القاهرة الإخبارية: تصاعد أعمدة الدخان من قلب وزارة الدفاع الاسرائيلية في تل أبيب    خوسيه ريبيرو.. قادرون على إيقاف خطورة ميسي وأعددنا أنفسنا جيدا لهذه المباراة    تشكيل الأهلي المتوقع لمواجهة إنتر ميامي في كأس العالم للأندية    معاذ: جماهير الزمالك كلمة السر في التتويج ب كأس مصر    الآن.. موعد نتيجة الدبلومات الفنية 2025 برقم الجلوس وخطوات الاستعلام الرسمي    اعرف رد محافظ الإسكندرية على جزار يبيع كيلو اللحمة ب700 جنيه.. فيديو وصور    رئيس جامعة سوهاج في ضيافة شيخ الأزهر بساحة آل الطيب    القناة 13: إصابة 5 إسرائيليين جراء الهجوم الصاروخي الإيراني الأخير    الجبهة الداخلية الإسرائيلية: تفعيل صفارات الإنذار في إيلات    مندوب أميركا أمام الأمم المتحدة: نسعى لحل دبلوماسي يمنع إيران من امتلاك سلاح نووي    فرنسا تحذر مواطنيها من السفر إلى الشرق الأوسط    إيران: الهجمات الصاروخية على إسرائيل تضمنت للمرة الأولى إطلاقات من غواصة    استهداف مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية فى تل أبيب.. فيديو    إنفانتينو: بطولة كأس العالم للأندية ستكون لحظة تاريخية فى كرة القدم    الدبيكي: إعتماد إتفاقية «المخاطر البيولوجية» إنتصار تاريخي لحماية العمال    هل تتأثر قناة السويس بالصراع الإسرائيلي الإيراني؟.. الحكومة ترد    حدث منتصف الليل| خطة الحكومة لتأمين الغاز والكهرباء.. وهبوط 5 رحلات اضطراريا بمطار شرم الشيخ    كأس العالم للأندية، ملعب هارد روك جاهز لمباراة الأهلي وإنتر ميامي (صور)    ريبيرو يوجه رسالة حاسمة بشأن مراقبة ميسي.. ويشعل حماس لاعبي الأهلي «فيديو»    كوكا: من الصعب إيقاف ميسي.. ولن ألعب في مصر لغير الأهلي    ميسي يتوعد: كأس العالم للأندية فرصة لصناعة التاريخ مع إنتر ميامي    مؤتمر أخبار اليوم العقاري.. «رواد القطاع العقاري يضعون خارطة طريق لمستقبل الصناعة»    الجنح تسدل الستار في قضية انفجار خط الغاز.. اليوم    صفارات الإنذار تدوي في عدة مناطق إسرائيلية بعد اختراق طائرات مسيرة لأجواء تل أبيب    مصرع فتاة سقطت من الطابق السادس بسوهاج    "زهقت منه".. حكاية عاطل أشعل النيران في شقة والده بالطالبية    قبل وفاته مع «حذيفة».. «محمود» يروي لحظات الرعب والانفجار ب خط غاز طريق الواحات: «عينيا اسودّت والعربية ولّعت»    ضبط عاطل وراء إشعال النار بشقة والده في الطالبية    «النقابات الفنية» تشيد بجهود المصرية في بغداد في دعم إلهام شاهين    مراسل برنامج الحكاية: فوجئنا بوجود أجانب على كارتة الاسماعيلية    اليوم، نظر دعوى وقف تنفيذ قرار إغلاق بيوت وقصور الثقافة    تامر عاشور يظهر بعكاز فى حفل الكويت.. صور    كاتب سياسي: رد إيران يشمل مئات الصواريخ الباليستية لم تشهد تل أبيب مثيل لها    ما حكم أداء النافلة بين الصلاتين عند جمع التقديم؟    «الإفتاء» توضح كيفية الطهارة عند وقوع نجاسة ولم يُعرَف موضعها؟    7 خطوات أساسية من المنزل لخفض ضغط الدم المرتفع    احذرها.. 4 أطعمة تدمر نومك في الليل    «تضامن الدقهلية» تطلق قافلة عمار الخير لتقديم العلاج بالمجان    أطباء بالمنيا يسطرون ملحمة إنسانية داخل غرفة العمليات وينقذون مريضة ووليدها    «الأهلي في حتة عاشرة».. محمد الغزاوي يرد على المنتقدين    حركات متصاعدة في بيت المال.. حظ برج القوس اليوم 14 يونيو    محمد صبري: شيكابالا من أساطير الزمالك وله الحرية في تحديد موعد اعتزاله    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 14 يونيو 2025    سعر الذهب اليوم السبت 14 يونيو محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الارتفاع الكبير (تفاصيل)    تراجع سعر طن الحديد الاستثمارى وعز وارتفاع الأسمنت بسوق مواد البناء اليوم السبت 14 يونيو 2025    مصرع عاملين وإصابة 12 آخرين في انقلاب ميكروباص بالعياط    بعد نصف قرن على رحيلها.. صوت أم كلثوم يفتتح تتر مسلسل «فات الميعاد»    طوارئ نووية محتملة.. السعودية توضح: لا مواد مشعة في مياه المملكة    إجازة رأس السنة الهجرية للموظفين والمدارس في مصر رسميًا (الموعد والتفاصيل)    نائب رئيس جامعة القاهرة يتفقد امتحانات الفرقة الأولى بطب قصر العيني (صور)    رسالة ماجستير فى كينيا تناقش مفهوم الخطايا عند المسلمين والمسيحيين.. بعض الخطايا لا نتغاضى عن الاعتراف بها.. ويحب على الجميع مواجهتها    علامات إذا ظهرت على طفلك يجب الانتباه لها    خطيب المسجد النبوي: الرحمة صفة تختص بالله يرحم بها البر والفاجر والمؤمن والكافر    مطار شرم الشيخ يستقبل رحلات محوّلة من الأردن بعد إغلاق مجالات جوية مجاورة    خطباء المساجد بشمال سيناء يدعون للوقوف صفا واحدا خلف القيادة السياسية    بعثة حج الجمعيات الأهلية تنظم زيارات الروضة الشريفة    قفزة في الاستثمارات العامة بالمنوفية ب2.8 مليار جنيه في موازنة 2024/2025    الدولار الأمريكي يرتفع متأثرا بالضربة الإسرائيلية على إيران    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جلال أمين في ذكراه الثانية
نشر في صوت البلد يوم 06 - 09 - 2020

"لا يفلح في كتابة سيرته الذاتية مَنْ يتصور أنه أذكى من قارئه أو أكثر دهاءً منه وقدرة على الخداع والمراوغة وإخفاء الحقائق، أو أن بمقدوره أن يرسم لنفسه صورة "مفيش بعد كده"! .
فمَنْ يكتب سيرته يجب أن يتمتع بجسارة البوح بما يخجل منه غيره، والاعتراف بما فعل في حياته دون إضافة أدنى "رتوش" إلى ما كان، أو مراعاة حسابات تتصل بالسمعة أو الانطباع المتراكم عنه لدى كثير من الناس؛ فالكتابة هنا هي أقرب ما تكون إلى التطهر عبر الاعتراف بالحقيقة.
ولا يمتلك القدرة على ذلك إلا قلة من البشر الذين تعد الكتابة بالنسبة إليهم غاية عليا، بغض النظر عن الأثر الذي ستتركه هذه النوعية من الكتابة الاعترافية الصادمة الممتعة من إيلام للبعض، أو غضب يصبونه على صاحب هذه السيرة إلى يوم الدين.
وإذا قصرت كلامي على إبداع السيرة الذاتية في العربية فإنني أود أن أتوقف أمام تجربة واحد من أصدقائي المفكرين البارزين الذين تربوا في بيت أدب، وانفتحوا على الحياة الغربية، وتزوجوا بأجنبيات، وحققوا نجاحًا لا مثيل له في مجال تخصصهم الدقيق ثم حققوا نجاحًا أكبر عندما امتلكوا هذه الشجاعة على البوح والاعتراف والتأمل في أسرار الحياة والخلق من خلال سيرهم الذاتية التي نشرت في كتابين منفصلين تحت عنوانين مختلفين يفصل بينهما فارق زمني واضح أتاح لهم الفرصة للتعرف على ردود الأفعال لما نشروا.
أتكلم هنا عن الدكتور جلال أمين، ابن الأستاذ أحمد أمين، صاحب: "حياتي"، و"إلى ولدي"، و"فجر الإسلام"، و"ضحى الإسلام"، و"ظهر الإسلام"، و"قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية"، الذي لفتتني كتبه وأنا بعد في صدر شبابي فنهلت منها، ودافعت عنها، بل وقدمت بلاغًا إلى النائب العام على صفحة كاملة بجريدة "الأخبار" المصرية التي كنت محررها الأدبي، حول سطو أحد ناشرينا المعروفين في وسط القاهرة على كتابه "قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية"، ونشر طبعة منه في بيروت خلوا من اسم صاحبه أحمد أمين، وكتابة هذه العبارة بدلًا من اسمه: "وضع مجموعة من المؤلفين" دون إدراك أن المقدمة التي وضعها أحمد أمين لهذا المعجم مكتوبة بضمير المفرد، ولا يمكن أن تنسب إلى مجموعة من المؤلفين، كما ذكر الناشر المزوّر الذي كان يبيع الكتاب المزوَّر بالقاهرة على مبعدة مئات الأمتار من ناشر الكتاب الأصلي "مكتبة النهضة المصرية" الكائنة في شارع عدلي باشا قرب ميدان الأوبرا والذي لم يكن يدري بهذه الواقعة إلى أن قدمت بلاغي إلى النائب العام.
وفي ظل هذا البلاغ الذي أحدث رجة في الساحة الثقافية في مصر، بادر واحد من أبناء الأستاذ أحمد أمين بالتواصل معي، كممثل لورثة الكاتب الراحل، لنكمل هذه الحملة الصحفية التي خضتها، إنه المهندس الراحل حافظ أحمد أمين، الذي كان كاتبًا مسرحيًا موهوبًا، ولكن كونه ابنًا لأحمد أمين لم يساعده في أن يصبح كاتبًا ملء السمع والأبصار.
وفي ذلك الوقت كان الدكتور جلال أمين يعمل خارج مصر، هو وشقيقه السفير حسين أحمد أمين الكاتب الشهير صاحب كتاب "دليل المسلم الحزين"، وما أن وصل الدكتور جلال أمين إلى مصر حتى اتصل بي عن طريق شقيقه حافظ وتلاقينا وظللنا صديقين، ومما دعَّم من هذه الصداقة دائرة واسعة من المبدعين والناشرين وأساتذة الجامعة الأميركية بالقاهرة التي عاد جلال أمين ليعمل بها بعد استقراره في مصر، فأسهمت هذه الدائرة من الأصدقاء وأذكر منهم الروائي الطيب صالح، وناشره المهندس إبراهيم المعلم في تمتين علاقتنا الثقافية والإنسانية. بل إنني يمكن أن أضيف إلى هذه الدائرة، السفيرة شادية فرَّاج، مساعد وزير الخارجية الآن، التي كانت سفيرة لمصر في تونس، واستضافتني على مأدبة غذاء في بيتها بصحبة صديقي الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي، وفي هذا اللقاء أخبرتني بأن صلة قرابة شديدة تربطها بعائلة أحمد أمين.
وفي هذا الشهر الذي يوافق الذكرى الثانية لرحيل صديقي الدكتور جلال أمين الذي غادرنا يوم 25 سبتمبر/أيلول 2018 أعيد قراءة الجزء الثاني من سيرته الذاتية البديعة الصادرة عن دار الشروق تحت عنوان "رحيق العمر"، والتي سبقها نشر الجزء الأول منها وعنوانه "ماذا علمتني الحياة؟" في مايو/آيار 2007 عن دار الشروق أيضًا.
وقد استهل جلال أمين هذا الجزء الثاني من سيرته بمقدمة ضافية جعل عنوانها "تجربتي في كتابة السيرة الذاتية" أشار فيها إلى عدة أمور بالغة الأهمية تصب في صلب موضوعي هذا.
فقد ذكر جلال أمين أنه بعد أن نشر "ماذا علمتني الحياة؟" انهمرت عليه ردود الفعل المهنئة، بينما انتقد البعض أشياء مهمة في الكتاب، وعاب عليه البعض الصراحة الزائدة في أمور رأوا أنها يجب أن تبقى سرًا، وليس من حقه إفشاؤها.
كما عاب عليه البعض أنه لم يكن صريحًا بالدرجة الكافية فيما يتعلق بالمرأة والجنس.
ولكن الانطباع العام كان إيجابيًا؛ مما شجعه على اتخاذ خطوة أخرى كانت نتيجتها صدور "رحيق العمر" الذي هو استكمال للأول، ولكن ليس بمعنى أنه يبدأ من حيث ينتهي، بل بمعنى أنه أيضًا سيرة ذاتية، حاول فيه مؤلفه كذلك أن يستخلص ماذا علمته الحياة؟
ويوضح أنه يسير موازيًا للكتاب الأول، فهو مثله يبدأ من واقعة الميلاد، بل وقبل الميلاد، وينتهي إلى اللحظة الراهنة، ولكنه لا يكرر ما سبق قوله، وكأننا بصدد شخصين يصفان حياة واحدة، ولكن ما استرعى انتباه أحدهما، واعتبره يستحق الذكر، غير ما استرعى انتباه الآخر.
فمن المدهش حقًّا مدى غنى حياة كل منا بالأحداث التي تستحق أن تروى، والشخصيات الجديرة بالوصف - كما يرى جلال أمين- الذي دهش، وهو يحاول استعراض حياته من جديد، من كثرة ما لم يذكره في كتابه الأول، لا لأنه لا يستحق الذكر؛ بل لمجرد أنه لم يخطر بباله ذكره وهو يؤلف ذلك الكتاب. فجلس ليدون ما فاته ويرتبه، ولكن هناك أشياء أخرى تعمد من قبل ألا يذكرها، ثم رأى أنه قد يكون من المفيد ذكرها.
ثم يضيف هذه المعلومة المهمة: "قال لي صديق عزيز، وهو مثقف ثقافة واسعة، إنه كان قد أعجب بكتابي "ماذا علمتني الحياة؟"، ولكنه كان يتمنى أن يجد فيه أيضًا وصفًا لتطوري الفكري. وقد اعتبرت هذه الملاحظة، إذ تصدر من هذا الشخص، إطراءً عظيمًا، إذ هل يعتقد هذا المثقف الكبير أن لدي حقًا تطورًا فكريًا يستحق أن يوصف؟
لم أناقشه في الأمر، بل اعتبرت كلامه صحيحًا لأني أحب أن يكون كذلك، وحاولت في هذا الكتاب الجديد أن أشرح بوضوح أكبر، ما اكتسبته من قراءاتي وتجاربي من أفكار أثرت في تكويني، ثم ضعف أثرها أو بقيت معي حتى الآن، آملًا أن تكون في هذا فائدة للقارئ، على الأقل بإطلاعه على أفكار بعض الكتاب المهمين الذين لم تكن له معرفة سابقة ولا كافية بهم."
ويستطرد جلال أمين قائلًا: "كانت تجربتي مع الجزء الأول من سيرتي، تجربة شيقة وسارة في مجملها، على الرغم مما أصابني قبل نشر الكتاب من قلق، وبعد نشره من بعض الأسف.
كنت أتشوق إلى ظهور هذا الكتاب أكثر مما تشوقت لظهور أي كتاب أو مقال سابق لي، كما كنت أتهيب ردود فعل القراء أكثر من خوفي من رأيهم في أي شيء كتبته من قبل.
كان الفارق بين هذا وذاك يشبه الفرق بين أن تلقي على مجموعة من الناس خبرًا، وأن تحكي لهم قصة ترجو أن يجدوها طريفة.
الخبر لا يهمك كثيرًا ما إذا تلقاه الناس باهتمام أو بغير اهتمام، أما القصة فيتوقف نوع استجابتهم لها على مهارتك في إلقائها، وعلى ذكائك (أو غبائك) في اختيارها دون غيرها، وعلى خفة ظلك أو ثقله في طريقة إلقائها.
أضف إلى هذا أن السيرة الذاتية قد تحتوي (وهي كذلك في حالتي) على بعض الحقائق أو الفضائح المتعلقة بأشخاص قريبين إليك (وعزيزين عليك أيضًا)، فيشوقك أن تعرف ما إذا كنت قد أصبت أم أخطأت بذكر هذه الفضائح أصلًا، وما إذا كان من الخطأ أو الصواب البوح بآرائك الحقيقية في آخرين، بعضهم لا يزال على قيد الحياة، ومن مات منهم لا يزال لهم أبناء وبنات على قيد الحياة. والشخصيات العامة التي تكتب رأيك فيها، لها أنصار أشداء أو أعداء أشداء أيضًا؛ فالبوح برأيك فيها لا بد وأن يغضب هؤلاء أو أولئك.
"لا يفلح في كتابة سيرته الذاتية مَنْ يتصور أنه أذكى من قارئه أو أكثر دهاءً منه وقدرة على الخداع والمراوغة وإخفاء الحقائق، أو أن بمقدوره أن يرسم لنفسه صورة "مفيش بعد كده"! .
فمَنْ يكتب سيرته يجب أن يتمتع بجسارة البوح بما يخجل منه غيره، والاعتراف بما فعل في حياته دون إضافة أدنى "رتوش" إلى ما كان، أو مراعاة حسابات تتصل بالسمعة أو الانطباع المتراكم عنه لدى كثير من الناس؛ فالكتابة هنا هي أقرب ما تكون إلى التطهر عبر الاعتراف بالحقيقة.
ولا يمتلك القدرة على ذلك إلا قلة من البشر الذين تعد الكتابة بالنسبة إليهم غاية عليا، بغض النظر عن الأثر الذي ستتركه هذه النوعية من الكتابة الاعترافية الصادمة الممتعة من إيلام للبعض، أو غضب يصبونه على صاحب هذه السيرة إلى يوم الدين.
وإذا قصرت كلامي على إبداع السيرة الذاتية في العربية فإنني أود أن أتوقف أمام تجربة واحد من أصدقائي المفكرين البارزين الذين تربوا في بيت أدب، وانفتحوا على الحياة الغربية، وتزوجوا بأجنبيات، وحققوا نجاحًا لا مثيل له في مجال تخصصهم الدقيق ثم حققوا نجاحًا أكبر عندما امتلكوا هذه الشجاعة على البوح والاعتراف والتأمل في أسرار الحياة والخلق من خلال سيرهم الذاتية التي نشرت في كتابين منفصلين تحت عنوانين مختلفين يفصل بينهما فارق زمني واضح أتاح لهم الفرصة للتعرف على ردود الأفعال لما نشروا.
أتكلم هنا عن الدكتور جلال أمين، ابن الأستاذ أحمد أمين، صاحب: "حياتي"، و"إلى ولدي"، و"فجر الإسلام"، و"ضحى الإسلام"، و"ظهر الإسلام"، و"قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية"، الذي لفتتني كتبه وأنا بعد في صدر شبابي فنهلت منها، ودافعت عنها، بل وقدمت بلاغًا إلى النائب العام على صفحة كاملة بجريدة "الأخبار" المصرية التي كنت محررها الأدبي، حول سطو أحد ناشرينا المعروفين في وسط القاهرة على كتابه "قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية"، ونشر طبعة منه في بيروت خلوا من اسم صاحبه أحمد أمين، وكتابة هذه العبارة بدلًا من اسمه: "وضع مجموعة من المؤلفين" دون إدراك أن المقدمة التي وضعها أحمد أمين لهذا المعجم مكتوبة بضمير المفرد، ولا يمكن أن تنسب إلى مجموعة من المؤلفين، كما ذكر الناشر المزوّر الذي كان يبيع الكتاب المزوَّر بالقاهرة على مبعدة مئات الأمتار من ناشر الكتاب الأصلي "مكتبة النهضة المصرية" الكائنة في شارع عدلي باشا قرب ميدان الأوبرا والذي لم يكن يدري بهذه الواقعة إلى أن قدمت بلاغي إلى النائب العام.
وفي ظل هذا البلاغ الذي أحدث رجة في الساحة الثقافية في مصر، بادر واحد من أبناء الأستاذ أحمد أمين بالتواصل معي، كممثل لورثة الكاتب الراحل، لنكمل هذه الحملة الصحفية التي خضتها، إنه المهندس الراحل حافظ أحمد أمين، الذي كان كاتبًا مسرحيًا موهوبًا، ولكن كونه ابنًا لأحمد أمين لم يساعده في أن يصبح كاتبًا ملء السمع والأبصار.
وفي ذلك الوقت كان الدكتور جلال أمين يعمل خارج مصر، هو وشقيقه السفير حسين أحمد أمين الكاتب الشهير صاحب كتاب "دليل المسلم الحزين"، وما أن وصل الدكتور جلال أمين إلى مصر حتى اتصل بي عن طريق شقيقه حافظ وتلاقينا وظللنا صديقين، ومما دعَّم من هذه الصداقة دائرة واسعة من المبدعين والناشرين وأساتذة الجامعة الأميركية بالقاهرة التي عاد جلال أمين ليعمل بها بعد استقراره في مصر، فأسهمت هذه الدائرة من الأصدقاء وأذكر منهم الروائي الطيب صالح، وناشره المهندس إبراهيم المعلم في تمتين علاقتنا الثقافية والإنسانية. بل إنني يمكن أن أضيف إلى هذه الدائرة، السفيرة شادية فرَّاج، مساعد وزير الخارجية الآن، التي كانت سفيرة لمصر في تونس، واستضافتني على مأدبة غذاء في بيتها بصحبة صديقي الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي، وفي هذا اللقاء أخبرتني بأن صلة قرابة شديدة تربطها بعائلة أحمد أمين.
وفي هذا الشهر الذي يوافق الذكرى الثانية لرحيل صديقي الدكتور جلال أمين الذي غادرنا يوم 25 سبتمبر/أيلول 2018 أعيد قراءة الجزء الثاني من سيرته الذاتية البديعة الصادرة عن دار الشروق تحت عنوان "رحيق العمر"، والتي سبقها نشر الجزء الأول منها وعنوانه "ماذا علمتني الحياة؟" في مايو/آيار 2007 عن دار الشروق أيضًا.
وقد استهل جلال أمين هذا الجزء الثاني من سيرته بمقدمة ضافية جعل عنوانها "تجربتي في كتابة السيرة الذاتية" أشار فيها إلى عدة أمور بالغة الأهمية تصب في صلب موضوعي هذا.
فقد ذكر جلال أمين أنه بعد أن نشر "ماذا علمتني الحياة؟" انهمرت عليه ردود الفعل المهنئة، بينما انتقد البعض أشياء مهمة في الكتاب، وعاب عليه البعض الصراحة الزائدة في أمور رأوا أنها يجب أن تبقى سرًا، وليس من حقه إفشاؤها.
كما عاب عليه البعض أنه لم يكن صريحًا بالدرجة الكافية فيما يتعلق بالمرأة والجنس.
ولكن الانطباع العام كان إيجابيًا؛ مما شجعه على اتخاذ خطوة أخرى كانت نتيجتها صدور "رحيق العمر" الذي هو استكمال للأول، ولكن ليس بمعنى أنه يبدأ من حيث ينتهي، بل بمعنى أنه أيضًا سيرة ذاتية، حاول فيه مؤلفه كذلك أن يستخلص ماذا علمته الحياة؟
ويوضح أنه يسير موازيًا للكتاب الأول، فهو مثله يبدأ من واقعة الميلاد، بل وقبل الميلاد، وينتهي إلى اللحظة الراهنة، ولكنه لا يكرر ما سبق قوله، وكأننا بصدد شخصين يصفان حياة واحدة، ولكن ما استرعى انتباه أحدهما، واعتبره يستحق الذكر، غير ما استرعى انتباه الآخر.
فمن المدهش حقًّا مدى غنى حياة كل منا بالأحداث التي تستحق أن تروى، والشخصيات الجديرة بالوصف - كما يرى جلال أمين- الذي دهش، وهو يحاول استعراض حياته من جديد، من كثرة ما لم يذكره في كتابه الأول، لا لأنه لا يستحق الذكر؛ بل لمجرد أنه لم يخطر بباله ذكره وهو يؤلف ذلك الكتاب. فجلس ليدون ما فاته ويرتبه، ولكن هناك أشياء أخرى تعمد من قبل ألا يذكرها، ثم رأى أنه قد يكون من المفيد ذكرها.
ثم يضيف هذه المعلومة المهمة: "قال لي صديق عزيز، وهو مثقف ثقافة واسعة، إنه كان قد أعجب بكتابي "ماذا علمتني الحياة؟"، ولكنه كان يتمنى أن يجد فيه أيضًا وصفًا لتطوري الفكري. وقد اعتبرت هذه الملاحظة، إذ تصدر من هذا الشخص، إطراءً عظيمًا، إذ هل يعتقد هذا المثقف الكبير أن لدي حقًا تطورًا فكريًا يستحق أن يوصف؟
لم أناقشه في الأمر، بل اعتبرت كلامه صحيحًا لأني أحب أن يكون كذلك، وحاولت في هذا الكتاب الجديد أن أشرح بوضوح أكبر، ما اكتسبته من قراءاتي وتجاربي من أفكار أثرت في تكويني، ثم ضعف أثرها أو بقيت معي حتى الآن، آملًا أن تكون في هذا فائدة للقارئ، على الأقل بإطلاعه على أفكار بعض الكتاب المهمين الذين لم تكن له معرفة سابقة ولا كافية بهم."
ويستطرد جلال أمين قائلًا: "كانت تجربتي مع الجزء الأول من سيرتي، تجربة شيقة وسارة في مجملها، على الرغم مما أصابني قبل نشر الكتاب من قلق، وبعد نشره من بعض الأسف.
كنت أتشوق إلى ظهور هذا الكتاب أكثر مما تشوقت لظهور أي كتاب أو مقال سابق لي، كما كنت أتهيب ردود فعل القراء أكثر من خوفي من رأيهم في أي شيء كتبته من قبل.
كان الفارق بين هذا وذاك يشبه الفرق بين أن تلقي على مجموعة من الناس خبرًا، وأن تحكي لهم قصة ترجو أن يجدوها طريفة.
الخبر لا يهمك كثيرًا ما إذا تلقاه الناس باهتمام أو بغير اهتمام، أما القصة فيتوقف نوع استجابتهم لها على مهارتك في إلقائها، وعلى ذكائك (أو غبائك) في اختيارها دون غيرها، وعلى خفة ظلك أو ثقله في طريقة إلقائها.
أضف إلى هذا أن السيرة الذاتية قد تحتوي (وهي كذلك في حالتي) على بعض الحقائق أو الفضائح المتعلقة بأشخاص قريبين إليك (وعزيزين عليك أيضًا)، فيشوقك أن تعرف ما إذا كنت قد أصبت أم أخطأت بذكر هذه الفضائح أصلًا، وما إذا كان من الخطأ أو الصواب البوح بآرائك الحقيقية في آخرين، بعضهم لا يزال على قيد الحياة، ومن مات منهم لا يزال لهم أبناء وبنات على قيد الحياة. والشخصيات العامة التي تكتب رأيك فيها، لها أنصار أشداء أو أعداء أشداء أيضًا؛ فالبوح برأيك فيها لا بد وأن يغضب هؤلاء أو أولئك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.