هل نستطيع كعرب التفاؤل بمقدم عام ميلادي جديد شأننا شأن سكان المعمورة الآخرين؟ هل تمكننا أحوال بلادنا والظروف الإقليمية المحيطية بنا من التفاؤل أم تراها تجردنا مجتمعة من مطلق القدرة الإنسانية على استقبال الجديد القادم بمشاعر الرجاء والتمني والأمل التي تنتشر في المشارق والمغارب وتولد الكثير من الطاقات الإيجابية؟ قبل ساعتين من بداية 2016 في مدينة سان فرانسيسكو، كنت مع أسرتي نقف على شاطئ المحيط الهادي وسط آلاف البشر في انتظار انطلاق الألعاب النارية المبهرة. حالة من السعادة الحقيقية غمرت المنتظرين الذين لم يسبق لي أن شاهدت في أي مكان آخر من يقتربون من كثافة تنوع ملامحهم وألوانهم. حالة من البهجة المقبلة أفاءت عليهم جملا لفظية ولغة جسدية رائعة الانتشاء بالجديد القادم ثم مزهوة باليقين في حياة أفضل آتية. استرقت السمع إلى بعض مما كان يقال من حولي؛ شباب منهم من يتحدث عن خطط الدراسة الجامعية ومنهم من يعلن عن تطوير شركاتهم الصغيرة، أسر اصطحبت عجائزها الذين أخذوا يحكون عن احتفالات رأس السنة في أيامهم الخوالي وعدد بعضهم المدن التي تنقلوا بينها خلال سنوات حياتهم الماضية، متوسطو عمر رجالهم يتكلمون في السياسة وفضائح المتنافسين على بطاقات الترشح في الانتخابات الرئاسية الأمريكية بينما بدت على النساء مظاهر التأنق والاستمتاع بجمال المكان وسحر المحيط وانخرطن في تبادل لعبارات قصيرة عن أعمالهن. وبين الحين والآخر، تعلو همسات بعض الحضور مشيرة إلى تواجد نجم من نجوم شركات الإلكترونيات العملاقة التي تستوطن جوار المدينة. ولأن ساعتين في انتظار الألعاب النارية المبهرة ليستا بالمدة الزمنية القصيرة، شرعت ذهنيا في إجراء مقارنات سريعة بين أجواء السعادة والبهجة في سان فرانسيسكو وبين مدن أخرى تعرفت على سمات احتفالات سكانها بقدوم العام الجديد. تذكرت العاصمة المجرية بودابست التي تستقبل حماماتها ومغاطسها العثمانية البديعة الكثير من الزوار في ليلة رأس السنة. تذكرت مدينة البندقية الإيطالية التي لم يسمح ضبابها الكثيف برؤية أضواء الاحتفالات. وأبهرني التقليد الذي يتمسك به بعض سكانها في صباح اليوم الأول للعام الجديد، تناول وجبة عدس ثم السباحة في المياه شديدة البرودة التي تخترق المدينة من كافة جوانبها. تذكرت برلين، عاصمتي المختارة للحياة الجميلة، والتي يحيلها أهلها في ليلة رأس السنة إلى ما يشبه ساحة للمعارك الجوية من فرط ما يطلقونه هم من ألعاب نارية في كل مكان، ثم يذهب الكثير منهم إلى الكنائس في اليوم الأول للعام الجديد للاستماع إلى مقطوعات الموسيقى الكلاسيكية. ولأن ساعتين في الانتظار ليستا بالمدة الزمنية القصيرة، أنهيت مقارنات الحواضر الأمريكية والأوروبية وتملكني التفكير في أحوال بلادنا بين عام ينتهي وآخر يبدأ. يصح أن نوصف 2015 كعام الانتشار المرعب لخرائط الدماء العربية، من القتل اليومي في سوريا الذي يمارسه منذ 2011 المستبد الحاكم وتتداخل به الآن عصابات مسلحة محلية وأطراف إقليمية ودولية إلى انتهاك حق الناس المقدس في الحياة في العراق ولبنان وفلسطين واليمن والكويت والبحرين ومصر والسودان وليبيا وتونس بفعل رباعي الشر المتمثل في الاستبداد والإرهاب والاحتلال والطائفية المقيتة. يصح أن نوصف 2015 كعام تصدرنا كعرب للقوائم الدولية لأعداد اللاجئين والمهجرين والنازحين والمرتحلين، إن عبر حدود بلادنا وفي جوارها الإقليمي المباشر أو عبر مراكب الهجرة غير الشرعية بين ضفتي المتوسط. يصح أن نوصف 2015 كعام عودة العرب إلى تصدير الإرهاب عالميا، من إسقاط طائرة الركاب الروسية فوق سيناء المصرية إلى تفجيرات باريس بتنا نحمل جماعيا بالمسؤولية عن إراقة الدماء وزج بنا إلى مواضع الشك الدائم في إنسانيتنا وقابليتنا لرفض العنف. يصح أن نوصف 2015 كعام استئساد الديكتاتوريات والسلطويات العربية وسطوة مستبديها الحاكمين الذين إما يتواصل استئثارهم بالسلطة والثروة أو يعودون إلى الاستئثار بهما بعد فترات انقطاع محدود أو يسومون شعوبهم سوء العذاب لتجرؤ بعض قطاعاتها على طلب الانعتاق من الديكتاتورية. يصح أن نوصف 2015 كعام الدعم المتبادل بين المستبدين العرب للحيلولة دون انعتاق الشعوب من نظم حكمهم البالية، ولتزييف الوعي العام بالترويج لمقابلة التماهي بين التغيير والفوضى وبين بقاء الحكام والأمن، ولإلهاء الجموع عن المظالم وانتهاكات الحقوق والحريات التي ترتكبها أجهزتهم العسكرية والأمنية، ولتعطيل العقل وحجب الحقائق والمعلومات عن الناس لكي يسهل الادعاء المتهافت بمسؤولية الانتفاضات الديمقراطية عن خرائط الدماء وجرائم الإرهاب والحروب الاهلية التي تعصف ببلاد العرب وتبرئ ساحة الديكتاتوريات والسلطويات. يصح أن نوصف 2015 كعام ارتكان الحكومات الغربية إلى المقولة العنصرية «لا يملك العرب الأهلية لبناء الديمقراطية والحياة في مجتمعات تعددية ومتسامحة»، ومن ثم تتقهقر السياسات الأمريكية والأوروبية إلى مواقع التخلي التام عن خطاب دعم التحول الديمقراطي (على هزاله ومحدودية فاعليته خلال السنوات الماضية)، وتعود إلى خانات تفضيل بقاء المستبدين الحاكمين كبديل أوحد لمنع انتشار الإرهاب وإيقاف تصاعد معدلات العنف ومواجهة خطر الفوضى، وتتنصل بالتبعية من التعامل بمسؤولية وجدية مع الروابط الطردية الثابت وجودها بين الديكتاتورية والسلطوية وبين الإرهاب والعنف. ولأن ساعتين في الانتظار ليستا بالمدة الزمنية القصيرة ولأن التناقض بين السعادة والبهجة على شاطئ المحيط الهادي في سان فرانسيسكو وبين أحوال بلادنا، ألفيت نفسي على شفا سيطرة مشاعر الإحباط واليأس وفقدان الأمل على وجداني، بل وعلى مقربة من الانزلاق إلى الشعور السلبي بالحقد تجاه من تقدموا بينما يتراكم تخلفنا، من ينعمون بفوائد العقل والعلم والتكنولوجيات الحديثة بينما نرزح نحن تحت نير الاستبداد والإرهاب والاحتلال والطائفية، من يملكون سبل الحفاظ على نظمهم الديمقراطية والضبط المستمر لإيقاع حركتها بالانتصار لمبدئي سيادة القانون وتداول السلطة بينما يروج للاستبداد في بلادنا إما كمرض عضال لا شفاء منه أو كالحقيقة الكبرى لوجود العرب، من يفيدون من الكثير من الكفاءات البشرية العربية في الجامعات ومراكز البحث العلمي ومراكز الأفكار وفي القطاع الخاص بينما ينكرون على الشعوب التي خرج منها الموهوبون العرب حقها في العدل والتقدم، حقها في التحول الديمقراطي. ولأن ساعتين في الانتظار ليستا بالمدة الزمنية القصيرة، فقد أزحت جانبا كل أفكاري هذه ما أن انطلقت الألعاب النارية. شاركت أسرتي الاستمتاع بلحظة بدء العام الجديد البديعة، وشاركت آلاف البشر انبهارهم بالتكنولوجيا الحديثة التي لم تدع مجالا إلا وأحدثت به قفزات نوعية. شيء من عدوى السعادة والبهجة المنتشرة في الأجواء انتقل إلي، وإن اختلط به الكثير من التوجس من العام الجديد وما سيحمله لنا كمنكوبي المعمورة المعاصرين وأشد شعوبها معاناة. وبعد سويعات قليلة، أثبت التوجس صوابه، مزيد من الإعدامات في السعودية ومزيد من القتل في سوريا ومزيد من سلب الحرية في مصر. ليس لي أن أهنئكم بمقدم العام الجديد، فقط أدعو لكم ولي بالعون والمدد. **كاتب المقال كاتب ومحلل سياسى