لم يعد الرأى العام اليوم يصنع فى الصحف أو على موائد الحوار الجاد، بل صار يتشكل مع الأسف بين منشورٍ ساخر وتغريدة منفعلة ومقطع قصير لا يتجاوز الدقائق. صار (التريند) هو الحاكم الفعلى لعقول الناس، يوجههم حيث يشاء، يرفع من يشاء ويُسقط من يشاء، بلا وازع من عقل أو ضمير. فباتت مواقع التواصل الاجتماعى التى كان يُفترض أن تكون منابر للتنوير وتبادل المعرفة ساحة للضجيج، يتسابق فيها الجميع للحديث والمشاركة لا ليفيدوا، بل ليثبت كل أنه (قال وقال)، وأن له رأيا فى كل شأن، حتى لو كان رأيا منقولا من صفحة أخرى، أو مستمدا من إشاعة عابرة لا سند لها. والمصيبة أن هذا السلوك لم يعد حكرا على العوام، بل وقع فيه كثير من المثقفين، فبدل أن يكونوا قادة للرأى صاروا أسرى لسطوة التريند. نرى مثلا موسم الانتخابات، كيف يتحول إلى مسرح كبير للفرجة، يتبارى فيه بعض المرشحين فى ابتكار طرق غريبة للدعاية، لا لعرض برامج حقيقية تخدم الناس، بل لجذب (اللايك) و(الشير) وتحقيق الريتش الأعلى. أحدهم يدخل السباق للمرة الثانية أو الثالثة، ويدفع ما يزيد على خمسين ألف جنيه ما بين تأمين وكشف طبى وطباعة دعايات، مما يعنى أنه مستعد ماديا ونفسيا لهذه المعركة، فليس هو المرشح البسيط المستضعف كما يحاول أن يظهر نفسه أمام الجمهور. ومع ذلك تجد من يروج له باعتباره (ضحية النظام) أو (المخلص المنتظر)، فقط لأن الموجة السائدة على (السوشيال ميديا) تميل فى هذا الاتجاه. وفى المقابل، نجد نماذج مشرقة تستحق الدراسة مثل قرية الدنابيق مركز المنصورة فى -الدورة الماضية- التى ضربت أروع الأمثلة فى التكاتف والوعى الانتخابى، واستطاعت أن تصنع ملحمة من 6200 صوت أوصلت نائبها إلى البرلمان، فى مشهد يؤكد أن الوعى الجمعى المنظم أقوى من التريند الزائف. ومع ذلك، لم يلتفت أحد لتلك التجربة إلا القليل ممن يهتمون حقا بالشأن السياسى. #يا_سادة؛إن ما يؤسف له أن كثيرا من الشعوب وعلى رأسها شعوبنا العربية لم تحسن بعد استخدام هذه الوسائل الحديثة. فبدل أن تكون وسيلة للتقدم، صارت أداة لإشعال الفتن، وإبراز التفاهة، وممارسة (كيد النسا) كما يقال بالعامية. نحن نميل إلى كل ما هو درامى حزين أو تافه، كما نميل إلى الجدل العقيم والمكايدة، ونتجاهل القضايا الجادة التى تمس حاضرنا ومستقبلنا. #فى_النهاية_بقى_أن_اقول؛إن مواقع التواصل ليست شرا مطلقا، ولكن خطورتها تكمن فى أيدينا نحن، فى طريقة استخدامنا لها. فهى مرآة لمجتمع يمكن أن ينهض إذا أحسن توظيفها لنشر الوعى، ودعم المبادرات، وإبراز النماذج الوطنية المخلصة. لكن إن ظلت وسيلتنا للثرثرة والفضائح، فلن نخرج من دائرة التخلف مهما تطورت التكنولوجيا. لقد آن الأوان لأن نراجع أنفسنا، وأن ندرك أن (التريند) لا يصنع حضارة، وأن الشهرة اللحظية لا تبنى وطنا. فالوعى هو المعركة الحقيقية، وميدانها الآن ليس الشارع فحسب، بل صفحات التواصل الاجتماعى، التى إما أن تكون جسرا نحو المستقبل..أو مستنقعا نغرق فيه جميعا..!