تواجه جماعة الإخوان المسلمين في العالم العربي، عدداً من المعضلات الكبري، تزامناً مع الأحداث الأخيرة التي شهدتها الساحة المصرية، التي أشعلت موجات احتجاج امتدت لتطال دولاً عربية أخري بالتوازي والتتابع. وفي ظل حقيقة أن المجتمع الدولي يرصد الوضع في الداخل المصري ب"دقة"، ويراقب تحديداً تحركات "الإخوان" ويبدي تخوفا لاعتلائهم السلطة؛ وهو الأمر الذي سيعيد تشكيل خريطة الشرق الأوسط من جديد في حال حدوثه، فإن الأنظمة العربية مطالبة بإعادة النظر جدّياً في علاقاتها بجماعات الإخوان في بلدانها.. ولا بد في سياق قراءة الأحوال علي الساحة العربية، تأمُّل طبيعة العلاقات بين الإخوان والأنظمة، مسيرتها وتعرجاتها ومآلاتها، وتفسير المحددات والعوامل المؤثرة في هذه العلاقة؛ في محاولة لاستشراف السيناريوهات المستقبلية. (1) العلاقة بين الأنظمة السياسية العربية وجماعة الإخوان المسلمين، تتسم بخصوصية لا يمكن فهمها إلاّ بعرض واقع كلٍّ من طرفَي المعادلة من الناحية العملية. فبالنسبة للإخوان، يتم التمييز منهجياً بين ثلاث دوائر رئيسية تتعلق بالوجود والمنهج والفعالية؛ فالإخوان يحملون رسالة (دعوية)، يتبناها تيار مجتمعي واسع وتحظي بشعبية كبيرة (الحضور الاجتماعي)، ولهم أطر إدارية منظمة تشرف عليها قيادات سياسية تنظيمية تتخذ القرارات في المواقف المختلفة؛ والجماعة كما هو معروف، من أقدم التنظيمات نشأةً (انطلقت في العام 1928) وأوسعها انتشاراً؛ إذ تغطي فروعها جميع البلدان العربية تقريباً، وإن كان بعضها يتفادي إطلاق الاسم نفسه علي التنظيم، للتحايل علي "الحظر" القانوني؛ ويستثني من ذلك "الأردن" الذي تتمتع فيه الجماعة بالمشروعية القانونية منذ نشأتها حتي الآن في كنف الدولة. وفي إطار "الدول" العربية كلٍّ علي حدة، تعمل "الفروع" التنظيمية التي يترأس كل فرع "مراقب عام" في كل بلد، غير أنها ترتبط في ما بينها بالتنظيم الدولي للجماعة الذي يترأسه "المرشد العام". وفي الجانب الآخر، تتفق النظم العربية السياسية الحاكمة بعامة في رفضها "الفكر الإخواني"، رغم اختلاف نوعية نظام الحكم، وشكله، ومصادر شرعيته، ومدي تقدمه الاجتماعي والاقتصادي، بين دولة وأخري. وفي هذا الإطار هناك مجموعة من الأنماط تحكم علاقات هذه النظم بالجماعة، بل وبالقوي المجتمعية عموماً، في ظل غياب للديمقراطية والتعددية السياسية الحقيقية، وتغييب مبدأ تداول السلطة، وعدم احترام الحدود الدنيا من حقوق الإنسان وكرامته. ونتيجةً لما يسود المنطقة العربية، فإن نصيب قوي المجتمع في صياغة معادلات العلاقة واتجاهاتها يكون محدوداً؛ قياساً بقدرات النظم الحاكمة، ووفق هذا نستطيع رصد أربعة نماذج رئيسية لهذه العلاقة، يطرح كلٌّ منها إشكالية من نوع خاص. إذ تعتمد النظم العربية في النموذج الأول، علي مشاركة الإخوان في مناخ من التعددية والإصلاح السياسي، ولكن بدرجات تقررها هذه الأنظمة في المقام الأول؛ فاستجابةً لضغوط مختلفة -داخلية وخارجية- ولأهداف ?غالباً ما تتعلق بمعادلة الحكم نفسه والتوازنات فيه- بدأ عدد من النظم في إجراء إصلاحات سياسية بدرجات متفاوتة، وبالتالي التخفيف من سمات "النظام التسلطي" وخصائصه. وفي هذا الإطار شاركت التنظيمات الإخوانية في الجزائر، والمغرب، والأردن، ولبنان، والعراق، والكويت، والبحرين واليمن، في العملية الانتخابية علي المستوي المحلي لكل دولة. وكشفت صناديق الاقتراع أن الجماعةَ تحظي بشعبية واسعة وبثقة الناخبين. ومن ثم انخرط الاخوان المسلمين في المؤسسات التشريعية والتنفيذية، وأحرزوا مواقع متقدمة علي خريطة الحياة السياسية. لكن هذه الطريقة من المشاركة في العملية الانتخابية أثارت إشكالية حول "مدي شرعية المشاركة السياسية" في بلدان تقع تحت الاحتلال في ظل أن رسالة الجماعة و"أولي وصاياها العشر" تدعو إلي "مقاومة المحتل"، وتحرير البلاد من جميع صور الاحتلال وأشكال العدوان. والسؤال هنا: إلي أي مدي تعدّ المشاركة في العملية السياسية "اعترافاً" بواقع الاحتلال وما يفرضه من اتفاقات ومعاهدات تضمن استمرار هيمنته علي الدول. إن هذا يشكّل مخالفة صريحة للرؤية الإخوانية ولمواقفهم التاريخية، خاصة أنهم لعبوا أدواراً بارزة في مقاومة الاستعمار في العديد من بلدان العالم العربي والإسلامي. ويذهب محللون سياسيون إلي أن هذه الطريقة التي تتعامل بها النظم وتتضمن مشاركة الإخوان، وتوسيع وجودهم في مؤسسات الأنظمة الحاكمة، يمكن أن تصبح "السيناريو المستقبلي" المتوقَّع خلال العقد المقبل. (2) أما النموذج الثاني، فيتمثل في قيام النظم بتغييب جماعة الإخوان، ولكن في إطار الحفاظ علي الخصائص الأساسية لاستقرار النظم السياسية؛ حيث يتم إبعاد الجماعة عبر حزمة من الخطوات الأمنية والقانونية؛ وتجريم "وجودها" الاجتماعي الفاعل، بزعم "عدم مشروعيتها"؛ وبالتالي إقصاؤها عن الممارسة السياسية الفعالة. هذا النموذج "السيادي" في تعامل الأنظمة مع جماعة الإخوان، يمثل امتداداً لمنطق التعامل نفسه مع قوي المجتمع المدني، لكن يتم النظر إلي الإخوان هنا علي أنهم "الأكثر خطورة" لشعبيتهم وطبيعة برامجهم التي تلامس مشاكل وهموم الجماهير. وفي هذا السياق، لم تتشكل بعدُ، "استراتيجية" للعمل الإخواني علي المستوي الدولي تحول دون التضارب في مواقف "الفروع"، كما لم يطور التنظيم الدولي للإخوان آلياتٍ مناسبة لتفادي حدوث مثل هذا التضارب مستقبلاً في قضايا سياسية مشابهة، أو لحل الأزمات التي يمكن أن تترتب عليه، لضمان المحافظة علي صورة الجماعة وتنظيمهاككل. ومن المرجح -كما يري متخصصون في الحركات الاسلامية- أن بلدان هذا النمط التي تشهد مجموعة من الأزمات الحادة داخلياً وإقليمياً ودولياً، ستخضع للسيناريوهات التي طُبقت في كلٍّ من مصر وتونس، وستنتهي الأنظمة فيها تحت ضغط الأزمات إلي مجموعة من "الانهيارات"، وهنا ستجد الجماعة نفسها في مقدمة القوي المطالبة بتسلُّم السلطة أو المشاركة الفعلية فيها، ودفع فواتير إصلاح الأوضاع المنهارة داخلياً، علي الصعيدَين الإقليمي والدولي. (3) أما النموذج الثالث، فيتبني سياسة المراوغة مع القوي المعارضة في الداخل، بهدف "احتواء" تأثيرها وأن توضع تحت "السيطرة"، وهذا أبعد ما يكون عن تحقيق المشاركة السياسية الحقيقية؛ لذلك يوصف ب"المركب" في تكوينه و"البسيط" في ممارسته. ومن خلاله، تَجمع النظم الحاكمة وتُزاوج بين درجات من السماح "المحسوب" للإخوان بالوجود الواقعي، وفي الوقت نفسه، حرمانهم وحصارهم قانونياً، وتحجيم مشاركتهم البرلمانية والنقابية -بالسبل المتاحة- ومنعهم من تحويل الانتصارات والمكاسب إلي تحولات نوعية حقيقية؛ لتبقي أسيرة إطار معين ومنطقة محددة لا تتعداها. ومن ذلك ما شهدته مصر؛ حين فاز الإخوان وشكلوا الكتلة المعارضة الرئيسية في البرلمان في انتخابات 2005، ورغم ذلك تمسّكَ النظام السابق بوصف الجماعة "تنظيماً محظوراً". وقد هددت أنظمة عربية مختلفة بتطبيق هذا النموذج، أو علي الأقلّ، لوحت به في ظروف وحالات محددة، في ظل اعتقاد بعضهم بأن هذا النموذج قابل للتطبيق، بعد ثبات "فعاليته" في الحالة المصرية. وهو ما يعكس حالة من الجمود السياسي، وانعدام القدرة الاستيعابية للنظم لاحتواء الوجود الفعلي للاخوان، كما يفاقم من أزمة شرعية النظام نفسه. ومن جهة أخري، ينطوي هذا علي مفارقة واضحة تكمن في الشرعية الشعبية التي يحظي بها الإخوان، مقابل غياب المشروعية القانونية لهم. (4) أما النموذج الرابع لهذه العلاقة، فيري باحثون متخصصون (مثل د. حامد عبد الماجد قويسي) أنه يقوم علي "التوظيف المتبادل" بين الإخوان والأنظمة، وهو نموذج ما زال في طور التكوين، والخيارات المفتوحة أمامه، حيث يصعب القول إن العلاقة بين الطرفين تشكل نمطاً قائماً ومحدداً، والنموذج علي ذلك يتبدّي في الحالة الخليجية. ورغم أن عملية الإصلاح السياسي عربياً ما زالت في طور التكوين، إلا أن الفترة الأخيرة شهدت وتشهد تغيرات جذرية علي بنية النظم؛ سواء في أشخاص الحاكمين وتكوينهم، أو في مشروعهم السياسي والاجتماعي، أو في أنماط علاقاتهم وتحالفاتهم الإقليمية والدولية. وعلي هذا، فإن الوجود الإخواني في إطار هذه الأنظمة ينتمي إلي الدائرَتين الأولي "الدعوية"، والثانية: "الاجتماعية". أما فعاليته التنظيمية فلم توضع حتي الآن موضع الاختبار الحقيقي. وفي داخل نموذج "التوظيف المتبادل" تظهر اتجاهات علي درجة من التجذر والقوة، ترفض منطق العملية السياسية ككل، من مثل "التيار السلفي الجهادي"، الذي يثير قضايا تتقاطع مع اهتمامات المواطن العادي وخلفيته الدينية؛ وبالتالي فإن هذا النمط يطرح إشكاليات سياسية وتنظيمية بالغة الحساسية؛ من قبيل كيفية تحقيق المشروع الذي تحمله والنموذج الذي تنشده والعلاقة مع النظم الدولية. (5) لقد ركز الشيخ حسن البنا مؤسس الجماعة ومرشدها الأول، في وصاياه للإخوان علي علاقة الجماعة ودورها الاجتماعي في ضوء علاقات ورؤي وأفق خاص لهذا الوجود. ولا شك في أن الاختلاف الأساسي بين الجماعة والنظم الحاكمة، يدور حول آلية التعامل مع البيئة الدولية والإقليمية، وهذا يعكس دوراً بالغ الأهمية في ظل "تعارض" رؤية الطرفين لهذه القضايا؛ فهناك أنظمة عربية استخدمت "الورقة الإخوانية" كعنصر ترهيب للإدارة الأمريكية، والمجتمع الدولي؛ خشيةَ إجراء انتخابات حرة في المنطقة، ويبدو أنها حققت هدفها في هذا السياق؛ إذ توقفت الولاياتالمتحدة علي ما يبدو، عن المطالبة ب"الديمقراطية"، علي نحو ما شهدته الانتخابات البرلمانية المصرية في العام 2005، وفي العام 2010، لكنها سياسة خاطئة كان لها أكبر الأثر في تقويض النظام الحاكم. كما أن الإدارة الأمريكية ما زالت تحاول استخدام الأداة نفسها كورقة سياسية؛ لفرض قضايا سياسية معينة، ودعوة النظم الحاكمة للاستجابة إليها دون مناقشة، لكن الأنظمة بدورها لا تستطيع القيام بذلك، لاعتبارات تتعلق بمعادلات الحكم الداخلية وتوازناته، وإلا عرّضت نفسها لاحتمالات الانهيار السريع. لذلك، وفي ضوء التطورات الأخيرة التي شهدتها المنطقة العربية؛ خصوصاً في مصر، يجب أن تعيد النظم العربية صياغة العلاقة المختزلة بينها وبين أكبر جماعة إسلامية شعبية في المنطقة العربية للجلوس علي أرضية مستقرة، وهو أمر لا بد منه عاجلاً أو آجلاً، شئنا أو أبينا.