هناك علامات لا تخطئها العين تدل على تدهور مجتمعي وشيك. إحداها، والأكثر فتكاً، هي عندما يختل الميزان الفكري لصالح الكم على حساب الكيف. يصبح صوت الأغلبية، حتى لو كان صوت جهل، هو المدوّي والمؤثر، بينما يُهمش صوت العقل الفردي والحكمة النادرة. إننا اليوم نشهد هيمنة "الألف الأحمق" على "العقل الراجح" الذي بات صوته خافتاً في ضجيج العصر. من مؤشرات التردي الفكري. المجتمع الذي يفشل في التمييز بين القيمة والزيف هو مجتمع محكوم عليه بالتراجع. متى نعرف أننا دخلنا منطقة الخطر؟ عندما نرى أن الموضوعات التافهة هي ما يشغل حيز النقاش العام، وعندما نجد أن التافهين والسطحيين هم من يتربعون على عرش الشهرة والمحبة. هذه ليست صدفة، بل هي نتيجة لطلب عام. إن الأغلبية تميل بشكل مؤسف إلى "التفاهة والتخدير"، مفضلة الراحة الذهنية على الإثارة الفكرية. فهم يستهلكون بفرح الأغاني و"الكلمات الخرقاء" التي لا تحمل معنى ولا قيمة، ويجعلون أصحابها نجوماً. وفي المقابل، يظل الكاتب والمفكر وصاحب الرؤية الحقيقية في الظل، لا يلقى تقديراً ولا يُمنح وزناً. هذا التجاهل ليس للمبدع فحسب، بل هو تجاهل للقيمة ذاتها. مأزق الحكم ب "صوت الأغلبية" إن هذا التدهور لا يبقى حبيس الشأن الثقافي والاجتماعي، بل يمتد ليضرب صميم الحكم وتقرير المصير. فعندما تكون الأغلبية هي صاحبة الكلمة الفصل في تحديد الاتجاهات والقيادات، ويغلب عليها الجهل والسطحية، فإنها ستختار ما يعكس مستواها. هنا يكمن المأزق: إن الآليات التي تمنح القوة للأغلبية، تتحول في المجتمعات الجاهلة إلى أدوات لتكريس الخيارات غير الحكيمة والقرارات البعيدة عن البصيرة. ببساطة، الأغلبية التي ترضى بالتخدير هي من ستقرر مصير الأمة بأكملها. واجب اليقظة ومقاومة التسطيح. لا يمكننا انتظار أن يتغير حال المجتمع تلقائياً. إن واجبنا، كأفراد واعين، هو مقاومة هذا السيل الجارف من التسطيح. يجب أن نبدأ بتغيير عاداتنا الاستهلاكية، فنبحث عن المحتوى العميق وندعمه، وننشر الكلمات الواعية، ونرفض بوعي أن نكون جزءاً من ضجيج "الأغلبية البلهاء". إن المعركة لإنقاذ مصيرنا هي في جوهرها معركة لاستعادة قيمة العقل والحكمة. فبدون وعي سائد، لن ننجح في بناء مستقبل مستدام وقوي. **كاتب المقال