تأتي الثقافة بمعناها الكلِّي وبجناحيها النُّخبوي والشَّعبوي في مقدِّمة الوسائل التي بوسعها أن تصُدَّ الإرهاب وتردَّه بنجاعة وقوَّة، لا تتأتَّى للأساليب الخشنة أو الصُّلبة التي تنصرف سريعًا إلى مقاومة الإرهابيِّين وكفِّ أذاهم، لكنها لا تقوِّض الأفكار التي تعشِّش في رؤوسهم، وهي من أقوى الأسباب التي تدفعُهم إلى ارتكاب العنف تجاه الدولة والمجتمع. فالثقافة تتعدَّى مجرَّد حشو الذهن بالمعلومات، أو ترديد أفكار الآخرين بلا تدبُّر ولا وعي، إلى أن تكون بناءَ قدرة على نقد السائد والمتداوَل، وامتلاك رؤية للذات والمجتمع والعالم. فتكون دومًا إمَّا نقطةً مركزية يُنطلَق منها في الفهم والتفسير، وإبداء الرأي واتخاذ الموقف والقرار، وإمَّا إطارًا يُحال عليه، فلا يتخبَّط المرء بين التصوُّرات والرؤى، ولا يكون عُرضةً لغزو أفكار متشدِّدة ومتطرِّفة، تصادف ذهنًا فارغًا فتتمكَّن. علاج الفكر الإرهاب بوصفه فعلًا يبدأ بأفكار أو تصوُّرات نظرية، تبدو متماسكةً وسائغة في ذهن لا يمتلك قدرةً على الفحص والدرس والنقد والتفكيك، ولا نفسًا وسعها التأمُّل والنظر إلى كلِّ أمر بإمعان وتدبُّر، ولا تجرِبةً علَّمت صاحبها كيف يتوقَّف عند كلِّ ما يسمع ويرى، ويضعه محلَّ شكٍّ إلى أن يتيقَّن منه، ومحلَّ مراجعة وأخذ وردٍّ حتى يثبُت. كثير من الجماعات المتطرِّفة والإرهابية تَنفِر ممَّن يطرحون أفكارًا مغايرة جديدة، وتُؤمن في الخفاء بمبدأ "التنظيم وليس التنظير"، ومن ثَم طالما لفظَت مفكِّرين، أو لم تسمح لهم بالانضمام إليها، وخاصمت كلَّ مَن في نفسه حظٌّ من أدبٍ أو فن، ولم تنتج في تاريخها أديبًا كبيرًا، ولا فنَّانًا موهوبًا، حتى إن سعَت إلى أن يكون لها سياقها الأدبي والفنِّي الخاص، فإن غلبةَ الوعظ عليه، وخضوعه للفكر المتطرف، أفقداه شروط الفن والأدب المتعارَفة، وأوَّلها الحرِّية. لكن في المقابل نجد عَداء المتطرِّفين للثقافة ظاهرًا عِيانًا بيانًا، سواء في خطابهم المِنبَري أو منشوراتهم الموجَّهة إلى المجتمع، أو الكتب والكتيِّبات التي يؤلِّفها مَن يوجِّهونهم؛ بل إن الأمر تعدَّى هذا بكثير؛ فحين تمكَّن بعضُ أتباع هذه الجماعات من الوصول إلى البرلمانات العربية انصرفت أغلبُ أدوات الرِّقابة التي قدَّموها من أسئلة وطلبات إحاطة واستجوابات إلى المسائل الخاصَّة بالآداب والفنون، وعالم الأفكار عمومًا، وكلِّ ما يُطرح في مختلِف وسائل الإعلام. وكلُّ هذه التصرُّفات القلقة من المتطرِّفين حيالَ الثقافة ما كان لها أن تكون لولا شعورُهم بخطرها على مشروعهم ومسارهم، بخصائصها الثلاث المذكورة في هذا المقام، ومن هنا جاء سعيُهم إلى طرح شيء في وجهها يسمُّونه "ثقافة" أيضًا، أو "بديل ثقافي إسلامي"، وهو وإن كان في شكله يحاول تقليدَ أنواع الثقافة المطروحة أو مجاراتها، فإن مضمونه يتنافى مع الشروط العامَّة للثقافة، اللهمَّ إلا من زاوية واحدة هي تلك التي ترى أن لكلِّ فردٍ أو مجموعةٍ ثقافتَها التي تُعبِّر عن شخصيَّتها. وبناءً على ما سبق يصبح من الضروري أن نطرح السؤال الآتي: كيف تُفعَّل الثقافةُ في مجتمعاتنا لتصبحَ حائط صدٍّ منيعًا أمام التطرُّف، أو عنصرًا لتذويبه، أو إضعافه على الأقل؟ إن الأفكارَ تحتاج حتى ترسُخَ وتُطبَّق على الأرض ويعتنقها الناس إلى مؤسَّسات أو هيئات أو تنظيمات تحملها، وتحوِّلها إلى إجراءات قابلة للتطبيق في الواقع المَعيش، وإلا ظلَّت محلِّقةً في أفق بعيد، لا يَلمُسه الناس ولا يؤثِّر فيهم كثيرًا. ولذا أقترح الآتي: 1. بناءُ مجمَّعات صغيرة للثقافة، أو تعزيزُ نشاط الموجود منها، وتكون هذه المجمَّعات وَسْط الأماكن السكنية؛ حتى يجدَ الشباب سهولةً ويسرًا في الوصول إليها، والتعامل معها، واعتياد الذهاب إليها، على أن تقومَ المدارسُ والجامعات بلفت انتباه التلاميذ والطلاب إليها، ووضع برنامج للتعاون معها. 2. يتطلَّب ما سبق أن تكون القراءة أو المطالعة جزءًا أساسيًّا من المناهج الدراسية بَدءًا بالصفِّ الأوَّل الابتدائي وانتهاءً بنهاية المرحلة الثانوية، على أن يُعَدَّ المعلمون لأداء هذه المهمَّة، وتزوَّد المدارسُ بمكتبات ثرية بألوان من المعارف والآداب المتخيَّرة بعناية. 3. يمكن تطبيق تجرِبة "مسرح الجرن" في مصر، وكنت من المشاركين فيها، حين جُرِّبت لمواجهة الفكر المتطرِّف، وهي مشروع يهدِف إلى تنشيط الفنون والآداب والتراث الشعبي (الفُلكلور) في المدارس الابتدائية والإعدادية، ويكون بالتعاون بين وزارتي الثقافة والتعليم. وحين طُبِّق المشروع في مدارس قرًى معروفة بتوافر الجماعات الإسلامية المتطرِّفة فيها، لاقت نجاحًا باهرًا، على الرغم من وجود مقاومة في البداية من الطلاب، بدعوى أن كلَّ الفنون حرام. لكن مع الوقت بات هؤلاء يرسمون ويعزِفون الموسيقا، ويكتبون شعرًا وقصصًا ومقالات، ويمثِّلون مسرحيات، ويبدعون فنًّا شعبيًّا هو ابن بيئتهم، ويعملون كلَّ هذا بإقبال شديد. 4. يجب الاهتمامُ بالمنتج الثقافي للأطفال، فبعضُ أعضاء الجماعات الدينية المتطرِّفة اعتمدوا على هذا الأسلوب في جذب الأطفال إليهم، وتمهيدهم للدخول في الجماعة، أو قَبول أفكارها والتعاطف معها، ولهم دُور نشرٍ معروفةٌ تساعد في أداء هذه المهمَّة. ومواجهتُهم يجب أن تكون في هذا الإطار، وعند هذه السنِّ المبكرة، ولا تكفي في هذا المضمار المجلاتُ الثقافية؛ بل يجب تشجيعُ الأدباء الذين يكتبون للأطفال، وإقامة دُور النشر التي تنشر أعمالهم بأسعار مناسبة. 5. يجب تشجيع مُنتجي الفنون والآداب في المجتمع، وتقديمهم على أنهم أشخاصٌ جديرون بالاحتفاء، وأن ما يكتبونه عمودٌ أساسي ليس في مواجهة التطرُّف والغلوِّ والتشدُّد الديني؛ بل في تعزيز (القوَّة الناعمة) للدولة عمومًا، ويتطلَّب هذا بالأساس اعتمادَ ميزانيَّات كافية لصناعة ثقافة حقيقية. 6. من الضروري تنظيمُ مسابقات ومنافسات في التأليف والكتابة الإبداعية لطلاب المدارس وللشباب، في قضايا محدَّدة تعزِّز "التنوير"، وتُعلي من شأن الاعتدال الديني. في كلِّ الأحوال يجب عدمُ التعامل مع الثقافة على أنها قلائدُ للزينة؛ بل هي وسيلةٌ لبناء الإنسان، وتكوين معارفه وقيمه واتجاهاته، ومن ثَم النهضة بالمجتمع برُمَّته. ويجب عدمُ التعامل مع التطرُّف والإرهاب بوصفهما مسألةً أمنية محضة؛ بل هما قائمان على قِيَم وأفكار مغلوطة ومتنافرة مع تلك التي يتبنَّاها التيَّار الاجتماعيُّ الرئيس، وبذا يكون التصدِّي لها فكريًّا على المدَيَين القريب والبعيد، وأمنيًّا وعسكريًّا حيال تحوُّلها من مجرَّد أفكار سوداء إلى تدابيرَ وأعمال عنيفة، تريد أن تفرضَ تصوُّرها على الناس عَنوة. من حق المجتمع بكل قواه الحية، بل من واجبه، الدفاع عن مرجعتيه الأخلاقية والقيمية أمام موجة الانحلال الأدبي والثقافي الموجّه، خاصة لما تريد أقلية أيديولوجية مكشوفة ومنبوذة فرض نمط حياتها المادية والغريزية على الآخرين، وتجعل من الخزينة العمومية مطيّة لأهدافها غير المشروعة. إن التعايش الثقافي يتطلب تنوعًا في الرؤى والأفكار، ودون هذا التنوع الثقافي لا يمكن أن ترتقي المجتمعات أو تضمن صمام أمان لنهوضها في هذا الكون، فالإقرار بالتنوع الثقافي وكفالة حمايته صارا اليوم من مبادئ القانون الدولي، فلكل ثقافة كرامة وقيمة يجب احترامهما والمحافظة عليهما، فإذا أراد المجتمع الدوليُّ أن يحافظ على شرعية القانون الذي يحكم علاقات الأفراد والجماعات والحكومات، فإن ضرورة الحياة فوق هذه الأرض، وضرورة العيش في أمن وسلام، تفرضان تعايش الثقافات والحضارات والأديان وإقامة حوار جدّي وهادف فيما بينها، ولا مستقبل للبشرية إذا سارت في اتجاه معاكس لذلك كلِّه. إن هذا التوجه الثقافي الحضاري، يؤكد رفض الدول والشعوب للإرهاب والتطرف والعنف، والبحث عن وسائل متعددة للقضاء على كل ما من شأنه هدم أركان القيم النبيلة في أي مجتمع، ولكن المؤسف جدًا، أنه في الوقت نفسه نجد من لايزال بعد يتربص لهذا التوجه ويسعى إلى غلغلته بطرق لا تنتمي ولا تتصل بالوعي الثقافي والحضاري بأية صلة.. مثل هذا البعض، ينبغي وقفه عند حده حتى لا يتفاقم غول التمزق والتفتيت في المجتمعات الباحثة عن الأمن والسلام والحب.