد العالمي. وقد نشأ مصطلح "غسيل الأموال" في عام 1931، لدى محاكمة ألفونس كابوني، الشهير باسم آل كابوني، ويصف هذا المصطلح واحداً من أهم الأطوار، التي تمر بها الأموال التي تحصِّلها عصابات المافيا، والتي تتأتي في الأساس من أعمال الابتزاز، والسرقة، والدعارة، والقمار، علاوة على تهريب المخدرات. وبالتالي تحتاج هذه العصابات، لأن تُبين مصدراً قانونياً لهذه الأموال الطائلة، وللقيام بأعمال مشروعة، وخلط الأموال القذرة مع تلك التي تجنيها الأعمال بشكل قانوني، ويعتبر هذا الخلط واحداً من الطرق التي كانت المافيا قادرة على اتباعها لفترة طويلة . والطريف في الأمر، أن محاكمة آل كابوني، كانت بسبب تهربه من دفع الضرائب، وليس للأعمال غير المشروعة، التي كانت تدور الشبهات حول إدارته لها. ثروات غير شرعية غسيل الأموال من الجرائم التي تحارب دولياً، كونها تستقطع من الدخل القومي الخام للعالم، ما يزيد عن ال15% وهذه النسبة هي حصيلة ثروات غير شرعية تمكن أصحابها من إجراء عمليات غسيل لها، وتمثل أموال تجارة المخدرات وتمويل زراعتها وتصنيعها نحو 55% من إجمالي الأموال التي يتم غسلها سنوياً على مستوى العالم، حيث يقدر حجم التجارة العالمية للمخدرات بأكثر من 500 بليون دولار أي ما يويد عن 9% من مجموع حجم التجارة العالمية بحسب التقرير الاقتصادي السنوي ل (ميريل لنيش). وتأتي الولاياتالمتحدةالأمريكية في طليعة الدول التي يتم فيها عمليات غسيل الأموال، رغم أن المعلن أنها تحارب الظاهرة بقوة ؛ حيث يقدر حجم الأموال التي يتم غسلها سنوياً من جرائم المخدرات وحدها بنحو 300 بليون دولار، تليها سويسرا، ثم المكسيك، ثم روسيا، وإسرائيل. أما القارة الإفريقية، فتأتي في مقدمة قارات العالم، التي ابتليت بعمليات السلب والنهب، حيث يقدر البنك الدولي أن ما يقرب من 40% من ثروات إفريقيا، التي كان يمكن أن تسهم في سد الاحتياجات الأساسية لحياة السكان، تهرب إلى الخارج لتودع حسابات أجنبية. ولا تقتصر عمليات غسيل الأموال على تجار المخدرات، وأباطرة الفساد، بل يكون أيضاً غاسلاً للأموال كل من زيف العملة، أو تاجر في الأعضاء البشرية، أو تاجر دون ترخيص قانوني في الأسلحة، أو مارس تجارة الحيوانات النادرة المحظور صيدها خشية انقراضها، أو تاجر بالآثار المسروقة، أو مارس الغش التجاري، وانتحل أسماء وعلامات تجارية للغير، أو تاجر في الرقيق الأبيض، أو تربح من جرائم بيئية، كدفن النفايات والمواد الخطرة، ونحو ذلك من أعمال غير قانونية ولا أخلاقية، لها مردود مادي. مافيا الإنترنت إن شبكة الإنترنت، بما توفره من سهولة التعامل بين الأفراد والجماعات، صارت تمثل ملاذاً آمناً، لمن يجيد السباحة في فضائها السبراني، من غاسلي الأموال.. لقد نجحت عصابات الجريمة بالمنظمة في الولوج داخل فضاء الشبكة، وشكلت ما يعرف ب"مافيا الإنترنت"، والتي تباشر الكثير من الأعمال غير المشروعة واللا أخلاقية عبر الشكبة، مثل؛ جرائم السطو على أرقام البطاقات الائتمانية، والتي تجني من ورائها مافيا الإنترنت، عشرات وربما مئات الملايين من الدولارات سنوياً، وانتشار ما صار يعرف ب (الملاهي ونوادي القمار الافتراضية)، ومواقعها على الشبكة تعد بالآلاف، وهي تربح البلايين من الدولارات، التي تصنف في دائرة الأموال القذرة، وجرائم انتحال الشخصية، حيث أن التنامي المتزايد للإنترنت، أعطى المجرمين قدراً أكبر لجمع المعلومات الشخصية المطلوبة عن الضحية، والاستفادة منها في ارتكاب الجرائم المالية، وغسيل الأموال إلكترونياً. جرائم إن الصور والأفلام الأطفال الجنسية، التي كان قد قضى عليها كلياً في الثمانينات، عادت إلى الظهور من جديد مع دخول الإنترنت، إن هذه ليست سوى أمثلة، فالأعمال غير المشروعة واللاأخلاقية، التي تتم عبر فضاء الشبكة، من الكثرة بحيث يصعب حصرها، وهي تدر على أصحابها ملايين الدولارات، التي يتم إدخالها في دوائر غسيل الأموال الإليكتروني، حيث إن النقد الإلكتروني، وطريقة تداوله، تغري هؤلاء المجرمين بتحويل أموالهم القذرة. إن عصابة مخدرات مثلاً تهرب إنتاجها وتتسلم مبالغ الصفقات على شكل بطاقات ذكية يمكن بسهولة إفراغ قيمتها على الحاسوب، ومن ثم ترسل كودائع مالية، إلى بطاقات أو حواسب أخرى حول العالم، ويتم ذلك في ثوان معدودة وبدون تدقيق أو حاجة لاستخدام البنوك والمؤسسات المالية التقليدية. جهود دولية ولكونها ظاهرة خطيرة تهدد الاقتصاد العالمي، فإن عددا من المؤسسات والهيئات الدولية، تنبهت إلى ذلك، فلجنة إدارة شئون المجتمع العالمي، المنبثقة عن هيئة الأممالمتحدة، كانت قد نشرت تقريراً مؤخرا ، طالبت من خلالة المجتمع الدولي، بأن يكون جاداً في تحمل مسئولياته، وبذل المزيد من الجهود للقضاء على ظاهرة غسيل الأموال عبر الإنترنت، التي صنفها التقرير ضمن ما صار يعرف بجرائم الفضاء الإلكتروني، وكانت بعض الدول قد شكلت بالفعل فرقاً أمنية، أطلقوا علهيا اسم "شرطة التدخل الرقمي السريع"، هدفها الحد من انتشار الجرمية المنظمة وفي عملية كبيرة، شارك فيها أفراد من الشرطة يمثلون 13 دولة، وقد أمكن الكشف عن ملفات إلكترونية، تحتوي على ثلاثة أرباع المليون من الصور الجنسية للأطفال، وأن وراء هذه الجريمة عصابة دولية، تتخذ من العاصمة البريطانية، مقراً رئيسياً لها، وتنتشر فروعها حول العالم، وكانت شرطة التدخل الرقمي في هولندا، قد تمكنت من فك الطلاسم والغموض وراء انتشار صور وأفلام تسيء معاملة الأطفال وتنتهك براءتهم، عندما عثرت داخل منشأة تدار من قبل تنظيم عصابي دولي، يقوده رجل يدعى "جيرالد أولرتيش" على أجهزة رقمية متقدمة، تقوم بنسخ وتوزيع إسطوانات ال ( سي دي روم)، وكانت شرطة التدخل الرقمي، في الولاياتالمتحدةالامريكية ، قد أغلقت عدة مواقع لترويج المخدرات بين النشء، تبين أن وراءها عصابة، يتزعمها "وين كامولي"، وهو يقيم في مدينة بالم بيتش، بولاية فلوريدا، ولم تمر سوى أيام، حتى كشف النقاء عن اعتقال تنظيم عصابي، سمي (THE414S)، كان يقوم بعمليات سطو ونصب وتزييف واسعة، عبر شبكة الإنترنت، ويمارس غسيل الأموال للغير إلكترونياً. وكانت بوادبست، قد شهدت التوقيع على اتفاقية دولية لمحاربة الجريمة المنظمة التي تنتشر في فضاء الإنترنت، وإنقاذ الاقتصاد الإلكتروني، الذي صار نداً ومنافساً للاقتصاد التلقيدي، من عمليات غسيل الأموال. إن عمليات غسيل الأموال، هي بحد ذاتها جرائم يعاقب عليها القانون الدولي، وليدة أعمال وأنشطة غير مشروعة ولا أخلاقية، تمارسها عصابات الجريمة المنظمة، وجماعات وأفراد ذهبت ضمائرهم في مهب الريح. وإذا كانت الوسائل التقليدية، لغسيل الأموال، عبر المصارف والبنوك، قد ضيقت عليها الخناق، فهل تكون شبكة الإنترنت هي البديل؟ وهل تنجح الجهود الدولية في القضاء على ظاهرة غسيل الأموال إلكترونياً، بعد أن ثبت خطورتها على الاقتصاد العالمي ؟