لأول مرة فى حياتى بعدما شارفت على منتصف الأربعينات ينتابنى اليأس من كل شىء؛على جميع المستويات ..ولأول مرة أفكر فى الهجرة من هذا البلد ؛وأقول الهجرة وليس الهجران ؛لأننا ضحينا كثيراً من أجل هذا الوطن ؛ولكن يبدو أننا كنا نحرث فى ماء ..لأننا تربينا على مبادىء نادراً لو وجدنا أحداً متمسك بها . تربينا على أن الأب هو الرب ،ومسئول مسئولية كاملة عن عائلته ؛ والزوجة الجناح الثانى ،ولكن ليس لها القوامة ؛واكتشفنا منذ منتصف التسعينات أن الزوجة هى الرب ،والأب ليس سوى "ATM "،ومرت الأيام وأعطت امرأة المخلوع للمرأة حقاً فوق حقها الذى كرمها الله تعالى بها ، وكانت النهاية ..كما نشاهد الآن أجيال ما أنزل الله بها من سلطان من الوقاحة والسفالة وقلة الأدب ،فكثر شاربى المخدرات والبلطجة ووصل الأمر إلى القرى ،وساعدهم فى ذلك الأمور الحياتية الصعبة التى يعانى منها كل بيت فى بر مصر المحروسة . فتجد الأب يعمل فى مهنتين وثلاث ولا يعلم شيئا عن بيته ،فهو مطحون فى لقمة العيش ،وأصبحت الزوجة هى الآمر الناهى والزوج "خيال مآتة" ليس إلا ،وجنينا ذلك فى السياسة..وأعتقد أن الجميع يعلم ما أقصده. فليست الغربة ترك أرض تربينا فيها .. ولا إلفا اعتدنا عليه .. ولا حتى أهلا تركت لهم قلبك ؛ إنما الغربة أن يولد لك عقل ولا تولد له رسالة .. أن تعيش طموحا لا يتعدى أنفك .. وتطلب آمالا لا تفيد بها إلا نفسك إنما الغربة ألا تشعر بالغربة فى زمن كل ما فيه مناقض لعقيدة اعتنقتاها .. ودين آمنا به .. وتاريخ حملنا أمانة إحيائه فلو أنك لم تشعر بالاغتراب فى ظل مجتمعك فلك أن تراجع نفسك بالفعل لتدرك ساعتها أنك بهذا فقط أصبحت غريبا.. فالغريب المغترب هو ذلك الذى يشعر بالألفة فى مجتمعه المعاصر ويشعر بالغربة مع تاريخه الذى لا يعرف عنه شيئا ، وأولى الناس بالاغتراب عن مجتمعاتهم وقوانينها هم المفكرون والعلماء حاملى لواء الرسل والأنبياء وإلى هؤلاء وإلى كل صاحب قلم أوجه كلامى. البعض يفهم الغربة والاغتراب من طريق الخطأ إننا نريدها هجرة .. ولا نريدها هجرانا..هجرة إلى كل مكان بغض النظر عن موقعه لكى تلقي فيه بذور قلمك مؤديا رسالتك .. لأن عهد مواطن الأقلام ولى إلى غير رجعة وأصبح الموطن لكل كاتب هو قلمه وحسب .. وأى انتماء لغيره أو لغير رسالته ليس من الانتماء فى شيء نريدها هجرة إلى القيمة حيث حلت وعن أى مكان عنه رحلت ..فكل كاتب صاحب هدف فى أى مجال يرمى بقلمه إلى إحياء ما كان لهذه الأمة من تاريخ ملزم أن يهاجر بالهجرة .. لا أن يهجر بالهجران ..فالهجرة تكون للقيمة .. أما الهجران فيكون عن القيمة ..فأيما مكان طغى فيه السواد على البياض حتى أفناه صار محتما تركه وإن عز .. وأصبح لازما هجره وإن كان فيه الأقرباء. ولا أزعم أنه من الممكن فى عالمنا المعاصر أن يوجد مكان كل ما فيه بياض ناصع .. أو نظن وجود مكان كل ما فيه ثقافة وكل من فيه مثقفون .. فالذى يظن هذا واهم حالم لا شك ..إنما حديثي عن الأمكنة التى يحارب فيها المثقفون ويكون فيها من اللون الأبيض فقط ثلاثين فى المائة أو حتى عشرين لأن تلك المساحة تستحق المعاناة والكفاح للحفاظ على نسبتها على الأقل. ولكن إن قلت النسبة فوصلت إلى خمسة فى المائة أو أقل فالمحاولة هناك ضياع رسالة قبل أن يكون ضياع جهد والمنابر التى يكافح فيها المثقفون ومنها على اختلاف أشربتهم تتضاءل كل يوم ويضيق عليهم الخناق كل ساعة ولا حل أمامهم إلا أن تكون سياسة الهجرة طريقهم لإيصال رسالتهم بعيدا عن حروف .. الغرض هو سلاحها الوحيد ..والهجرة دونما نظر إلى عواقب أو فقد رفاق .. مهما كانت تلك الصحبة القليلة نادرة وداعية للتمسك بها لا تركها لأن الرفاق إن كانت لهم حقوق فالرسالة لها الحق الأولى وتلك الأمكنة تتنوع بين دور صحف ودور نشر وأندية ثقافية ومنظمات فكرية ومنتديات كلها تختلف فيما بينها فى درجة الوعى على حسب النسبة التى توجد بها من أهل الجادة .. وكلها تمثل عذابا مقيما لتلك النسبة الضئيلة فى معاركهم مع الأكثرية الغائبة عن الوعى وكلها شهدت على مر التاريخ هجرة رآها العقلاء واجبة وشهدت هجرانا رآه الطامحون للإصلاح لازما وبدا واضحا أن العلاء كانوا ولا زالوا على حق وعندما نتأمل دروس وعبرة الهجرة الكبري فى الإسلام نوقن أنها كانت درسا لمن أتى بعدها ولم تكن حادثا لزمانها وحده ؛فالرسول عليه الصلاة والسلام ترك مكة وهى أقرب بقاع الأرض لقلبه لكن هذه المعزة لم يكن لها اعتبار عندما يتعلق الأمر بعوائق أمام إتمام الرسالة على أكمل وجه بعد محاولات مريرة لم تفلح عبر ثلاثة عشر عاما من الدعوة ورغم أن مكةالمكرمة ظهر منها المسلمون المعاهدون لربهم إلا أن ظهورهم ووجودهم لم يمنع أن الأكثرية كانت من الغثاء الواجب تركه والحلول ببقعة خصبة فيها من الخير ما يمنح للدعوة طريق الرشاد ولم تكن المدينةالمنورة حال قدوم الرسول عليه الصلاة والسلام مدينة من الملائكة أو المؤمنين وحدهم بل كانت بها فرق اليهود وبها النعرة القبلية التى أثمرت شلالات الدم بين الأوس والخزرج وبها المنافقون فلماذا كانت الهجرة إليها رغم كل هذا، والسبب أن المساوئ الموجودة هناك كانت قابلة للحل لأن رجالها من أهل الحل والعقد ..كانت المدينة فيها من القيمة ما يكفي لمواصلة المقاومة والعناء حتى تستكمل الرسالة رونقها وتثمر بعد جهد.. أما مكة فكانت شرفها الله تعج بما لا يفيد معه الإصلاح إلا بالسلاح .. والسلاح يلزم له العدة والعتاد بعيدا عنها أولا فلو أن كاتبا ومصلحا ضاقت به بلده أو ضاق به منبره حتى مثل عائقا على ممارسة رسالته قام بالهجرة عن هذا المكان واتخذ لنفسه منبرا أو حتى بلدا أخرى يمارس منها رسالته .. لكان الحال اليوم غير الذى نحن فيه وعلى مر التاريخ مارس العباقرة الفكرة فكانت الهجرة .. فعلها الأئمة الأربعة كلٌ فى محنته وفعلها العز بن عبد السلام فجاء إلى مصر من الشام .. وفعلها بن تيمية فجاء من الحرية للسجن . ومن التاريخ المعاصر ..فعلها عمر مكرم عندما أحاط به الحقد فقال كلمته ومضي ولم يثنه عن عزمه رفاقه وأهله الذين تركهم..وفعلها رواد البرلمان المصري الأول عندما تركوا مرضاة الخديوى إسماعيل إلى غضبه فأدوا رسالتهم وقبعوا فى مجلسهم دونما أن يلتفتوا لأهليهم وما لاقوه .. وفعلها الأفغانى وتنقل عبر البلاد لا يكل ولا يمل ولم يصعب عليه مغادرة الأهل والولد. وفعلها محمد عبده عندما تآمروا عليه فمنحوه العالمية من الدرجة الثانية بدلا من الأولى فأدى رسالته من خارج الأزهر..وفعلها عبد الله النديم عندما ترك رغد العيش إلى الهروب المستمر رافضا اليأس مهما ضاقت دوائر الأمل ومفضلا ترك الأعزاء على فؤاده فى سبيل الأعز. وفعلها الشعراوى عندما ضاق به الداخل فأدرى رسالته من الخارج ثم عاد فأكملها بالداخل ..وفعلها العقاد من بيته عندما ازدحم المشهد الخارجى وضاق بأهله وفعلها محمد حسنين هيكل عندما ترك الأهرام الذى أسس فيه الوعى ونشره وقبع فى منزله ومكتبه راضيا ليبدأ فى ممارسة دوره التوعوى دون مقعد الأهرام بأضعاف ما كان عليه فوقه ولم يثنه عن قراره أن له بالأهرام أساتذة وتلاميذ ورفاق ..فخرجت من محرابه عشرات البحوث التى لا تقوى على جمعها أمة من العلماء واحتمل فى جلد وصبر عتاب المحبين وغضب الأصدقاء ممن رأوا فى موقفه تعنتا ورآه هو رحيلا ضروريا عن مكان .. البقاء فيه معناه رحيله عن نفسه. تلك الهجرة لنستكمل رسالتنا لأجيال قادمة ؛ وحتى لا يخرج أولادنا ويقولوا :ماذا فعلتم لنا؟!! لقد طغت المادة وكثر النفاق وزاد المطبلاتية ؛وأصبح قول الحق علقماً ،فلا نحن مطبلاتية ولا نحن رقاصين ولا مشهلاتية ،ونزعم أننا نخشى الله ،ولا مزايدة فى حبنا لبلدنا ولأهلنا،ولكن بلغ اليأس منتهاه وسط مجتمع ثلاثة أرباعه يتناسون الحق..لذا وجب الرحيل!!