تذكرنى مفاوضات الحكومة مع صندوق النقد الدولى للحصول على القرض بلعبة بنك الحظ الشهيرة التى يلعب فيها طرفان يريد كلاً منهم أن يشترى "القاهرة" لأنها الأكثر ثمناً والأكثر عائداً ومن الممكن أن تبنى فيه جراج واستراحة. فلنبدأ من الآخر حيث استوقفنى ما قرأته فى افتتاحية صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية فى عددها أمس بأن صندوق النقد يستعد لعقد اتفاق "سريع وقذر" مع مصر، بهدف منع انهيار اقتصادها، مطالبةً بربط أى اتفاق بجدول زمنى سياسى واقعى، ورأت الصحيفة أن إتمام الاتفاق جائزة كبيرة للرئيس مرسى، الذى يفتقر للمصداقية، فى ظل أزمة مصر العميقة، وخواء خزينتها وتدهور اقتصادها مشيرة إلى أن الحكومة المصرية عليها زيادة الضرائب، وخفض دعم الوقود والغذاء للحصول على القرض. بالتأكيد استبعدت احتمال واحد لمعنى " القذارة "التى تقصدها الصحيفة وهو أنها تقصد أن القرض حرام شرعاً لكن الاحتمالات الأكثر وضوحاً هى تجلى المصلحة المشتركة بين طرفين يريدان أن ينجزان "صفقة " بمعنى الكلمة فلا صندوق النقد يهمه مصر للدرجة المُتخيلة ولا هو شرب من "مية" النيل ليعود بالخير على أهل مصر ولا الإخوان المسلمين غيرو إسلامهم ومعتقداتهم بعد الثورة ليحلوا القروض الربوية من أجل سواد عيون الفقراء وأحلام الشباب فى الجامعات وإضفاء البسمة على المصريين وسد عجزنا المالى والعضوي لكنهم وجودو أنفسهم فى "حارة مزنوقة " أرادو الخروج منها فبدأو بالتلويش فى حائطين يحوهم من اليمين والشمال. وحتى تستطيع التحليل المنطقى لقصة قرض صندوق النقد يجب أن تلقى عجز الموازنة وبرنامج الاصلاح الاقتصادى والضرائب ومعدلات النمو فى أقرب صندوق زبالة لأن هذه الأساسيات الملحة ليست سوى ديكورات يزين بها المسئولون أوراقهم وتصريحاتهم لكنها عند الفقراء والبسطاء لا تعنى شيئاً فى قاموسهم اليومى الذى يعلقهم فى "الساقية" التى تدور وياليتها تخرج ماء يسد الظمأ. لكن دعنى من تفسير محبط لا يكون عندك "ذو حجة " لتدرك زمام الأمور , ودعنى أسرد لك رؤية أصدرها الكاتب الأمريكى جون بيركنز فى كتاب له حول إجابته على سؤال، كيف تجعل الدول المديونية ترزخ في ديونها للأبد؟ قال الكاتب إن منظمات التمويل الدولية متمثلة في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، يعملان بتوجهات أمريكية وأوروبية واضحة، مع الأخذ في الاعتبار أن كلا المنظمتين يعود جزء كبير من ميزانيتهما الضخمة إلى الولاياتالمتحدة وأوروبا. ويشير بيركيز في كتابه، إلى أن اللعبة تدار كالآتي: دولة تعانى من أزمات اقتصادية ما وعجز في ميزانيتها، فتلجأ للبنك الدولي أو الصندوق بحثاً عن حلول عاجلة، أو تعرض عليها الولاياتالمتحدة أن تقوم بإقراضها لتنفيذ مشروعات وأعمال تساعدها في الخروج من عثرتها. وكشرط واضح.. يقوم المقرض بالمطالبة بضرورة أن تقوم الشركات الأمريكية بتنفيذ المشروعات التي ستمولها دولتها، أي أن الاموال التي ستقرضها للدولة الفقيرة هي في الواقع ستوجه لشركاتها، ولن تغادر حدود الدولة أبدًا، مع إضافة أن الدولة المقترضة سيكون عليها أن تلتزم بدفع فوائد وخدمة الدين كذلك. هذه الرؤية وغيرها تكاد تكون مكررة قالها العشرات من المفكرين الاقتصاديين ومقتنعين بوجودها كقناعتهم بوجود الشمس والقمر إلا أن المسئولين فى مصر حالياً لايرون غير "قشة صندوق النقد" تنقذهم من الوضع الاقتصادي المتردي الذى يضرب مصر خاصة بعد امتناع الجانب القطرى عن تقديم مساعدات مالية جديدة لمصر مما جعلهم يفترون علينا بالشروط والواجبات التى يجب علي الحكومة المصرية أن تتخذها للحصول على القرض ففعلت على أكمل وجه, وهل من حق غريق أن يختار بين يد يمنى ويسرى لتنقذه ؟ فزارت شروط الصندوق بيوت المصريين قبل أن تزور بعثات صندوق النقد الدولى الحكومة فارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية الضرورية كالكهرباء والغاز والبنزين والأغذية ومشتقات الألبان وغيرها ليجد المصريين يتمتمون ليل نهار"بركاتك ياصندوق" حتى أن الحكومة لا تملك حالياً الرجوع عن القرض ليس كما تقول بأن القرض شهادة ضمان للاقتصاد المصري لكن بسبب أنها ذهبت بمفاوضتها مع الصندوق إلى بعد لا يجوز لها الرجوع فيه ولا عنه لأن فى الناحية الأخرى شعب بكامله ينتظرها بفارغ الصبر ونخبة تتمنى لها بكل وضوح الفشل. هذه الشروط وغيرها فطنها الرئيس عبد الناصر منذ زمن ورفضها عندما طلبها منه البنك الدولى ليمنحه تمويلاً لبناء السد العالى باعتبارها تدخل في شئون مصر الداخلية فسحبت كل من أمريكا وبريطانيا والبنك الدولي عرضهم فواجههم عبد الناصر بتأميم قناة السويس في 26 يوليو 1956 ليصرف من عائدها على بناء السد، وقال في خطاب التأميم الشهير "مش سهل أبداً إن أحنا نبنى نفسنا فى وسط الأطماع ... الأطماع الدولية المتنافرة، والاستغلال الدولى، والمؤامرات الدولية.. لن نمكن منا تجار الحروب، لن نمكن منا المستعمرين، لن نمكن تجار البشر، سنعتمد على سواعدنا وعلى دماءنا وعلى أجسامنا" لكن معادلة عبد الناصر لاتجدى فى الوقت الحالى فلا الإخوان سيخرجون علينا ليقولون لنا ذلك لأنهم لم يستخدموا قوانين "الشفافية" و"التوافق " مع الشعب حتى يكسبوا تعاطفهم كما أن المرحلة الحالية يوجد بها حقائق من النوع "الديناصوري" تواجه السياسة المالية والنقدية تتمثل أبرزها في كيفية ضبط سوق الصرف مجدداً وذلك بعد الارتفاعات المتتالية للعملات الأجنبية مقابل الجنيه المصري والتي وصلت بأسعار الدولار إلى أعلي سعر له منذ ما يقرب من 10 أعوام مقترباً من ال 7 جنيهات داخل السوق الرسمية و8 جنيهات داخل السوق السوداء والتي نتجت عن تراجع كافة موارد مصر الدولارية وبالتالي تراجع حجم الاحتياطي النقدي مما تسبب في نقص المعروض بالعملة الأجنبية بالسوق وباتت قوة المركزي في ضخ سيولة دولارية لمواجهة الدولرة ضعيفة خاصة بعد تصريحات الحكومة الوصول بحجم الاحتياطي إلي 19 مليار دولار قبل نهاية العام الجاري. كما أدي تذبذب أسعار الصرف داخل السوق إلي ارتفاع التضخم بشكل كبير وصل إلي 18 % وفقا لأحدث تقرير صادر عن مركز معلومات مجلس الوزراء "وإن كانت أرقام المركزى والجهاز المركزى للتعبئة العامة والاحصاء للتضخم لا تتعدي 8% " وهو ما يعد التحدي الأكبر أمام القائمين علي السياسة النقدية في مصر وهو ما دفع لجنة السياسة النقدية بداية الشهر الجاري إلي رفع سعري عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة بواقع 50 نقطة أساس ليصل إلى 9.75% و 10.75% على التوالي. هذه الحقائق وغيرها تؤكد أننا أمام مشكلة كبيرة لن يجدى معها مراجعة التاريخ لأنه من وجهة نظرى فات الأوان كما أننا على الدرب سائرون فى التبعية المقدسة التى تعترف "بسيف الاقتصاد " المشهر فى وجوهنا وصيحة " انبطحوا " !!