ليست جريمة التنقيب عن الآثار مجرّد فعل عابر بحثًا عن "لقية" تُباع وتُشترى؛ بل هي اعتداء صريح على تاريخنا الحيّ، وتهديد مباشر لأمان الناس وبيوتهم، وتغذية لسوق سوداء لا تعترف بقيمة وطن ولا كرامة هوية. وفي سلامون القماش، إحدى قرى مركز المنصورة، تتكرّر همسات الحفر الليلي وأخبار "التجريب" في باطن الأرض، كأن الماضي بات غنيمة، لا رسالة ومسؤولية. وأصل الداء هنا يكمن فى هذا السؤال :لماذا تنتشر الجريمة؟! والإجابة نفتش عنها فى قاموس (وهم الكنز السريع) خطابات شعبية وسماسرة ينسجون قصصًا عن جرّات ذهب وكنوز مدفونة، فيغري الوهمُ شبابًا مرهقين من ضيق العيش.فالشبكات والسماسرة.. دوائر مغلقة تقودها عقول متربّحة.. "مُقوِّم آثار" مزعوم، ووسيط، ومموّل، وأدوات حفر سلسلة تبدأ بهمسة وتنتهي بكارثة. وهنا تغيب ثغرات الوعي والردع الاجتماعي: وحينها يتصوّر البعض أن"الأرض أرضنا" وأن "كله تراب"، فيغيب المعنى الحقيقي للتراث بوصفه ملكًا عامًا وجزءًا من هوية القرية والوادي كله. ونصل إلى الأذى المركب.. آثار تُسرق ..وأرواح تُهدَّد فالخطر على الأرواح والمساكن ؛فالحفرٌ العشوائي تحت أساسات المنازل يُضعف التربة ويشقّ الجدران ويُعرّض بيوتًا كاملة للانهيار. كم من حفرةٍ تُفتح سرًا وتُردم على عجل تاركةً فراغات تحتية تُهدّد أطفالًا ينامون مطمئنين! أضف إلى ذلك ؛تخريب الطبقات الأثرية ..حتى لو وجد "قطعة"، فقد فُقد سياقها التاريخي والعلمي للأبد. علم الآثار لا يبحث عن حجرٍ منفصل، بل عن قصة متكاملة: طبقة، موقع، تسلسل، شواهد... الحفر العشوائي يمحو القصة ويُبقي الفتات. وهذا نسميه فى الإقتصاد (اقتصاد الجريمة) فالقطع تُهرَّب إلى سماسرة أوسع، فيُعاد تدوير عائداتها في دوائر فساد أوسع. المال السهل يلوّث المجتمع ويكرّس نمطًا من الثراء غير المشروع يزدري الكدّ الشريف. والكارثة أن هذا الفعل الأحمق يشوه هوية المكان؛ فسلامون القماش ليست "حفرة" محتملة، بل قرية بتاريخها وناسها وذاكرتها. حين تُنهب الطبقات تحتها، يُنتزع معها جزء من تعريفنا بأنفسنا. وهؤلاء تجار الثراء السريع أدوات جريمتهم الحفر الليلي،وطرق تمويهم ؛ إغلاق الغرف وإسكات الأصوات عبر ماكينات بديلة و"طُرُق" بدائية لشفط الأتربة. وتظهر خلالها خرافات "الروحانيات": قارئ طلاسم ومُزيِّف خرائط يبيع الوهم مقابل نسبٍ من "الغنيمة". وهؤلاء يجيدون توظيف المناسبات كاستغلال فترات الزحام الاجتماعي (أفراح/مواسم) لتغطية الضوضاء والحركة. هذه الأدوات لا تظهر فجأة؛ وراءها أشخاص معلومون في كل حيّ، يعرفون بعضهم ويستبدلون الأدوار. فيا سادة ؛هنا يجب أن يكون المجتمع أول خط دفاع عن طريق (اليقظة المجتمعية) فلا حياء في حماية الأرواح..أي حركة حفر غير قانونية تحت منزل أو في أرض مأهولة هي خطر مباشر على الجيران. فالإبلاغ المبكر ينقذ بيتًا وربما حارة كاملة. وعلينا (كسر ثقافة التواطؤ) "ما ليش دعوة" ..جملة تُغري المجرم. حين يصمت الناس، يعلو صوت الحفار. ولا انسى وسط الثورة التكنولوجية ووجود منصات على مواقع التواصل الإجتماعى؛فالعالم أصبح قرية صغيرة ..اصبح للإعلام المحلي دورا كبيرا وشريك فى المسئولية؛ من خلال الصفحات الشخصية على الفيس وكل مواقع التواصل فواجبها أن تُسمّي الأفعال بأسمائها: جريمة، لا "مغامرة".. هوية، لا "صفقة". وعلى الداخلية دورا كبيرا أيضا ؛من خلال حملات تفتيش ليلية مركّزة في نقاط الاشتباه، خصوصًا بالمناطق القديمة والمنازل الهشّة إنشائيًا. وتتبع أدوات الحفر والبيع ومراقبة ورش تصنيع وتداول المُعدّات التي تُستخدم في السراديب المنزلية. وكذلك للجامعة دور من خلال الهندسة الوقائية وهى إلزام أي ترميم أو بناء في المناطق الحساسة بتقارير جسّ تربة ورقابة فنية صارمة؛ ففراغات التربة لا تُرى بالعين. ويجب أن يكون هناك خط ساخن فعّال للداخلية وسريّة المُبلّغ واجبة..فثقة الناس هي الوقود؛ وحمايتهم قانونيًا واجبة. ولا انسى دور وزارة التعليم والأوقاف والكنائس والشراكة بينهم من خلال منهج مدرسي ونشاط ديني ومدني يشرح معنى "الملكية العامة" وحُرمة التراث. وعرض مُصادرات الآثار المُنقذة إن وجدت في معارض تعليمية متنقلة داخل القرى، ليرى الناس بأعينهم قيمة ما كاد يُنهب. فى النهاية بقى أن أوجه رسائل مباشرة إلى أهالي سلامون القماش أولا: للشاب المغرَّر به: الذهب الذي تُراهن عليه قد يتحوّل إلى تراب يبتلعك تحت بيتك. دقيقة "مغامرة" قد تتركك بين قفصين: قفص السجن أو قفص العجز. ثانيا:لرب الأسرة: بيتك أمانة. حفرة واحدة تُضعف أساسات عمرٍ بنيته حجَرًا حجَرًا. ثالثاً : اتقى الله أيها المغرر بك ..تسببت فى هدم بيوت لا ذنب لهم سوى أنهم جيرانك ؛ويجب تعويضهم تماشيا مع مقولة "من اتلف شيئا فعليه اصلاحه". رابعا:لمن يروّج للوهم: أنت لا "تفكّ رموزًا"، أنت تفكّك مجتمعًا. توقف قبل أن يلتهمك العار والقانون معًا.