من حق الرئيس السيسي أن يغضب، وأن ينتقد الذين ينتقدونه، فقد مضى الزمن الذي كانت توزع فيه الحقوق بحسب المناصب، والذي كان يعامل فيه الرؤساء كأنهم أنصاف آلهة، أو أنبياء أو ملهمين، أو في مكانة سيدنا الحسين والسيدة زينب. ولا نتصور أن الرئيس في ذروة غضبه، يريد مصادرة حق النقد، ولا تحريم التعرض بالمعارضة والمساءلة لدوره وسياسته وحكومته، فقد أصبح حق نقد الرئيس شائعا في مصر، وحقا سائغا للناس كالماء والهواء، ولم يكن الأمر كذلك قبل خمس عشرة سنة، حين بادرنا منفردين إلى الخروج من بيت الطاعة واقتحام المحظورات، ووضعنا الرئيس مبارك وعائلته في عين العاصفة، ولقينا ما لقينا مما لا نمن به على أحد، ولا نزال نقدم للمحاكمات، ونتعرض للمصادرات، ونمنع قسريا من السفر، ولا يبدو كل ذلك مهما، فالحقوق تنتزع ولا تمنح، والحق الذي يكتسب بالتضحيات، يمكث في الأرض وينفع الناس، ويدافع عن نفسه بنفسه، ويكتسب أنصاره بصورة تلقائية صادقة، ويكسب الحرب ضد ظلم الطغيان ورهبة الصولجان. وقد قامت في مصر ثورتان، وجرى خلع رئيسين، وهو ما أشاد به الرئيس السيسي نفسه، وأضاف ذات مرة ما يفيد التالي، وهو أنه لا شيء يمنع من قيام ثورة ثالثة لو غضب الشعب مجددا، وهي عبارة صحيحة ومستقيمة، وتلمس وتر الاحساس بأن مزاج الشعب المصري تغير، وأن المصريين الذين ذاع عنهم أن صبرهم لا ينفد، قد صاروا شعبا آخر نافد الصبر، لا يريدون أن يكرروا المأساة، ولا أن يخلطوا بين معنى الاحترام ومعنى التقديس، فالرئيس أي رئيس ليس كيانا مقدسا، والرئيس أي رئيس ليس بيت الحصانة الذي لا يمس، والرئيس أي رئيس موظف عام، وبقدر ما يحمل من صلاحيات، يحق فيه النقد أخلاقيا ومهنيا، فهذه ضريبة الوظيفة والخدمة العامة، ثم أن أحدا لم يعد بوسعه وقف حق النقد، فقد جرى الاختراق الصاروخي للممنوعات منذ بداية القرن الجاري، وكان لنا شرف أن بادرنا إليه، وتحملنا ضرائبه، ورفعنا سقف الحرية إلى السماء السابعة، وبعدها أصبح الحق شائعا، ومستهينا بنصوص قانون العقوبات، الذي وضعه أهل الكهف، ويعتبر النقد «إهانة» للرئيس ومؤسسات القضاء والأمن، وقد صارت تلك كلها قيودا لا معنى لها، وربما لا ترتجى منها فائدة للذين وضعوها، ويصرون على عقابنا بها، فلا توجد قوة بوسعها وقف تيار النقد والكشف والفضح، حتى لو صودرت كل الصحف، وكممت الأفواه في الإذاعات والتلفزيونات، فقد جرفت ثورة الاتصالات في طريقها أعتى العوائق والحواجز، وأصبح الذي يمنع في مكان ينشر في مكان آخر، والذي يحجب في وسائل الإعلام التقليدية، يجد طريقه الفوري المباشر في وسائل الإعلام البديل، على الشبكة الدولية للمعلومات، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، وجمهورها بمليارات البشر، وأوسع بما لا يقاس إلى دوائر انتشار الصحف والإذاعات والتلفزيونات. والمعنى مفهوم بغير التباس، وهو أن كل محاولة لحجب النقد تذهب مع الريح، وأن المصادرات مجرد رصاصات «فشنك»، لا تصيب بأذاها سوى المصادرين، الذين يتصورون أن بوسعهم حجب نور الشمس بظل الأصابع. ومن حق الرئيس السيسي أن يغضب لإنكار ما أنجز وينجز، ولسنا من هؤلاء الذين ينكرون على الرجل ما فعل، وفي ظروف بلد في حالة حرب حقيقية، ومشغول بسحق جماعات الإرهاب، فالسيسي رجل إنجاز حقيقي، ولا شك عندنا في دوافعه النبيلة الخيرة، ولا في قيمة إنجازات ما يقرب من سنة ونصف السنة مضت على بدء رئاسته المنتخبة، فقد كانت توسعة قناة السويس عملا رائعا، استقطب حماسا شعبيا لتمويله باكتتاب عام، جمع فيه الشعب المصرى 64 مليار جنيه في أسبوع، وكذا التوسعات في شبكة الطرق الجديدة، التي تمت وتتم في زمن قياسي، وإنشاء مدن جديدة في وقت خاطف للبصر، والمشروع القومي لاستصلاح مليون ونصف مليون فدان في «ريف مصري» جديد، والأهم هو حل مشكلة الطاقة، فقد كانت مصر تظلم كل صيف في السنوات الأخيرة، وأصبحت مضاءة كل الوقت، وجرت صيانة وإعادة تأهيل محطات وشبكات الكهرباء القديمة، وإضافة محطات جديدة، وإحياء مشروع «الضبعة» النووي، والاكتشافات المتسارعة لحقول غاز كبرى، وبما يضاعف موارد مصر من الطاقة المتاحة، ويعيد تشغيل مصانعها المتوقفة، ويؤهل لحركة تصنيع شامل، ويسهل فرص امتصاص فوائض بطالة وصلت إلى 13 مليون عاطل، مع إنشاء قطاع اقتصاد دولة جديد ممثلا في توسعات ما نسميه «رأسمالية الجيش»، وتأسيس قلاع صناعية جديدة كمجمع الأسمدة الفوسفاتية في «العين السخنة»، والخطط الجارية لتشغيل مصانع وشركات وقلاع القطاع العام الصناعي القديم المتهالك، وتطوير صناعة السلاح بعد تنويع موارده، وتعظيم قوة الجيش المصري، وكسر احتكار التسليح الأمريكي، وتقليص التبعية الموروثة للأمريكيين، وقيادة سياسة عربية وإقليمية ودولية نشيطة ومؤثرة، تتوافر لها الرؤى والخطط والأهداف المرسومة بعناية، وإن لم يخل الأمر من سقطات وخطايا تخون أبسط أبجديات الوطنية المصرية، وعلى طريقة التصويت المشين باسم مصر لصالح إسرائيل في لجنة بالأمم المتحدة. لا ننكر على الرئيس السيسي إنجازه الذي لا تخطئه العين، خاصة أنه جرى ويجري في ظل قصور مريع في الموارد المالية المتاحة، وفي ظل عجز موازنة مزمن، وأحمال ديون داخلية وخارجية ثقيلة، ومعدلات تضخم جامحة، وضعف موروث في معدلات الإدخار والاستثمار، وانتهاء وقت المعونات والمنح، ومع ذلك يحقق الاقتصاد معدلات نمو إجمالي معقولة، ونعرف أن الرئيس السيسي يركز على تنمية الاقتصاد وجلب الموارد والاستثمارات، ويعتمد أساسا على كفاءة الجيش وانضباطه وسرعته ودقته في الإنجاز، وكل ذلك مما لا ينكره أحد عاقل، لكن الذي ننكره على الرئيس، وننتقده فيه، واضح تماما كوضوح الإنجاز، بل ربما كان أكثر وضوحا، فقد بدا الرئيس في أول شهوره رجل إنجاز بلا انحياز، ثم بدا باستطالة الشهور أن انحياز الرجل بعيد عن هموم ومصالح الفقراء والطبقات الوسطى، وهؤلاء هم الأغلبية الساحقة من الشعب المصري، في بلد لا يملك 90٪ من أهله سوى ربع الثروة العامة، بينما يملك 1٪ من السكان نصف الثروة بالتمام والكمال، وهذه الأخيرة هي أغنى طبقة في المنطقة العربية، بينما التسعون بالمئة من المصريين هم أفقر شعب في المنطقة، ولا ينظر إليهم الرئيس، سوى من باب ما يسميه «الرفق» و»الحنو» والأعمال الخيرية، ويسميهم أحيانا «الغلابة»، وهى تسميات وصفات مسيئة، وربما عنصرية، وتصم أغلبية الشعب المصري بنوع من الإعاقة الخلقية، وكأنهم يستحقون بدواعي نقص خلقي ما انتهوا إليه، وهذه نظرة طبقية متعالية، وغير مبررة بالتاريخ العائلي للرئيس السيسي نفسه، فهو رجل من الطبقة الوسطى، وليس من عائلة مليونيرات ولا مليارديرات، لكنه بالممارسة يحابي مليارديرات النهب العام، ويفرط في تدليلهم، ويبتلع إهاناتهم، حين امتنعوا عن الدفع لصندوق «تحيا مصر»، الذي توقع أن يجلب مئة مليار جنيه في أول أسبوع، ولم ترق قلوبهم لمناشداته الأخلاقية العفوية، ولا اكترثوا بتهديداته الشهيرة على طريقة «هتدفعوا يعني هتدفعوا»، وواصلوا التربص به في تلفزيوناتهم وإذاعاتهم وصحفهم ومواقعهم الإلكترونية، واشتروا ويشترون مقاعد «ميني برلمان» انتخبه «ميني شعب»، وبهدف غل يد الرئيس وحصاره، ولم يكن من رد فعل عند الرئيس، سوى أن واصل الخضوع لأهواء ومطالب «رأسمالية المحاسيب» إلى الآن، فألغى «الضريبة الرمزية» على أرباح البورصة، وألغى «الضريبة الاجتماعية» التي كانت مضافة لثلاث سنوات لا غير، وخفض الحد الأقصى للضرائب، في حين نزل الرئيس بمطارق قراراته على رؤوس الفقراء والطبقات الوسطى، وواصل خطة تخفيض الدعم لإرضاء صندوق النقد والبنك الدوليين، وبما أشعل جحيم الأسعار التي يحاول حصارها الآن بتدخل الجيش، وقد نتفهم مصاعب الاقتصاد الحالية، وضرورة إقالته من عثرته المزمنة، وإصلاح عجز الموازنة، والسعي لزيادة الموارد، لكن ذلك لا يكون بتخفيض ضرائب الأغنياء، الذين يتهربون من دفع الضرائب أصلا، ولا بإغلاق ملفات استرداد الأموال والأصول المنهوبة، وإصدار تشريعات تصالح مع السارقين، يعرف الرئيس قبل غيره أنها لن تعيد مليما للبلد، ولن تكون نتائجها أفضل من الحصاد الصفري للمحاكمات الصورية إياها، وهنا مربط الفرس، فالفارق كبير يا سيادة الرئيس بين الاستثمار والاستحمار، وقد استحمر هؤلاء البلد لعقود، ونزحوا ثرواتها إلى جيوبهم، ولا مانع عندهم من ترديد شعارك الأثير «تحيا مصر»، وهم يقصدون «مصر» التي في جيوبهم، لا مصر التي نعرفها، معانية صامدة فقيرة مريضة عاطلة، والناس في أي مجتمع لا يصطفون كطوابير الجيش، بل ثمة مصالح متعارضة، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، وقد مضى وقت معقول من رئاستك، لابد أنه أفادك في ملامسة الفارق بين تنظيم المجتمع وتنظيم الجيش، وأن دفع الأمل في قلوب الناس، يلزمه انحياز اقتصادي اجتماعي للبلد، وللأغلبية الساحقة المسحوقة من المصريين، وهم المكابدون صناع الحياة، وليس اللصوص الذين سرقوا مصر، ويتردد الرئيس في خوض الحرب ضدهم لاسترداد الحقوق المضيعة، ويحكم برجال ونساء النظام القديم نفسه، يحكم بتحالف مماليك البيروقراطية الفاسدة ومليارديرات المال الحرام، وهذا الكلام الصريح يجب أن يقال للرئيس، فلا مستقبل أفضل لمصر بغير ضمان العدالة الغائبة، ولا نجاح مستقر لرئاسة السيسي بدون مذبحة للمماليك وكنس للفساد، وإنا لمنتظرون. ٭ كاتب مصري