انتظرنا طويلا ..وما عاد فى قوس النفس منزع .. بلغت القلوب الحناجر ..وما هى الا قشتنا ..بقيت وحدها لنقصم ظهر البعير ..الآن .. الآن فقط .. لم يعد أمامنا إلا أن نشق طريقنا نحو ما نريد ، عنوة و بالقوة .. تحت أفق مشتعل بالنار .. و فوق بحر من الدم ..وها هو مشهد الأمة الكلى ، لونه الدم ، و آهاته الجرح الممتد طولها و عرضها ، لنرفع راية العصيان ..من كان منا فليعلنها على الملأ ،ومن كان علينا معروف مقدما والبين بين علينا اجتنابه حتى يحسم أمره ، و فى كل الأحوال لن يكون فى المقدمة ..لم نأت من فراغ و لم نك نسيا منسيا ..جئنا من سبعة آلاف عام ..زادنا قوانين التاريخ ، و جدلية حركة الأمة مع ألحانه و هوائنا يحمل فى ذراته عبق مبتدأ الحياة و سيرة الحضارات التى انصهرت فى بوتقة سمائنا من الماء المالح إلى الماء الأملح ..هويتنا العروبة لسانا عربيا مبينا ..رسالتنا الحق و العدل و الحرية ..درس حضارتنا الإيمان المطلق و الثقة بروح الله. فى المشهد العام قيمة التاريخ العظمى .. ليست فى تتابع أحداثه .. و مقدرتنا على سرد مشاهده و مراحله و تراكماته .. قيمة التاريخ العظمى تكمن فى قدرتنا على تأمله و إعمال بصيرتنا فى حركته والاستلهام من دروسه ما يعيننا على تجاوز أخطاء البشر ، رموز و قوى و أفراد ، و التى أثرت سلبا فى مجراه العام من المنطلقات وإلى الغايات .. و قدرتنا على رصد النقاط الجوهرية الرئيسة فى ذروة الانتصارات المجسدة على أرض جغرافيا الأمة . مشهد الأمة الآن تجاوز ذروة الدراما فى مسلسل حركتها فى التاريخ الحديث ..هو مشهد التيه و الضياع فى صحراء العولمة المتوحشة و مشروع التفيت الطائفى القائم أساسا على تقسيم المقسم و تجزئة المجزأ ، و هو بالطبع ، أخر حلقة تم إنتاجها فى فندق الفيرمونت بولاية سياتل الأمريكية ، و المقر الدائم لقادة العولمة المتوحشة المتغطرسة المتسلحة بشتى أنواع الأسلحة ، من السيطرة على الاقتصاد ، إلى الهيمنة على التكنولوجيات العسكرية كانت أو المعلوماتية أو الاستهلاكية ، مرورا بهيمنة على مؤسسات السيطرة المالية و الإعلامية و الثقافية و الاجتماعية و السياسية . مشهد الأمة الآن ليس وليد اللحظة الراهنة .. و لكنه الحلقة الراهنة من سيناريو الصراع بين الأمة فى تاريخها الممتد ، و بين مشاريع إقليمية حينا ، و الغرب فى كل الأحايين .. سبقته حلقات متنوعة فى الأدوار و الممثلين و النص .. من الهكسوس و الحيثيين ، مرورا بالروم و الفرس و التتر و المغول و الترك ، وصولا إلى الفرنجة بحروبهم الصليبية ، و الفرنسيس و الإنجليز بحملاتهم ، و خروج الغرب من حروبه الأهلية و صراعا ته الثانوية بالتوحد فى الهدف المشترك ، ألا وهو أمتنا العربية .. ليست فقط فى ذاتها ، و إن كان هذا صحيح ، و لكن أيضا باعتبارها قلب الدائرة الإسلامية ، من آسيا و أفريقيا ، و ذات مجد و تاريخ حضارى عربى إسلامي ، و نقاط مضيئة فى مسيرة التاريخ الإنسانى .. و هيمنة حضارية امتدت قرون عدة ، و فى قلب أوربا ، فى عصور انحطاطها و ظلامها ، بثمانى قرون فى الأندلس ، نقلتها من طور متخلف مظلم جاهلى ، إلى طور حضارى مبصر متنور متمدن . إن الاصطدام بما يمكن أن تصير عليه أمور الأمة من الاستمرار فى سياسات الاندماج الكامل فى نظام العولمة دونما أى ضوابط أو خطط ، أو حتى حد أدنى من الرؤية الإستراتيجية التى تدور حول معانى الوحدة ، و السيادة ، والهوية ، و العدل ، و المساواة ، وتكافؤ الفرص، و الأمن ، والمواطنة ، وحقوق الإنسان الاجتماعية والسياسية و الاقتصادية و الثقافية ، و الديمقراطية ، وغيرها من مجمل المعانى التى تشكل منظومة النسق القيمى للأمة ، هذا الاصطدام ، قد فاق كل خيال فنحن بين مطرقة العولمة المتوحشة المتغطرسة ، المتسلحة بشتى صنوف القوة ، عسكرية كانت أو اقتصادية أو إعلامية أو سياسية أو ثقافية ، التواقة لفرض هيمنتها وبسط سيطرتها وتحكّم نظامها ليس على الكرة الأرضية فحسب بل أيضا على الفضاء الخارجى وسندان تخلفنا الناتج عن سياسات تكرّسه و تعمّقه بدلا من أن تخرجنا من براثنه ؛ والأخطر من ذلك ؛ أن تستسلم عن وعى وأن تسلّم عن إرادة مقاليد الأمور لنظام العولمة . إن مخطط تفتيت الأمة بمشروع الشرق الأوسط الجديد ، ليس إلا محاولة أخيرة لإنقاذ سادة العالم الجدد و قوى الشر العالمى و عملائهم من الأنظمة العربية العميلة ، الخائنة ، الغافلة من السقوط الذريع وانهيار المشروع الغربى و فى القلب منه المشروع الامبراطورى الأمريكي كقيادة مركزية لنظام العولمة الرأسمالية المتوحشة . وإذا كان هناك ثمة أمل فى المستقبل ؛ فلا يمكن أن يولد إلا من رحم مشروع قومى عربى إسلامى جديد يستوعب المتغيرات التى أرساها و أسس لها نظام العولمة " كنظام عالمى جديد " يمثل فى جوهره مرحلة من مراحل تطور النظام الرأسمالى العالمى مع الوضع فى الاعتبار استعادته لأسلوبه القديم فى الاحتلال العسكرى المباشر "نموذج أفغانستان" للسيطرة على بترول بحر قزوين وقاعدة للمشروع الإمبراطوري الأمريكي فى آسيا الوسطى كحد أقصى أو نقطة إرتكاز لنظام العولمة فى هذه المنطقة تمثل مانع حصين لاستعادة النفوذ الروسى السابق أو بروز نفوذ صينى محتمل كحد أدنى ، و نموذج العراق للسيطرة على ثان أكبر إحتياطى نفطى عالمى وضمان أمن الكيان الصهيوني كقاعدة متقدمة لحماية المشروع الإمبراطوري الأمريكي و مصالح الغرب ممثلا فى نظام العولمة . هذا فضلا عن إستيعاب التغيرات الجيوسياسية المصاحبة لهذا النظام لتعظيم إمكانيات التحالفات و إدارة السياسات وبخاصة الاقتصادية منها فى ظل تناقضات ثانوية تعبر عن مصالح تسعى لتعددية الأقطاب فى عالم تصمم فيه الولاياتالمتحدةالأمريكية و بمشروع إمبراطورى على تفويت أى فرصة وإجهاض أى محاولة لبروز قوى دولية أخرى منافسة لمشروعها . مشهد الأمة الأن ينبئنا بالغياب الكامل للمشروع السياسى العربى .. صحيح أن الأولوية الآن لمشروع المقاومة .. و هو بوتقة الانصهار بين قوى الأمة الحية .. لكنه سيظل ردا للفعل ، أى سيظل مشروع لمقاومة مخطط التفتيت و الهيمنة و التقسيم الطائفى .. ويبدو المشروع السياسى الإقليمي لإيران هو اللاعب الرئيسى فى خارطة الأمة .. و المؤكد هو أن مواجهة ما قد بدأت بين عدة دول فى المنطقة العربية وإيران، وأن تلك المواجهة تتخذ شكل الحرب الباردة التى ترتكز على العمل غير المباشر، الذى لا يقود إلى المواجهة المكشوفة، لكنه يهدف فى النهاية إلى تحقيق نفس الغرض، وهو فرملة الامتداد الإيراني فى المنطقة العربية، ومن المؤكد أيضا أن إيران قد أدركت ذلك بوضوح شديد، وبالتالى أصبحت الخيارات المتاحة أمام الطرفين محددة تماما، فلا يوجد مجال لنكوص إيران عما كانت قد تخيلت بعض مراكز القوى داخلها أن الفرصة متاحة للقيام به، ولا يوجد مجال لقيام العواصم العربية المعنية بإخلاء الطرق لإيران لملىء ما تعتقد أنه فراغ عربى. وبالتالى، تتمثل الاحتمالات المباشرة فى المدى القصير فى أن يتجه الطرفان إلى الصراع غير المباشر الذى تستخدم فيه الحملات الدعائية والارتباطات السياسية والدعم المالى والحروب بالوكالة والأنشطة السرية، وهو ما تقوم به إيران عمليا، ولدى الدول العربية أيضا قدرات من نوع ما فى هذا المجال، أو أن يتجه الطرفان إلى نوع من الوفاق الذى يقود إلى تحديد قواعد الاشتباك أو فض الاشتباك بينهما على مسرح الإقليم. عند هذا المشهد فإن رد الفعل للقوى العربية الثورية بالتحديد ، هو التنادى لإعادة بناء الحركة العربية الواحدة .. و هذا فى ذاته فريضة غائبة ، بل هى الفريضة الوحيدة الغائبة الآن فى مسرح الأحداث .. شريطة ألا تكون نوعا من الهروب النفسى من الغياب المؤثر ، إلى الفكرة البراقة ، و الاحتماء الذاتى بالنسق الفكرى ، و إيهام النفس بالسير فى الاتجاه الذى ينبغى .. هنا بالذات ، لن يكتب لأى محاولة بعضا من النجاح فى المستقبل القريب ، مالم تستخرج من كل التجارب القومية ، فى الحكم أو فى الشارع ، نقاط الضعف الكامنة فى أنوية قواها و أحزابها و حركاتها .. مالم تصل الجرأة فى النقد و النقد الذاتى الى حد الجراحة الماهرة لاستئصال الأورام و النتوءات و الدمامل .. ما لم نقس على الذات قسوة المحب لتطهيرها من أمراضها الذاتية و مواجهتها الصادقة الأمينة مع النفس .. لن يكتب أى نجاح لحركة ذات تاريخ و تراث و تجارب فى النضال و فى الحكم ، إلا بالمواجهة الحاسمة بين قواها و فصائلها و أحزابها .. لن يكتب لنا نحن الحالمين بحركة قومية عربية جديدة و متجاوزة أى نجاح ما لم نقف على أسباب الفشل الذى نتجرع مرارته .. و الفشل فى ذاته ليس عيبا .. إنما الجريمة هى عدم الوعى بالأسباب التى أدت إليه .. فيكتب علينا إعادة إنتاج نفس التجارب ، مع بعض التغيير فى الأشخاص و الأدوار و الأساليب .. لكن يظل الخلل فى الأنوية كامن ، مستتر .. الى أن يأتي حين من الدهر فينخر فى العظام .. و ينتشر كالخلايا السرطانية .. ليست هذه دعوة للتمهل ، أو التوقف ، بقدر ما هى دعوة للبداية الجديدة الصحيحة القوية المتجاوزة كل ما يستدعيه الماضى من خبرات ، إيجابية كانت ، أو سلبية .