صوبت حملات التشويه سهامها باتجاه محمد مرسي، فأفقدته أصواتا لكنها لم تستطع أن تسقطه، كما أن "الدولة العميقة" التي وقفت وراء أحمد شفيق، دفعته للأمام لكن ليس بالقدر الذي يجعله رئيسا. ووفقا للنتائج شبه النهائية التي أعلنت، فوز محمد مرسي مرشح حزب الحرية والعدالة بمنصب رئيس الجمهورية فإن قراءة في النتيجة تكشف ما يبدو أنه إخفاق لحملات التشويه التي طالت مرسي باعتباره مرشحا احتياطيا ل"الإخوان المسلمون"، كما يظهر بوضوح أن "الدولة العميقة" التي وقفت إلى جانب ترشيح أحمد شفيق، لم تنجح في الدفع به لقصر الرئاسة، ليخلف أستاذه حسني مبارك الذي يقضي عقوبة السجن المؤبد في مستشفى سجن طرة، بتهمة عدم حماية المتظاهرين، من القتل خلال ثورة 25 يناير. وبالنسبة للكثيرين فإن فوز مرسي وهو أكاديمي بجامعة الزقازيق مثل مفاجأة حيث كان الإعلام المصري ممهدا أكثر لتقبل خسارته أكثر من تقبل فوزه، للأسباب الآتية: أولا: نظرت دوائر إعلامية كثيرة لمرسي باعتباره ممثل "الدولة الدينية" بالرغم من أن جماعة الإخوان المسلمون التي ينتمي إليها مرسي أعلنت أنها تدعم قيم الدولة المدنية، فيما تم تقديم أحمد شفيق باعتباره ممثلا ل "الدولة المدنية" رغم خلفيته العسكرية فقد كان قائدا للقوات الجوية، كما كان ركنا مهما في نظام مبارك القمعي لنحو عشر سنوات قريبا من الرجل الذي أسقطته ثورة 25 يناير قبل عام ونصف العام. قدم شفيق رئيس الوزراء الذي وقعت في عهده "موقعة الجمل" نفسه كمدافع عما يوصف ب"سيطرة الإخوان" على الحكم، وأفردت وسائل الإعلام مساحات لاتهامات شفيق لجماعة الإخوان كبرى جماعات الإسلام السياسي بأنها وراء الاعتداء على المتظاهرين في ميدان التحرير إبان الثورة في 2011 في ما يعرف إعلاميا ب"موقعة الجمل" بسبب امتطاء المهاجمين جمالا وخيولا، لكن الأغلب أن هذه الاتهامات بسبب عدم منطقيتها خلقت نوعا مستترا من التعاطف مع مرشح الإخوان، ولم يظهر هذا التعاطف في وسائل الإعلام التي تسيطر عليها جماعات المصالح لكنه بدا واضحا في نتيجة صناديق الانتخابات. ثانيا: بذل محمد مرسي جهدا كبيرا في تقديم نفسه كمرشح ل"تيار الثورة"، وكانت أكثر العقبات التي واجهته أن من يمكن وصفهم ب"مرشحي الثورة" لم يقوموا باصطفاف واضح وراءه، ليحسم جولة الإعادة أمام أحمد شفيق الذي جسد في هذه الانتخابات رغبة "مفاصل" الدولة المصرية في عودة نظام حسني مبارك. وأدى الانقسام بين القوى الثورية حول أن يكون مرشح التيار الإسلامي معبرا عن الثورة، إلى أن يكون مرسي مرشح "نصف الثورة" وليس مرشح الثورة. ثالثا: مثلت اللجنة التأسيسية التي ستكتب الدستور الجديد نقطة ضعف واضحة عند محمد مرسي الحاصل على درجة الدكتوراه في الهندسة إذ تحمل أخطاء حزبه الذي بدا للقوى السياسية راغبا في الاستحواذ والهيمنة والانفراد بكتابة مسودة الدستور دون شريك حقيقي، وظهر بوضوح أن موقف الإخوان والتيار الإسلامي عموما من مسألة التأسيسية كان سببا في توجه كتل تصويتية إلى أحمد شفيق وعزوفها عن تأييد مرسي، بما فيها كتل لم تكن تؤيد نظام مبارك. رابعا: كان محمد مرسي مضطرا أن يتبنى خطابا دفاعيا ضد الهجوم على أخطاء جماعة الإخوان طوال الفترة الانتقالية منذ إعلانهم أنهم لن يقدموا مرشحا لرئاسة الجمهورية. كان ارتباك الفترة الذي مر على مصر كلها بمختلف مؤسساتها، منعكسا على جماعة الإخوان التي كانت كبرى معارضي نظام مبارك، لكنها اختلفت مع القوى التي أيدت ثورة 25 يناير، فأصبحت الثورة بجناحين أحدهما راديكالي والآخر إسلامي. خامسا: لايمكن الجزم بالمدى الذي أثر به حكم المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية قانون العزل، وكذلك بحل مجلس الشعب، على السباق الرئاسي، لكن المؤكد أن الحكمين أعطيا انطباعا بأنه تجري عملية إزاحة مقصودة للبرلمان حتى لايكون عقبة أمام شفيق إذا فاز، بعد أن رفضت المحكمة ذاتها عزله. ويمكن القول إن الحكمين بما مثلاه من إرباك للمعادلة السياسية قد استفزا قوى الثورة فالتفت حول مرسي (6 أبريل مثلا)، كما خلقت حالة مستترة من التعاطف لدى قطاعات من الناخبين الذين شعروا أن شفيق على أبواب قصر الرئاسة. سادسا: تناول رواد مواقع التواصل الاجتماعي ترشيح محمد مرسي، باستخفاف حيث اعتبروه الرجل الذي لم يرشحه حزبه إلا بعد عدم تمكن خيرت الشاطر نائب مرشد جماعة الإخوان من الترشح بسبب امتداد آثار قانونية لأحكام بالسجن تلقاها خلال عهد مبارك، وقد وصلت حملات انتقاد ترشح مرسي لحد التشويه والحط من قدره ووصفه ب"الاستبن" وهو الإطار الاحتياطي الذي يوضع في أي سيارة. كما أثير لغط حاد حول أن مرسي يصاب بنوبات صرع وأنه أجرى جراحات لإزالة أورام في المخ. وقد أعطى كل ما سبق انطباعا بأن مرسي مرشح ضعيف لاحول له ولا قوة وأنه سيكون فريسة سهلة لمنافسه أحمد شفيق خاصة مع عدم رغبة قطاع عريض من المصريين بأن يحكمهم رئيس "إخواني". وكما مثل فوز مرسي مفاجأة فإن خسارة أحمد شفيق أيضا مثلت مفاجأة للمراقبين للأسباب الآتية: أولا: يمكن القول بوضوح أن نظام مبارك لم يسقط، وأن من أزيح هو رأس النظام الذي أصبح سجينا مدانا، وقد عملت أجهزة النظام الذي لم يسقط باجتهاد غير عادي من أجل إنجاح أحمد شفيق الذي ظل وزيرا للطيران في عهد مبارك لمدة عشر سنوات. ويشير مصطلح "الدولة العميقة" إلى أجهزة الأمن والمخابرات والجيش، والخارجية والإعلام، والمؤسسات التي تسيطر على أنظمة الحكم المحلي، والتي قدمت إسهامات بشكل أو آخر، وإشارات واضحة بأنها لن ترضى بسقوط أحمد شفيق ممثلها في جولة الإعادة، بانتخابات الرئاسة. وقد رصد مراقبون مستقلون بمنظمات المجتمع المدني نقلا جماعيا للموظفين بواسطة العمد والقيادات المنتمية للحزب الوطني المنحل من أجل التصويت للفريق السابق أحمد شفيق، كما كانت قيادات الحزب الذي تم حله في شهر مايو 2011 هي العماد الأساسي لحملات أحمد شفيق في محافظات مصر. ثانيا: تكاتفت أجهزة "الدولة العميقة" من أجل إنجاح أحمد شفيق، واستخدمت العصبيات القبلية والعائلية خاصة في الصعيد، في حشد الأصوات لصالحه، باعتباره سيكفل لهم استعادة النفوذ الجزئي الذي فقدوه عقب الثورة المصرية، حيث كانت القيادات المحلية تفاخر بأنهم "فلول" وهي تسمية تشير إلى بقايا نظام مبارك. ثالثا: كانت الأخبار المتواترة عن تصويت المجندين والضباط كلها تصب في خانة أن شيئا ما يجري إعداده في الخفاء وأنه سيصب في النهاية في مصلحة أحمد شفيق، وساهمت اللجنة العليا للانتخابات في زيادة هذا الانطباع بسلوك غير مسبوق إذ اعتبرت أن إعطاء كشوف الناخبين للمرشحين هي مسالة أمن قومي، بالرغم من أن هذا أمر عادي في أي انتخابات وآخرها انتخابات مجلسي الشعب والشورى في أواخر العام 2011. رابعا: في ظل المشكلات التي واجهت جماعة "الإخوان المسلمون" بسبب كثرة الانتقادات الموجهة إليها، والإشاعات التي أثارها شفيق حول مرشحهم محمد مرسي بأنه سيقوم بتأجير قناة السويس للقطريين لمدة 99 عاما، وأنه سيفتح حدود سيناء للفلسطينيين، فقد أصبح أداء شفيق هجوميا، ضد منافسه مما أوحى بأن له اليد العليا في جولة الإعادة، لكن الواضح أيضا أن شفيق سقط في فخ الدعاية المضادة التي لاتتحصن بمعلومات حقيقية، مما أفقدها قدرا كبيرا من المصداقية، وهو ما بات واضحا أنه انعكس في توصيت الناخبين، الذين فضل معظمهم أن يختاروا رئيسا لم يمنح تركيزه لخصمه كما فعل شفيق. وإجمالا فإن "الدولة العميقة" التي تبدو بوضوح مسئولة عن محاولة تشويه صورة مرسي، لم تنجح، لكنها أظهرت قدرتها على الحشد وحجمها الحقيقي في أول انتخابات رئاسية بعد سقوط نظام مبارك.