في نفس المكان علي نفس الطاولة التي طالما إعتدت أن أجلس خلفها علي نفس الكرسي يتغير من حولي كل شيء لقد إخترت مكاني بعناية أستطيع من خلاله أن أشاهد التلفاز و الماره في آنٍ واحد , بعد أن كنت لا يمكنني إلا مشاهدة القنوات الحكوميه و بالطبع لا يوجد ما أثق به من برامجه إلا مباريات كرة القدم و نادي السينما يوم السبت و إخترنالك يوم الأربعاء وأفلام جوائز الأوسكار يوم الخميس و فيلم الجمعه الأجنبي علي القناه الثانية فقط , ثم أنعمت علينا الدوله بالقنوات الإقليمية لم تختلف كثيراً و لم تضف جديداً إلا أننا أصحبنا نستطيع مشاهدة مبارتي الأهلي و الزمالك عندما يلعبان في نفس الوقت بعد أن يحضر صاحب المقهي تليفزيونا أخر من منزله بل بالعكس لم تكن هذه القنوات إلا كمن ينشر الملابس الداخليه لأسرته مبرزاً كل عوارته أمام الجميع ثم إشتري مالك المقهي "ريسيفر" كان إيذاناً بتغير نظرتي للعالم و أصبحت أستطيع أن أري من الحقائق التي لم أمتلك الفرصه يوما لمعرفتها من قبل , أحداثٌ ضخمه من شدة وقعها علي لا أستطيع تذكرها في ترتيبها و تسلسلها الزمني , ذاكره مشوشه تحوي كل هذه الأحداث مختلطه و ممتزجه و مترابطه : الدره يموت بين يدي والده , الإنتفاضه الفلسطينيه , وحشية الكيان الصهيوني , المحتل الحادي عشر من سبتمبر , حرب أفغانستان , إحتلال العراق , إعدام صدام حسين , الحروب الأهليه في أفريقيا , التفجيرات الإرهابيه في مدريد و لندن و المغرب و عمان مظاهرات في مصر "حركة كفايه !!!! " , إضرابات عماليه في مصر !!!! تعذيب في أقسام الشرطه و السجون في مصر !!! قطار الصعيد و جثث الفقراء الذاهبون للأحتفال بالعيد محترقه , العباره والعائدون من المملكه من آداء فريضهو جمع بعض المال من الخليج هم أيضاً من فقراء لا يملكون كلفة العوده بالطائره جثثهم كانت غارقة شاهدت كل شيء و أنا جالسٌ هنا , كانها عدة مشاهد في فيلمٍ واحد أشاهده في نادي السينما و أسمع تعليق الطبيب النفسي مع المذيعه دريه شرف الدين يحلل الأحداث و يرتب المفاهيم و يستخرج لي مضمون العمل و خلاصته فطالما كنت أنتظر تحليله بشغف لأتأكد هل فعلاً إستطعت أن إستنتج رساله كاتب القصه و مخرج الفيلم التي يريد أن يخاطب بها قلوب المشاهدين ؟؟ لكن هذا الفيلم كان مختلفاً كان مرعباً شديد الرعب كنت مستغرباً منزعجاً و مرتبكاً ما بين الإستمتاع بوجودي داخل كل هذا الأحداث كأني مشاركاً بها أو أحد أبطالها و ما بين الحزن الشديد و الألم من الظلم الذي يسحق إنسانيه البشر و ما بين الخوف من مصيرٍ مؤلم يلقاه أبرياء ربما يطولني أيضاً بلا ذنبٍ يوماً ما , أنا لا أملك أي رد فعل و أنا حبيسٌ في زنزانه حمداً لله أنها ليست في أبوغريب أو جوانتانمو أو حتي في طره , التوتر و الإرتباك يكاد أن يشل جوارحي يجب أن أفعل شيئاً معتاداً حتي أعود إلي طبيعتي الروتينيه , أشير بيدي فيحضروا لي كوباً من الشاي هذه هي طبيعة العلاقه العاطفيه التي تربط المقاهي بروادها المكان الوحيد الذي تشعر بسمو قدرك فيه , فهنا يتعلمون سريعاً كيف يقدمون لك خدمة ممتازه , بعد دقيقه واحده من جلوسي أجد كوب الشاي موجوداً أمامي بدون أن اطلبه لا تحتاج أن تشرح مراراً ما هي الطريقة التي تريد أن تعامل بها , تستطيع أن تحضر من تحب إلي هنا و ستظهر أمامه كشخص مهم , كما أنك ستجد مزيداً من المميزات بائع الجرائد يأتي هنا و كشك السجائر و الطعام مجاور للمقهي , لن تتكلف عناء الذهاب بعيداً كل شيء هنا متاح و تحت خدمتك , أنا بالفعل محظوظ بهذا المكان الذي أجد فيه نفسي و إن كان التلفاز سيزعجني فلن أعود إليه إلا وقت كرة القدم سألتفت إلي الشارع فأنا لا أحب "الدومينو" كما أني سأجد تسليتي في متابعة الماره أكثر من متابعة أصدقائي الذين لا يفارقون هذه الألعاب السخيفه , ما أن فرغت من إشعال سيجارتي حتي توقفت سياره باهظة الثمن ينزل منها شاب يرتدي ثياباً أقل ما توصف به أنها شديدة المبالغه و كم تعبر عن إنحطاط ذوق مرتديها رغم أنها باهظة الثمن أيضاً , لماذا يحدق بي هذا الشاب أم أنه فقط بفعل ذلك كرد فعلٍ علي إنتباهي له رغم أني أحاول التغلب علي فضولي بإظهار عدم الإكتراث لكني لا أستطيع أن أتوقف عن التحديق به فأنا أعرف كل شباب القريه و فجاءه ألتفت إلي هشام صديقي متسائلا " هو ؟!!!" يرد هشام الجامعي الذي يعمل سباكاً حتي يوفر مصاريف تعليمه الجامعي بكل ثقه " نعم هو , لقد أنهيت عملي منذ أيام في منزله " أعتدل في جلستي منصتاً مصدوماً منتظراً معرفة قصة زميل الدراسة الذي لم يوفق في أن ينتقل معنا للمرحلة الثانويه بسبب مجموعه الضعيف منسحباً الي التعليم المتوسط , يكمل صديقي مبتسماً " لم يطلب للتجنيد و في الشهر التالي ذهب إلي اليونان في احد مراكب الموت لكنه نجا ثم عاد بعد أربع سنوات و بالمصادفه و نحن نترقب النتيجة النهائية لدراستنا الجامعيه و ها هو كما تري ينفق علي تجهيز منزله في أحد حواري القريه ما يكفي أيا منا ليشتري مسكناً في أحد المباني المطله علي النيل في المدينه" أنظر لصديقي معقباً " لسنا مثله , نمتلك من العقل و العلم ما يمنعنا من أن نجازف بحياتنا من أجل بعض الأموال التي يمكننا يوماً ما أن نحصل عليها عندما ننهي دراستنا و نعمل عملاً محترماً لن يستطيع هو أن يكون في مكانتنا المجتمعيه , أما نحن فقريباً جدا سنعيش أفضل منه , ها أنت قد ذكرت أنفاً أنه لم يغادر الحاره و لن يغادرها أما نحن فسنكون في مكانٍ أفضل العلم و الثقافه و التحضر سبيل لنا لنحصل علي موقع أفضل بمجتمعنا , بالنسبة له أتمني له المزيد من الخير , لكن من غير الملائم أن تضعنا في مقارنةٍ معه لا هناك فرق" بادرني بنظرة عدم إقتناع متنهداً يقذف بورقة الدمينو محدثاً الصوت المزعج الناتج عن إرتطام الورقة بالطاوله " شيش بيج" فجاءه سيارة هامر حمراء تعبر من أمامنا أصيح بهشام " أليس هذا وكيل لاعبي كرة القدم المشهور؟؟!!! " ينظر هشام غير مندهش " نعم إنه هو " يعود للنظر في ورق الدومينو لكي يتابع اللعب وجدت نفسي أضع يدي علي الأوراق لا أستطيع أن أنتظر عصام ينظر إلي " هلا تركتنا نكمل ؟ " و يواصل " هل تتذكر الحصري ؟ أنا متأكد أنك تتذكره جيداً , فقد كان لا يسطتيع تسجيل الأهداف طالما قمت أنت بمراقبته " مازلت عاجزاً عن فهم ما يحدث فيعالجني هشام بالقاضيه " أنت تعلم أنه يسكن خلفي لقد أخبرني أخوه في الصباح أن الصفقه الكبيره التي تحدثوا عنها في البرنامج الرياضي بالأمس و أن المهاجم الواعد الذي سيكون النادي الأهلي بصدد الإعلان عن التعاقد معه اليوم هو الحصري هذا الوكيل أو الوسيط ما هو إلا في طريقه ليظفر بتوقيع زميلنا السابق الذي سيحصل علي نصف مليون جنيه كمقدم عقد و سيكون مرتبه السنوي مليون و نصف المليون " يقاطعه عصام ضاحكاً " هذا بخلاف المكافأت و المرتب الشهري و البدلات , كان من الأفضل أن نكمل في كرة القدم بدلاً من إجتهادنا في الدراسه " لقد واجهت نفسي بصراحه هل أنا لا أريد الخير للناس ؟ هل أنزعج من ذلك ؟ هل سيتملكني الحقد علي زملاء سابقين لي ؟ أم أن الخوف من أن أفشل هو ما صدمني ؟ فهما سارا في طريقٍ إجباري و أنا كان عندي الإختيارات . فعندما ينتظرك مستقبلٌ غامض , و يحيط بك الماء من جميع الإتجهات مرتدياً سترة نجاه أشعل سيجاره ربما تكون الأخيره لي فغرق الزورق في أي وقت أمر وارد بكل تأكيد كل من حولي يدعو الله لننجو من الغرق أما أنا فشارد الذهن أفكر في هذا اليوم فقط لم أفكر فيما سيحدثً لأمي غداً عندما ستكتشف أني لست نائماً في سريري و هاتفي المحمول مغلقاً و جهاز الكمبيوتر و الدراجه البخاريه ليسوا في أماكنهم أوعندما يسلمها هشام و عصام ليلاً خطابي الذي سيجدونه في مظروفٍ واحد مع خطابٍ لكلٍ منهما تركته بالمقهي , كنت أتمني أن أراهما بعد غيبة خمس سنوات في الخليج لكن زورق الموت لم يمهلني يوماً أخر , لم أفكر فيما حدث في سنة التجنيد أو في الراتب الهزيل جدا الذي كنت أتحصل عليه لمدة ثمانية أعوام و أنا أعمل محاسباً في كبرى شركات قطاع الأعمال بعد كل هذا الجهد في الدراسه و الدورات التدريبيه و طرق أبواب شركات القطاع الخاص لم أفكر في ثورة خرجت في مسيراتها و اعتصمت في ميادينها و لم تحقق أي شيء لي لم أفكر في الموت أو في الوصول فقط كنت مشغولاً من هو السبب الرئيسي في وجودي في هذا الزورق الآن هل هشام ؟ عصام ؟ أم المقهي ؟؟؟؟؟؟