أنا أغالبُ التشاؤم، حتى هذه اللحظة، مؤمناً بأن ما يجري في مصر الآن هو من نوع التفاعلات الكيميائية المتسلسلة، التي تحتاج إلى وقت طويل لتنتهي معطية (ناتجها النهائي)، نقي الجوهر، لنمد أيدينا ونستخلصه من بين رماد التجربة. ومعنى مغالبتي التشاؤم أنه أحياناً يغلبني، ويمكنني أن أصف نفسي، مستخدماً وصف (إميل حبيبي) ب "متشائل"؛ فعلى سبيل المثال، تشاءمتُ حين فوجئت بالشعب المصري يقترف خطأً تاريخياً، سيكلفه الكثير، بانحيازه إلى تيارين من المتأسلمين السياسيين، يمتطون الدين ليدخلوا به إلى ميدان لا خبرة لهم بدهاليزه، وكل همهم تأكيد وجودهم كنواب عن الله، لا عن الشعب. وأخشى أن صداماً سيقع بينهم والبسطاء الذين أعطوهم أصواتهم، ومكنوهم من أن يسرقوا ثورة شبَّتْ، ونجحت، بلا رأس مادية معلومة؛ وأعتقد أن ذلك الصدام واقع لا محالة حين يعجزون عن تقديم حلول تأتي بالعدالة الاجتماعية، وحين ينتقصون من حريات الناس. كما أعتقد أنه – الصدام - سيكلف غالياً، وسيكون أشد دموية من أحداث ثورة يناير!. كما أتشاءم حين أقرأ شواهد عديدة على أن حجم الفساد أكبر من أي تصور، وأن أساسه هو شريحة كبيرة من (المنتفعين)، خلقها النظام السابق، ومن الأفراد الذين نشأوا بأخلاقيات (الخدم)، واكاد أقول (العبيد)؛ خدموا السيد الذى هوى، ويستعدون لخدمة السيد الطالع، وبين هذا وذاك يكافحون بكل السبل ليظلوا محتفظين بمواقعهم، بل إن آليات هلامية في المجتمع تؤازرهم (مدير هيئة ثقافية كبيرة في الإسكندرية، كان جزءاً لا يتجزأ من النظام السابق، وأسهم في ترسيخه، ولا يزال محتفظاً بموقعه، بل يختاره نفرٌ من الناس نائباً لرئيس هيئة علمية اشتهرت مؤخراً بعد أن أكلتها النيران!). ومن جهة أخرى، فإنني أغلِبُ التشاؤمَ، متمسكاً بالتفاؤل، في أحيان كثيرة، معتمداً على إيماني بأن ذلك التفاعل المتسلسل، البطيء نسبياً، لابد أن يصل إلى نهايته. كل ما في الأمر، أن علينا أن نتحمل ما ينتجه من دخان خانق أحياناً، ومن نيران قد تحرِّقُ أصابعنا حيناً آخر، أو انفجارات صغيرة محدودة، وانبعاثات ضوئية تبهر العيون، تنشأ في مساره. وعلينا أيضاً أن نساعد التفاعل ليكتمل بأن نمده بالعوامل المساعدة، وأهمها ألا نفقد الأمل، وألا نغفل، وأن نبدأ من مقاعد المعارضة بالمشاركة في بناء الوطن، واستعادة الإنسان المصري. وعلى المثقفين المصريين أن يكفوا عن التشرذم، وأن يتخلوا عن تضخم ذواتهم، وأن يخرجوا من حلزوناتهم، ويتقاربوا، فهم أول من ستطاله (هراوات) القادمين الجدد ومقصاتهم ومحارقهم وأدواتهم التكفيرية ومحاكمهم التفتيشية (حاولوا إعادة محاكمة "روح" نجيب محفوظ، وغطوا بالملاءات تمثال السلسلة في الإسكندرية !)؛ وأدعوهم إلى تكوين تجمعات أخرى موازية، غير النقابات والاتحادات السلبية والتي آلت إلى إدارات من المتأسلمين المشتغلين بالسياسة. لقد نجح النظام السابق في قصقصة ريش نجوم الحياة الثقافية المعاصرين له، ودجنهم، لدرجة أنهم أصدروا بياناً مخزياً يؤيدون فيه وزير ثقافة تسبب بالإهمال في موت عشرات من فناني المسرح، حرقاً في بني سويف. وأنا لا أعول كثيرا على من ساروا في مواكب النظام السابق وأكلوا على كل موائده، ونمت لحوم أكتافهم من عطاءاته لهم، وأدعو شباب المثقفين لأن ينتزعوا الصدارة من آباء أفلسوا، وقد يكونون الآن يرتبون أمورهم مع ولاة الأمر الجدد.