اليوم، إجازة بالبنوك والبورصة بمناسبة ذكرى ثورة 23 يوليو    ترامب يبرم اتفاقا يلزم أوروبا بدفع ثمن معدات عسكرية لإرسالها إلى أوكرانيا    الصحة العالمية: جوع جماعي في غزة بسبب حصار إسرائيل المفروض على القطاع    حديثه عن حب النادي طلع مدهون بزبدة، هذا ما يخطط له أليو ديانج للرحيل عن الأهلي    نجاح فريق طبي بمستشفى الفيوم في إنقاذ مريض مصاب بتهتك وانفجار في المثانة بسبب طلق ناري    من «البيان الأول» إلى «الجمهورية الجديدة»| ثورة يوليو.. صانعة التاريخ ومُلهمة الأجيال    بينهم عمال غابات.. مصرع 10 أشخاص في حريق هائل بتركيا- صور    القوات الإيرانية تُحذر مدمرة أمريكية في خليج عمان.. والبنتاجون يعلق على التحذير    بمناسبة ثورة 23 يوليو.. اليوم الخميس إجازة مدفوعة الأجر    في معرض مكتبة الإسكندرية الدولي للكتاب.. «قاهرة ابن دانيال» زاوية مجهولة من «العاصمة»    رجال غيّروا وجه مصر.. ما تيسر من سيرة ثوار يوليو    ترامب: أمريكا ستقود العالم في الذكاء الاصطناعي    الخارجية الأمريكية: روبيو بحث مع الصفدي اتفاق وقف إطلاق النار في سوريا    استشهاد فلسطينيين اثنين برصاص الاحتلال في بلدة الخضر    رئيس محكمة النقض يستقبل وزير العدل الأسبق لتقديم التهنئة    علاء نبيل: احتراف اللاعبين في أوروبا استثمار حقيقي    رياضة ½ الليل| إقالة سريعة.. سقوط المصري.. السعيد فرحان بالزمالك.. وفحص الخطيب بباريس    منتخب 17 عامًا يفوز على العبور وديًا ب8 أهداف    إخماد حريق في محطة وقود بالساحلي غرب الإسكندرية| صور    الاكتتاب في سندات الخزانة العشرينية الأمريكية فوق المتوسط    مخرج «اليد السوداء»: نقدم حكاية عن المقاومة المصرية ضد الاحتلال    بأغنية «يا رب فرحني».. حكيم يفتتح صيف 2025    راغب علامة: مصر هوليوود الشرق.. وقبلة الفنان مش جريمة    وزير الزراعة: الرئيس السيسي مُهتم بصغار المزارعين    حسام موافي لطلاب الثانوية: الطب ليست كلية القمة فقط    بمستشفى سوهاج العام.. جراحة دقيقة لطفلة مصابة بكسر انفجاري بالعمود الفقري    طبق الأسبوع| من مطبخ الشيف أحمد الشناوي.. طريقة عمل سلطة التونة بالذرة    بعد أنباء أزمة عقده.. ديانج: «لم أكن أبدًا سببًا في أي مشكلة»    أليو ديانج يحكي ذكرياته عن نهائي القرن بين الأهلي والزمالك    محافظ قنا يطمئن على مصابي حادث سقوط مظلة تحت الإنشاء بموقف نجع حمادي.. ويؤكد: حالتهم مستقرة    نشرة التوك شو| توجيه رئاسي بشأن الطلاب محدودي الدخل.. وخالد أبوبكر يتعرض لوعكة صحية على الهواء    «الجبهة الوطنية» يكرّم طالب من أوائل الثانوية العامة بمؤتمر الجيزة ضمن مبادرة دعم المتفوقين    صاحب مغسلة غير مرخصة يعتدي على جاره بسبب ركن سيارة بالإسكندرية    إصابة شخصين في تصادم بين سيارة وتوكتوك بطريق التل الصغير بالإسماعيلية    إصابة شخصين في حادث انقلاب بطريق الإسماعيلية    بالأسماء.. إصابة ووفاة 5 أشخاص فى حادث تصادم سيارتين بمحور ديروط فى أسيوط    عيار 21 الآن وأسعار الذهب اليوم في بداية تعاملات الخميس 24 يوليو 2025    ترامب: سنفرض رسومًا جمركية على معظم دول العالم ونعزز صفقات الطاقة مع آسيا    «الناصري» ينظم ندوة بالمنيا احتفالًا بذكرى 23 يوليو    موعد تنسيق الجامعات الأجنبية 2025 لطلاب الثانوية والشهادات المعادلة    «مبنحبش نتصادم».. كيف تحدث أحمد فهمي عن علاقته ب أميرة فراج قبل الانفصال؟    5 أبراج «فاهمين نفسهم كويس».. يعشقون التأمل ويبحثون عن الكمال    عبارات تهنئة مؤثرة ومميزة لطلاب الثانوية العامة 2025    السيد القصير يوجه 7 رسائل بمؤتمر الغربية: ندعم القيادة السياسية.. ومرشحينا معروفين مش نازلين بباراشوت    لو مجموعك أقل من 90%.. قائمة الكليات المتاحة ب تنسيق الثانوية العامة 2025    «محدش قالي شكرا حتى».. الصباحي يهاجم لجنة الحكام بعد اعتزاله    «أحمد فتوح بينهم».. جون إدوارد يسعى للإطاحة بثلاثي الزمالك (تفاصيل)    لا ترمِ قشر البطيخ.. قد يحميك من مرضين خطيرين وملئ بالفيتامينات والمعادن    اليوم، تعديلات جديدة في مواعيد تشغيل القطار الكهربائي بمناسبة ذكرى ثورة 23 يوليو    ارتفاع البتلو وانخفاض الكندوز، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    الأوراق المطلوبة للاشتراك في صندوق التكافل بنقابة الصحفيين    حماس تسلم ردها على مقترح وقف إطلاق النار بقطاع غزة إلى الوسطاء    5 معلومات عن المايسترو الراحل سامي نصير    هل يجوز أخذ مكافأة على مال عثر عليه في الشارع؟.. أمين الفتوى يجيب    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : كم نتمنى ان نكون مثلكم ?!    الإفتاء توضح كيفية إتمام الصفوف في صلاة الجماعة    محفظ قرآن بقنا يهدي طالبة ثانوية عامة رحلة عمرة    دار الإفتاء المصرية توضح حكم تشريح جثة الميت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف تجبرنا الملصقات الاعلانية على النظر اليها ؟
نشر في صوت البلد يوم 23 - 05 - 2019

طاف المُنادي الإغريقي ذو الصوت الأجش الطرق والشوارع مُعلنا عن أحدث قرارات الدولة، مقاطعا هذه القرارات بين الآن والآخر بزجل منظوم حول مزايا صابون التاجر "أسكليبتون"، حاثًّا الفتيات والنساء على شرائه. ففي أثينا قبل ستة آلاف عام، كانت تلك هي الطريقة المُثلى للتاجر حتى يعلن عن مُنتَجه. (1)
فالإعلانات، لم تُولد البارحة كما قد يظن البعض، بل يمتد تاريخها لتاريخ التجارة نفسه، ففي أي مكان وُجد فيه بيع وشراء، وُجدت أيضا إعلانات. تختلف الوسائل بالطبع كثيرا عن العصر الحديث، لكن المضمون نفسه ظل واحدا. ففي تاريخها الطويل، مرّت الإعلانات بتغييرات عدّة فرضتها التحولات الاجتماعية والثقافية، لكن مع كل تلك التغييرات، ظل هدفها واحدا لا يتغير: لفت نظر الناس إليها وجعلهم يشترون المنتج أو الخدمة التي تروج له.
لكن، مع مجيء عهود الرأسمالية، ومع تفاقم قوى السوق وتضاعف عدد السلع والخدمات مئات المرات، باتت الإعلانات تُشكّل جزءا لا مفر منه من مجالنا البصري ومساحتنا الحضرية. فأينما توجهت ببصرك في شوارع المدينة، ستجد الإعلانات تحاوطك في كل مكان، مُعلقة على أعمدة النور، واقفة في لافتات ضخمة فوق الكباري، ملصوقة على حيطان محطات المترو والقطارات؛ بل إنها تسربت من المساحات الفعلية لتحتل صفحات الصحف والمجلات والفضاءات الإلكترونية؛ ببساطة، صار لا يوجد مكان يخلو منها.
ومع هذا الانتشار الشديد وحصارها البصري لنا، نجد بعض الأسئلة التي تطرح نفسها حول الإعلانات، وبالأخص المُلصقات الثابتة والموجودة في كل مكان؛ فبعد أن بات تَعامُلنا شبه دائم مع تلك الملصقات التي تمتد على طول خط الرؤية، وبعد أن صارت تلك تشكل جزءا لا يستهان به من وجه المدينة، علينا أن نتساءل، أليس من الواجب أن تمتاز تلك الملصقات فوق وظيفتها الأساسية بشيء من الجمال الفني؟ وكيف تستخدم تلك الملصقات أصلا بعض الخصائص الفنية من أشكال وألوان وخلفيات لتؤثر فينا؟

ما بين الفن والملصقات
تمتد العلاقة ما بين الفن والملصقات الإعلانية لتاريخ انتشار تلك الأخيرة نفسه؛ وعلى امتداد تلك الفترة، ظلت العلاقة بينهما جدلية، ففي البداية أثّرت الاتجاهات الفنية في الملصقات، وفي القرن العشرين أثّرت الملصقات في الاتجاهات الفنية.
فقد بدأت الملصقات الإعلانية في الانتشار بالشكل الذي نراه الآن بدايات القرن التاسع عشر عند اختراع الطباعة الحجرية (lithography)، ما تزامن أيضا مع شيوع أسلوب الآرت نوفو (Art Noveau) الفني. ولهذا، نرى أن الملصقات غلب عليها ذاك الأسلوب وقام بالعمل عليها بعض من أشهر رساميه. (2) فملصقات ملهى "مولان روج" الليلي الشهير في باريس لم يرسمها أحد سوى هنري دي تولوز-لاتورك بنفسه(3). ومعظم إعلانات المسارح والأوبرا والكثير من المنتجات الاستهلاكية قام برسمها الفنان الفرنسي جول شاريه، والذي سُمي أيضا ب "أبو فن الملصقات". (4)

وتكاد لا تخلو ملصقات شاريه من رسومات لنساء جميلات بغض النظر عن السياق، وربما يكون هذا الأصل وراء شيوع ترويج العارضات والممثلات الجميلات للسلع حتى الآن.
أما في القرن العشرين، فقد حدث العكس تماما، حيث أصبح الاستهلاك ثقافة كاملة قائمة بذاتها حتى تأثر الفن بها وبدأ في تناول موضوعاتها. فقديما، برع الفنانون في رسم موضوعات الطبيعة الصامتة البسيطة، من زجاجة لبن، إلى سلة فاكهة، إلى كأس شراب. أما عام 1962، أحدث الفنان الأميركي آندي وارهول ثورة في عالم الفن عندما رسم لوحة لم تكن سوى 32 رسمة مُكررة لعُلبة حساء من ماركة "كامبل"(5). ما بين نقد الثقافة الاستهلاكية والاحتفاء بها، تنوعت تأويلات اللوحة، لكنّ شيئا واحدا لم يختلف عليه أحد: الخط الفاصل بين الفن والإعلان وثقافة الاستهلاك آخذ في الذوبان.

ويبقى السؤال، هل يجب على الإعلان أن يكون جميلا؟ وإن كانت الإجابة نعم، فهل يكون على الفنان في العصر الحديث أن يترك مرسمه ومواضيعه المجردة قليلا ويبدأ في العمل لدى شركات الإعلان؟

يجيبنا عن هذا السؤال الفنان والمصمم الإيطالي برونو مناري في كتابه "التصميم كفن"، ويقول: "اليوم، صار من الضروري أن نتخلص من أسطورة الفنان "النجم" الذي لا ينتج سوى تُحَفٍ فنية لا يتذوقها سوى مجموعة صغيرة من الأشخاص ذوي ذكاء فائق. يجب أن نفهم أنه طالما انفصل الفن عن مشاكل الحياة فلن يهتم به سوى قلة من الناس. فالثقافة اليوم أصبحت شأنا يهم الجماعات، لذا، فعلى الفنان أن ينزل من فوق عليائه ويصمم حتى لافتات المحلات، خالعا عن نفسه آخر بقايا الفكر الرومانسي ليصير ناشطا كرجل بين الرجال. واليوم، يعيد المصمم خلق الرابطة المفقودة منذ زمن بعيد بين الفن وبين العامة، بين الأحياء وبين الفن كنشاط حي؛ فلا يجب أن يكون هناك فن منفصل عن الحياة. فلو صنعت أغراض الحياة اليومية بفن بدل من كونها مجرد هلاهيل جمعتها المصادفة أو الهوى مع بعضها البعض، لما كان عندنا شيء لنخفيه".(6) وبغض النظر عن مدى جمال الملصق من عدمه، يظل شيء واحد فقط يهم المُعلِن: أن يجذب الإعلان الجماهير. فما الذي يفعله المصمم أو الفنان ليصل إلى هذا؟

حِيَل الأشكال والخلفيات
وراء كل مُلصق إعلاني، يقف مُصمم كل هدفه أن يخطف بصر المارة حتى من على بُعد، أن يحوز على جزء من انتباه حتى أكثر الأشخاص غرقا في أفكاره في لحظة ما. ولهذا، فعلى مر السنين، طور المصممون مجموعة من الحِيَل والأساليب التي تُمكّنهم من فعل ذلك بالضبط.
في محاضرتها حول الملصقات الإعلانية، ناقشت المصممة إلين لابتون بعضا من تلك الأساليب وقالت: "يحب البشر أن يُنظموا الأشياء بطريقة قصصية، ونحن كمصممين نعرف هذا جيدا، هذا جُزء من خلطتنا السرية. فلو كان عندك صورة لغابة، يجب أن تضع فيها ممرا". (7)فتفتح الممرات أمامنا أُفقا، تدعونا أن ندخل عالم الصورة أو التصميم الذي ينطوي ولا بد على كثير من القصص والحكايات. لهذا، يكثر في إعلانات المُدن الجديدة والعقارات أن نجد ممرات وطرقا مائلة، تُعطي للصورة إحساسا بثلاثية الأبعاد، وتضع الرائي مباشرة على أول عتبات المكان.

ولا تقتصر الزوايا المائلة على الطرق والممرات، فمعظم الملصقات في الواقع تضع الشيء الذي تُروّج له مائلا وليس مستقيما. فالأقطار عوضا عن المستقيمات تُعطي للصورة إحساسا بالديناميكية والحركة، ما يجعلها أكثر لفتا للانتباه، فيما تُولِّد المستقيمات شعورا بالرّتابة والملل. قد يكون للأمر علاقة مباشرة بالطريقة التي يعالج بها وعينا العالم، فوفقا لدراسة أجراها ستيفن بالمر، يحتفظ معظم الأشخاص في أذهانهم بصور مائلة قليلا عن مختلف الأغراض التي يتعاملون معها يوميا. (8)
أما ارتباط المُلصق الإعلاني بقصة ما، فقد صار أسهل بكثير في الوقت الحالي. فعن طريق الإعلانات التلفزيونية، تستطيع شركة الإعلان أن تخلق قصة مرتبطة بالمنتج أو الخدمة التي تُروّج، وعلى جانبي الطرق والكباري، تُعلق ملصقات تعيد لذهن المارة تلك القصة مرة أخرى وبالتالي تستدعي معها المنتج أو الخدمة. وقد رأينا في حملة إعلانات "إي جي بنك" منذ عامين مثالا رائعا على هذا، حيث خلق الإعلان شخصية لها بطل وعقدة استطاع الجمهور المُستهدَف من الشباب التفاعل معها، ثم امتلأت الشوارع بعدها بملصقات إعلانية لتلك الشخصية تعلوها جملة الإعلان الشهيرة: "أنت محدش بيعملك حساب". للأمر أيضا ما يؤيده علميا، فوفقا لأبحاث أجرتها جامعة كاليفورنيا، تثبت المعلومة التي تُصاغ بشكل قصصي في الذاكرة بشكل أفضل مرتين من تلك التي تُقال بسرد مباشر. (9(
وبالرغم من أن المصمم قد يفعل أي شيء في تصميمه ليلفت انتباهك، فإنه مُدرك تماما -المصمم الجيد على الأقل- أن ملء المُلصق بالصور والألوان بشكل يفوق الحد سيفعل خلاف ما يريد، فحينها، يتحول المُلصق إلى شيء مزدحم وغير مريح للعين، حتى إن المارة قد يتجنبون النظر إليه طويلا. ولهذا، فمنذ عُقود طويلة، نصح المصمم والفنان الإيطالي برونو ماناري المصممين باتباع أكثر التصاميم بساطة، وقد رأى في تصميم علم اليابان نموذجا يُحتذى به في هذا. (10(
يتكون العلم الياباني من دائرة حمراء يُحاوطها الفراغ من كل مكان، يكتب باناري عن هذا التصميم وكيفية تطبيقه في المُلصقات ويقول: "لماذا نجد هذا التصميم على بساطته مؤثرا للغاية؟ لأن الخلفية البيضاء تفصل الدائرة عن كل ما يحيطها وعن الملصقات الأخرى، ولأن الدائرة نفسها شكل لا تستطيع العين الهرب خارجه. فالعين معتادة أن تهرب من الأشياء عبر زواياها ونقاط تقاطع خطوطها، كرأس السهم على سبيل المثال. فللمثلث ثلاث نقاط يمكن للعين أن تهرب عندها، وللمربع أربع، أما الدائرة، فلا يوجد بها نقاط للهرب. كيف يمكن إذن استخدام هذا النمط البسيط في ملصق؟ قد تُصبح الدائرة ثمرة بندورة، أو طبقا من الحساء، أو ساعة، أو كُرة، أو مقودا، أو وعاء، أو قطعة من الجُبن، أو حتى الكرة الأرضية". (11(
وبالرغم من أن باناري كتب هذا في منتصف الستينيات، فإننا نجد بالفعل أن ذاك النمط البسيط ما زال يُستخدَم إلى اليوم في تصاميم الملصقات الدعائية ولوجوهات الشركات الكُبرى، بحيث تتخذ علامة الشركة شكلا دائريا أو شبه دائري بينما تحاوطها خلفية فارغة وتكون عادة بيضاء. نماذج من لوجوهات شركات عالمية تتبع تصميم علم اليابان الذي أشار إليه بناري. نلحظ هذا بالذات في التصميمين الثاني والثالث، حيث يتخذ اللوجو اللون الأحمر كالدائرة التي تتوسط العلم الياباني، ويحيطها فراغ أبيض.
لكن الخلفية الفارغة ليست قاعدة، فهنالك أشياء أخرى قد تحتويها خلفية التصميم وتجعل عيني المُتلقي تطيل النظر فيه. أحد أهم هذه الأشياء هي المناظر الطبيعية. فالبشر بطبيعتهم يستحسنون تلك المناظر ويعلقون صورا لها في كل مكان، في غرف المعيشة وفي المكاتب وفي العيادات، وحتى في خلفيات الهاتف والحاسوب، حيث تعطي تلك الرسومات أو الصور لمن ينظر إليها إحساسا بالاسترخاء والطمأنينة. ويُرجع العالم والفيلسوف دينيس دوتون هذا إلى أسباب تطورية، فمشهد يحتوي على تلال ومياه وأشجار وحيوانات وممرات تترجمه أذهاننا إلى شعور بالأمان مردّه وجود مكان مريح ومناسب للعيش. (12)، (13(

ولهذا، نجد المناظر الطبيعية تحتل المشهد في الكثير من ملصقات العقارات والمدن الجديدة حتى ولو كانت غير واقعية ولا تُعبّر بالضرورة عن المكان المراد الترويج له، كما نجدها أيضا في خلفية المشروبات والأطعمة التي يتم الترويج لها على أنها صحية. ومن اللافت للنظر كون الكثير من تلك المنتجات يتم التسويق له في مدن صناعية تماما أو صحراوية، تخلو أو تكاد من المسطحات الخضراء. لكن رغم ذلك، فأثر المناظر الطبيعية على المتلقي في أي بيئة كانت، وفقا لدوتون، واحد.
طاف المُنادي الإغريقي ذو الصوت الأجش الطرق والشوارع مُعلنا عن أحدث قرارات الدولة، مقاطعا هذه القرارات بين الآن والآخر بزجل منظوم حول مزايا صابون التاجر "أسكليبتون"، حاثًّا الفتيات والنساء على شرائه. ففي أثينا قبل ستة آلاف عام، كانت تلك هي الطريقة المُثلى للتاجر حتى يعلن عن مُنتَجه. (1)
فالإعلانات، لم تُولد البارحة كما قد يظن البعض، بل يمتد تاريخها لتاريخ التجارة نفسه، ففي أي مكان وُجد فيه بيع وشراء، وُجدت أيضا إعلانات. تختلف الوسائل بالطبع كثيرا عن العصر الحديث، لكن المضمون نفسه ظل واحدا. ففي تاريخها الطويل، مرّت الإعلانات بتغييرات عدّة فرضتها التحولات الاجتماعية والثقافية، لكن مع كل تلك التغييرات، ظل هدفها واحدا لا يتغير: لفت نظر الناس إليها وجعلهم يشترون المنتج أو الخدمة التي تروج له.
لكن، مع مجيء عهود الرأسمالية، ومع تفاقم قوى السوق وتضاعف عدد السلع والخدمات مئات المرات، باتت الإعلانات تُشكّل جزءا لا مفر منه من مجالنا البصري ومساحتنا الحضرية. فأينما توجهت ببصرك في شوارع المدينة، ستجد الإعلانات تحاوطك في كل مكان، مُعلقة على أعمدة النور، واقفة في لافتات ضخمة فوق الكباري، ملصوقة على حيطان محطات المترو والقطارات؛ بل إنها تسربت من المساحات الفعلية لتحتل صفحات الصحف والمجلات والفضاءات الإلكترونية؛ ببساطة، صار لا يوجد مكان يخلو منها.
ومع هذا الانتشار الشديد وحصارها البصري لنا، نجد بعض الأسئلة التي تطرح نفسها حول الإعلانات، وبالأخص المُلصقات الثابتة والموجودة في كل مكان؛ فبعد أن بات تَعامُلنا شبه دائم مع تلك الملصقات التي تمتد على طول خط الرؤية، وبعد أن صارت تلك تشكل جزءا لا يستهان به من وجه المدينة، علينا أن نتساءل، أليس من الواجب أن تمتاز تلك الملصقات فوق وظيفتها الأساسية بشيء من الجمال الفني؟ وكيف تستخدم تلك الملصقات أصلا بعض الخصائص الفنية من أشكال وألوان وخلفيات لتؤثر فينا؟

ما بين الفن والملصقات
تمتد العلاقة ما بين الفن والملصقات الإعلانية لتاريخ انتشار تلك الأخيرة نفسه؛ وعلى امتداد تلك الفترة، ظلت العلاقة بينهما جدلية، ففي البداية أثّرت الاتجاهات الفنية في الملصقات، وفي القرن العشرين أثّرت الملصقات في الاتجاهات الفنية.
فقد بدأت الملصقات الإعلانية في الانتشار بالشكل الذي نراه الآن بدايات القرن التاسع عشر عند اختراع الطباعة الحجرية (lithography)، ما تزامن أيضا مع شيوع أسلوب الآرت نوفو (Art Noveau) الفني. ولهذا، نرى أن الملصقات غلب عليها ذاك الأسلوب وقام بالعمل عليها بعض من أشهر رساميه. (2) فملصقات ملهى "مولان روج" الليلي الشهير في باريس لم يرسمها أحد سوى هنري دي تولوز-لاتورك بنفسه(3). ومعظم إعلانات المسارح والأوبرا والكثير من المنتجات الاستهلاكية قام برسمها الفنان الفرنسي جول شاريه، والذي سُمي أيضا ب "أبو فن الملصقات". (4)

وتكاد لا تخلو ملصقات شاريه من رسومات لنساء جميلات بغض النظر عن السياق، وربما يكون هذا الأصل وراء شيوع ترويج العارضات والممثلات الجميلات للسلع حتى الآن.
أما في القرن العشرين، فقد حدث العكس تماما، حيث أصبح الاستهلاك ثقافة كاملة قائمة بذاتها حتى تأثر الفن بها وبدأ في تناول موضوعاتها. فقديما، برع الفنانون في رسم موضوعات الطبيعة الصامتة البسيطة، من زجاجة لبن، إلى سلة فاكهة، إلى كأس شراب. أما عام 1962، أحدث الفنان الأميركي آندي وارهول ثورة في عالم الفن عندما رسم لوحة لم تكن سوى 32 رسمة مُكررة لعُلبة حساء من ماركة "كامبل"(5). ما بين نقد الثقافة الاستهلاكية والاحتفاء بها، تنوعت تأويلات اللوحة، لكنّ شيئا واحدا لم يختلف عليه أحد: الخط الفاصل بين الفن والإعلان وثقافة الاستهلاك آخذ في الذوبان.

ويبقى السؤال، هل يجب على الإعلان أن يكون جميلا؟ وإن كانت الإجابة نعم، فهل يكون على الفنان في العصر الحديث أن يترك مرسمه ومواضيعه المجردة قليلا ويبدأ في العمل لدى شركات الإعلان؟

يجيبنا عن هذا السؤال الفنان والمصمم الإيطالي برونو مناري في كتابه "التصميم كفن"، ويقول: "اليوم، صار من الضروري أن نتخلص من أسطورة الفنان "النجم" الذي لا ينتج سوى تُحَفٍ فنية لا يتذوقها سوى مجموعة صغيرة من الأشخاص ذوي ذكاء فائق. يجب أن نفهم أنه طالما انفصل الفن عن مشاكل الحياة فلن يهتم به سوى قلة من الناس. فالثقافة اليوم أصبحت شأنا يهم الجماعات، لذا، فعلى الفنان أن ينزل من فوق عليائه ويصمم حتى لافتات المحلات، خالعا عن نفسه آخر بقايا الفكر الرومانسي ليصير ناشطا كرجل بين الرجال. واليوم، يعيد المصمم خلق الرابطة المفقودة منذ زمن بعيد بين الفن وبين العامة، بين الأحياء وبين الفن كنشاط حي؛ فلا يجب أن يكون هناك فن منفصل عن الحياة. فلو صنعت أغراض الحياة اليومية بفن بدل من كونها مجرد هلاهيل جمعتها المصادفة أو الهوى مع بعضها البعض، لما كان عندنا شيء لنخفيه".(6) وبغض النظر عن مدى جمال الملصق من عدمه، يظل شيء واحد فقط يهم المُعلِن: أن يجذب الإعلان الجماهير. فما الذي يفعله المصمم أو الفنان ليصل إلى هذا؟

حِيَل الأشكال والخلفيات
وراء كل مُلصق إعلاني، يقف مُصمم كل هدفه أن يخطف بصر المارة حتى من على بُعد، أن يحوز على جزء من انتباه حتى أكثر الأشخاص غرقا في أفكاره في لحظة ما. ولهذا، فعلى مر السنين، طور المصممون مجموعة من الحِيَل والأساليب التي تُمكّنهم من فعل ذلك بالضبط.
في محاضرتها حول الملصقات الإعلانية، ناقشت المصممة إلين لابتون بعضا من تلك الأساليب وقالت: "يحب البشر أن يُنظموا الأشياء بطريقة قصصية، ونحن كمصممين نعرف هذا جيدا، هذا جُزء من خلطتنا السرية. فلو كان عندك صورة لغابة، يجب أن تضع فيها ممرا". (7)فتفتح الممرات أمامنا أُفقا، تدعونا أن ندخل عالم الصورة أو التصميم الذي ينطوي ولا بد على كثير من القصص والحكايات. لهذا، يكثر في إعلانات المُدن الجديدة والعقارات أن نجد ممرات وطرقا مائلة، تُعطي للصورة إحساسا بثلاثية الأبعاد، وتضع الرائي مباشرة على أول عتبات المكان.

ولا تقتصر الزوايا المائلة على الطرق والممرات، فمعظم الملصقات في الواقع تضع الشيء الذي تُروّج له مائلا وليس مستقيما. فالأقطار عوضا عن المستقيمات تُعطي للصورة إحساسا بالديناميكية والحركة، ما يجعلها أكثر لفتا للانتباه، فيما تُولِّد المستقيمات شعورا بالرّتابة والملل. قد يكون للأمر علاقة مباشرة بالطريقة التي يعالج بها وعينا العالم، فوفقا لدراسة أجراها ستيفن بالمر، يحتفظ معظم الأشخاص في أذهانهم بصور مائلة قليلا عن مختلف الأغراض التي يتعاملون معها يوميا. (8)
أما ارتباط المُلصق الإعلاني بقصة ما، فقد صار أسهل بكثير في الوقت الحالي. فعن طريق الإعلانات التلفزيونية، تستطيع شركة الإعلان أن تخلق قصة مرتبطة بالمنتج أو الخدمة التي تُروّج، وعلى جانبي الطرق والكباري، تُعلق ملصقات تعيد لذهن المارة تلك القصة مرة أخرى وبالتالي تستدعي معها المنتج أو الخدمة. وقد رأينا في حملة إعلانات "إي جي بنك" منذ عامين مثالا رائعا على هذا، حيث خلق الإعلان شخصية لها بطل وعقدة استطاع الجمهور المُستهدَف من الشباب التفاعل معها، ثم امتلأت الشوارع بعدها بملصقات إعلانية لتلك الشخصية تعلوها جملة الإعلان الشهيرة: "أنت محدش بيعملك حساب". للأمر أيضا ما يؤيده علميا، فوفقا لأبحاث أجرتها جامعة كاليفورنيا، تثبت المعلومة التي تُصاغ بشكل قصصي في الذاكرة بشكل أفضل مرتين من تلك التي تُقال بسرد مباشر. (9(
وبالرغم من أن المصمم قد يفعل أي شيء في تصميمه ليلفت انتباهك، فإنه مُدرك تماما -المصمم الجيد على الأقل- أن ملء المُلصق بالصور والألوان بشكل يفوق الحد سيفعل خلاف ما يريد، فحينها، يتحول المُلصق إلى شيء مزدحم وغير مريح للعين، حتى إن المارة قد يتجنبون النظر إليه طويلا. ولهذا، فمنذ عُقود طويلة، نصح المصمم والفنان الإيطالي برونو ماناري المصممين باتباع أكثر التصاميم بساطة، وقد رأى في تصميم علم اليابان نموذجا يُحتذى به في هذا. (10(
يتكون العلم الياباني من دائرة حمراء يُحاوطها الفراغ من كل مكان، يكتب باناري عن هذا التصميم وكيفية تطبيقه في المُلصقات ويقول: "لماذا نجد هذا التصميم على بساطته مؤثرا للغاية؟ لأن الخلفية البيضاء تفصل الدائرة عن كل ما يحيطها وعن الملصقات الأخرى، ولأن الدائرة نفسها شكل لا تستطيع العين الهرب خارجه. فالعين معتادة أن تهرب من الأشياء عبر زواياها ونقاط تقاطع خطوطها، كرأس السهم على سبيل المثال. فللمثلث ثلاث نقاط يمكن للعين أن تهرب عندها، وللمربع أربع، أما الدائرة، فلا يوجد بها نقاط للهرب. كيف يمكن إذن استخدام هذا النمط البسيط في ملصق؟ قد تُصبح الدائرة ثمرة بندورة، أو طبقا من الحساء، أو ساعة، أو كُرة، أو مقودا، أو وعاء، أو قطعة من الجُبن، أو حتى الكرة الأرضية". (11(
وبالرغم من أن باناري كتب هذا في منتصف الستينيات، فإننا نجد بالفعل أن ذاك النمط البسيط ما زال يُستخدَم إلى اليوم في تصاميم الملصقات الدعائية ولوجوهات الشركات الكُبرى، بحيث تتخذ علامة الشركة شكلا دائريا أو شبه دائري بينما تحاوطها خلفية فارغة وتكون عادة بيضاء. نماذج من لوجوهات شركات عالمية تتبع تصميم علم اليابان الذي أشار إليه بناري. نلحظ هذا بالذات في التصميمين الثاني والثالث، حيث يتخذ اللوجو اللون الأحمر كالدائرة التي تتوسط العلم الياباني، ويحيطها فراغ أبيض.
لكن الخلفية الفارغة ليست قاعدة، فهنالك أشياء أخرى قد تحتويها خلفية التصميم وتجعل عيني المُتلقي تطيل النظر فيه. أحد أهم هذه الأشياء هي المناظر الطبيعية. فالبشر بطبيعتهم يستحسنون تلك المناظر ويعلقون صورا لها في كل مكان، في غرف المعيشة وفي المكاتب وفي العيادات، وحتى في خلفيات الهاتف والحاسوب، حيث تعطي تلك الرسومات أو الصور لمن ينظر إليها إحساسا بالاسترخاء والطمأنينة. ويُرجع العالم والفيلسوف دينيس دوتون هذا إلى أسباب تطورية، فمشهد يحتوي على تلال ومياه وأشجار وحيوانات وممرات تترجمه أذهاننا إلى شعور بالأمان مردّه وجود مكان مريح ومناسب للعيش. (12)، (13(

ولهذا، نجد المناظر الطبيعية تحتل المشهد في الكثير من ملصقات العقارات والمدن الجديدة حتى ولو كانت غير واقعية ولا تُعبّر بالضرورة عن المكان المراد الترويج له، كما نجدها أيضا في خلفية المشروبات والأطعمة التي يتم الترويج لها على أنها صحية. ومن اللافت للنظر كون الكثير من تلك المنتجات يتم التسويق له في مدن صناعية تماما أو صحراوية، تخلو أو تكاد من المسطحات الخضراء. لكن رغم ذلك، فأثر المناظر الطبيعية على المتلقي في أي بيئة كانت، وفقا لدوتون، واحد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.